; logged out
الرئيسية / الشرق الأوسط الجديد العجـيـــــب ...؟!

العدد 148

الشرق الأوسط الجديد العجـيـــــب ...؟!

الأربعاء، 29 نيسان/أبريل 2020

تلعب مسميات المحيطات والبحار والأنهار والمناطق، وما إلى ذلك، دورًا مؤثرًا في العلاقات الدولية المعاصرة.  وكثيرًا ما نشبت خلافات وصراعات على بعض مسميات هذه الأمور والظواهر الجغرافية. ومن الأمثلة على ذلك: إصرار إسرائيل على محو كلمة فلسطين من القاموس الجغرافى– السياسى، وإصرارها على تسمية الضفة الغربية بـ " يهودا والسامرة ". كذلك إصرار إيران على تسمية الخليج "العربى" بـ "الخليج الفارسى" وإقليم الأهواز بـ "خوزستان"، وقس على ذلك. فهنا يصر البعض على أن التسمية تعني التبعية ..؟!  ودرءًا للخلافات، كثيرًا ما أتفق على تسمية هذه الظواهر بما اشتهرت به، لا بما يريد البعض أن يسميها به.

 وقد ظهر مصطلح " الشرق الأوسط " ( Middle East )عندما أطلقه الضابط البحرى الأمريكى " ألفريد ماهان" عام 1902م، على المنطقة العربية.  وقصد به – كما يقال: " إعادة صياغة للوطن العربى، تفقده وحدته السياسية والبشرية، من خلال إدخال بعض دول الجوار الجغرافى في قلب هذا المصطلح ". أما المعنى السياسى (الدبلوماسي  الغربى) لهذا المصطلح فيهدف إلى: طمس الهوية العربية للمنطقة، وبخاصة عروبة فلسطين، وربط الدول العربية بالاستراتيجية الغربية، وخلق "هوية" جديدة ومفتعلة للمنطقة، هى الـ "شرق أوسطية"، وهى الهوية التى تريدها إسرائيل وأنصارها لشعوب المنطقة.

وعندما ننظر إلى هذا المصطلح بالذات من الزاوية السياسية – التاريخية، نجد أنه، في حد ذاته، مصطلح مغرض، ابتدعه المستعمرون  الأوروبيون الذين كانوا – وربما ما زالوا – يعتبرون أوروبا هي "مركز الكون" ... وعلى هذا الأساس قسموا "مناطق" العالم.  فالجزء من العالم العربي القريب من أوروبا ( المغرب العربي) أسموه " الشرق الأدنى"(Near East ) ... وأسموا المشرق العربي بـ " الشرق الأوسط "،  بينما سموا شرق آسيا بـ " الشرق الأقصى " (Far East) .

                           ****

    ولعل من أبسط صور المقاومة العربية والإسلامية، للاستعمار ومصطلحاته، هي: أن ترفض الأمة العربية هذه المفاهيم، ولا ترددها وسائل إعلامها المختلفة، وكأنها من المسلمات الجغرافية – السياسية، كما يحصل الآن. حيث بإمكان الأمة العربية والإسلامية، أن تطلق مسمى" المشرق العربي"، على الجزء من العالم العربي الواقع في آسيا ... وتطلق صفة " المغرب العربي الكبير" على كل من ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا.  بينما تطلق مسمى " الوسط العربي" على كل من مصر والسودان.  أو أي مصطلحات أخرى مشابهة.

  وليس هناك من مبرر قوي بأن يستمر معظم الإعلام العربي، الرسمي والشعبي،  في استخدام مصطلح" الشرق الأوسط " بخاصة، للدلالة على المشرق العربي ومصر وتركيا وإيران– كما اصطلح الغرب أن يسمي هذا الجزء من العالم. وبالنسبة للعالم الإسلامي، بالإمكان تقسيمه إلى: العالم الإسلامي الآسيوي، والعالم الإسلامي الإفريقي، والعالم الإسلامي خارج آسيا وإفريقيا، أو ما شابه ذلك.

  وإن أصر الآخرون على هذه التقسيمات الشائعة، فمن قبيل " المعاملة بالمثل "، ربما يمكن للعرب أن يعتبروا مكة المكرمة هى "مركز الأرض" ... ويقسموا العالم على هذا الأساس. فيصبح " الغرب " – بالنسبة لهم – مقسمًا إلى: الغرب الأدنى، والغرب الأوسط، والغرب الأقصى ... وهكذا. المهم أن لا تؤدي بعض المصطلحات إلى: فرض وقائع سياسية – جغرافية، مناهضة لمصالح الأمة وهويتها... فالمسميات قد يترتب عليها ما لاتحمد عقباه وإن بعد حين.  وفى أسوأ الأحوال، يمكن أستخدام المصطلحات الدولية الحالية وما اشتهرت به من مسميات، على أن ندرك دائمًا ما ترمي إليه من أهداف سلبية ومعادية خفية ومبيتة، ونرفضها.  

                               ****

   ومن كثرة ما في هذه المنطقة من أعاجيب سياسية، يطلق البعض عليها أحيانا " شرق العجائب الأوسط ". وقد سمعت هذا الوصف من أحد أساتذة العلوم السياسية الأمريكيين. فاعترضت في البدء على هذه التسمية. ثم أصبحت أتفق معها بقوة، بعد ما رأيته من أوضاع سياسية بالغة الغرابة والعجب بالمنطقة.  ومن أبرز " عجائب " وغرائب هذه المنطقة هي: انتشار الحركات الإرهابية المسلحة في كثير من أجزائها وبلدانها. والمثال على ذلك هو: حركة " داعش " ... وما يحيط بها من حيثيات، أقل ما يقال عنها أنها: من غرائب وعجائب هذا الزمن السياسية

    ولا جدال أن أول وأبرز عجيبة سياسية هي: إقامة " دولة " في قلب المنطقة لمهاجرين أتوا من شتى بقاع الأرض، وتشريد شعب البلد المغتصب، وقتل وجرح نسبة كبيرة من سكانه الأصليين، وتدمير منشآتهم، ومصادرة ممتلكاتهم، بحجج أوهى من خيوط العنكبوت، أهمها أن: بعض أجداد عدد من هؤلاء الغزاة عاشوا في هذه البلد قبل ألفى عام ....؟! وتكتمل هذه العجيبة بعدم اعتبار إرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل، على مدار الساعة، إرهابًا ... بينما تعتبر المقاومة الوطنية ضد القمع الإسرائيلي البشع إرهابًا ...؟!

    ومن العجائب ظهور جماعات تستغل الدين للهيمنة على الآخرين، وتسخير مقدراتهم لرغباتها وشهواتها... مدعية أنها تمثل الدين الإسلامي، ومحاولة فرض مفهومها (المريض) لهذا الدين لاستعباد الآخرين.  وباسم الدين ذاته ترتكب أبشع الجرائم، وأفظع الخروقات لكل حقوق الإنسان، الأساسية والمكملة. ولا يشك مراقب عاقل لحظة أن لقوى الغرب المتنفذ " دور " مباشر، وغير مباشر، في خلق ودعم كثير من هذه الجماعات المسلحة، وبخاصة تنظيمي القاعدة وداعش.  فمن أبرز حيل هذه القوى هي أنها أحيانًا تخلق " عدوًا " في وقت معين، لتحاربه في وقت " مناسب " آخر، بعد استخدامه لغرض محدد.  

   ومن العجائب أن تفرض بعض القوى الإقليمية والعالمية على بعض الشعوب أنظمة تعمل ضد شعبها لصالح هذه القوى. والنظام الأسدي السوري هو المثال الآن على هذه العجيبة.  أما انتهاك حقوق الإنسان في بعض أرجاء هذه المنطقة وفي مقدمتها ما يفعله الحوثيون في اليمن، فإنه ممارسة يومية.  ولا يهب الغرب المتنفذ ضد هذه الانتهاكات.

                                     ****

     كل هذه العجائب جعلت معظم المنطقة أكثر مناطق العالم سخونة واضطرابًا وعدم استقرار. وانعكس ذلك بالسلب على وضعها الحضاري، والتنموي. إنه الاضطراب السياسي، أو " عدم الاستقرار السياسي " الظاهر والخفي، والذي يسود كثيرًا من أنحاء هذه المنطقة، بسبب توفر " أسباب " نشوئه، ذاتيًا وخارجيًا.  أصبح منظر بعض المدن وقد تحولت إلى خرائب، وأثرًا بعد عين، تنتشر فيها الأطلال وجثث الضحايا ورائحة الموت، منظرًا مألوفًا. إضافة إلى صور الحروب والقتل والتدمير، وتفشي الأمراض والأوبئة والمعاناة الإنسانية القاسية، وهروب الناس كلاجئين إلى المجهول ...الخ

     يحدث ذلك في منطقة لو توحد العنصر السائد فيها لشكل دولة عظمى ... أو لو اتحد اتحادًا منطقيًا وأصبح له ثقل الدولة العظمى، لأن ما تملكه المنطقة من موارد بشرية ومادية، إن استغل بشكل صحيح، كفيل بجعلها واحدة من أهم الكتل الدولية في عالم اليوم. وعندما نفكر جادين في الخلاص، وإخراج هذه المنطقة من مأساتها المزمنة هذه، لا بد أن نتعامل مع الأسباب الداخلية والخارجية المترابطة، ونعالجها.

                                    ****

   فكرة الـ " شــرق الأوسطــ الجديد " : 

    يسود بالمنطقة من يدعو إلى: إعادة بناء " النظام العربي" ... بحيث يقام تكتل عربي قوي يخدم المصالح العربية المشتركة، ويمثل درعًا واقيًا ضد الأخطار المشتركة الجسيمة المعروفة (السياسية والاجتماعية والأمنية والاقتصادية) التي تهدد كل  الأمة العربية. وهناك الآن من يدعو ، من العرب وغيرهم، إلى: تجاوز النظام العربي، بكل حقائقه ... والدخول بقوة، إلى ترتيب إقليمي غير عربى جديد، يسمونه الـ " شرق أوسطية "... أو " الشرق الأوسط الجديد " ...

ولاشك أن إعادة صياغة وبناء " النظام العربي" ، هو الحل          ( المنطقى والأفضل) الذى يجب أن يكفل خدمة المصلحة العربية العليا، كأفضل ما تكون الخدمة. ولكن، هذا الخيار غير ممكن في ظل هذا الضعف العربى المقيت. فتحقق حتى أدنى درجات التكتل العربى يعتبر ، كما يبدو، شبه مستحيل في هذا العصر الردىء. أما الـ " شرق أوسطية"، فإنه يكفي لرفضها استذكار أهدافها، التي تتلخص في: محاولة إفناء النظام العربي، عن طريق تهميش وطمس الهوية الثقافية والسياسية للأمة العربية، وتقسيم بعض الدول العربية، وتصفية القضية الفلسطينية، ودعم " شرعية" وجود إسرائيل، عبر انتمائها إلى منطقة " الشرق الأوسط"، تكون إسرائيل فيها هي قطب الرحى والآمرة الناهية فى  مقدراتها  ومصيرها ؟!   فـ        " الشرق أوسطية الجديدة " إنما صممت أساسًا لخدمة الكيان الصهيونى أولاً وأخيرًا .  إنها تستهدف إقامة " شرق أوسط جديد " على أنقاض " الشرق الأوسط القديم ". وتحاول قوى دولية فرضها، سواء رضيت الشعوب العربية بها أم لم ترض.  وكأن أهل المنطقة الأصليين قد فوضوا هذه القوى لايجاد " نظام إقليمى " جديد لهم .... فهم ربما لايعرفون مصلحتهم ؟ ! وكان يمكن تجاهل هذه الفكرة الامبيريالية  لولا أن أمريكا ما زالت تحاول تنفيذها، بشكل أو آخر .

                           ****

  كما سبق أن قلنا، فإن المصطلح، في حد ذاته،  مصطلح مغرض أصلاً ، ابتدعه المستعمرون الأوربيون.  وكان من الطبيعي أن تدعو إسرائيل – منذ أوائل التسعينات – بحماس ملحوظ، لهذه الفكرة. وجاءت هذه الدعوة في أحاديث  نشرها شمعون بيريز ، رئيس إسرائيل الأسبق . أصدر بيريز، في عام 1993م، كتابًا بهذا الخصوص، سماه " الشرق الأوسط الجديد" ؟!  وفيه  شرح وجهة النظر الإسرائيلية هذه، التي لقيت دعمًا أمريكيًا فوريًا مطلقًا. وقد قام  معهد جامعة هارفارد للسياسة الاجتماعية والاقتصادية في الشرق الأوسط، في الفترة 1988 – 1993م، بنشاط بحثي مكثف ... هدفه: صياغة برنامج عمل، يفرض تسوية سياسية معينة للقضية الفلسطينية، ثم بلورة صيغ متكاملة للتعاون الإقليمي الاقتصادي والاجتماعي بين دول المنطقة. وشارك في هذه الأبحاث عدد كبير من الباحثين الاستراتيجيين الإسرائيليين  ولم يشارك فيها أى باحث عربي مستقل. وكان هدف هذه البحوث هو: تطوير وترويج فكرة الـ " شرق أوسطية " ... وكسب قبول بعض العرب لها ( بالترغيب والترهيب ) ... ودعم موقف إسرائيل، وضمان سيطرتها، وهيمنتها – بالوكالة - على مقدرات المنطقة. ويقال أن أهم استنتاجات هذه الأبحاث أخذت من كتاب بيريز،  وبالنص الحرفي أحيانًا.

                           ****

 وتحاول هذه الاستراتيجية استغلال الضعف العربي الراهن، وضم أكبر عدد ممكن من الدول العربية لهذا الترتيب.  وسبق استغلال ما سمي بـ " المفاوضات متعددة الأطراف"، التي كانت تجري  في إطار ما عرف بـ "عملية السلام" بالمنطقة، للاقتراب أكثر من تحقيق هذه الفكرة، في الواقع الفعلي، والتى جوهرها: إقامة تعاون إقليمي، مركزه تل أبيب ... حيث تسخر إمكانيات المنطقة لإمرة ما يسمى بـ " التقدم العلمي" الإسرائيلي، وفي إظهار "هوية" جديدة للمنطقة ( هي الهوية الـ " شرق أوسطية" ) ... قوامها هذا " التعاون " – الاقتصادي الاجتماعي – الإقليمي.                                                وكان المدخل لذلك، أن تهتم المفاوضات متعددة الأطراف ببحث خمس قضايا رئيسية، هي: ضبط التسلح، المياه، اللاجئون، النمو الاقتصادي، البيئة. ومعروف، أن هذه المفاوضات استؤنفت عام 1992م، ثم توقفت عام 2008م. ولم يتمخض عنها أي نتائج تذكر، عدا انعقاد العديد من مؤتمرات التعاون الاقتصادي، بالمنطقة. وأهم هذه المؤتمرات، هي: القمم الاقتصادية للشرق الأوسط، التي عقدت في الدار البيضاء، سنة 1994م ، وفي عمان سنة 1995م، وفي القاهرة، عام 1996م، وغيرها.

     لقد خفت التحركات في هذا الاتجاه طيلة العقد الماضى، بسبب انكشاف النوايا الإسرائيلية السلبية، ونتيجة لاصرار إسرائيل على الإمعان فى تجاهل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، بل وتصعيد التنكيل الصهيوني بالفلسطينيين، وتهديد دول الجوار العربية .... ثم توارت الاتصالات المتعلقة بها بفعل الغضب الشعبي العربى العارم من سياسات إسرائيل العدوانية الصارخة، ورفضها المؤكد للسلام العادل. ولكن، من المؤسف أن هذه الفكرة عادت بقوة مؤخرًا، رغم استمرار الموقف الإسرائيلي العدواني على ما هو عليه.

                               ****

الـ " شــرق أوسطية": هوية مرفوضة عربيًا: 

يهدف مشروع " الشرق الأوسط الجديد" إلى: تمزيق الوطن العربي، وإضعافه، وإدخال هويات غريبة إلى المنطقة، ومحو هويتها العربية، والإسلامية. كما يتضمن هذا التحرك: تكريس الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة، ومنح الـ " شرعية" النهائية للوجود الإسرائيلي فيها، وبدون أي مقابل. بالإضافة إلى: توسيع المجال الاقتصادي الحيوي لإسرائيل... عبر دمجها في المنطقة، وإخضاع إمكانيات هذه المنطقة  للسيطرة  الأمريكية - الإسرائيلية الأكثر إحكامًا. فالهدف الأكبر هو : خلق منطقة نفوذ مطبق ... عبر إعادة رسم خارطة المنطقة، وتحويل أغلبها إلى دويلات طائفية  مستضعفة ... تقودها إسرائيل، وتسخر إمكاناتها، وثرواتها لخدمة المصالح الاستعمارية – الصهيونية .... لاغية هوية المنطقة العربية وقيمها، وضاربة بعرض الحائط مصالحها الحقيقية، ومكرسة هضم حقوقها.

لهذه الأسباب، وغيرها، فإن الحكمة المجردة  تقتضي من  العرب رفض هذا المشروع الخطير ، وبشدة،  والتركيز  - بدلا عن ذلك - على بناء نظام سياسي - اقتصادي عربي، وإسلامي  حقيقي ... يحفظ الحقوق والهوية العربية، ويدرأ عن هذه الأمة ما يحدق بها  من أخطار مشتركة جسيمة، تستهدف بقاءها ورفاهها وكرامتها. ويأتي في مقدمة هذه  الأخطار : المحاولة الفارسية – الصفوية للسيطرة، والمحاولات الصهيونية – الاستعمارية المسعورة إياها  للهيمنة على المنطقة ... عبر : محاولة تمرير و فرض عدة أفكار جهنمية ... تبدأ بأفكار هلامية ، مثل:  " السلام مع الأمن" و " السلام  مقابل السلام " ، و" الفوضى الخلاقة " ، وفكرة الـ "شرق الأوسط الجديد " ... التى يشير إليها البعض بـ " الشر الأوسخ الجديد ". وكلها ( على أي حال ) أفكار ومشاريع تدس السم الزعاف، في قشرة من الدسم الزائف ...

                         ****

    ويعرف " التعاون الدولي الإقليمي" بأنه:"عملية تكوين وتفعيل المؤسسات، التي يمكن عن طريقها صنع وتنفيذ قرارات عمل مشترك، لمجموعة من الدول، في مجالات معينة".  وعادة ما يتم هذا التعاون بين دول متجانسة، ترتبط فيما بينها بروابط: الدين واللغة والمصالح والأخطار المشتركة، وتشكل إقليمًا جغرافيًا، معينًا من هذا العالم. وكثيرًا ما يتجسد هذا التعاون في: منظمة دولية حكومية إقليمية شاملة، معينة... أو اتحاد كونفيدارالي، يقام (في شكل منظمة) للتعاون في كل المجالات.

وقد أقامت الدول العربية، فيما بينها، منذ عام 1945م، "جامعة الدول العربية"... التي هي بمثابة: منظمة دولية حكومية إقليمية (عربية) شاملة. ومن المؤكد أن المصلحة العربية والإسلامية العليا تقتضي  تدعيم وتطوير هذا التعاون... حفظًا للهوية والمصالح العربية والإسلامية المشتركة ... ودرءًا للأخطار الأجنبية الفادحة، التي تهدد كل الأمة العربية. ومن المؤسف أن هذه " الجامعة "  كانت – ومازالت – مهترئة وضعيفة (ربما عن قصد) ولاتعكس الروابط (الحقيقية) بين أعضائها، ولا تقدم الخدمة  المطلوبة لهذه الأمة. وقد ساهمت هذه المنظمة – وإن بشكل غير مباشر – فى ما وصل إليه حال الأمة من تخلف وبؤس.  ورغم ذلك ، فإن " الحل " لايكون بنبذ فكرتها وإلغائها واستبدالها بشىء آخر مناقض أو مشبوه وإنما بتعديل وتطوير ميثاقها... بما يجعلها قادرة على تحقيق ولو الحد الأدنى من ضرورة وجودها القصوى.

                                  ****

  وقد طرحت فكرة التعاون الـ "شرق أوسطي"، أو " الشرق الأوسط الجديد "  لضرب  ونسف أي نوع من التضامن العربي ( الإقليمي ) إضافة إلى إحكام السيطرة، وطمس الهوية العربية. وأخذ الإسرائيليون ( وحلفاؤهم )  يروجون لهذه الفكرة بشكل ملفت، منذ انتهاء " الحرب الباردة"  آملين دعم هيمنتهم عبرها. وبادر بعض ( من دعاة " السلام" ) بتبرير هذا التوجه  ... بسبب " فشل العمل العربى المشترك "... ولم يقولوا بسبب " إفشال ذلك العمل "، وتسفيه فكرة  " التضامن العربى "، وتقديم بديل استعماري-  صهيونى لفكرة  العروبة وروابط الدين، وغيرها ؟! فإذا كان المشروع العربي قد فشل (أو أفشل) فإن البديل الأسوأ سيكون الهيمنة الصهيونية المغلفة بأوارق التعاون و" السلام " الزائفين .

                        ****

 والخلاصة، إن أهداف فكرة الـ " شرق أوسطية "  الحقيقية   تتلخص في :                                      

1-  محاصرة ما تبقى من" النظام العربي" وعزله ومن ثم إفناءه ... عن طريق: طمس الهوية الثقافية والسياسية للأمة والأرض العربية.... تمهيدًا لإحكام الهيمنة الامبيريالية الصهيونية.

2-  محاولة تحقيق " شرعية " وجود إسرائيل ... عبر تكوين نظام إقليمي تكون إسرائيل مركزه ، لتأكيد " انتمائها " لهذه  المنطقة، وتجاهل اغتصابها لفلسطين وحقوق الفلسطينيين.

  أي أن إسرائيل وأنصارها يسعون، من خلال طرحهم  لهذه الفكرة، إلى: خدمة أهدافهم العدوانية، عبر هوية متخيلة، ولا أساس  قوي لها، ودون اعتبار يذكر  للمصالح والقيم العربية.

  وهذه الفكرة ليست – في الواقع – جديدة ... إذا أخذنا مغزاها، وجوهرها – الحقيقي – وهو: الحيلولة دون قيام أي نظام أو تكتل عربي إسلامي مؤثر  بالمنطقة.  فقد حاول المستعمرون، في السابق، فرضها على المنطقة...  في صورة " مشاريع أمنية " عدة، منها:  " حلف بغداد " ، وغيره .  ومن تحليل تلك المشاريع، يتضح تعارضها مع المصالح العربية والإسلامية... وهذه المرة، تطرح هذه الفكرة في زى صهيوني ... لا يختلف في مضمونه عن ما عداه، من مشاريع استعمارية سابقة، إلا في الشكل ... وفي بعض التفاصيل.  

                            ****

والغريب، أن تلقى هذه الفكرة الصهيونية – الاستعمارية الخبيثة، قبول بعض " العرب"، من الذين يقولون – بغباء أو سوء نية – أن الـ " شرق أوسطية " ستحول بلدانهم إلى "جنات خضراء ... متقدمة ". فلا بأس من التعاون مع أعدى أعداء هذه الأمة، لتحقيق هذه " المصالح " ؟!  ولقد انكشفت أهداف هذه الخطة أمام الشعوب العربية، وقادتها. وبلغ الاستياء منها حدًا ... جعل الرفض العربى القاطع لهذا المشروع تلقائيًا وبديهيًا. ويمكننا الآن القول بإنه: لن يوجد سلام حقيقي، أو حتى تعاون صحيح ومثمر وعلاقات طبيعية بين الكيان الصهيوني والعرب، إلا  بعد حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة في أرضه، فلسطين المحتلة، وتوقف إسرائيل عن سياساتها العدوانية المعتادة.

مجلة آراء حول الخليج