; logged out
الرئيسية / دول الخليج مؤهلة للحاق بالناقل الحضاري من الاقتصاد التقليدي إلى الرقمي

العدد 146

دول الخليج مؤهلة للحاق بالناقل الحضاري من الاقتصاد التقليدي إلى الرقمي

الأحد، 02 شباط/فبراير 2020

يمكن تلخيص حال اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي في الوقت الحالي بانفراج مأزق التنمية ، حيث تصنف ضمن الدول الغنية، لكنها في الوقت ذاته تنتسب إلى الدول النامية، بحكم واقع هياكلها الاقتصادية، ورغم الجهد الذي بذل طيلة قرابة نصف القرن من الزمان لإحداث نقلة حضارية من اقتصادات تقليدية إلى اقتصادات حديثة متنوعة، إلا أنها كانت محاطة بعدد من المحددات والقيود، منها محدودية السكان، ومصاعب انتقالها التدريجي من اقتصاد تقليدي إلى اقتصاد حديث، يتطلب التدرج في مراحل التنمية، قد استغرق عقودًا طويلة من الزمن، حتى صار بالإمكان إحداث التحول المنشود من اقتصادات ريعية تقليدية ترتكز على الموارد الطبيعية، إلى اقتصادات حديثة متنوعة منافسة، تعتمد على المعرفة والمعلوماتية، بفضل ما حدث من تطورات في سبل الإنتاج وعلاقاته وتقنيات العمل وبيئة الأعمال، التي جاءت بها الثورة الصناعية الرابعة.

من المؤكد أن مطلع العقد الثالث من الألفية الثالثة سيشكل مرحلة جديدة في المسيرة الاقتصادية لدول مجلس التعاون، فقد مر الأن على الحقبة البترولية الأولى (1974م) قرابة نصف قرن من الزمان (46 عامًا على وجه التحديد)، ارتبطت فيها مجريات الحياة الاقتصادية بالفوائض البترولية، وشكلت ملامح اقتصادات الخليج، لكن النقلة الحضارية من اقتصاد أحادي المورد، إلى اقتصاد متنوع وحديث، واجهت عددًا من المحددات، دفعت بدول المجلس إلى انتهاج استراتيجيات تنموية طموحة (2030) اعتمادًا على ما يجري في العالم من تطورات تشكل فرصًا مواتية لإحداث النقلة الحضارية المنشودة.

ولما كان المستقبل يتشكل وفق معطيات الواقع، وبناء على تطلعات المستقبل، فإن استشراف مستقبل دول مجلس التعاون من الناحية الاقتصادية، يقتضي أن نبحث عن وسيلة نقل حضارية أو مركب(VEHICLE)، تحملها من الحاضر إلى المستقبل، دونما المرور بالمراحل التقليدية للتنمية.

لذا فسوف نتعرض هنا لواقع تلك الدول، وما تتطلع إليه، ووسيلة الانتقال إلى المستقبل، ومتطلبات انتهاز تلك الفرصة.

أولا: واقع اقتصادات دول مجلس التعاون

يصنف البنك الدولي مجموعة دول مجلس التعاون ضمن الدول عالية الدخل، والتي تشكل في مجموعها الدول المتقدمة، لكن معايير أخرى عديدة يمكن أن تثار هنا لتضع تلك الدول في مصاف الدول النامية، وأهم هذه المعايير هو هيكل أو تركيبة الاقتصادات الوطنية، بمعنى مساهمات قطاعات النشاط الاقتصادي في الناتج المحلى الإجمالي، أي مصادر توليد الدخل الوطني، وتركيبة الصادرات والواردات، ومصادر الإيرادات العامة للدولة، ودور الإنفاق الحكومي في دفع عجلة النمو الاقتصادي.

فمن حيث مصادر الدخل وتركيبة النشاط الاقتصادي لا يزال قطاع النفط والغاز يمثل المكون الرئيس في هذه التركيبة، سواء من حيث الإسهام في النشاط الاقتصادي، أو من حيث مصادر توليد الدخل الحكومي والوطني.

كما تشكل الفوائض النفطية المصدر المسيطرة على الإيرادات العامة في دول المجموعة، وتمثل الصادرات النفطية والكربوهيدراتية المكون الأساسي في التجارة الخارجية. من هنا كان القاسم المشترك في برامج واستراتيجيات التنمية ومبادراتها لاستشراف المستقبل مرتكزة على تنويع مصادر الدخل وتغيير تركيبة الاقتصاد الوطني ومن ثم تنويع الصادرات والبحث عن مصادر أخرى لتمويل الموازنات العامة للدولة، وتوفير فرص عمل عالية الإنتاجية مرتفعة الدخل للقوة العاملة الشابة بها.

ورغم أهمية النمو الاقتصادي، بمعنى زيادة الناتج المحلي والدخول المتولدة من الأنشطة الاقتصادية، إلا أننا نؤكد على ضرورة التمييز بين النمو والتنمية، حيث يشكل النمو بعدًا واحدًا في منظومة التنمية، لكنه لا يمثلها ولا يعد بديلاً عنها، إذا ما أريد لتلك الدول أن تصبح في مصاف الدول المتقدمة، بناء على ما يجب أن تحدثه من تغيير في بنيانها الاقتصادي، وليس فقط من خلال متوسط دخل الفرد بها، وهو ما تنبهت له جل استراتيجيات التنمية(2030) في دول مجلس التعاون الخليجي مع مطلع الألفية الحالية، هي ترسم خيوط المستقبل.

التنمية ببساطة هي إحداث تغيير في بنيان الاقتصادات الوطنية، وتنويع في الأنشطة الإنتاجية، وتعدد مصادر الناتج والدخل، مصحوبة بالنمو الاقتصادي، فالتنمية تستهدف إحداث تغيير في هيكل الاقتصاد الوطني المصحوب بنمو في الناتج والدخل، وليس ارتفاع معدل النمو الاقتصادي مصحوبًا بتنوع في البنيان الاقتصادي.

ومن حسن الطالع أن الألفية الثالثة وعقدها الثالث يحملان معًا نمطًا جديدًا من أنماط الإنتاج، وأملاً أكيدًا في تحقيق الغاية التي تسعى إليها كل رؤى التنمية واستراتيجياتها، في دول مجلس التعاون الخليجي، وهي تنويع هيكل الاقتصادات الوطنية، وتوفير مصادر متنوعة للموازنات الحكومية، وخلق فرص عمل عالية الإنتاجية مرتفعة الدخل لأبنائها.

هذا النمط الحديث من الإنتاج لم يعد محصورًا في عملية التصنيع، وتحديدًا في الصناعات التحويلية التي كانت تعتبر حجر الزاوية في عملية التنمية، لما تحدثه من تغيير في هيكل الاقتصاد الوطني بعيدًا عن القطاعات التقليدية الأولية منخفضة الإنتاجية، وتحوله إلى اقتصاد صناعي عالي الإنتاجية وحديث، مرتبط بالعالم الخارجي، بل صار نمطًا من الإنتاج في كل قطاعات ومجالات النشاط الاقتصادي، أي ان التطوير والتغير يطال كل القطاعات الإنتاجية، الخدمية منها والسلعية، ويشمل كل القطاعات المشاركة في الحياة اقتصادية من حكومات، وقطاعات أعمال، وأفراد.

غاية التنمية والنقلة الحضارية المصاحبة، في الوقت الحالي، لم تعد قاصرة على قطاع إنتاجي واحد، وهو الصناعات التحويلية، بل بإمكان تقنيات الثورة الصناعية الرابعة إحداث التغيير المنشود، من اقتصادات تقليدية، إلى اقتصادات حديثة، من خلال تطوير كافة الأنشطة وتحديثها ورفع إنتاجيتها، بل وقادرة على خلق أنشطة جديدة، وأنماط إنتاج حديثة، وأنماط إنتاج متطورة، وأساليب إدارة مختلفة.

ثانيًا: أداة النقلة الحضارية (الثورة الصناعية الرابعة)

أداة النقلة الحضارية ومركبة التنمية هي الثورة الصناعية الرابعة التي جاءت تتويجًا لما سبقها من ثورات صناعية وتقنية ومعرفية، وما تحدثه من تطور في تكنولوجيا الإنتاج، فبعــد الثــورة الزراعيــة التــي حدثــت منــذ مـا يقـرب مـن عشـرة آلاف عـام، جاءت الثـورة الصناعيـة الأولـى فـي القـرن الثامـن عشـر والتــي قامــت علــى الفحــم وقــوى البخــار، والثانيــة فــي القــرن التاســع عشــر التــي قامـت علـى الكهربـاء، والثالثـة التـي بـدأت فـي سـتينيات القـرن العشـرين، والتـي قادهـا الكمبيوتـر والتـي عرفـت بالثـورة الرقميـة، أما اليوم فإن العالــم علــى أعتــاب ثــورة صناعيــة رابعــة، ثــورة لــم يشـهد التاريخ البشـري مثلها علـى الإطلاق، ســواء مــن حيــث ســرعتها أو نطاقهــا أو حتـى تعقيداتهـا.

حيث تغطي الابتكارات المؤدية للثورة الصناعية الرابعة، العديد من المجالات، ومنها على سبيل المثال: الذكاء الصناعي والتعلّم الذاتي للآلات، وإنترنت الأشياء (Internet of Things) التي تربط جميع الآلات في نظم متكاملة عبر الفضاء الإلكتروني، والحوسبة المبنية على ميكانيكا الكمّ (Quantum Computing) التي سترفع من سرعة الحواسيب وقدراتها بصورة غير مسبوقة، وتطوير تقنية الاتصالات اللاسلكية من الواي فاي (Wi-Fi) المعتمدة على موجات الراديو التي وصلت تقريبًا لطاقتها القصوى حاليًا، إلى اللي فاي (Li-Fi) المعتمدة على الضوء والتي تعتبر طاقتها غير محدودة من الأساس.

ويضاف إلى ذلك، الواقع الافتراضي (Virtual Reality)، والواقع المُعزز (Augmented Reality)، ودمج الإنسان بالآلة، وتقنية النانو (Nanotechnology)، والتقنية الحيوية (Biotechnology)، وعلم المواد (Materials Science) الذي تطور ليعطينا موادًا جديدة مثل الجرافين (Graphene) ويُنتظر أن يؤدي في المستقبل القريب إلى تطور ملموس في مجالات مثل تخزين الطاقة، وعلى الجانب المالي والمحاسبي والاقتصادي والتحليلي مجالات مثل البيانات الكبيرة (Big Data)، والحوسبة السحابية (Cloud Computing) وسلسلة الكُتل (Blockchain) التي يمكن أن تؤدي مستقبلاً إلى تغييرات جذرية في طبيعة وسرعة الوساطة المالية.

تقنيات الثورة الصناعية الرابعة 

يمكن تلخيص تقنيات الثورة الصناعية الرابعة في ثلاث مجموعات: مادية، ورقمية، وبيولوجية.

1-    تقنيات مادية

تتميز التقنيات المادية من بين التقنيات الأخرى بسهولة التعرف عليها نظرًا لطبيعتها الملموسة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر السيارات ذاتية القيادة، والطباعة ثلاثية الأبعاد، والروبوتات المتطورة.

2-    تقنيات رقمية

التقنيات الرقمية تعمل على خلق منهجية جديدة جذرية ستحدث ثورة في الطريقة التي يتعامل بها الأفراد والشركات والحكومات.

وتتلخص هذه التقنية في إنترنت الأشياء، التي يمكن تعريفها بالعلاقة بين أشياء (منتجات خدمات، أماكن، الخ) والناس، والتي أصبحت مميكنة من خلال التقنيات المتصلة والمنصات المتنوعة.

ومن الأمثلة المهمة التي استعرضها شواب في مجال التقنيات الرقمية هي سجلات التوزيعات أو Blockchain التي تقوم على تسجيل المعاملات المالية بالعملات الرقمية، ومن أشهر تطبيقاته عملة الـبتكوينBitcoin .

3-    تقنيات بيولوجية

تمثل الابتكارات في مجال البيولوجيا تقدمًا غير مسبوق، وعلى وجه الخصوص في علم الوراثة الذي يعتبر عاملاً مهمًا في الشفاء من أكثر الأمراض خطورة، مثل أمراض القلب والسرطان، وسيأتي اليوم الذي لا يوجد فيه مرض مستعص بسبب التقدم في المجال الصحي، الذي يتعزز يومًا بعد يوم.

أهم سمات الثورة الصناعية الرابعة

 

1-    التحول من الإنتاج الكبير إلى الاستهلاك الكبير

تمتاز الثورة الحالية بالتكامل بين الاكتشافات المختلفة، وقد تم تبادل الفوائد بين تكنولوجيا التصنيع الرقمي وتكنولوجيا البيولوجيا، وزاد استخدام المصممين والمهندسين المعماريين للتصميم الرقمي وعلوم المواد الحديثة وعلم الأحياء الصناعية في ابتكار وإنتاج المنتجات الحديثة.

فقد قامت المصانع في الماضي على أساس ضخ كميات ضخمة من المنتجات المتماثلة تمامًا في السوق، حتى أنّ هنري فورد كان يردد أن من يرغب بالحصول على سيارة بلونه المفضل سيحصل عليها طالما أنه يفضل اللون الأسود.

لكن تكلفة إنتاج كميات قليلة من منتجات متنوعة توافق التفضيلات المختلفة لأذواق المستهلكين آخذة الآن بالانخفاض بفضل تقنيات مذهلة تجتمع سويا: برمجيات ذكية، ومواد لم نعرفها في السابق، وروبوتات بارعة، وأساليب تصنيع جديدة (الطباعة الثلاثية الأبعاد على وجه الخصوص)، تدعمها مجموعة متكاملة من خدمات الإنترنت.

أي أن المصنع في المستقبل سيركز على الاستهلاك الكبير (Mass Customisation) في المنتجات بدل الإنتاج الكبير (Mass Production)، وسيتغير تماما شكل خط إنتاج سيارة مثل فورد، من أسلوب الإنتاج الكبير الذي مثل ثورة في مجال الإنتاج والتصنيع لسنوات طويلة، إلى أسلوب الاستهلاك الكبير، أي تلبية الطلبات الخاصة لكل مستهلك، وكأنها عودة للتفصيل بدلاً من التصنيع الجاهز في عالم الملابس.

2-    تقنية الطابعات ثلاثية الأبعاد (التحول للإنتاج المدمج Aditive )

تقوم عمليات الإنتاج والتصنيع حاليًا بتجميع الأجزاء المكونة للمنتج مع بعضها البعض، إما باللحام أو بمسامير خاصة بذلك، ومع وصول الثورة الجديدة فالأمر مختلف، حيث سيتم تصميم المنتج باستخدام الكمبيوتر، ثم يطبع بعد ذلك بطابعة تستخدم تقنية الطباعة الثلاثية الأبعاد، أو الإنتاج المدمج، وستمنح هذه الطابعة المنتج بنيته الصلبة من خلال بنائه من طبقات متراصة من المادة المكونة له.

وبإمكان الطابعة العمل دون إشراف عليها، وإذا احتجنا لإدخال تعديلات في التصميم يمكننا ذلك ببضع نقرات على الكمبيوتر، بهذا تستطيع الطابعة ثلاثية الأبعاد صنع أشياء معقدة جدًا ليس بوسع المصانع التقليدية صنعها، ليست هذه إلّا البداية فقط، فمع مرور الوقت سيكون بمقدور هذه الآلة الرائعة صنع أي شيء تقريبًا ومن أي مكان في العالم.

3-    ثورة شاملة وتقنيات متعددة

تشمل الثورة الحالية على مواد تصنيع جديدة ستكون أخف وأقوى وأطول عمرًا من المواد القديمة، وقد بدأت هذه المواد تأخذ موقعها في الصناعة، فألياف الكربون بدأت تحل مكان الحديد والألمنيوم في تصنيع منتجات عدة، بدءًا بالطائرات وليس انتهاءً بالدراجات الهوائية الجبلية.

كما ستمكن التقنيات الجديدة المهندسين من تعديل أدق التفاصيل في أشكال الأشياء، وبفضل التطور في تقنيات الصغائر (النانو تكنولوجي) ستكتسب المنتجات خصائص جديدة، فمثلاً ستزود ضمادات الجروح بخاصية علاجية، وستعمل المحركات بفاعلية أكثر، وسيصبح تنظيف الأواني المنزلية أسهل.

وتقوم تكنولوجيا الجسيمات فائقة الصغر "النانو" بمنح المنتجات ميزات محسنة، مثل الضمادات التي تساعد على التئام الجروح، والمحركات التي تعمل بشكل أكثر كفاءة، وأواني الطبخ التي يمكن تنظيفها بسهولة أكبر. 

4-    تغير أماكن توطن الصناعات وتقديم الخدمات، والمهارات اللازمة للعمل

كأي ثورة، قد يتضرر البعض من هذه الثورة أيضًا، تمامًا كما تفعل الآن التكنولوجيا الرقمية من زعزعة وسائل الإعلام، وكما فعلت في الماضي معامل غزل القطن من إنهاء استخدام الأنوال اليدوية، وأيضًا كما فعلته سيارات فورد التي جعلت حذّائي الخيول بدون عمل.

ولن يقتصر تأثير الثورة على كيفية التصنيع، بل سيتجاوزها إلى مكان توطن التصنيع، اعتدنا مؤخرًا على رؤية المصانع تنتقل إلى دول توفر يدًا عاملة بأجور رخيصة، بهدف كبح جماح التكاليف إلى أقل ما يمكن، لكن تكلفة العمل ستصبح أقل أهمية الآن، هذا يعني أن مهن المستقبل في مجال الصناعة ستحتاج إلى قدر كبير من المهارة، وسيتم الاستغناء عن الكثير من المهام المملة التي تعتمد على التكرار، فأنت لن تحتاج إلى عمالٍ لتثبيت المسامير في مصنع يصنع منتجات لا توجد فيها مسامير أصلاً.

5-    إحداث ثورة في العملية التعليمية بكافة مراحلها

الأجدر بالحكومات التشبث بالأساس الذي تقوم عليه هذه الثورة، وهو المعرفة والابتكار، من خلال مدارس أفضل، وجامعات أحدث، تشارك في ابتكارات وفي تنفيذ الأعمال من خلال الشركات عالية التقنية القائمة على ابتكارات العاملين بها، وتخريج قوة عاملة معرفية وماهرة، مع تعليم مستمر، ليواكب ما يحدث في المخزون المعفى من تراكمات ومن تطورات تتضاعف خلال عدد معدود من السنوات، وبالتالي لم تعد الجامعات قاصرة على الدور التعليمي، ولا البحثي، بل عمدت لدور إبداعي وابتكاري وريادة أعمال.

ثالثًا: كيف يمكن للتحول نحو الاقتصاد الرقمي أن ينجز اليوم ما عجزت عنه تقنيات الثورات الثلاث السابقة عليها؟

خلص تقرير للبنك الدولي إلى أن أمام دول مجلس التعاون الخليجي، فرصة فريدة لاستدراك ما فاتها في تدعيم منظومة اقتصاداتها الرقمية وتعديل أوضاعها لتصبح من المنافسين الاقتصاديين الأقوياء على الصعيد العالمي، وأوضح التقرير أن بناء منظومة لاقتصاد رقمي إقليمي سيستفيد كثيرًا من الميزتين النسبيتين اللتين تتمتع بهما بلدان المنطقة، وهما: تنافسية التعليم العالي وشباب مولع بالتكنولوجيا، وموقع استراتيجي يتيح لها إمكانية التحول إلى مركز للخدمات والتجارة وأنشطة الربط والاتصال المتقدمة.

ويمكن للتحول الرقمي أن يعالج بعض أبرز التحديات المحدقة بالمنطقة، ولاسيما الحاجة إلى التنمية وإحداث التغيير المنشود، من خلال مضاعفة معدل الوصول إلى خدمات اتصالات النطاق العريض بحلول عام 2021م، والتوسع في استخدام وسائل الدفع الرقمية.

 وينبع الأثر التحويلي للاقتصاد الرقمي من تزايد المعاملات التي تجريها مؤسسات الأعمال والأفراد والحكومات عبر شبكة الإنترنت، ويؤدي هذا التحول إلى تعزيز أوجه الكفاءة، وتسريع وتيرة احتواء الفئات الاقتصادية والاجتماعية المتأخرة، وتحسين نظم الحوكمة والشفافية، وتحدث التقنيات المبتكرة أيضًا تغييرًا متزايدًا في نموذج عمل القطاعات الرئيسية في الاقتصاد، ومن بينها الزراعة والكهرباء والنفط والغاز والإنتاج الصناعي.

 وتساعد البنية التحتية لخدمات اتصالات النطاق العريض على تعزيز النمو الاقتصادي، بل وإحداث التنمية المنشودة، إذ إنها تيسر الوصول إلى المعلومات وتزيد أوجه الكفاءة والإنتاجية في الاقتصاد. وتعد تقنية البناء بالطباعة ثلاثية الأبعاد ثورة في عالم العمران لاعتمادها على التنوع في التصميم والأفكار، والتي تمكن المهندسين من تنفيذ تصاميم إبداعية، كانت في الماضي من الأحلام.

ومن الأمثلة على ذلك ما بدأته السعودية بالفعل في نوفمبر 2018م، في طباعة نموذج لمنزل في الرياض بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد لأول مرة في الشرق الأوسط، حيث استطاعت الطابعة الانتهاء من تشييد المسكن في وقت قياسي، وشارك في التصميم والتنفيذ مهندسون سعوديون لتكون باكورة هذا التقدم العالمي. 

وتبنت الإمارات استراتيجية دبي للطباعة «ثلاثية الأبعاد»، كمبادرة، تستهدف تسخير هذه التكنولوجيا الواعدة لخدمة الإنسان وتعزيز مكانة دولة الإمارات ودبي، وستركز الاستراتيجية على ثلاثة قطاعات رئيسية، منها المنتجات الطبية، والتي تشمل طباعة أطقم الأسنان، والعظام، والأعضاء الاصطناعية، والنماذج الطبية والجراحية وأجهزة السمع، فيما يتوقع أن يصل حجم سوق المنتجات الطبية المطبوعة بتلك التقنية في دبي، إلى نحو 1.7 مليار درهم بحلول العام 2025م.

متطلبات وتحديات

توفر معطيات الثورة الصناعية الرابعة مزايا كبيرة لدول مجلس التعاون الخليجي التي تنتهج استراتيجيات قائمة على التنويع الاقتصادي، من خلال إيجاد فرص استثمارية جديدة، وتخفيض تكاليف الإنتاج، وتحقيق معدلات عالية من التنمية الاقتصادية، واختصار الكثير من الوقت في عملية التطور.

ومن المتوقع أن تؤدي الثورة الصناعية الرابعة إلى عدد من التحديات والمتطلبات لكل من الحكومات والأعمال، فبالنسبة للحكومات، سيكون عليها إيجاد الأسلوب الأمثل لتقنين وتنظيم الأنظمة الجديدة في توفير خدماتها للمواطنين، ووضع سياسات اقتصادية واجتماعية (بما فيها المرتبطة بالجوانب الضريبية والإنفاق الاجتماعي والتعليم) بما يعظم فوائدها ويحد من آثارها السلبية. 

وبالنسبة للأعمال، سيكون عليها تطوير نماذج أعمال جديدة تتلاءم مع التطورات التكنولوجية في أساليب الإنتاج وعلاقات العمل، أما بالنسبة للمواطنين، فسيكون عليهم اكتساب مهارات وتعليم مختلفة عن النمط التقليدي السائد حاليًا، بحيث يعتمد بدرجة أكبر على الابتكار وبدرجة أقل على المهارات الحرفية التقليدية من أجل زيادة فرص مساهمتهم في أسواق العمل المستقبلي.

ومما لا شك فيه أن ما قامت به دول الخليج في السنوات الماضية من تطوير في النظم التعليمية، والبنى التحتية التكنولوجية، مع استمرارية التطوير والاعتماد على إدخال أحدث الأساليب والتقنيات الجديدة، سواء على مستوى القطاع الخاص أو الحكومي، وهو ما سيسهل استيعاب التقنيات المستحدثة، ويجعل هذه الدول قادرة على الاستفادة منها بصورة كبيرة ويسهم في تحقيق النقلة النوعية في هياكل تلك الاقتصادات دونما الحاجة للمرور بالمراحل التقليدية للتنمية الاقتصادية.

ونظرًا لأن التوجهات التكنولوجية الراهنة تعمل على إحداث تغييرات هيكلية كبيرة في أنماط الإنتاج والتوزيع والدخل، فإن لها تأثيرًا قويًا على الأنظمة الاقتصادية القائمة، فعلى سبيل المثال، تشير تقديرات شركة "ماكينزي" الاستشارية McKinsey إلى أن نصف العمالة القائمة حاليًا يمكن استبدالها بالأتمتة في ضوء التكنولوجيا المتاحة، وهو ما يمكن أن يوفر نحو 16 تريليون دولار من الأجور، كما يُتوقع أن ترتفع الإيرادات من الذكاء الاصطناعي من نحو 8 مليارات دولار في الوقت الراهن إلى نحو 47 مليار دولار في عام 2020.

ومثل هذا التوجه نحو الأتمتة والذكاء الصناعي يهدد بصورة كبيرة فرص العمل بالنسبة لتخصصات متعددة، ويثير البعض المخاوف مما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من مزيد من الاضطرابات السياسية والتوجهات المتطرفة في بعض دول العالم، بل ويرون أن التوجه اليميني

ولعل من التحديات العديدة التي يواجهها العالم اليوم، وربما أكبرها، هي طريقة تشكيل الثورة الصناعية الرابعة لحياتنا ونظمنا وعلاقاتنا، لقد ابتكرت تقنيات وأساليب جديدة ودمج العوالم المادية والرقمية والبيولوجية بطرق من شأنها أن تحدث تحولاً جذريًا للبشرية، هذا التحول سيكون إيجابيًا اعتمادًا على كيفية التعامل مع المخاطر والفرص التي تنشأ على طول الطريق.

أداة التغيير المتاحة حاليًا وفرت الكثير من الجهد، والوقت، بل وتختصر الطريق إلى إقامة اقتصادات حديثة قادرة على المنافسة العالمية، مع انفتاحها على العالم، وقادرة على حل معضلة المشكلة السكانية، متى تم العناية بالتعليم والرعاية الصحية، ودعم القدرات البحثية للجامعات والمراكز البحثية، بما يتناسب مع متطلبات الاقتصاد المعرفي، والاهتمام بعناصر البنى التحتية اللازمة لتطبيقات الاقتصاد الرقمي، وتطوير النظم الحاكمة مثل نظم العمل ومزاولة الأعمال والنظم الضريبية، واستمرار رقابة الحكومات على الجوانب النقدية والمالية في هذا العالم الافتراضي.

مجلة آراء حول الخليج