; logged out
الرئيسية / لا توجد منظمات إقليمية قادرة على التنمية وفجوة بين تصميم وتنفيذ البرامج

العدد 143

لا توجد منظمات إقليمية قادرة على التنمية وفجوة بين تصميم وتنفيذ البرامج

الأربعاء، 06 تشرين2/نوفمبر 2019

تحاول هذه المقالة استكشاف معالم الدور المستقبلي للأمم المتحدة في الشرق الأوسط باعتباره متغيرًا ناتجًا عن تفاعلات بين عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية، تحدث على المستوى الوطني والإقليمي والدولي، وهو ما يثير إشكاليات منهاجية عديدة تتعلق بكيفية تحديد مسارات هذه المؤثرات، من خلال أربعة احتمالات: أولها، أن تستمر المؤثرات في نفس الاتجاه الذى ولد الوضع الحالي، وثانيها أن يتغير الاتجاه نحو الاستقرار وارتفاع معدلات النمو وتراجع النزاعات، أو – على العكس – تتجه الأمور إلى التدهور وانتشار الحروب والفقر أو – وكما حدث من قبل – يظهر سيناريو مفاجئ ("البجعة السوداء"([1])) يوّلد أحداثًا متداعية غير متوقعة.

ومع اقتراب الاحتفال بالعيد الـ 75 لقيام الأمم المتحدة، في العام المقبل، فقد يصح أن نبدأ من السياق التاريخي الذي شهد ولادة دور الأمم المتحدة بالمنطقة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ثم ننتقل إلى معالم الدور الحالي للمنظمة في الشرق الأوسط، ونختم بعرض بعض المسارات المحتملة للدور المستقبلي لهذه المؤسسة الدولية.

أولاً: السياق التاريخي لنشأة وتطور دور الأمم المتحدة في الشرق الأوسط

تفاعلت مؤثرات عديدة لتشكل دور الأمم المتحدة في الشرق الأوسط، أولها تجربة المنظمة في التعامل مع الوضع الإنساني بأوروبا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والتي تطورت إلى دور عالمي يحاول معالجة مشاكل الحروب والفقر التي تفاقمت في الشرق الأوسط وفى آسيا وإفريقيا مع انسحاب الدول الاستعمارية من مستعمراتها (فلسطين، الهند، باكستان الخ). وبالتوازي كان هناك للأمم المتحدة دورًا محوريًا – ومستمرًا – في عدد من القضايا السياسية في المنطقة، أبرزها القضية الفلسطينية والنزاع العربي – الإسرائيلي، عبر قرارات دولية (قرارات 181، 194، 242، 338 الخ)([2])، وعبر محاولات الوساطة([3])، وعمليات حفظ السلام، وعمليات الإغاثة الإنسانية وحماية اللاجئين، بما في ذلك إقامة وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين "اونروا". وواكب هذه الفترة، في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، بداية ظهور برامج الأمم المتحدة الصحية لمكافحة الأمراض، وتوفير الغذاء، ونشر التعليم، وغير ذلك من برامج التنمية الاجتماعية والصناعية والزراعية، كما صاحب ذلك ظهور المنظمات المتخصصة للأمم المتحدة، وانتشار برامجها ومكاتبها في دول الشرق الأوسط.

وفى هذا السياق تبدو أهمية التمييز بين البعد السياسي لدور الأمم المتحدة في الشرق الأوسط، والذى يجمع بين القرارات الصادرة نتيجة للتوافق داخل المنظمة الدولية، ونشاط الأمانة العامة في مجالات حل النزاعات وعمليات السلام، وتقديم تقارير عن عدد من الأزمات والمشاكل الدولية والإقليمية .. كل ذلك من ناحية، وبين نشاط المنظمات والبرامج المتخصصة العاملة في مجالات التنمية وحقوق الإنسان والإغاثة الإنسانية وغيرها.([4]) بمعنى أن هناك بعد يتعلق بالدبلوماسية متعددة الأطراف Multilateral التي تشارك فيها الحكومات Intergovernmental من ناحية، وهذا يتميز عن نشاط الوكالات والمنظمات التنموية التابعة للأمم المتحدة من ناحية أخرى.

فإذا نظرنا إلى المكون الأول، أي الدور السياسي للأمم المتحدة في الشرق الأوسط، فإننا سنجد أن هناك عدة عوامل ساهمت في تشكيله منها([5]):

(1)       حرب 1948م، التي أحدثت تحولات كبرى في المنطقة، ورسخت صراعًا رئيسيًا تولدت عنه انفجارات متتالية عبر حروب ومواجهات ومحاولات لخفض التوتر وتنظيم فترات للهدنة والتعامل مع اتفاقيات للسلام صنعت خارج منظومة الأمم المتحدة الخ.

(2)       تعدد النزاعات المسلحة الممتدة، والتي يقع عبؤها الأساسي على المدنيين، مع تحول هذه النزاعات من الطابع الدولي الذي يقوم بين الدول، إلى صراعات داخلية تستند لأسباب سياسية وقبلية ودينية وطائفية، وتصل لحد المطالبة بالاستقلال وبالتالي تقسيم دول قائمة. كما ظهر الإرهاب كأداة تستخدمها الجماعات المتطرفة لفرض تحولات سياسية واجتماعية تعكس فكرًا رجعيًا وجد من يتبناه ويدعمه رغم ثمنه الفادح.

(3)       مع نهاية العقد الأول من القرن 21، ومع موجة الانتفاضات الشعبية في العديد من الدول العربية، دخلت المنطقة في حالة من الاضطراب والتوترات الداخلية المصحوبة بتدخلات إقليمية ودولية، وشمل ذلك العراق، والبحرين، وسورية، ومصر، واليمن، وليبيا، وتونس، والجزائر، والسودان حيث انعكست آثارها على دول الجوار في الإقليم، مثل الأردن ولبنان، مع تفاعلات شملت دول الخليج والبحر الأحمر والقرن الإفريقي والمغرب العربي، وانعكست على نشأة وفاعلية المنظمات الإقليمية ودون الإقليمية أو الفرعية sub regional التي تجمع دول المنطقة، بحيث شكلت هذه التطورات أجندة عمل الأمم المتحدة في المنطقة خلال الحقبة الماضية بما في ذلك قرارات دولية، ومهام للوساطة، وعمليات للإغاثة، وحماية اللاجئين، الخ.

(4)       تنامى دور الفاعلين من غير الدول non-state actors، حيث أصبح عدد من هؤلاء يحاكي دور الدول من حيث السيطرة على مساحات من الأرض، وتطبيقها قوانين خاصة بها، وحصولها على سلاح ودعم سياسي من دول أخرى، ووجود تمثيل دبلوماسي لها لدى بعض الأطراف، مما يضاعف من تعقيد المشاكل القائمة، وزاد من صعوبة عمليات الوساطة الدولية، وقلل من إمكانية التوصل لاتفاقيات للهدنة واحترامها.

(5)       تصاعدت الكلفة الإنسانية للنزاعات، سواء عبر الوفيات والإصابات الناتجة عن الآثار المباشرة وغير المباشرة للنزاعات المسلحة، أو من حيث تفاقم ظاهرتي النزوح الداخلي واللجوء إلى الدول الأخرى، حتى أن أكثر من نصف لاجئي العالم اليوم هم من مواطني الدول العربية.([6])

المكون الثاني لنشاط الأمم المتحدة في الشرق الأوسط يتعلق بدور المنظمات والبرامج الإنمائية التي تعمل أساسًا بشكل ثنائي بالتعاون مع كل دولة على حدة. وبصفة عامة عملت هذه المنظمات على دعم جهود دول المنطقة نحو تحقيق مجموعة من الأولويات الإنمائية مثل رفع المستوى الصحي للأطفال، ونشر التعليم وتوفير المياه الآمنة وغيرها. وبحلول تسعينيات القرن الماضي، كانت قد حدثت تحولات عميقة في دول الشرق الأوسط، حيث ارتفع دخل الدول البترولية وخرجت من نطاق الدول منخفضة الدخل التي تركز عليها برامج الأمم المتحدة. وفى نفس الوقت، حققت عدد من الدول متوسطة الدخل نتائج طيبة قياسًا بعدد من المؤشرات الإنمائية (معدل وفيات الأطفال، نسبة الالتحاق بالتعليم الأساسي، الخ).

ترتب على هذا الوضع مراجعة عدد من منظمات الأمم المتحدة لأولويات عملها ودور برامجها في المنطقة وانعكاسات ذلك التنظيمية، حيث قلصت من ميزانياتها وأنشطتها في دول المنطقة ذات الدخل المرتفع والمتوسط باعتبارها "دول في مرحلة التحول" Countries in Transition (CITs)، ودخل في ذلك دول مثل لبنان وسورية والأردن وليبيا وتونس والجزائر والمغرب. وبالتوازي استمر نشاط الأمم المتحدة في دول المنطقة منخفضة الدخل على نفس مستوياته السابقة.

صاحب هذا التحول افتراض بأن العمل الإنمائي في كل من الدول المرتفعة والمتوسطة الدخل يمكنه أن يستمر عبر التأثير على الأولويات التي تحددها دول المنطقة عبر الدعوة advocacy وتبادل التجارب وعدد من المشاريع الرائدة. ومع اندلاع الانتفاضات العربية المتتالية بعد 2010م، ظهر قصور هذه النظرة، وعادت الكثير من منظمات الأمم المتحدة إلى تعظيم برامجها للإغاثة الإنسانية (مثلاً في 2013م، صدر "نداء مشترك" لخمس من منظمات الأمم المتحدة يطالب بمبلغ 5 مليارات دولار لتمويل عملياتها الإنسانية في سورية والدول المجاورة، وكان ذلك أعلى رقم طالبت به المنظمة الدولية في تاريخها وما لبث الرقم أن ارتفع إلى 12.4 مليار دولار في 2017)([7]). وبمراجعة الاتجاه العام لبرامج الأمم المتحدة الإنمائية خلال تسعينيات القرن الماضي والعقد الأول من القرن 21، يمكن ملاحظة أن معظم دول منطقة الشرق الأوسط، وخاصة الدول العربية، قد حققت تقدمًا كبيرًا في إنجاز "أهداف الألفية الإنمائية" Millennium Development Goals (MDGs) ، حيث أظهرت المؤشرات تراجع معدلات وفيات الرضع والأطفال والحوامل، وارتفاع نسب الالتحاق بالتعليم الأساسي، ونسب التحاق الفتيات بالمدارس، وأصبحت نسبة أكبر من السكان تحصل على المياه النقية والصرف الصحي، كما ارتفع متوسط السن المتوقع عند الولادة، الخ. ومع حلول عام 2005م، أطلقت مبادرة عالمية جديدة نحو "أهداف التنمية المستدامة" Sustainable Development Goals (SDGs) مع وجود إدراك بضرورة العمل بكثافة أكبر في الدول العربية الأكثر فقرًا، حيث لم يكن الإنجاز على مستوى الآمال، وأيضًا في المناطق الأكثر تخلفًا في الدول التي بدت وكأنها حققت مؤشرات عالية، وإن كانت في الواقع تخفي تفاوتات داخلية كبيرة.

وصاحب هذا التحرك الإنمائي المركز على مؤشرات محددة، نشاط فكرى تمثل في "تقرير التنمية الإنسانية" الذي أطلقه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عام 1990م، على يد اثنين من أبرز الاقتصاديين في العالم ("محبوب الحق" من باكستان، و "امارتيا سن" من الهند)، حيث ما لبث أن أطلق هذا التقرير الدوري "مؤشر التنمية الإنسانية" Human Development Index (HDI)، بهدف إيجاد مقياس واحد يعكس مدى تقدم الدول في مجال التنمية. وبالتوازي تم التوسع في إصدار تقارير التنمية الإنسانية حول العالم على المستويين الإقليمي والوطني (600 تقرير حتى الآن). يهمنا في مجال هذا البحث التقرير الذي صدر تباعًا منذ عام 2002م، حول التنمية الإنسانية العربية بمشاركة عدد كبير من المثقفين العرب، والذي أرجع تخلف العالم العربي إلى ثلاثة عوامل أولها فقر المعرفة وثانيها الافتقار لما أسمته الأمم المتحدة الحريات السياسية وثالثها وضع المرأة. وعلى مر السنوات التالية ركزت تقارير التنمية الإنسانية على التعمق في تحليل نواحي القصور العربي والتوصية باتخاذ خطوات إصلاحية لتعديل المسار.

واكب ظهور تقرير التنمية الإنسانية العربية تداعيات أحداث 11 سبتمبر وسعت إدارة "بوش" لصياغة استراتيجية لمواجهة الإرهاب، حيث تبلور تحليل يربط بين أسباب نشأة التطرف والإرهاب وبين الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الدول العربية، وهكذا أطلقت الحكومة الأمريكية مبادرة إصلاحية تحت مسمى الشرق الأوسط الكبير. Greater Middle East، وإن كانت قد استخدمت مصطلحات أخرى مثل "الشرق الأوسط الجديد" و"مشروع الشرق الأوسط الكبير". ويلاحظ أن العديد من الدول العربية المعنية بطرح هذه المبادرات الإصلاحية لم تتحمس لها، بل احتجت بعضها على المحتوى النقدي لتقارير التنمية الإنسانية وحظروا دخولها لبلادهم.

ثانيًا: الوضع الحالي لنشاط الأمم المتحدة في الشرق الأوسط:

يمكن رسم صورة للخطوط العريضة لنشاط الأمم المتحدة في الدول العربية في الوقت الحالي، مع التحفظ بأن هناك تنوع كبير للغاية في المشاريع العديدة التي تنفذها الأجهزة والمنظمات الدولية، ويكفي الإشارة أن عاصمة دولة واحدة قد تستضيف ما بين 10 إلى 50 مكتبًا من مكاتب الأمم المتحدة، لكل منها العديد من الأنشطة على المستوى الإقليمي أو المستوى الوطني، وهو ما يعني وجود العشرات من المشروعات في الدول أعضاء جامعة الدول العربية (22 دولة). ويمكن التمييز بين ثلاثة أدوار متباينة عند تناول نشاط الأمم المتحدة الحالي في المنطقة:

(1)       الدور المتعلق بالأمن والسلم، بما في ذلك قرارات دولية، وعمليات لحفظ السلام، وممثلين للأمين العام للأمم المتحدة في نزاعات معينة (سورية، ليبيا، اليمن) الخ.

(2)       عمليات الإغاثة الإنسانية: وتتركز الآن في سورية والدول المجاورة لها، واليمن، وليبيا، والسودان، والصومال مع ملاحظة ارتفاع أعداد اللاجئين والنازحين بالدول العربية (57% من لاجئي الدول)، وامتداد زمن النزاعات مما يفرز الحاجة لوضع برامج إغاثية غير نمطية طويلة المدى.

(3)       مشاريع تنموية: وتشمل المجالات الصحية والتعليمية والاجتماعية، وعادة ما تكون ذات ميزانيات محدودة اللهم إلا في حالة مشاريع المياه والتغذية.

ويلاحظ أن أغلب هذه المشاريع يتم تنفيذها عبر برامج تعمل في كل دولة على حدة، بمعنى ضعف الإطار الإقليمي لهذه الأنشطة، وعدم وجود معلومات دقيقة عن حجم المشاريع على المستوى الإقليمي، ناهيك عن غياب أي تنسيق جاد مع المنظمات الإقليمية العربية. ويمكن نقد هذه المشاريع أيضًا من حيث ضعف مكون "بناء القدرات" فيها، وخاصة في حالة مشاريع الإغاثة الإنسانية، بالإضافة إلى ضعف عنصر الابتكار في تصميم وإدارة البرامج. ومع ذلك فإن جهود الأمم المتحدة الإنمائية والإغاثية تمثل إضافة هامة من حيث التأثير على عملية تحديد الأولويات الوطنية في الدول المختلفة وتحقيق الأهداف الإنمائية لأكبر عدد من السكان، مع ملاحظة أن هذه البرامج تساهم في توجيه وحشد جهود جهات أخرى مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والمعونات الأمريكية والأوروبية وغيرها. وفى نفس الوقت فإنه لا توجد منظمات إقليمية لديها القدرة على الإحلال مكان جهود الأمم المتحدة، حيث لا تزال هناك فجوة كبرى في قدرات هذه المنظمات على تصميم وتنفيذ البرامج التنموية وجهود الإغاثة الإنسانية، بل وأيضًا في مجال عمليات حفظ السلام.

ثالثًا: مستقبل دور الأمم المتحدة في الشرق الأوسط

يحتاج التوصل لبعض التصورات حول مستقبل مؤسسة كالأمم المتحدة، أن نحدد العوامل التي تشكل دور هذه المنظمة Drivers، ويمكن أن ننتقي ثلاث مجموعات من العوامل أولها يتصل بالميزان الدولي، وثانيها يتركز على أسلوب عمل الأمم المتحدة، وثالثها يتعلق بتطورات النظام الإقليمي العربي/الشرق أوسطي.

(1)       اتجاهات التغيير في الميزان الدولي: تتجه قمة النظام الدولي إلى التغير بصعود دول وتجمعات إقليمية بما في ذلك الصين، والهند، والبرازيل، وروسيا، بما سيغير من منظومة قيادة النظام الدولي، وأطراف إدارته، ويوسع مجال المشاركة في صنع السياسات، وهو أمر لابد وأن ينعكس على أسلوب عمل الأمم المتحدة وأولوياتها وعملية صنع القرار فيها، بما في ذلك وضع الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، واحتكار هذه الدول لحق "الفيتو"، ودور الأمين العام، كما أن هذا التغيير في الميزان الدولي سيضيق من فرص تدخل أي دولة كبرى منفردة عبر عمل عسكري، في دولة أخرى، كما يعزز من محاولات اللجوء للأمم المتحدة وآلياتها، خاصة إن استمرت الموجة الشعبوية والانعزالية القومية التي تجتاح كثير من الدول الغربية المتقدمة.

(2)       اتجاهات التغيير في النظام الإقليمي: يمكن طرح بعض الاحتمالات لتطور النظام الإقليمي الشرق أوسطي في المستقبل. فمن ناحية عضوية النظام، يمكن توقع اتساع نطاق الدول المنضمة لتشمل الدول العربية، وعددًا من الدول الشرق أوسطية (تركيا، إيران، ربما إسرائيل أيضًا)، مع أدوار فعالة لأطراف دولية، بعضها يستمر في دوره (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا مثلاً) وبعضها الآخر يكرس وضعه ويتمدد (روسيا والصين مثلاً). وبالتوازي، يمكن توقع زيادة فاعلية المنظمات الإقليمية التي تضم دول المنطقة (جامعة الدول العربية، الاتحاد الإفريقي، مجلس التعاون، منظمة التعاون الإسلامي) مع احتمال كبير لظهور تجمعات إقليمية وظيفية "شرق أوسطية" مثل منتدى غاز شرق المتوسط. أما عن قيادة النظام الإقليمي، فالأرجح أن تتوزع بين عدة دول (مثلاً، مصر، السعودية في المشرق والمغرب والجزائر في الغرب)، وعدة مجالات (عسكري، دبلوماسي، اقتصادي الخ)، بما يفتح أدوارًا لدول أخرى في المنطقة.

في نفس الوقت، يوجد أكثر من سيناريو للمسارات المحتملة للإقليم الشرق أوسطى، أحدها أن يتجه إلى الاستقرار من ناحية النزاعات الممتدة المتعددة التي أرهقت دول المنطقة، مع إمكانية أن يصاحب ذلك تقدمًا في مجال التنمية بحيث تتحسن المؤشرات الهامة المرتبطة بعدد السكان، ووضعهم الصحي والتعليمي، وتنخفض نسبة البطالة، وهو وضع يسهل تصوره في حالة الدول مرتفعة الدخل في المنطقة، ولكن قد يكون من غير الواقعي توقع حدوث ذلك في مجموعة الدول الفقيرة أو حتى في حالة الدول متوسطة الحال كبيرة السكان، وهنا يمكن توقع سيناريو آخر حيث يتضاعف عدد السكان في هذه الدول وتعجز المؤسسات التعليمية عن استيعاب الطلاب، ويزداد تكدس السكان في المدن، مع ارتفاع نسب البطالة، وتواضع متوسط الدخل الفردي مع زيادة الإحباط بسبب تطلعات شباب المنطقة المتأثر بالصور الإعلامية للمنتجات الاستهلاكية العالمية وأنماط سلوك مواطني الدول الغنية.

(3)       اتجاهات التغيير في الأوضاع الداخلية في الشرق الأوسط : يمكن التمييز بين خمس مجموعات من الدول الشرق أوسطية: أولها مجموعة الدول مرتفعة الدخل (الدول البترولية بالأساس)، يليها الدول متوسطة الدخل ومتوسطة الحجم السكاني (تونس، الأردن مثلاً)، ثم تأتي دول ذات حجم سكاني كبير ودخل متوسط (مصر، المغرب مثلاً) ورابع مجموعة هي الدول الفقيرة الدخل (جيبوتي، جزر القمر، موريتانيا) وإن كان معظم أعضاء هذه المجموعة قد تحولوا إلى مجموعة خامسة ألا وهى الدول الفقيرة التي تعاني من نزاعات داخلية ممتدة (الصومال، اليمن، السودان مثلاً).

وبصفة عامة، يمكن توقع نجاح مجموعة من دول المنطقة في الحفاظ على وضعها المتقدم الحالي، كما قد تقترب منهم مجموعة أخرى لديها إمكانيات وفرص خاصة مثل دخل بترولي (الجزائر)، أو نموذج تنموي ناجح (المغرب) وخاصة إذا تم تسوية النزاع الداخلي في بعضها (ليبيا). أما مجموعة الدول الفقيرة، والتي تعاني من نزاعات، والدول الفاشلة، فالأرجح أن تبقى على كثير من خصائصها التي تستدعى المعونات الخارجية، والإغاثة الإنسانية، والتدخل الخارجي على أشكاله (قرارات دولية، عمليات وساطة، عمليات لحفظ السلام الخ)، مع وجود فرصة لأن تتجاوز بعض الدول هذه الأوضاع عبر تسويات سياسية (سوريا، لبنان مثلاً).

******

محصلة تحليل تاريخ نشأة وتطور دور الأمم المتحدة في الشرق الأوسط، والوضع الحالي للمنظمة الدولية في المنطقة، مع التوقف عند عدد من المحركات Drivers التي تساهم في صناعة الدور المستقبلي للأمم المتحدة في الشرق الأوسط، تصل بنا إلى عدة مسارات محتملة:

  1. ستظل هناك مساحة لعمل الأمم المتحدة الخاص بالأمن والسلم في الشرق الأوسط، سواء عبر القرارات الدولية، أو عمليات حفظ السلام، أو عمليات الوساطة وإن كان من المتوقع أن يتطور هذا الدور في عدة نواحي: فهو قد يتقلص إن تحقق الافتراض المتفائل بأن نزاعات المنطقة، أو أغلبها على الأقل، سوف تتم تسويته خلال العقد القادم (سورية، ليبيا، اليمن مثلاً)، كما أن الأرجح أن دور الأمم المتحدة في هذا المجال سوف يعكس تعاونًا أوثق مع المنظمات الإقليمية الفاعلة في المنطقة (الاتحاد الإفريقي والجامعة العربية مثلاً)، بما يتضمنه ذلك من تركيز على عنصر بناء القدرات، والتدريب، والتخطيط، والإنذار المبكر، وبناء ثقافة السلام، وتبني الدبلوماسية الوقائية، وتعزيز الاستقرار عبر مبادرات نزع السلاح والحد منه، مع الاعتماد على الترتيبات الإقليمية في توفير قيادة العمليات والقوات المطلوبة، مع الأخذ في الاعتبار تجارب التعاون الثلاثي (الأمم المتحدة – الاتحاد الإفريقي – الاتحاد الأوروبي مثلاً).
  2. مع افتراض اتجاه نزاعات الشرق الأوسط إلى الهدوء أو التقلص إن لم يكن الحل الكامل، يمكن توقع دخول عدد من دول المنطقة إلى مرحلة إعادة البناء reconstruction (مثلاً العراق، سورية، ليبيا، اليمن، السودان). وإذا يذهب البعض إلى أن أزمات المنطقة ذات طبيعة معقدة، وبالتالي فإنها لن تنتهي تمامًا، وإن كانت قد تجنح للتهدئة، كما أن الدول المانحة تضع شروطًا صعبة قبل إقدامها على مد يد العون لمساندة هذه العملية([8])، إلا أنه يمكن التنبؤ بأن منظومة الأمم المتحدة سيكون لها دور في عملية إعادة البناء بسبب خبرتها في هذا المجال، وتزايد التوافق على دور هذه العمليات في دعم الاستقرار، مع ربطها بعمليات حفظ السلام، بالإضافة إلى أن عددًا من الدول المعنية لديها ذاتية لتمويل هذه العملية (العراق، ليبيا، مثلاً).
  3. في ظل تعاظم الضغوط الدولية على تقليص مجالات السيادة المطلقة للدول، وتزايد التوافق حول ضرورة تجنب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان (جرائم الحرب، الجرائم ضد الإنسانية، التطهير العرقي، الإبادة الجماعية)، وبالتالي تطبيق مبدأ "حق الحماية" Responsibility to protect (R2P)، فإن الأمم المتحدة تتجه إلى تعزيز قدرتها على التحرك في مثل هذه الحالات عبر حظر استخدام الفيتو في حالة الجرائم الفظيعة Atrocity crimes (المقترح الفرنسي)، وتعزيز نظم الإنذار المبكر، ومواجهة الأزمات، وتعزيز قدرات الدول على مواجهة هذه المواقف في مراحلها المبكرة ومنع تفاقمها، مع تكامل هذه الخطوات مع دور مجلس الأمن ومنظومة العدالة الدولية وخاصة المحكمة الجنائية الدولية وتعزيز عملية إدارة وحل النزاعات عن طريق الربط بين مراحل العمل الوقائي، وعمليات حفظ السلام، ومرحلة إعادة التعمير والتنمية.
  4. يمكن توقع التوجهات العامة لمنظومة الأمم المتحدة من حيث زيادة التركيز على مفاهيم حقوق الإنسان، والسعي لدمجها في إطار الأهداف التنموية، خاصة مبدأي عدم التمييز nondiscrimination والمساواة Equality، مع وجود تركيز أكبر على قضايا المناخ والبيئة، ووضع الأسرة والمرأة والطفل، وبناء ثقافة السلام، ومحاربة الفساد والمخدرات وتهريب البشر. وفى هذا الإطار، ومع الأخذ في الاعتبار ما سبق تناوله بخصوص الأوضاع المتوقعة لدول المنطقة، فإنه يمكن توقع استمرار البرامج التنموية واسعة النطاق في حزام دول الشرق الأوسط الفقيرة (موريتانيا، السودان، الصومال، اليمن) مع وجود حزام آخر من برامج إعادة الإعمار تشمل العراق وسورية وليبيا ولبنان وربما فلسطين.
  5. تبلغ الميزانية السنوية للأمم المتحدة حاليًا حوالي 50 مليار دولار([9])، ويعمل بها حوالي 85 ألف موظف، حيث تغطي الولايات المتحدة 22% من هذه الميزانية (و28% من تكاليف عمليات حفظ السلام)، وهذه أعلى مساهمة لدولة واحدة. ويمكن توقع استمرار الاتجاه التصاعدي في مصاريف المنظمة الدولية (حاليًا الميزانية تبلغ ألفي ضعف ما كانت عليه عند إنشاء الأمم المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية)، غير أن الأغلب أن تزداد المساهمات النسبية لدول أخرى بخلاف الولايات المتحدة، بما في ذلك الدول الشرق أوسطية الغنية، وبما يخفف من النفوذ الكبير للولايات المتحدة على أعمال المنظمة، وبما قد يؤثر على دور المنظمة في الشرق الأوسط.
  6. مع تراجع احتكار الدول لمساحات كبيرة في مجالات العمل الدولي، يتوقع أن يتزايد دور المجتمع المدني، والفواعل من غير الدول، بما في ذلك الشركات متعددة الجنسية، ومنظمات الدعوة والضغط، والإعلام، والشباب، سواء من ناحية التأثير على جدول أعمال الأمم المتحدة وأولوياتها، أو التأثير على أساليب العمل، حيث تطرح مقترحات بابتكار مؤسسات جديدة، مثل مجلس برلماني دولي، ومجلس لبناء السلم، يتبعه صندوق خاص لتمويل تعليم السلام، وهيأة خاصة لتشجيع ابتكارات التكنولوجيا الخضراء، ومبادرات جديدة في مجال حظر السلاح.

ومن ناحية الأمم المتحدة سيكون على المنظمة إعادة قراءة الأوضاع في الشرق الأوسط، واتباع مقاربات جديدة لاستشراف مستقبل المنطقة وتحديد التحديات الجسيمة التي تواجهها، مع تعزيز المقاربات الإقليمية، لا القطرية فقط، بما في ذلك رفع مستوى التعاون مع المنظمات الإقليمية، والعمل على تعزيز قدراتها، وكذلك قدرات الدول، مع ابتكار مشاريع خلاقة تستطيع تلبية مشاكل الانفجار السكاني، والفجوة التعليمية، وتغير من وضع المرأة، وترتقي بمنظومة حقوق الإنسان.

وتواجه الأمم المتحدة تحديًا كبيرًا في دول الشرق الأوسط حيث تعاني صورتها لدى سكان المنطقة من سلبيات عديدة، بل هي أسوأ صورة للمنظمة الدولية في أي منطقة جغرافية حول العالم([10])، كما أن الأمم المتحدة مطالبة برفع مستوى أدائها والتخلص من الانطباع الذي تتركه لدى البعض بأنها غارقة في البيروقراطية، ولعل المجهود المبذول في دمج العمل الميداني للأمم المتحدة عبر مبادرة "أمم متحدة واحدة" One UN يساعد على ذلك.

ومن ناحية دول المنطقة، توجد حاجة لبلورة تصورها حول دور الأمم المتحدة المستقبلي عبر تحليل صريح للتحديات التي تواجهها، وتحديد للأولويات التنموية الضرورية التي تريد تحقيقها، وتطوير المؤسسات الإقليمية التي تضم هذه الدول لتلعب دورًا مؤثرًا في تحقيق المصالح المشتركة، مع الاستفادة من نقاط القوة لدى منظمات الأمم المتحدة المختلفة، وعدم الركون إلى نواحي الضعف فيها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

**سفير سابق، عمل بالأمم المتحدة، منسق مجموعة عمل الأمم المتحدة بالمجلس المصري للشؤون الخارجية، محاضر وممتحن خارجي بقسم الدراسات العليا، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة

 

 

([1]) طالب، نسيم، البجعة السوداء: تداعيات الاحداث غير المتوقعة، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2009.

([2])Urquhart, Brian, "The United Nations in the Middle East: a 50- year retrospective", Middle East Journal, Vol 49, No. 4, Autumn 1995, pp. 572-581

([3])Touval, Saadia, The Peace Brokers: Mediators in the Arab – Israeli Conflict, 1948-1979, Princeton University Press, Princeton, 1982.

([4]) حديث مع الدكتور/ معز دريد المدير العام للإدارة والتسيير في هيئة الأمم المتحدة للمرأة.

([5]) انظر حديث هذا الباحث: "دور الامم المتحدة في الشرق الأوسط امام واقع جديد"، موقع المصري اليوم، 13/4/2018

([6])UNHCR, Global Trends: Forced Displacement in 2018, Geneva, 2019                                      

([7])                                                                       https://www/unhcr.org/syria-emergency.html

انظر ايضا     www.unocha.org

([8])Adly, Amr; Ibrahim Awad and Muhammad AlAraby, "End of War, but not of Conflict", The Cairo         Review of Global Affairs, Summer, 2019, pp.124-130.

([9])- هذا رقم إجمالي يعكس ما تطرحه الامانة العامة، غير أن الواقع أقل بكثير بسبب عدم انتظام الدول الأعضاء فى دفع أنصبتها، ووجود عدد من البرامج التي تعتمد على الاسهامات الاختيارية للدول، الخ.

([10])                    "UN retains strong global image", Pew Research Center, 17 September 2013.    

   www.pewresearch.org

مجلة آراء حول الخليج