; logged out
الرئيسية / التأثير الروسي على العلاقات الخليجية - الآسيوية: الحدود والنتائج

العدد 128

التأثير الروسي على العلاقات الخليجية - الآسيوية: الحدود والنتائج

الإثنين، 12 آذار/مارس 2018

تتسارع التطورات الدولية التي تشير إلى تغير جوهري في النظام الدولي ونمط توزيع القوى والأدوار به، باتجاه نظام متعدد القوى، فالنظام الدولي أحادي القطبية الذي قادته الولايات المتحدة لعقدين من الزمان منذ تفكك الاتحاد السوفيتي مطلع التسعينات، بات من الماضي، ونظامًا دوليًا جديدًا متعدد القوى أصبح حقيقة لا يمكن تجاهلها، تلعب فيه روسيا والصين دورًا محوريًا في الحد من الهيمنة الأمريكية على الصعيدين الاستراتيجي والاقتصادي، وتدفع فيه الدولتين للانتقال إلى عالم أكثر توازنًا اقتصاديًا وسياسيًا، من خلال جناحيها، الاقتصادي المتمثل في مجموعة بريكس، والأمني المتمثل في منظمة شنجهاي. وهو أمر يبدو طبيعيًا، فتتبع تاريخ العلاقات الدولية وتطورها يؤكد إن سيطرة أي قوة على قمة النظام الدولي مهما طالت مدتها إلى زوال. وقد استطاعت روسيا تحجيم الولايات المتحدة وإعاقة حركتها في مواقف عدة كان من أبرزها أزمة أوسيتيا الجنوبية عام 2008م، والأزمة السورية التي بدأت في مارس 2011م، ثم الأزمة الأوكرانية التي بدأت نهاية 2013م، ومازالت تلقي بظلال واضحة ليس فقط على العلاقات الروسية ــ الغربية وإنما على مجمل النظام الدولي.

فعقب عقد طاحن من الانهيار الاقتصادي وعدم الاستقرار السياسي خلال التسعينات، بدأت روسيا في استعادة عافيتها، ومع نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين كانت روسيا قد عادت لمصاف القوى الكبرى الفاعلة والمؤثرة اقتصاديًا وعسكريًا. وأخذت تعد العدة لتغيير قواعد إدارة العلاقات مع الغرب التي لا تتفق مع المصالح والمكانة الروسية، وفى مقدمتها انفراد الولايات المتحدة باتخاذ القرار الدولي، وتسيير الأزمات والقضايا الدولية والإقليمية وفق مسار يتفق والمصالح الأمريكية. وشهد الدور الروسي على الصعيدين الدولي والإقليمي قفزات هامة ومؤثرة على مدى العقد الماضي، وتطورت علاقات موسكو بعدد من القوى الإقليمية التي تعد شريكًا تقليديًا لواشنطن وفى مقدمتها باكستان، إلى جانب التفاهمات والتعاون المتنامي بين موسكو وتركيا. الأمر الذى يثير عددًا من الدلالات الهامة حول مدى تأثير التعاون الروسي مع القوى الإقليمية غير العربية، إيران وتركيا وباكستان والهند، على دول مجلس التعاون الخليجي، وأبعاد هذا التأثير، وكيف يمكن التعاطي معه خليجيًا، أخذًا في الاعتبار أن الدول الأربع ليست على نفس الدرجة من الثقل والتأثير الإقليمي عامة وعلى أمن الخليج خاصة، فباكستان حليف استراتيجي وهام بالنسبة لدول الخليج، وكذلك الحال بالنسبة لتركيا والهند التي تعتبر شريكًا هامًا لدول الخليج، في حين تنظر الأخيرة إلى إيران باعتبارها التهديد الرئيسي للأمن الإقليمي.

أولها، أن روسيا تحتفظ بعلاقات جيدة ومتنامية مع القوى الإقليمية الأربع، إيران وتركيا وباكستان والهند، رغم ما بينها من تنافس وصل حد الصراع الممتد في حالة الهند وباكستان، إلا أن هذه العلاقة ليست على نفس الدرجة من القوة والتطور، حيث مازالت في بدايتها مع باكستان، وأكثر تطورًا وأهمية مع تركيا، وتصل حد الشراكة الاستراتيجية مع كل من الهند وإيران. ويهيمن عليها مع القوى الأربع كتوجه عام التعاون التقني لاسيما في مجال الطاقة والتعاون الاستراتيجي، ويؤدى هذا إلى تأثيرات تبدو متباينة أو متناقضة على دول مجلس التعاون الخليجي.

فمن ناحية، تبدو الشراكات الروسية المتنامية مع كل من الهند وتركيا وباكستان ذات تأثير إيجابي حيث تسمح بتطوير شراكات هامة وإطلاق مشروعات عملاقة متعددة الأبعاد والشراكات بين روسيا ودول مجلس التعاون الخليجي وواحدة أو أكثر من القوى الإقليمية غير العربية الصديقة لدول الخليج. يساعد على ذلك البرجماتية التي تحكم الحركة الخارجية لهذه الدول الثلاث لاسيما خلال السنوات القليلة الماضية واتجاهها لتنويع شراكاتها الدولية على النحو الذي يخدم أولوياتها واحتياجاتها الداخلية ومتطلبات أمنها القومي ودورها الإقليمي.

في هذا السياق، تبدو الشراكة الروسية ـ الهندية ـ الخليجية هي الأبرز والأكثر جدوى، فالهند تعتبر إحدى القوى الصاعدة بقوة في النظام الدولي ومرشحة لتكون إحدى القوى الفاعلة عالميًا خلال العقود القادمة، وثاني أكبر اقتصاد عالمي عام 2050م، وفق تقديرات البنك الدولي، وذلك بالنظر لما تمتلكه من مقومات، وما حققته من قفزات اقتصادية وعسكرية خلال العقدين الماضيين. فالهند سابع أكبر اقتصاد عالميًا عام 2017م، وأحد أسرع الاقتصادات نموًا في العالم حيث تحقق نسبة نمو بلغت 7% منذ مطلع الألفية الثالثة، وهي سابع أكبر دول العالم من حيث المساحة، والثانية من حيث عدد السكان. وتقدم الهند نموذجًا للتوازن الفعال في سياستها الخارجية، حيث تحتفظ بروابطها الاستراتيجية العميقة وشراكتها مع روسيا، في الوقت الذي قامت بتطوير علاقات هامة ومتنامية مع الغرب وخاصة واشنطن دون المساس بشراكتها مع موسكو.

كما تعطى دلهي أولوية لدول الخليج العربي في الاستراتيجية الهندية بالنظر إلى مصالحها الحيوية في هذه الدول، ومتطلبات أمن الطاقة الهندي. فالهند رابع أكبر مستهلك للنفط في العالم، ويزداد استهلاكها على نحو مضطرد، وتعتمد الهند على دول الخليج في توفير أكثر من ثلث احتياجاتها من النفط، وثلثي احتياجاتها من الغاز. يضاف إلى ذلك تحويلات العمالة الهندية في دول الخليج حيث يعمل بالأخيرة أكثر من 6 ملايين عامل تتجاوز تحويلاتهم 35 مليار دولار تمثل أكثر من 47% من إجمالي تحويلات العمالة الهندية في الخارج وفق تقديرات البنك الدولي. هذا فضلاً عن أهمية التبادل التجاري بين الطرفين والذي بلغ حوالي 160 مليار دولار عام 2014م. في ضوء هذه الاعتبارات يبدي رئيس الوزراء الهندي نياندرا مودي اهتمامًا ملحوظًا بدفع العلاقة مع دول مجلس التعاون الخليجي منذ توليه السلطة عام 2014م، وقام بزيارة للإمارات عام 2015م، كانت الأولى من نوعها من قبل رئيس وزراء هندي خلال 34 عامًا، والأولى للشرق الأوسط، ثم زيارته للسعودية في أبريل 2016م، فزيارته لقطر في يونيو من العام نفسه. وشارك مودي، كضيف شرف في القمة العالمية السادسة للحكومات في أبو ظبي في فبراير من العام الجاري، مما يعكس رغبة قوية لدى الهند في توطيد العلاقة مع دول الخليج خلال المرحلة المقبلة.

ويمكن في هذا الإطار إقامة مشروعات هامة، على غرار المشروع الثلاثي، الروسي الهندي الإيراني، لبناء خط أنابيب لنقل الغاز بطول 1200 كليو متر من إيران إلى الهند، وكانت وزارتي الطاقة الروسية والإيرانية قد وقعتا في نوفمبر الماضي على مذكرة تفاهم لمشروع توريد الغاز من إيران إلى الهند، على أن ينتهي البلدان من إعداد الوثائق التقنية وتوقيعها قبل نهاية العام الجاري، وتشارك في المشروع شركات من روسيا والهند وباكستان وإيران.  

كما يكتسب التنسيق الثلاثي بين دول الخليج وروسيا والهند في مجال مكافحة الإرهاب، أهمية خاصة في ضوء سعى روسيا لبناء تحالف دولي واسع للقضاء على الإرهاب، وهو ما يتوافق مع التوجهات الهندية والخليجية في هذا المجال أيضًا. وتبذل الرياض جهدًا واضحًا لمكافحة الإرهاب ليس فقط في الداخل السعودي وإنما على الصعيد الإقليمي، وكذلك فيما يتعلق بالفكر العقائدي الداعم للتطرف والإرهاب، في ضوء تأكيد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سالمان على التمسك بالإسلام الوسطي وضرورة مواجهة التطرف. وكان التنسيق الأمني على قمة أولويات رئيس وزراء الهند خلال زيارته للإمارات والسعودية، واعتبرت دلهي تسليم السعودية الإرهابي أبو جندل عام 2012م، المشتبه بتورطه في هجمات بومباي الإرهابية 2008م، إلى السلطات الهندية، خطوة هامة في دفع العلاقات بين البلدين. وخلال زيارة رئيس وزراء الهند للسعودية تم توقيع خمس اتفاقيات، من بينها تلك الخاصة بالتعاون في مجال تبادل المعلومات الاستخباراتية المتعلقة بتمويل الإرهاب وتبييض الأموال، كما تم توقيع اتفاقية للتعاون الأمني بين الهند والبحرين في فبراير 2015م.

وينصرف ذلك أيضًا إلى آفاق التعاون العسكري التقني بين الأطراف الثلاثة، فروسيا الشريك الرئيسي للهند في المجال العسكري حيث تعتمد 70% من القوات المسلحة الهندية على الأسلحة وقطع الغيار الروسية، وتعتبر الهند أكبر سوق للسلاح الروسي، كما يتعاون البلدان على نطاق واسع في مجال التصنيع العسكري المشترك ونقل التكنولوجيا العسكرية الروسية لدلهي، ومثال ذلك إنتاج المقاتلات الروسية مثل مروحيات كا-226 تي، ومقاتلة تى-50 الشبحية التي تنتمي إلى الجيل الخامس من الطائرات المقاتلة، وتحديث طائرات "ميج-29"، وطائرة نقل تكتيكية من نوع "إيل"، والدبابة من نوع "ت-90أس، والإنتاج المشترك للصاروخ الروسي الهندي "براهموس" الأسرع من الصوت. وتبدى دلهي اهتمامًا واضحًا بتطوير التعاون العسكري التقني مع دول الخليج، وقام وزير الدفاع الهندي مانوهار باريكار بزيارة سلطنة عمان والإمارات العربية المتحدة خلال الفترة من 20-23 من مايو 2016م؛ في أول زيارة من نوعها واتفق البلدان على “تأسيس شراكة استراتيجية شاملة، وتعزيز العلاقات العسكرية الدفاعية، عقب الزيارة. وقام أسطول من السفن الحربية الهندية في مايو 2015م، بجولة في منطقة الخليج شملت كلا من الإمارات العربية المتحدة، الكويت، البحرين، وسلطنة عُمان. وفى هذا الإطار يمكن أن تكون الهند بوابة لنقل التكنولوجيا الروسية لتطوير الصناعات العسكرية في دول الخليج.

وفيما يتعلق بتركيا، فقد دفع التنسيق الذي تقتضيه الضربات الروسية إلى ظهور محور هام يضم روسيا وتركيا وإيران حيث فرضت التطورات المختلفة على تركيا ضرورة التنسيق مع موسكو وإنهاء حالة التوتر والقطيعة التي خيمت على العلاقات بين البلدين في أعقاب إسقاط أنقرة للطائرة الحربية الروسية، ساعد على ذلك موقف روسيا من المحاولة الانقلابية في تركيا، لتنتقل الأخيرة من المعسكر المناهض لروسيا في المنطقة إلى نقطة ما أقرب إلى موسكو، خاصة بعد التوتر في العلاقات التركية الأمريكية منذ المحاولة الانقلابية على أردوغان ثم تصاعد التوتر على خلفية عملية "غصن الزيتون" التركية في شمال سوريا والدعم الأمريكي للأكراد. فقد تخوفت أنقرة من الخطوة الأمريكية التي تم إعلانها في 14 يناير وتتضمن تشكيل قوة أمنية جديدة قوامها 30 ألف جندي لنشرها على الحدود السورية مع تركيا والتي على إثرها بدأت أنقرة عملية "غصن الزيتون" العسكرية بدعوى القضاء على الإرهاب في عفرين والحدود التركية السورية. ومن المعروف أن أنقرة تتخوف من أن يكون التقدم الذي حققته قوات "سوريا الديمقراطية" بقوامها الكردي، خطوة أولى نحو إعلان الفيدرالية في المناطق الكردية السورية، وما ينطوي عليه ذلك من تهديد لسلامتها الإقليمية حيث يمثل الأكراد حوالي 20% من سكانها يتركزون في جنوب وجنوب شرق تركيا المتاخم للأراضي السورية، واتخذت من ذلك ذريعة لبدء عملياتها العسكرية في الأراضي السورية، "عملية درع الفرات"، التي فرضت التنسيق مع روسيا لتجنب صدام آخر ستكون عواقبه وخيمة. ولا شك أن التطور النوعي في العلاقات الروسية التركية يتيح فرصًا واسعة أيضاً لتعاون ثلاثي الأبعاد في المجالات المختلفة.

ولكن من ناحية أخرى، يظل تعميق التعاون الاستراتيجي بين موسكو وطهران مثيرًا للقلق لدى دول مجلس التعاون الخليجي خاصة المملكة العربية السعودية. فقد أدت تطورات الأزمة السورية من ناحية والاتفاق بشأن البرنامج النووي الإيراني من ناحية أخرى إلى نقلة نوعية في العلاقات الروسية الإيرانية، وأوجد الملف السوري رابطًا عضويًا ممتدًا بينهما حيث تشارك قوات البلدين في ضمان وقف إطلاق النار والحفاظ على الهدنة في مناطق خفض التصعيد وهناك تنسيق كامل ومتواصل في هذه الخصوص مباشرة ومن خلال مسار أستانا، واستحدثت طهران منصبًا أطلقت عليه "المنسق السياسي والعسكري والأمني مع روسيا وسوريا"، واختارت له الأدميرال علي شمخاني أمين عام المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني.

إلا أن الأكثر تأثيرًا هو النمو المضطرد في التعاون العسكري بين الجانبين والذي ترى فيه دول الخليج إخلالاً بتوازن القوى في المنطقة. وأتاح الاتفاق بشأن البرنامج النووي الإيراني وتخفيف العقوبات المفروضة على طهران فرصًا واسعة لروسيا في مختلف المجالات التقنية والعسكرية. فقد وقع الجانبان صفقات لمد طهران بأسلحة متطورة وطائرات مقاتلة، قُدرت بمليارات الدولارات، فضلًا عن إكمال تسليم صفقات كان البلدان اتفقا عليها منذ سنوات، مثل منظومة صواريخ “إس-300” الدفاعية، التي كان قد تم تعليق اتمامها التزامًا بالعقوبات الدولية على إيران، ونُشرت المنظومة في منطقة فوردو القريبة من مدينة قم، على بعد 130 كم جنوب العاصمة طهران، بعد إجراء الاختبارات اللازمة بشأنها، قبل نصبها قرب المنشأة المخصصة لتخصيب اليورانيوم. وتم تسليم طهران دفعة من صفقة أسلحة “كلاشنيكوف-103” الذي يعد أحد أشهر وأفضل أسلحة عائلة "كلاشنيكوف" الروسية.إلى جانب صفقات جديدة لشراء مقاتلات وأسلحةفي إطار خطة التسليح التي تتبعها إيران حيث اتفق الجانبان على تسليم طهران 48 طائرة من طراز "SU-30"، وطلب الجانب الإيراني انتاج هذا النوع من الطائرات محليًا باستخدام خامات إيرانية أرخص ثمنًا، ودبابات “تي-90” وأنظمة مدفعية وطائرات هليكوبتر. وعلى صعيد المناورات العسكرية والتعاون التدريبي، شهد عام 2016م، مجموعة من الفعاليات الهامة حيث أجرت القوات الجوية الروسية أول مناورة جوية لها في الأجواء الإيرانية، ضمن فاعليات المعرض الدولي الثامن الذي عقد في جزيرة كيش الإيرانية، وأرسلت وزارة الدفاع الروسية، أسطولاً حربيًا مكونًا من السفينة الحربية “تترستان”، والفرقاطة “جراد سويز أسك” وبعض سفن الدعم الحربية إلى ميناء أنزلي الإيراني. وفي منتصف نوفمبر 2016م، زارت وحدات من البحرية الروسية ميناء بندر عباس الإيراني، ومُنح الضباط والجنود الروس حق النزول إلى الأرض والقيام بجولات لعدد من المواقع العسكرية والسياحية في تلك المنطقة. وفي خطوة أخرى لتعزيز التعاون بين البلدين، وخلال زيارة الرئيس روحاني لموسكو في مارس 2017م، تم توقيع اتفاقية إلغاء التأشيرات السياحية بين البلدين.

ثانيها، في ضوء ما تقدم يصبح الاقتراب البرجماتي التعاوني هو الأمثل في إدارة العلاقات الروسية الخليجية، فالتطورات السابقة تؤشر لوجود روسي دائم وقوى في منطقة الشرق الأوسط عامة، ودور فاعل ومؤثر لموسكو في المنطقة، فالوجود الروسي في سوريا ليس حدثًا عابرًا أو استثنائيًا في السياسة الروسية ولكنه توجه استراتيجي له صفة الديمومة والثبات، خاصة في ضوء الخطوات التي اتخذتها موسكو والاتفاقات الموقعة بشأن تطوير قاعدتي حميميم وطرطوس الروسيتين في سوريا. لقد أصبحت روسيا طرفًا لا يمكن تجاوزه في أي ترتيبات خاصة بالمنطقة، وحمل تدخلها في سوريا رسالة واضحة حول شكل النظام الدولي الجديد، وانتهاء مرحلة القطبية الواحدة، وأكد أن واشنطن مع استمرارها كفاعل "رئيسي" بالمنطقة فإنها لم تعد الفاعل "الأوحد" بها كما كان عليه الحال من قبل، وقدم الحضور الروسي القوي بدائل واسعة الأفق تتسع لمختلف الأطراف. إن عودة روسيا لمنطقة الشرق الأوسط كانت قوية ومؤثرة وفى إطار حسابات دقيقة أذهلت الكثير من الفاعلين داخل المنطقة وخارجها وأجبرتهم على التعامل باحترام مع موسكو والتعاون معها لأنه لم يعد من الممكن تجاوزها. وفى ضوء المعطيات الراهنة فإن الدور الروسي مرشح للتزايد في المستقبل في مختلف المجالات، كما أن تسوية الأزمة السورية قد تتيح دورًا روسيًا أكثر فاعلية في الأزمة الليبية واليمنية مستقبلاً.

و انطلاقًا من عقيدة السياسة الخارجية الروسية القائمة على توظيف السياسة الخارجية لخدمة النمو الاقتصادي والأولويات الداخلية من ناحية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى وتوجهاتها الخارجية، تسعى روسيا لتطوير الشراكات متوازية تتجاوز الخلافات القائمة بين الشركاء وبعضهم البعض، وقد تعمل روسيا على تخفيف التوتر بين الشركاء وتشجيع تطوير علاقات تعاونية بينهما من خلال التركيز على المشتركات الجامعة، ولو في إطار جماعي، ومثال ذلك قبول الهند وباكستان عام 2017م، كأعضاء في منظمة شنجهاي للتعاون، والمعروف إنها منظمة أمنية تهدف لمكافحة الإرهاب بالأساس من منظور شامل لا يقتصر على التعامل الأمني ولكن يمتد لمنظور تنموي واسع يعزز التعاون في مجالات أرحب بين الدول الأعضاء.

وفى إطار هذا التوجه العام الحاكم للسياسة الروسية، وبنفس المنطق حرصت روسيا على تطوير التعاون مع دول مجلس التعاون الخليجي بالتوازي مع دفع شراكتها وتفاهمها مع بعض القوى الإقليمية غير العربية خاصة إيران التي تعتبرها دول الخليج تهديدًا مباشرًا لأمنها واستقرارها. فلم يكن للعلاقة مع طهران تأثير يذكر على العلاقات الروسية الخليجية، وشهدت العلاقات الروسية مع دول مجلس التعاون الخليجي طفرة ملحوظة في ضوء سياسة المتوازيات التي تتبعها روسيا وتقوم من خلالها بتطوير التعاون مع كافة الدول والأطراف الإقليمية بغض النظر عن علاقة هذه الأطراف ببعضها.

وشهدت العلاقات الروسية الخليجية قفزة كبيرة مع زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز إلى روسيا. فرغم أن الزيارة هي الثانية، حيث سبق وأن زار الملك سلمان روسيا عام 2006م، وقت أن كان أميرًا للرياض، إلا أنها مثلت نقلة نوعية في العلاقات الروسية السعودية والخليجية وتعتبر تاريخية لاعتبارات عدة، فهي الأولى لملك سعودي، ولم يسبق أن زار ملك السعودية، بصفته، روسيا. كما إنها لم تكن من قبيل الزيارات الخاطفة حيث استمرت لمدة أربعة أيام، مما أتاح الفرصة لمناقشة القضايا الشائكة والجدلية بين البلدين وبلورة تفاهمات بناءة حولها. كما إن ضخامة الوفد المصاحب للملك سلمان خاصة من المستثمرين ورجال الأعمال عكس رغبة حقيقية لدى المملكة في دفع التعاون بين البلدين وتدشين شراكة اقتصادية وتقنية تخدم التفاهمات السياسية والتعاون الاستراتيجي بينهما، خاصة في وقت يسعى ولى العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى تحديث المملكة والاقتصاد السعودي من خلال تقليل الاعتماد على النفط وتشييد بنية إنتاجية حديثة كما جاء في استراتيجيته للمملكة 2030، ويبدو في حاجة للتكنولوجيا الروسية وغيرها لتحقيق هذا الهدف.

من ناحية أخرى، تحتاج موسكو إلى تفاهمات مع السعودية حتى تستطيع دفع التسوية في سوريا، وهي حريصة على استمرار الاتفاق حول خفض حجم إنتاج النفط لتحسين الأسعار مع الرياض الذي بدأ باتفاق فينيا في نوفمبر 2016م، وساعد على رفع أسعار النفط بنسبة 16%. كما تسعى موسكو إلى جذب الاستثمارات السعودية، ولا شك أن الزيارة تعد تطمينية لرجال الأعمال والمستثمرين السعوديين، وضوء أخضر قوى لهم للتحرك باتجاه روسيا. وقد تم بالفعل الاتفاق على إنشاء صندوقين الأول بقيمة 10 مليار دولار، والثاني تسهم فيه السعودية بقيمة مليار دولار مخصص للاستثمار في مجال النفط. وتم بلورة المشروعات المشتركة بين الجانبين خلال منتدى الاستثمار الروسي السعودي الذي عقد على هامش الزيارة بمشاركة أكثر من 200 شركة روسية وسعودية.

إن التغيرات التي يشهدها النظام الدولي والشرق أوسطي، وضخامة التحديات الأمنية والتنموية التي تواجه كل دول المنطقة والعالم، يفرض اقتراب تعاوني برجماتي يساعد دول مجلس التعاون الخليجي على تحقيق أهدافها وتعظيم مكاسبها وصون أمنها الوطني.

مجلة آراء حول الخليج