; logged out
الرئيسية / أمريكا تسخر الإعلام لتحقيق أغراضها وتضليل الرأي العام كنموذج حرب العراق

العدد 147

أمريكا تسخر الإعلام لتحقيق أغراضها وتضليل الرأي العام كنموذج حرب العراق

الأربعاء، 04 آذار/مارس 2020

يواجه الإعلام الأمريكي تحديات كبيرة لاتشكل تهديدًا لدوره في المجمتع فحسب بل قد تأتي على أساس رسالته المتمثلة بالسعي وراء الحقائق وتقديمها للقراء والسامعين من دون انحياز لغير الحقيقة. لا بد من القول بأن التحديات ليست جديدة على الإعلام بل هي جزء لا يتجزأ من تاريخه الطويل المليء بمزيج من الإنجازات الكبيرة والإخفاقات الجسيمة، لكن التحديات الجديدة تأتي متسلحة بوسائل متطورة وإمكانات كبيرة ليس أقلها وسائل التواصل التي تقدم خليطًا من الحقائق والآراء والأهواء من دون توثيق أو تدقيق بالإضافة إلى المشكلات المالية التي تعاني منها المؤسسات الإعلامية التي دفعت بالعديد من الأثرياء من رجال المال والأعمال للاستحواذ على المؤسسات الإعلامية العريقة والإستفادة منها وتسخيرها ربما لأغراض لا علاقة لها برسالة الإعلام، وهناك أيضًا ودائمًا رجال السياسة والقادة الشعبويين من دعاة الأفكار الغريبة الذين يريدون ترويض الإعلام من جهة والهروب من الحقائق الصادمة التي يقدمها وذلك من خلال تقديم إعلام بديل يهدف إلى التخلص من ثقل الحقيقة وإحداث فوضى في أذهان الجماهير من جهة أخرى. ليس من الحكمة افتراض أن الإعلام الأمريكي سوف يتجاوز هذه التحديات مثل التي سبقتها خصوصًا وأنها تأتي في مرحلة حرجة بالنسبة للمؤسسات الإعلامية التي تمر بظروف مالية صعبة نتيجة تدني عدد القراء والمشتركين والمعلنين. في هذه المقالة سوف نقوم بتقديم خلفية موجزه عن الدورالحيوي الذي يلعبه الإعلام في الولايات المتحدة مع عرض لبعض التحديات التي واجهته في الماضي القريب وصولاً الى وصف التحديات الجديدة وطبيعتها وآثارها المحتملة على دوره في تحقيق رسالته ودوره في خدمة الجمهور. إن إختيارنا الحديث عن هذا الموضوع جاء لأسباب عديدة منها أهمية الإعلام الأمريكي عالميًا ودوره الإيجابي أحيانًا والسلبي في أحيان أكثر في تغطية أحداث المنطقة، وأثره في تشكيل العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة ومنطقة الخليج بالإضافة الى أن مايجري في الساحة الإعلامية هنا يشكل حالة متقدمة لما قد يحصل في مستقبل الإعلام العالمي.

 

الحماية الدستورية لحرية الصحافة

دور الإعلام في الولايات المتحدة لم يأت محض صدفة بل جاء نتيجة عدة عوامل من أهمها الحماية التي وفرتها النصوص الدستورية والقانونية التي تأسست على أساس قوي من خبرة وقناعة القادة المؤسسين للولايات المتحدة الذين عانوا الأمرين من سيطرة الحكومات الأوربية على وسائل الإعلام وتضييق الخناق على حرية الرأي والتي كان منها الحيلولة بينهم وبين شرح قضيتهم مع المستعمر البريطاني. لذلك تشكلت قناعة راسخة لديهم بأن الإعلام الحر يمثل الوسيلة الأهم في توعية المجتمع بالأحداث التي تهم الأفراد والأمة كما يمثل عين المواطن في متابعة ومراقبة عمل الحكومة والمؤسسات غير الحكومية. هذه القناعة ترسخت بالنسبة لهم لأنها أساس مهم للنظام الديمقراطي الذي كانوا ينشدونه ولأن الإعلام يقوم بدور أكثر أهمية وحيوية وخطورة لأنه الوسيلة الأهم في تكوين الرأي العام تجاه القضايا العامة والخيارات المطروحة أمام الشعب.

يجعل الدستور الأمريكي الشعب مصدر السلطات وصاحب الكلمة الأخيرة في الشؤون العامة ولذلك جاءت الكلمات الأولى في الدستور "نحن الشعب". كما أن التعديلات الدستورية العشرة الأولى التي تعرف بـ "وثيقة الحقوق" نصت في مادتها الأولى وبصراحة على أهمية حرية الإعلام بالقول "لايمكن لمجلس النواب إصدار أي تشريع بتبني الدين أو الحد من حرية ممارسة طقوسه، أو التقييد من حرية التعبير أو الصحافة أو الحق في التجمع السلمي للمطالبة برفع الظلم". هذه المادة تعتبر من أهم النصوص الدستورية في العالم لأنها نصت وبصورة واضحة وصريحة على حرية الإعلام وحدت من قدرة الحكومة والمشرعين على وضع القيود على حرية الصحافة والتعبير.

هذه النصوص لم تأت من فراغ بل كان أساسها الصراع بين الإعلام وسلطة الحاكم البريطاني قبل إستقلال الولايات المتحدة حيث حاول الحاكم البريطاني تقييد حرية الصحافة ومنعها من نشر الأخبار التي تضر بسمعة حكومته، وعندما نشرت جريدة نيويورك الأسبوعية في عام 1734م، سلسلة مقالات للناشر ينتقد فيها الحاكم البريطاني قام الأخير برفع دعوى قضائية ضد الناشر مطالبًا بإيقاف النشر. وبسبب هذه الخلفية وعوامل أخرى جعلت القادة المؤسسون للولايات المتحدة من المؤمنين بحرية الصحافة ولذلك أقرت فرجينيا في عام 1776م، لائحة الحقوق التي نصت على "حرية الصحافة هي من أهم دعائم الديمقراطية ولايمكن الحد منها إلا من قبل الحكومات المتسلطة".

دور الإعلام في الولايات المتحدة:

الإعلام في الولايات المتحدة يتمتع بدور كبير في الحياة العامة التي يساهم في خدمتها من جهة ويلعب دورًا مهمًا في تشكيلها من جهة أخرى، فهو يتأثر ويؤثر بمجريات الأمور. تصدر حوالي 1200 صحيفة يومية في الولايات المتحدة وتطبع العشر الأولى الأكثر تداولاً أكثر من 5 ملايين نسخة يوميًا. لذلك يتمتع الإعلام سواء كان المقروء أو المسموع بمكانة متميزة في المجتمع الأمريكي. وليس أدل على ذلك من الدور الكبير الذي يلعبه في الإنتخابات الأمريكية سواء كانت الرئاسية أو المحلية، الأمر الذي يدفع بالطامحين إلى المناصب إلى إغداق المال على الدعايات الإنتخابية التي هي السبيل الأسهل لتعريف المواطن بالمرشحين. ويعتبر المراقبون بإن الانتخابات الرئاسية لعام 1960م، بين نائب الرئيس آنذاك رتشارد نيكسون والسيناتور المغمور من ولاية ماساتوشتس جون كيندي تمثل نقطة تحول في دور الإعلام لأنها السابقة التي أظهرت وبوضوح قوة التأثير التي يمتلكها الإعلام في تشكيل الرأي العام، وكل ذلك يعود بالتحديد إلى المناظرة التلفزيونية بين نيكسون الذي يمتلك الخبرة السياسية والتاريخ السياسي الطويل لكنه لم يكن يتقن لغة الحوار في مقابل السيناتور الشاب الوسيم اللبق الذي استطاع أن يكسب قلوب الناس وأن يفوز بأصواتهم. ومنذ ذلك الحين أصبح التركيز على الإعلانات الصحفية والتلفزيونية بالإضافة إلى التحضير للمناظرات والمقابلات الإعلامية من أولى أولويات المرشحين.

 

حديثًا، تعتبر ولاية آيوا التي تحتل المرتبة الثانية والثلاثين في ترتيب الولايات الأمريكية من حيث عدد السكان بتعداد ثلاثة ملايين نسمة وهي بذلك ولاية صغيرة مقارنة بولاية كاليفورنيا التي تأتي بالمرتبة الأولى بما يقارب الأربعين مليون نسمة، لكن هذه الولاية لها أهمية خاصة لأنها الأولى في ترتيب الولايات التي تجري فيها الإنتخابات الرئاسية الأولية ولذلك يركز المرشحون للرئاسة حملاتهم الإنتخابية على هذه الولاية الصغيرة من حيث عدد السكان لسببين أولهما الرغبة في الفوز بأصوات الناخبين في الولاية من أجل تحقيق التقدم على المنافسين وإكتساب زخم في الولايات الكبيرة التي تنتخب فيما بعد، كما أن تلك الولاية تعتبر ميدان تجريب للحملات الإنتخابية والدعايات الإعلامية. وقد أشارت التقارير الصحفية بأن عدد الإعلانات التلفزيونية في الولاية خلال الحملة الإنتخابية القائمة وصل إلى أكثر من مائة ألف إعلان تلفزيوني بكلفة فاقت 55 مليون دولار.

هذا العدد لا يشمل الدعايات في الوسائل الأخرى مثل الصحافة والإذاعة ووسائل التواصل الاجتماع، وهو إن دل على شيئ فإنما يدل على الدور الحيوي الذي يلعبه الإعلام في إيصال المعلومات إلى الناس. هذه الحقيقة هي سلاح ذو حدين فهو يعني الإقرار بأهمية الإعلام في تشكيل الرأي العام في توعية المجتمع. كما أنه يجعل من الإعلام وسيلة لجني المال الكثير الأمر الذي يصنع منه هدفًا للشركات الكبرى التي تبحث عن الربح السريع أو تحاول تلميع صورتها أو تسويق بضائعها وكل هذه الأمور تشكل إنحرافًا عن رسالة الإعلام السامية.

 

أهم التحديات التي تواجه الإعلام في الولايات المتحدة

بعيدًا عن أجواء الإنتخابات الرئاسية القائمة والتي تشغل المؤسسات الإعلامية ليل نهار، لابد من وقفة أمام أهم التحديات التي تواجه الإعلام، ليس لأنها تواجه مؤسسات إعلامية بعينها وإنما لأنها تواجه حق المواطن في الوصول إلى المعلومات وحريتة في التعبير التي نص عليها الدستور. ولعل من أهم تلك التحديات مايلي:  

  1. تحدي الحفاظ على رسالة الإعلام

تراوحت مسيرة الإعلام الأمريكي بين العديد من الإنجازات التي تحسب له عندما أبدى الإصرار على خدمة رسالته وقاوم العديد من المغريات والتحديات وتمكن من تحقيق نتائج باهرة كان من إهمها موقفه المعارض للحرب الأمريكية في فيتنام ودوره الكبير في فضيحة ووترغيت التي أطاحت بالرئيس الأسبق نيكسون. هذه الإنجازات التي تحسب له لم تحصنه من العديد من الإخفاقات التي جاءت نتيجة إغفال رسالته والخضوع إلى الإغراء في أحيان والتهديد في أحيان أخرى، والتي تجلت في موقفه من قضايا المنطقة عامة والحرب على العراق خاصة التي دخلتها أمريكا بذرائع واهية وإستخدمت الإعلام في تضليل الشعب.

أما بالنسبة للحرب على فيتنام والدور الذي لعبه الإعلام في كشف أسرار الحرب وتقديمها للقراء على الرغم من معارضة الحكومة كما حضل في القضية المعروفة بأوراق وزارة الدفاع وذلك عندما قام أحد العاملين في تلك الوزارة واسمه "دانيال ألسبرغ" في عام 1971م، بتسريب أوراق دراسته عن الحرب في فيتنام إلى الصحافة. هذه الدراسة التي قام بها ألسبرغ عن مجمل الحرب في فيتنام وجاءت بطلب مباشر من وزير الدفاع الأسبق روبرت مكنامارا حيث توصلت إلى معلومات خطيرة حول موقف الحكومة وإخفائها العديد من الحقائق حول الحرب وملابساتها عن الشعب طوال الفترة التي امتدت منذ الحرب العالمية الثانية وإلى وقت إعداد الدراسة. هذه الأوراق، وهي على أعلى درجات السرية، أثبتت في بعض نتائجها أن الرؤساء الأمريكيين هاري ترومان وآيزنهاور وجون كنيدي وجونسون قاموا بتضليل الرأي العام الأمريكي حول تلك الحرب. وعندما بدأت صحيفة نيويورك تايمز بنشر سلسلة مقالات حول تلك الوثائق استحصلت الحكومة قرارا من وزارة العدل الأمريكية بوقف النشر بدعوى حساسية المعلومات بالنسبة للأمن القومي الأمريكي. هذا القرار دفع بصحيفتي نيويورك تايمز وواشنطن بوست إلى رفع دعوى قضائية ضد الحكومة حيث وصلت القضية إلى المحكمة العليا لإبداء الرأي والتي أصدرت قرارها الشهير ضد الحكومة بناء على المادة الأولى من التعديلات الدستورية التي تضمن حرية النشر ولأنها لم تقتنع برأي الحكومة بالضرر الذي قد يترتب من جراء النشر. وقد قامت الصحف الأمريكية بنشر الوثائق السرية التي أعطت دفعة قوية لجهود المناهضين لتلك الحرب.

أما بالنسبة للدور الكبير الذي لعبه الإعلام في كشف فضيحة "ووترغيت"، والتي تعود إلى عام1972م، عندما قام أربعة أشخاص من حملة الرئيس نيكسون الإنتخابية بإختراق بناية "ووترغيت" التي تحوي مقر اللجنة الانتخابية للحزب الديمقراطي، وقيام حكومة الرئيس نيكسون بالتغطية على تلك الجريمة. لكن تصدي الصحفيين بوب وودورد وكارل بيرنستين من صحيفة واشنطن بوست للتحقيق في هذه القضية حيث كشفا تفاصيل الجريمة وتورط وكالة الإستخبارات ومكتب التحقيق الفيدرالي ووزارة العدل الأمريكية وأخيرًا البيت الأبيض وصولاً إلى الرئيس، حيث أثبتت مقالاتهم المتواصلة عن القضية أن تلك المؤسسات ساهمت مساهمة فعلية إما بالجريمة أو في عملية التغطية عليها. كانت براعة الصحفيين في إتباع منهجية "تتبع مسارات المال" التي أوصلتهم إلى وضع صورة متكاملة عن العملية الشائكة. لم تكن مسألة التحقيق في تلك القضية سهلة جدًا بالنسبة للصحفيين لأنها كانت تعني التصدي لجميع المؤسسات الأمنية وعلى رأسها الرئيس القابع في البيت الأبيض والذي كان حاقدًا على الإعلام لأنه يعتقد أنه السبب وراء خسارته الانتخابات أمام الرئيس الأسبق كينيدي، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. لكن الصحفيين وبإصرارهما ومساندة هيأة التحرير في الصحيفة تمكنا من كشف تفاصيل تلك الجريمة المعقدة التي نتج عنها إرسال العديد من كبار المسؤولين إلى السجن وتوجت بإستقالة الرئيس نيكسون من الرئاسة وهي الأولى في تأريخ الولايات المتحدة. وقد حصل الصحفيان على جائزة "بوليتزر" وقاما بنشر الكتاب المشهور "جميع رجال الرئيس" والذي كان أساس الفيلم المشهور وبنفس الإسم.

تدرك الحكومة الدور الكبير الذي يلعبه الإعلام في تشكيل الرأي العام والتأثير فيه وخصوصًا فيما يتعلق بالموقف منها. ولذلك تسعى الى تسخيره لتحقيق مصالحها من جهة والحيلولة بينه والوصول إلى الحقائق من جهة أخرى. ولذلك تشبه العلاقة بين الحكومة والإعلام الحالة التي تعرف "بشعرة معاوية"، وهي حالة من الشد والجذب من دون الوصول إلى القطيعة التامة لأنها ليست في صالح الطرفين ذلك أن الحكومة تدرك أهمية دور الإعلام في إيصال المعلومات إلى المواطن وتلوينها باللون الذي يختاره. وقد تجلت هذه الأهمية في قيام وزارة الدفاع الأمريكية بإستضافة 600 صحفي أمريكي لمرافقة الجنود الأمريكان في عملية غزو العراق للمساهمة في نقل الصورة التي ترغب بها الحكومة والحيلولة بين الإعلام ونقل الصورة الخاطئة والأخبار السيئة عن الحرب.

كما أن الحكومة سعت في بعض الأحيان إلى تسخير الإعلام لتحقيق أغراضها وتضليل الشعب، ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك القضية المعروفة حول دور صحيفة نيويورك تايمز في تسويق الموقف الحكومي من الحرب على العراق وتضليل الرأي العام بتلفيق المعلومات حولها. حدث ذلك عندما قررت إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش غزو العراق من دون امتلاك التبريرات القانونية لذلك، وهنا نشأت الحاجة إلى إقناع الرأي العام الأمريكي بجدوى الحرب بدعوى امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل وعلاقة النظام العراقي بالإرهاب الذي ضرب الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر 2001م. وقد زادت الحاجة بسبب المعارضة الشعبية للحرب آنذاك التي كانت على أوجها وتمثلت بالعديد من التظاهرات الكبيرة في كبرى المدن الأمريكية وفي مقدمتها العاصمة واشنطن. وعندها ظهرت الكاتبة جوديث ميلر التي قامت بنشر سلسلة من المقالات في صحيفة نيويورك تايمز المرموقة في شتاء 2001-2002م، تثبت فيها رواية الحكومة الأمريكية بامتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل وتقدم أدلة مفبركة على صلة الحكومة العراقية بالتنظيمات الإرهابية وفي مقدمتها القاعدة. لكن الصحيفة لم تذكر بأن جميع المعلومات التي وردت في مقالات الكاتبة كان مصدرها شخص واحد هو أحمد الجلبي الذي كان يعمل مستشارًا مدفوع الأجر من قبل الحكومة الأمريكية لتسويق عملية تغيير النظام في العراق، كما أن إدارة التحرير لم تكلف نفسها عناء التدقيق في الأكاذيب التي وردت في تلك المقالات كما هي العادة.

لم تكن تلك القضية آخر الحكاية بل تطورت إلى فصل آخر من الإساءة إلى سمعة صحيفة نيويورك تايمز خاصة والإعلام الأمريكي وحياديته عامة، وتلكم هي دور نيويورك تايمز والكاتبة جوديث ميلر في فضيحة أخرى تمثلت بالكشف عن هوية موظفة السي آي أي فاليري بلايم. وتعود الحكاية إلى أن الأخيرة كانت مسؤولة عن جمع المعلومات عن أسلحة الدمار الشامل في العراق، وقد ساورتها الشكوك حول رواية حصول العراق على اليورانيوم من النيجر فقامت بإقناع المسؤولين بتكليف زوجها السفير جوزيف ويلسون بالتحقيق في القضية بسبب خبرته الدبلوماسية ومعرفته بالقارة الإفريقية من خلال سنوات عديدة من الخدمة في العديد من الدول الإفريقية مثل جنوب إفريقيا بالإضافة إلى شغله منصب السفير في الغابون، كما سبق له أن عمل لفترة بمنصب نائب رئيس البعثة في بغداد في أواخر الثمانينات الأمر الذي جعل منه الشخص المثالي للتحقيق في القضية التي تجمع بين أفريقيا والعراق، وكانت النتيجة التي توصل إليها بعد زيارته للنيجر بعدم صحة الرواية حيث قام بإعلان نتيجة التحقيق. أزعجت مواقف السفير الإدارة الأمريكية التي كانت حريصة على إقناع الشعب الأمريكي والعالم بجدوى الحرب بحجة امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، لذلك قامت بالضغط على السفير في سبيل إسكاته، وعندما لم يستجب لتلك الضغوط قام مساعد نائب الرئيس الأسبق ديك تشيني المدعو سكوتر ليبي بتسريب معلومة إلى جوديث ميلر مفادها أن زوجة السفير ويلسون هي مخبرة سرية في وكالة المخابرات الأمريكية. شكل نشر الخبر فضيحة مدوية للصحيفة وسمعة الإعلام الأمريكي وحياديته واستقلاليته عن التأثير الحكومي، ومع أن الصحيفة تراجعت عن تلك المقالات لكنها ولحد الآن لم تقدم اعتذارًا للقراء عن الآثار السيئة لتلك المقالات والنتائج السلبية التي ترتبت عليها.

أعلنت صحيفة "ذي هيل" في واشنطن قبل أيام أنها أجرت مراجعة لمقالات "جون سولومان" الكاتب ونائب رئيس التحرير حول موضوع دور "أوكرانيا"، التي كانت أساس قضية عزل الرئيس ترامب في الكونغرس لأنه حاول الضغط على الرئيس الأوكراني لإجراء تحقيق حول نائب الرئيس السابق بايدن وإبنه الذي يتهم بالتربح من أوكرانيا، وكان الرئيس يريد هذه المعلومات لمواجهة بايدن بوصفه المرشح الديمقراطي الأكثر حظا بمنافسة الرئيس على الرئاسة أواخر العلام الحالي. وكان سولومان قد نشر 14 مقالا أثناء فترة التحقيق والمحاكمة في الكونغرس، كانت تدفع بالرواية التي يسردها الرئيس القائمة على أساس اتهام نائب الرئيس السابق جون بايدن وأبنه وأن "أوكرانيا" وليست روسيا هي التي حاولت التأثير في الانتخابات الأمريكية عام 2016م، وقد كشف التحقيق الذي أوردت هيأة التحرير نتائجه قبل أيام أن المعلومات التي وردت في هذه المقالات جاءت من مصدرين فقط وهما محامي الرئيس رودي جولياني ومساعده ليف بارناس، وهما أصحاب مصلحة مباشرة في وجهة النظر هذه لأن الأول تحت التحقيق والثاني تم اتهامه من قبل القضاء في القضية. المشكل في الأمر أن الصحفي فشل في الكشف عن المصادر لأنها صاحبة مصلحة أو تنبيه القراء إلى إن المقالات كانت تمثل وجهة نظر وليست مقالات صحفية. لم تقدم صحيفة "ذي هيل" خلال عرضها نتائج الأسباب التي أدت إلى فشل هيأة التحرير في تدقيق صحة المعلومات التي نشرها الصحفي والتأكد من نزاهة مصادرها خصوصًا أن هذه المقالات جاءت في وقت حرج وأنها قدمت بذلك خدمة لموقف الرئيس من خلال تضليل الرأي العام حول القضية. كما إن التقرير الذي نشرته الصحيفة حول التحقيق في القضية جاء مخيبًا للآمال من جوانب أخرى منها لأنه لم يقدم الاعتذار للقراء، كما أنه لم يوضح السبب وراء تأخير إعلان النتائج إلى مابعد انتهاء محاكمة الرئيس في الكونغرس. هذه القضية وسابقاتها تدفع بالحاجة الى قيام الإعلام بمراجعة سياقات عمله والتأكيد على رسالته وعدم انحيازه وإلا فإن ذلك سوف يؤدي إلى خسارته لثقة القراء وهي ثمن باهض لاتوازيه أية مصلحة آنية مهما كانت.

  1. تحدي العلاقة بين الشركات الكبرى والإعلام

قبل أيام قليلة أعلنت مؤسسة ماكلاتشي التي تمتلك أكثر من 30 صحيفة في العديد من المدن الأمريكية إفلاسها ووضعت بذلك كل ممتلاكتها تحت إدارة القضاء بسبب ماأسمته ضغط الديون وقلة الموارد المالية. ليست حالة هذه المؤسسة بعيدة عن العديد من المؤسسات الإعلامية التي تعاني من ضغوط تدني الموارد المالية.

 

تأتي هذ الأخبار في ذات الوقت الذي يشهد نموًا كبيرًا في الاقتصاد وخصوصًا بالنسبة للشركات الكبرى التي تنفق الكثير من الأموال على الإعلان الذي يعد المورد الأهم بالنسبة للمؤسسات الإعلانية. هذه القضية هي الأخرى في غاية التعقيد والأهمية لأنها من جهة تمثل عنوان استقلال الإعلام عن الحكومة لكنها في نفس الوقت تجعل من الإعلام فريسة سهلة لهجوم رجال الأعمال والشركات الكبرى ورغبتهم في ابتلاع المؤسسات الإعلامية. وللتدليل على أهمية الإعلان فإن المبلغ الذي كانت تدفعه الشركات لبث إعلان لمدة 30 ثانية خلال المباراة النهائية لبطولة كرة القدم الأمريكية للعام الحالي 2020م، وصل إلى 5.6 مليون دولار، ووصلت مبيعات الإعلان أثناء المباراة إلى رقم قياسي عندما تجاوزت 400 مليون دولار، وهذا المبلغ لايشمل الإعلانات في الفترة التي تسبق المباراة وبعدها.

هذه الأرقام الكبيرة توضح حجم المبالغ التي تنفقها الشركات على الدعاية والتي تشكل أهم المصادر المالية للمؤسسات الإعلامية وهي تفوق بكثير مبلغ الاشتراكات التي يدفعها المواطن. في أدناه الرسم البياني الذي يمثل المبالغ التي تنفقها الشركات على الدعاية الإعلامية في الدول الخمس الأولى عالميًا والتي تقترب من نصف ترليون دولار.

 

 

رسم بياني يمثل مستويات الإنفاق على الدعاية في الدول الخمس الأولى عالميًا

 

عدة عوامل فعلت فعلها في تركيز المؤسسات الإعلامية في عدد قليل من الشركات الإعلامية الضخمة منها رغبة تلك الشركات في امتلاك المنابر الإعلامية لتلميع صورتها بالإضافة إلى جني المبالغ الكبيرة التي تنفقها الشركات الأخرى على الدعاية، في أدناه جدول بالشركات الإعلامية الكبرى التي تسيطر على 90 % من قطاع الإعلام الأمريكي.

 

ت

اسم الشركة

أهم القنوات

القيمة التقديرية للشركة

(مليار دولار)

1

أي تي تي

سي أن أن

278

2

ديزني

أي بي سي

267

3

كومكاست

أن بي سي, أم أس أن بي سي

198

4

نيوزكورب

فوكس نيوز, وول ستريت جورنال

56

5

ناشيونل أميوزمنت

سي بي أس, فياكوم

43

6

سوني

سوني

34

 

لم تقف القضية عند استحواذ الشركات على المؤسسات الإعلامية، حيث قام رجال المال بالاستحواذ على العديد منها مثل قيام جيف بيزوس أغنى رجل في العالم، الذي تقدر ثروته بأكثر من 130 مليار دولار، بشراء واحدة من أهم الصحف العالمية وهي صحيفة "الواشنطن بوست" في عام 2013م، ودفع لذلك مبلغًا كبيرًا قدر بربع مليار دولار. ليس من المعروف الأسباب والدوافع التي كانت وراء عملية الشراء خصوصًا وإن الصحافة المقروءة في الولايات المتحدة تعاني من منافسة وسائل التواصل الاجتماعي وعزوف القراء، ولعل السبب هو أن أحد أهم جوانب القوة في شركة "أمازون" التي يرأسها السيد بيزوس هي الإنترنت، التي تعتبر أهم أسس مستقبل الإعلام في المستقبل القريب.

لاتعتبر عملية شراء صحيفة الواشطن بوست من قبل أحد الأثرياء هي الوحيدة في هذه المجال فقد قام أحد أثرياء الإنترنت وهو السيد مارك بنيأوف مؤسس شركة "سيلزفورس", والذي تقدر ثروته بأكثر من سبع مليارات دولار، بشراء مجلة "تايم" وذلك في عام 2018م، بمبلغ 190 مليون دولار.     

 

  1. تحديات الإعلام البديل

تشكل حرية الإعلام في الكشف عن الحقائق إشكالية بالنسبة للسياسيين والطامحين في السلطة، ولذلك كانت الرغبة في السيطرة على الإعلام من خلال سياسة العصا المتمثلة بالاتهام والتخوين والقضاء وكذلك بالجزرة المتمثلة بالمال والإغراء. وعندما تفشل هذه أو على الأصح تكون عواقبها مكلفة وغير مضمونة النتائج، تأتي الحملة الأخيرة التي قد تمثل المسمار الأخير في نعش الإعلام الساعي وراء الحقائق، تلكم هي إشكالية "الإعلام البديل" القائم على الهروب من الحقائق إلى أشباه الحقائق.

ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك الحديث التلفزيوني لمستشارة الرئيس ترامب كيليان كونووي عام 2017م، عندما سألها المراسل عن تشويه الحقائق من قبل المتحدث الرسمي للبيت الأبيض، فقالت بأن ذلك ليس كذبًا لأنه اعتمد على ما أسمته "حقائق بديلة". بالطبع فإن هذه القضية هي أكبر بكثير من أي قضية سياسية، وإنما تتعلق بحق المواطن في الوصول إلى الحقائق واتخاذ القرارات والمواقف بناءً على معلومات تم توثيقها من خلال عملية تمتاز بالحيادية والشفافية. هذه الأمور ربما أصبحت من الماضي لأنه من خلال الإعلام الجديد أصبح أي شخص يمتلك هاتفًا مرتبطًا بالإنترنت مراسلاً صحفيًا، ومديرًا للتحرير وصاحب مؤسسة إعلامية، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه أمام الأفراد والمؤسسات والجماعات العابرة للحدود والدول لاستخدام الإعلام البديل في نشر "حقائق بديلة" في سبيل تحقيق مصالح سياسية ومن ذلك إثارة الفتن وإشعال الحروب والصراعات داخل المجتمعات.

ولأهمية هذه القضية بالنسبة للأمن الوطني للدول ومنها الولايات المتحدة التقرير الذي أصدرته لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ في أكتوبر من العام الماضي حول جهود المخابرات الروسية في التأثير على المجتمع الأمريكي من خلال استخدام "الإعلام البديل" ووسائل التواصل الاجتماعي. لم تقف هذه الجهود عن حد التأثير بل تجاوزت ذلك إلى محاولة إشعال حرب بين مكونات المجتمع من خلال استغلال الفروقات الاجتماعية والدينية والعرقية، كما أشار التقرير. وقد أشار التقرير إلى حوادث كثيرة جرى افتعالها من خلال مواقع التواصل الاجتماعي لإشعال الصراع بين مكونات المجتمع وخصوصًا فيما يتعلق بالقضايا العنصرية. ومن القضايا التي ذكرها التقرير بشيء من التفصيل كانت قضية "المركز الإسلامي في هيوستن"، حيث قامت جهات مرتبطة بالمخابرات الروسية بإنشاء صفحة على "فيسبوك" تسمى "قلب تكساس" والتي كانت تمثل مواقف المحافظين من العديد من القضايا ويتابعها حوالي ربع مليون شخص، حيث تمت إضافة قضية الوقوف ضد "تطبيق الشريعة الإسلامية في تكساس" إلى تلك القضايا واتهام المركز الإسلامي في هيوستن بالسعي لذلك. بالطبع لا أحد يعلم الأسس التي استندت عليها التهمة. في ذات الوقت سعت نفس الجهات المخابراتية إلى إنشاء مجموعة مناهضة سميت "مسلمون متحدون لأجل أمريكا" والتي بلغ أتباعها أكثر من 350 ألف متابع، ومن خلال الموقعين سعت تلك الجهات إلى الدعوة إلى القيام بالهجوم على المركز الإسلام في هيوستن وذلك في ظهر يوم 21 مايو 2016م، وفي نفس الوقت دعت أتباع الموقع الآخر إلى التظاهر في نفس الوقت لأجل حماية المركز من المهاجمين. كانت الغاية جمع المجموعتين في نفس المكان من أجل إحداث فتنة بين الطرفين.

هذه القضية أكبر بكثير من أي من الحوادث والأمثلة التي يمكن أن نذكرها، لأنها جزء مهم من أكبر الأخطار القادمة والتي تسمى "حروب المعلومات "”Information Warfareوقد شرح السيد وليم بيري وزير الدفاع الأسبق هذه الحقيقة بقوله " نحن نعيش في عصر تقوده المعلومات. إن التطورات التكنولوجية قامت بتغيير وجه الحروب والطرق التي نعد أنفسنا لها"[1]. هذه الحقيقة ليست من نسج الخيال بل هي واقع يعيشه العالم اليوم وقد عانت شعوبنا ولاتزال من استخدام الجماعات الإرهابية لما يسمى بالحقائق البديلة وحروب المعلومات في سبيل تسويق بضاعتها الفاسدة واستخدام ذلك كوسيلة للنفوذ إلى المجتمعات وإحداث الفرقة ليس بين أبناء المجتمع فحسب وإنما بين أفراد الأسرة الواحدة.

إن مقاومة توجهات "الإعلام البديل" الذي يقوم على التمويه واستخدام أشباه الحقائق، لا تتم من خلال الانخراط في مواجهته "بحقائق بديلة" لأن هذه هي الهزيمة بعينها وإنما يتم ذلك بتحصين المجتمعات من أخطار الفوضى الفكرية التي قد تحدثها الحروب المعلوماتية وذلك بالانتباه إلى الدور الكبير الذي يقوم به الإعلام النزيه في خدمة المجتمعات وبناء الأمم من خلال الإصرار على تقديم الحقائق أمام الشعوب لأن ذلك هو السبيل الوحيد في وقاية الأفراد والأمم من حروب المعلومات التي تهدف إلى تمزيق المجتمعات من خلال إحداث الفوضى في المجتمعات وإشعال الحروب بين مكوناتها.

 

[1]“Strategic Information Warfare: A New Face of War” Rand Corporation.

مقالات لنفس الكاتب