; logged out
الرئيسية / مفهوم المسؤولية الجنائية الدولية

العدد 89

مفهوم المسؤولية الجنائية الدولية

الأربعاء، 01 شباط/فبراير 2012

يقصد بالمسؤولية الجنائية الدولية مُساءلة دولة ما عن ارتكابها فعلاً يعتبره القانون الدولي جريمةً دوليةً، ويخل بمصلحة أساسية من مصالح المجتمع الدولي وإمكان معاقبتها من قبل المجتمع الدولي.

ينبغي التأكيد على أن الجريمة الدولية، لا يمكن أن تصدر إلّا من شخص طبيعي، أي من فرد أو مجموعة من الأفراد، وهؤلاء يعملون لحساب دولة أو لمصلحتها، فهي – أي الجريمة الدولية- لا يمكن أن تنهض إلا من خلال فعل أو سلوك إرادي وبإرادة متجهة إلى إحداث الفعل المجرم وصولاً إلى تحقيق النتيجة الإجرامية، وعلى هذا فقد عرّفها جانب من الفقه بأنها (سلوكٌ إرادي متعمد في الغالب، يصدر عن شخص طبيعي أو مجموعة من أشخاص لحسابهم الخاص أو لحساب دولة أو بمساعدة ورضاء وتشجيع منها، يمثل اعتداءً على مصلحة دولية يوليها القانون الدولي الجنائي ويحرص على معاقبة مقترفيها وأنها جريمةٌ عمدية بطبيعتها ومسؤولية مرتكبيها وأهليتهم مفترضة إلّا إذا أثبت عكس ذلك).

وقد عرّفها بيلا (Pella) بأنها (كل عمل أو امتناع عن عمل يعاقب عليه بعقوبة، وتنفذ باسم الجماعة الدولية، فيما عرّفها الفقيه (جلاسر) بأنها (الفعل الذي يرتكب إخلالاً بقواعد القانون الدولي وبالمصالح التي يحميها هذا القانون مع الاعتراف له قانوناً بصفة الجريمة واستحقاق فاعله العقاب).  

وقد عرّفت المادة التاسعة عشرة من مشروع المسؤولية الدولية، الجريمة بالقول: (يشكل الفعل غير المشروع دولياً، جريمةً دوليةً، حين ينجم عن انتهاك الدولة التزاماً دولياً هو من علو الأهمية بالنسبة لصيانة مصالح أساسية للمجتمع الدولي، حيث يعترف هذا المجتمع كله بأنّ انتهاكه يشكّل جريمةً دوليةً).

إذاً فالجريمة الدولية وفقاً للنص سالف الذكر، يمكن أن تنجم عن:

1- انتهاك خطير لالتزام دولي ذي أهمية جوهرية للحفاظ على السلم والأمن الدوليين كالالتزام بتحريم العدوان.

2- انتهاكخطير لالتزام دولي ذي أهمية جوهرية لضمان حق الشعوب في تقرير مصيرها كالالتزام بتحريم فرض سيطرة استعمارية أو مواصلتها بالقوة.

3-انتهاكخطير وواسع النطاق لالتزام دولي ذي أهمية جوهرية لحماية الشخص الإنساني، كالالتزامات بتحريم الاسترقاق وتحريم الإبادة الجماعية وتحريم الفصل العنصري.

4- انتهاك خطير لالتزام ذي أهمية جوهرية لحماية وصون البيئة البشرية كالالتزامات بتحريم التلوث الجسيم للجو والبحار.

وتأسيساً على ما تقدم، فإنه يمكن القول إن الجريمة الدولية إذا ما ارتكبت فإنها تشكّل إخلالاً بقواعد القانون الدولي، واعتداءً على مصلحة يحميها القانون، تتعلق بالمصالح الجوهرية للمجتمع الدولي، وأن انتهاكها يعدّ إخلالاً بالسلم والأمن الدوليين ومن هذه الجرائم الاعتداء على البيئة.

هذا ولا ينطبق وصف الدولية على الجرائم الدولية إلّا إذا كانت عناصرها وأركانها تنظمها قواعد القانون الدولة، وأن مرتكبها هو الدولة وإنْ ارتكبها الشخص الطبيعي فإنه يرتكبها باسمها ولحسابها، وتتلخص أركان الجريمة الدولية في الركن المادي الذي هو الفعل أو السلوك والنتيجة المتحقّقة ووجود رابطة سببية بين الفعل والنتيجة، والركن المعنوي ويتمثل في اتجاه نية الفاعل لإحداث النتيجة الإجرامية، وأخيراً الركن الدولي.

ومن اللافت أن أهم ما يميز الجريمة الدولية هو العنصر الدولي، وينصرف إلى العدوان على المصالح التي أسبغ القانون الدولي الجنائي حمايته عليها، وحتى نعرف الفرق بين الجريمة الدولية والجريمة الداخلية فيكون الاحتكام إلى معيار المصلحة، فإذا كانت المصلحة المعتدى عليها دولية كان العدوان جريمةً دوليةً، جديرٌ بالحماية الدولية التي أسبغها القانون الدولي على هذا الصنف من المصالح.

وقد ثار تساؤلٌ مهمٌ في هذا الصدد حول لمن تسند المسؤولية عن الأفعال المرتكبة للدولة أم للأفراد، وقد انقسم الفقه الدولي في ما يتعلق بالمسؤولية عن هذه الأفعال إلى مذهبين، وذلك على النحو التالي:

المذهب الأول: إنكار المسؤولية الدولية الجنائية:

ذهب أنصار هذا الاتجاه وعلى رأسهم (تريبل) و(أنزيلوتي) إلى إنكار فكرة المسؤولية الدولية الجنائية على اعتبار أن القانون الدولي ينظّم العلاقات الدولية بمعنى أنه يهتم بشؤون الدول فقط، ولا يعتبر الفرد شخصاً من أشخاص القانون الدولي.

ويبرّر أنصار هذا الاتجاه أيضاً رأيهم على أساس أنه من الاستحالة بمكان أن نتصور خضوع الدولة لعقوبات جزائية ناتجة عن تصرفاتها، وفي هذا الصدد ذهب الفقيه الإيطالي أنزيلوتي إلى القول إن الأفراد هم أشخاص القانون الداخلي، أما الدولة فهي من أشخاص القانون الدولي، بمعنى أن الالتزامات التي يفرضها القانون الدولي تقع على عاتق الدول، ولا علاقة لها بالأفراد، الشيء الذي يستوجب قيام المسؤولية المدنية في حق الدولة في حالة وقوع أي إخلال منها.

ويرى أنصار هذا الاتجاه انعدام المسؤولية الجنائية الدولية للدولة على أساس أن الإرادة ركن أساسي في المسؤولية الجنائية، وهي تنعدم في حالة الدولة باعتبارها شخصاً معنوياً، في حين أنها تثبت في حق الشخص الطبيعي.

وقد واجه هذا الاتجاه انتقادات عدة منها: أن القول بانعدام المسؤولية لانعدام الإرادة، كون هذه الأخيرة ركناً أساسياً لقيام المسؤولية الدولية الجنائية، هو قول مردود وغير منتج، ذلك أن كلاً من المسؤولية التقليدية والمسؤولية الجنائية للدولة تستند إلى الإرادة، فالدولة باعتبارها كياناً معنوياً لا يخرج عن تصرفها عن حالتين: إما أن تحترم القوانين الدولية وتعمل وفق نصوصها أو تتجاهل تلك القوانين وتنتهك نصوصها، وهنا تنشأ المسؤولية الدولية، فالدولة لها إرادةٌ فعليةٌ في كل الحالات تتمثل في إرادة القائمين على تسيير وإدارة شؤونها.

المذهب الثاني: تأييد المسؤولية الدولية الجنائية:

يذهب أنصار هذا الاتجاه إلى تأييد المسؤولية الدولية الجنائية، ولكنهم انقسموا فيما بينهم إلى ثلاثة آراء، يمكن توضيحها بإيجاز على النحو التالي:

* الرأي الأول: المسؤولية الدولية الجنائية للدولة وحدها:

يرى أنصار هذا الرأي أن المسؤولية الدولية الجنائية تثبت للدولة وحدها دون الفرد بوصفها المخاطبة بالقانون الدولي، وأن الفرد مجاله القانون الداخلي، كما أن الدولة لها إرادة، وهذه الإرادة من الممكن أن تكون إرادةً إجراميةً تحاكم عليها.

وقد تأثر بهذا الرأي بعض الفقهاء بعد الحرب العالمية الثانية، فقد ذهب كلٌ من J. Sawicki وMuszkat إلى اقتراح وفرض عقوبة على دولة ألمانيا تتمثل في تسليمها الجزء الشرقي منها إلى بولندا كعقوبة كاملة توقع عليها جزاء ما ارتكبته أثناء الحرب العالمية الثانية.

وقد تعرض هذا الرأي إلى الانتقاد لعدة أسباب منها أن مفهوم جناية الدولة وتعرضها للمسؤولية الجنائية سيحط من مكانتها، بالإضافة إلى أنه لا يوجد جهازٌ قانوني لمحاكمة الدولة ومعاقبتها. فضلاً عن ذلك فإنه لا يمكن مساءلة الدولة جنائياً كونها شخصاً معنوياً.

وخلافاً لما سيق من انتقادات حول مسؤولية الدولة جنائياً دون الأفراد عما تباشره من انتهاكات تتنافى مع قواعد الشرعية، إلّا أن المدعي العام لمحكمة نورمبرج (السير هيرتلي) أكد في خطابه الافتتاحي أمام المحكمة (أنه يجب محاكمة الدولة نفسها جنائياً؛ لكنه قيّد ذلك بعدم المبالغة في تطبيق العقوبات الجماعية بطريقة صارمة، ولتلافي ذلك رأى أن تتم محاكمة المسؤولين عن هذه الحرب عن طريق العقوبة النيابية).

* الرأي الثاني: المسؤولية الدولية الجنائية تثبت للفرد وحده:

يذهب أنصار هذا الرأي وعلى رأسهم الفقيه الفرنسي (دوجي) إلى أن الفرد هو الشخص الوحيد للقانون الدولي، فالقانون بالنسبة لهم لا يخاطب غير الأفراد، وقد أخذ بهذا الاتجاه أيضاً الفقيه (Kelsen) الذي ذهب إلى أن الدولة شخصٌ غير حقيقي بطبيعتها، وبالتالي فهي لا تملك إرادةً مستقلةً عن إرادة الأفراد المكونين، الشيء الذي يجعل الدولة شخصيةً وهميةً، بالإضافـــةً إلى أنه لا يمكن للقانون الدولي الجنائي أن يغضّ الطرف عن مسؤولية الأفراد جراء الجرائم الدولية التي يرتكبونها باسم الدولة.

ويعدّ هذا الرأي هو الرأي الغالب في الفقه الدولي اليوم، ويستند إلى أمرين هما:

الأمر الأول: إن الدولة لم تعدّ هي المحور الوحيد الذي تدور حوله أحكام القانون الدولي؛ بل تنامي دور الفرد، وإذا كان القانون الدولي يعترف للإنسان بحقوقه، فإنه يجب على الفرد أن يحترم حقوق الآخرين، وألّا يرتكب جرائم بشعة ضد البشرية وإلّا خضع للعقاب الدولي.

الأمر الثاني: يتمثّل في عدم إمكانية المساءلة الجنائية للدولة كشخص معنوي، ومن ثّمّ يكون الفرد فقط محلاً لهذه المساءلة.

وقد أخذ على هذا الرأي أن القول بمسؤولية الفرد وحده يجعل الدولة بمنأى عن العقاب، وذلك من خلال التضحية ببعض أفرادها وحدهم كمسؤولين عن تلك الجرائم، أي أن الدولة لكي تستبعد مسؤولياتها يمكن أن تقدّم بعض المسؤولين فيها للمحاكمة الجنائية.

* الرأي الثالث: المسؤولية الجنائية الدولية بين الفرد والدولة:

ذهب أنصار هذا الاتجاه إلى أن المسؤولية الجنائية الدولية هي مسؤولية مزدوجة بين الفرد والدولة، ذلك أن الدولة يمكن أن تكون مسؤولة عن الجريمة الدولية، لأن فكرة السيادة لا تتعارض مع تقرير المسؤولية الدولية الجنائية، وأنّ الدولة لها إرادةٌ مستقلةٌ يترجمها القائمون على إدارة شؤونها.

وقد بدأت هذه الفكرة المزدوجة مع محاكمات نورمبرغ بعد الحرب العالمية الثانية، إذ قرّر المدعي العام الأمريكي والقاضي بالمحكمة العليا جاكسون في خطابه الافتتاحي قبل المحاكمة أن (القانون الذي يطبق على مجرمي الحرب الألمان قابل للتطبيق بعد ذلك على الجرائم التي ترتكب من أية أمة)، وذلك في إشارة إلى إمكانية تطبيقه على الدول وليس الأفراد فقط، وهو ما أوضحه بصورة أكبر المحامي العام البريطاني في تلك المحكمة (السير هارتلي شاوكروس) في خطابه أنه (لا يجد شيئاً مخيفاً في تبني فكرة مسؤولية الدولة عن تصرفاتها الإجرامية، فالشر الذي يصدر عن الدولة هو أكثر تأثيراً من الصادر عن الفرد) وقد دعا إلى وجوب محاكمة الدولة الألمانية ذاتها جنائياً، وكذلك قرر فرانسو دي مانسون المدعي العام الفرنسي في المحكمة ذاتها أن (ألمانيا النازية يجب أن تعلن إدانتها وكذلك حكامها وهم في المقام الأول مسؤولون ويستحقون العقاب).

ويرى الأستاذ الدكتور إبراهيم العناني أن الفعل المنسوب إلى الدولة يتحمل المسؤولية الجنائية عنه الشخص الطبيعي الذي يمثّل الدولة، وذلك دون أن تعفى الدولة من المسؤولية القانونية على غرار مسؤولية الدولة المتبوع عن أعمال تابعة في القانون الداخلي، وتطبيق هذه المسؤولية في ظل النظام القانوني الدولي يتجلى في المسؤولية المدنية التي تتحمل التعويض العيني أو النقدي.

وفى هذا يقول البروفيسور تريانين: إن الدولة لا يمكن اعتبارها متهمةً بجريمة ومن ثمّ فلا يمكن أن تكون مسؤولة جنائياً وأن مدبري الجريمة هم وحدهم من يسألون، أما (غلايسر) فقد ذهب إلى القول إن مرتكب الجريمة الدولية لا يمكن أن يكون سوى الفرد، سواء قام بارتكاب الجريمة لحسابه الخاص أو لحساب الدولة أو باسمها، وأن القانون الدولي اعترف للفرد بالحقوق والواجبات الدولية في ميثاق الأمم المتّحدة ولائحتي نورمبرغ وطوكيو، وأصبح الفرد مسؤولاً عن الجرائم الدولية التي يقترفها بصفته مخاطباً بأحكام هذا القانون.

الرأي الراجح

يرى الكاتب من جانبه أن الرأي الراجح هو ثبوت المسؤولية الجنائية للفرد وحده، وهو الرأي الغالب الذي يرجّحه الفقه، وإنْ كنّا نرى أن الصواب هو مسؤولية الدولة والفرد معاً، ولكن الذي يجعلنا نرجح الرأي القائل بثبوت المسؤولية الجنائية الدولية للفرد وحده، هو أن الواقع العملي يجعل من الصعب تقرير المسؤولية للدولة والفرد معاً، لاسيّما أننا نعيش في عصر القطب الأوحد، ولو قلنا بتقرير مسؤولية الدولة والفرد معاً لأدى ذلك إلى تعرض بعض الدول الكبرى للعقاب.

خلاصة القول أنه في ظل القانون الدولي المعاصر فإن الفرد هو محل المسؤولية الدولية الجنائية، أما الدولة فتواجه المسؤولية الدولية المدنية الخاصة بدفع التعويضات للضحايا، حيث يقع على عاتقها جبر الأضرار التي طالت هؤلاء الضحايا.

ولقد شهدت السوابق الدولية عدداً من المحاكمات، وكان محل المسؤولية الجنائية فيها أفراداً، وغالباً ما يكون الرؤساء والقادة العسكريون- فضلاً عن المسؤولين المدنيين- محلاً لهذه المحاكمات لبحث مدى تورطهم في الجرائم الدولية المعروضين على ذمتها، ومنْ هذه الجرائم، جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، والتي تدخل فيها بالطبع جرائم الاعتداء على البيئة.

ومبدأ مسؤولية القادة والرؤساء عن جرائم مرؤوسيهم قد استقر من خلال محاكمات جرت في الدول التي شهدت انتهاكات دولية، وصدرت أحكامٌ مثيرة للجدل قبل الحرب العالمية الثانية للتدليل على رسوخ هذا المبدأ.

مجلة آراء حول الخليج