array(1) { [0]=> object(stdClass)#12962 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 150

السباق العلمي طرح تساؤلات حول مصير الأبحاث العربية وتطبيقها وهجرة العقول

الثلاثاء، 23 حزيران/يونيو 2020

   كشفت أزمة "كورونا" عن حقائق كثيرة، لعل أبرزها أن مستقبل الأمم ونهضة الدول رهن بالبحث العلمي، كما كشفت أيضًا أن الفاعلين الحقيقيين هم العلماء والباحثون، خاصة مع صعود واشتعال المنافسة بين مختبرات الأبحاث وشركات الأدوية عالميًا من أجل التوصل إلى لقاحات مضادة للفيروس، وتتصدر المنافسة حتى الآن الصين وفرنسا والولايات المتحدة وألمانيا، حيث يشارك العلماء بتقارير سريرية موجزة للتسلسل الجيني للفيروس، متخطين كل التنظيمات التي تهيمن على توزيع المعلومات على مستوى العالم، وهو ما عبر عنه الدكتور "تريفور بيدفورد"، عالم الأحياء بجامعة "فريد هاتشينسون" لأبحاث السرطان قائلاً، "لم نر هذا التعاون في مجال البحث العلمي من قبل". كما شارك موقعGISAID التابع لمنظمة الصحة العالمية، في نشر جميع البيانات الجديدة عن الشفرة الوراثية لفيروس كورونا، حيث تقوم جميع مختبرات الأبحاث العلمية حول العالم بنشر ما تتوصل إليه على الموقع، لينقل للعالم آخر التطورات المستجدة عن المرضى ، بل وصل الأمر إلى لجوء الصين مؤخرًا إلى استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي كبديل للإنسان، للتخفيف من وطأة انتشار الفيروس وكبح جماحه، مع الاعتماد على التكنولوجيا الحديثة من الأجهزة لتشخيص الفيروس، وكذلك المعدات والمستلزمات الطبية المستخدمة في محاولة للتوصل إلى علاج ولقاح مضاد للفيروس.

   ولعل هذا السباق العلمي –الذى اتخذ في أحيان كثيرة شكل تنافس بين الدول في إطار الأزمة - قد طرح مجموعة من التساؤلات تتعلق بمصير الأبحاث المتكدسة في الدول العربية والتي يشكو أصحابها من غياب الوعي والاهتمام الحقيقي بالجهد المبذول فيها، وتساؤلات أخرى تتعلق بجدوى الأبحاث وقابليتها للتطبيق، وثالثة ترتبط بأسباب دفع  الطاقات والعلماء للهجرة والاستقرار في الخارج، فيما يعرف بظاهرة "هجرة العقول" لكي يجد الباحث البيئة الحاضنة والمعززة لمواهبه وقدراته العلمية. ورابعة تطرح تساؤلات بشأن البحث العلمي في منطقتنا العربية، وإلى متى ستظل البحوث العلمية الرصينة رهينة انتظار الحكومات العربية الرسمية، للقيام بخطوات مهمة في مجال دعم البحث العلمي والباحثين، خاصة بعد أن كشفت الأزمة عن الواقع الحقيقي للبحث العلمي، وما يعانيه من شح في الموارد البشرية والمادية، وعدم توفير الأدوات اللازمة للنهوض بمستواه. وخامسة تتعلق بكيفية قدرة الدول على ترشيد الإنفاق وزيادة الإيرادات في ظل هذه الأزمة بعد أن تعطلت مجالات أساسية من الحياة اليومية الاعتيادية. وسادسة حول انكفاء الدولة عن انخراطها في الشأن الخارجي، دوليًا أو إقليميًا، وتنامي النزعة الصراعية بشكل يعيد صياغة بنية النظام الدولي. وسابعة حول جدوى الدراسات الاستشرافية لقراءة التغير المستمر في العالم وكشف قصور الدراسات المستقبلية، وإثارة سؤال المستقبل بشكل عام، ومدى قدرة الإنسان على السيطرة على عالمه، وهي إحدى الأفكار الرئيسية المصاحبة للتطور العلمي والتكنولوجي.

الجائحة ومخرجات البحث العلمي

   تُصنف البحوث العلمية بحسب أهدافها وطبيعة المشكلات المراد دراستها، كذلك هنالك خطوات يتبعها الباحثون في البحوث العلمية، وقد تتباين هذه الخطوات في عددها، وطريقة تحقيقها، ويكون ذلك تبعًا لنوع البحث وأهدافه، وكذلك يتبع إمكانيات الباحثين فيما يمتلكونه من اتجاهات عقلية علمية، وإمكانات معينة، وخبرات. ولا شك بأن الأزمة الراهنة قد أوجدت لحظة توحدت فيها الحاجة للبحث العلمي، والهدف منه، والاستثمار فيه، تجسدت في فضول المستثمرين الذين يبحثون عن الاستثمار الاقتصادي لمخرجات البحث من أجل تحويله إلى مستلزمات –علاج أو لقاح- متاح لمن يبحث عن سد حاجته منها والمتمثل بطرف المستهلك المستفيد.فالباحث هنا دوره إنشاء أو تقرير وسيلة مادية أو معنوية يجهز بها المستفيد الذي ممكن أن يكون هو المستهلك في المعادلة وهو يبحث عن تلك الوسيلة، وبين طرف الباحث كمقدم وسيلة، والمستفيد المستهلك مالك الحاجة، يوجد طرف ثالث ينسق ويكيف بين الطرفين، فهذا الطرف دوره هو تحويل المخرج العلمي للبحوث إلى قيم وخدمات وسلع بفضل رأس المال الذي يمتلكه والإدارة والتنظيم. هذه الأطراف ضروري توافرها مجتمعة لتطوير واستمرارية البحث العلمي.

   وإذا تتبعنا الأمر في إطار الأزمة، نجد أن المستثمر يبحث عن الفرصة من خلال استغلال حاجة فئات من الناس لإشباعها عبر وسائل وطرق متباينة، وكذلك يفعل مع الباحثين في كافة المجالات، فيكون دوره موفِقًا بين حاجة طرف (المستهلك) لوسيلة كشف عنها، أو أوجدها طرف آخر (الباحث) ويمتلك مرونة عالية للتوفيق بين الطرفين، وهو الأمر الجلي في ظل هذه الأزمة العالمية التي خلّفها الوباء، حيث نجد كثير من المنتجين والمستثمرين ينتظرون على أبواب الباحثين تقديم ما يسعف حياة الملايين من البشر في وسائل للوقاية أو العلاج.

ورغم اختلاف هدف كل طرف من الأطراف الثلاثة، إلا أن ثلاثتهم وجهته واحدة تتمثل في مخرجات البحث العلمي. فالمستهلك هدفه سد حاجته الملحة التي تتطلبها حياته اليومية، والتي تتصاعد أولويتها إذا تعلق الأمر بإنقاذ حياته وتحسين مستوى معيشته، ففي هذه الحالة سيضحي بكثير من الحاجات مقابل ما يسد حاجته في البقاء، أما المستثمر المنتج يكون هدفه من البحث هو الحصول على الربح المادي، في حين يكون هدف الباحث إلى جانب أن يحظى بكسب عروض المستثمر، أن يحرز نجاحًا علميًا سبّاقًا. وبالتالي كلما نجح المستثمر في التوفيق بين تطلعات الباحث وحاجات المستهلك وفقا لمتطلبات السوق كلما كانت بحوثه لها صدى علمي واسع وقيمة اقتصادية عالية.

   ولأجل أن تؤتي تلك المعادلة الثلاثية ثمارها، يجب توافر توافق الأطراف الثلاثة، ولعل أزمة "كورونا" بقدر ما شكّلت صدمة بات العالم كله –المتقدم والنامي- عاجزًا على استيعابها، إلا أنها جسدت لحظة فريدة للتوافق بين الباحث والمنتج والمستهلك، بل أيضًا أعطت رسالة مؤكدة حول محورية دور البحث العلمي في إنقاذ البشرية واستمراريتها.

إيقاع التحولات في المشهد الدولي والبحث العلمي البيولوجي

   من بين مشكلات الدراسات المستقبلية في تطوير نماذجها هو كيفية إدراج المتغير "قليل الاحتمال عظيم التأثير" Low Probability –High Impact ، خصوصًا عندما يشكل هذا المتغير نقطة تحول في اتجاه Trend معين للظاهرة موضوع البحث أو نقطة تحول للاتجاه الأعظم Mega-Trend للظاهرة.

ويتم تقسيم هذا المتغير إلى ثلاثة أنماط:

1. نموذج البجعة السوداء Black Swan؛ وهو الحدث غير المتوقع نهائيًا، وبالتالي ليس هناك خطط لمواجهته، وهو أمر لا ينطبق على فيروس "كورونا" الذي يتوفر قدر غير قليل من الدراسات العلمية التي تنبأت به.

2. النموذج المتوقع بدون استعداد لمواجهته Known but unprepared for، أي متوقع ولكن لا يوجد استعدادات مسبقة لمواجهته، وهو ما ينطبق على "كورونا".

3. نموذج المتوقع وهناك استعداد لمواجهته Known and prepared for، وهو ما لا ينطبق على "كورونا" أيضًا.  

   مما سبق، يمكن القول إن "كورونا" كان متوقعًا من العلماء ومن السياسيين أيضًا، لكن خطط المواجهة لم تتم لأسباب تستحق من الباحثين التأمل والبحث فيها.

   إن الفترة الزمنية التي سيصل فيها العالم إلى عقار أو مصل مضاد للفيروس، مسألة متروك تقرير مدتها بيد المختبرات العلمية، فإذا رافق الفيروس العالم حتى سنة 2021م، -كما ترى بعض التقارير مثل تقرير الصحة العامة البريطاني، فإن التداعيات ستكون عميقة اقتصاديًا وبشريًا. ويبدو أن نتيجة المخاوف من التداعيات الخطيرة قد صرفت توجه الدول الكبرى باتجاه خبراء القطاع الصحي لمواجهة الأزمة، وهو ما قد يزيد من المنافسة بين هذه الدول (خصوصًا شركات الأدوية، وما يترتب على ذلك من مكاسب تجارية وتعزيز القوة الناعمة للدولة)، لكنه قد يدفع باتجاه تكاتف الخبرات وتعاونها من خلال المشاركة في الاكتشافات ذات الصلة من ناحية أخرى، خصوصًا أن الفيروس غير منحاز لأحد في حربه لا طبقيًا ولا قوميًا ولا دينيًا، مما يجعله عدوًا "للجميع" ، وهو ما قد يعزز المواجهة المشتركة.

   لقد أثبتت الأزمة أن التفوق العسكري والقوة الاقتصادية لا يقفان وحدهما عند تحديد مكانة الدول وقيمتها، وأن الأمر يحتاج في النهاية إلى التقدم التكنولوجي والبحث العلمي والاستكشافات الطبية في عالم الأمصال والطب الوقائي عمومًا، وهنا تبرز مجموعة من المعضلات الأساسية حول عالم ما بعد "كورونا" في إطار البحث العلمي:

أولاً: أن القرن الحادي والعشرين هو قرن الصين بامتياز، وأنها سوف تتصدر المشهد الدولي، حيث جاءت جائحة "كورونا" لكي تستعرض الصين قوتها أمام العالم في تحالف صامت مع روسيا وعداء مستتر تجاه الولايات المتحدة الأمريكية، مع محاولة لاستمالة الدول الكبرى في الاتحاد الأوروبي، حتى يتغير شكل العالم، ويكون المقعد الصيني جاهزًا لدور جديد.

ثانيًا: إن الاتحاد الأوروبي ككيان هو الخاسر الأكبر ، فبعد خروج بريطانيا منه تعرض الاتحاد لأكبر اختبار مر به منذ قيامه، وهو الحرب ضد الوباء ؛ فظهرت هشاشة الارتباط بين دول الاتحاد، وبدا المشهد مؤلمًا للأوروبيين على نحو لا يعرف له التاريخ مثيلاً، ليصبح التفكير في مرحلة جديدة من الانزواء القطري والاهتمام الوطني بالأحوال الداخلية بعيدًا عن الأحلاف وحتى الاتحادات.

ثالثًا: تبدو الولايات المتحدة الأمريكية حاليًا أمام وضع شديد الصعوبة، لأن الوباء الذي اكتسح العالم نهش أيضًا جزءًا من مكانتها وقدراتها الطبية، وإمكاناتها الصحية، فلقد اكتشفنا أن لديها مشكلات كامنة تغطيها ترسانة السلاح وعمليات الاستعراض لتقدمها التكنولوجي من وقت إلى آخر.

رابعًا: إن نظامًا عالميًا جديدًا يولد من رحم الأحداث الحالية قد تتهاوى فيه مكانة بعض الدول الكبرى، ويتراجع التفرد بقوة عظمى وحيدة، ونعود إلى عصر الاستقطاب بين قوى متكافئة في ظل حرب اقتصادية يبدو أنها سوف تبدأ على أنقاض كارثة "كورونا"، قد تبرز فيها نعرات قومية ووطنية، وتسقط تحالفات تقليدية.

البحث العلمي بعد (الصدمة): هل سيشهد تحولاً هو الآخر؟

   بعد تجاوز عديد من الدول مرحلة الذروة بإصابات فيروس "كورونا"، وإعلان بعض الدول إعادة النشاط الاقتصادي، ولو بشكل جزئي، بدأ التفكير في استثمار التغييرات الممكنة بعد "كورونا"، وبعض هذه التغييرات جليّ مثل التغير في منهجيات وتشريعات البحث العلمي في كثير من الدول، وما يصاحبها من تغيير في الاستثمارات، وسياسات الاكتفاء الذاتي في الكثير من الصناعات والقطاعات الاستراتيجية كالأغذية والأدوية والمستلزمات الأساسية، وما يصاحبها من أنشطة اقتصادية. كذلك سيشمل الكثير من القطاعات التي لم تخف أهميتها قبل الأزمة، ولكن التغييرات التي قد تطرأ عليها قد تكون جذرية، مثل القطاعات اللوجستية والمالية، والأجهزة الطبية الوقائية، والتجارة الالكترونية وقطاع التجزئة. وأهمية معرفة هذه القطاعات تكمن في التوجه الاستثماري المحتمل لها حال انتهاء الأزمة، وعدم ارتباط استمراريتها بالأزمة.

   يبدو أن الأزمة قد أعادت ترتيب أولويات سوق العمل  في العالم؛ حيث بات مرتبطًا بالتكنولوجيا بشكل كبير، فمن امتلك أنظمة تساعده على "العمل عن بعد"، استطاع النجاة بأقل الخسائر. فهناك تخصصات زادت أهميتها، ومهن تزدهر وتستعد لاحتلال مراكز متقدمة في سوق العمل مع انتشار الفيروس الذي طوّق العالم وحاصر الاقتصاد، ووضع الأنظمة الصحية في اختبار صعب، وعصف بأصحاب المحال التجارية، وألزم الطلاب منازلهم، نتيجة فرض حصر التجوال في معظم بلدان العالم.

   لقد أبرزت الأزمة أهمية الأمن المعلوماتي، ودفعت الكثيرين للتفكير في أمر العمل عن بعد، فأصبح الحديث عن أن الذكاء الاصطناعي سيكون له نصيب الأسد في السنوات المقبلة. كما أن مستقبلاً واعدًا ينتظر تطبيقات "الفيديو كونفرانس" ، وهو ما سيحفز العديد من الشركات لتطوير مثل تلك التطبيقات في الفترة المقبلة. أما الاستثمارات ، فستتركز في مجال البنية التحتية لشبكات الانترنت خاصة في الدول العربية، لأن التحول التكنولوجي يلزمه بنية تحتية قوية تستوعب الاستهلاك المتزايد.كما سيتزايد الطلب على تصميم التطبيقات الالكترونية، لاسيما في ظل الحاجة المتصاعدة للاستعانة بها في إدارة عدد من الأنشطة التجارية، مثل الأدوية، وأقسام "الدليفري"، وشركات الشحن والنقل.

   وسيشهد التعليمازدهارًا في مجال "التعلم من بعد"، تتطلب إعدادات خاصة، تتمثل في توفير الكوادر البشرية المُلمة بأنظمة التعليم الحديث. وستعيد الدول النظر في ميكنة المزيد من القطاعات خلال الفترة المقبلة، والتسريع بالتوجه صوب التحول التكنولوجي، خاصة بعد أن وجدت نفسها -بشكل مفاجئ- أمام تحدي استمرار عجلة الإنتاج القائم بالدرجة الأولى على التطبيقات والمواقع الالكترونية، وهذا سيزيد الطلب على شركات تصميم المواقع الإلكترونية.

   وبالنسبة للقطاع المالي، فإن لم يكن تفكير الحكومات جادًا في العملات الإلكترونية قبل "كورونا"، فقد يكون كذلك بعد هذه الأزمة، والملاحظ أن الكثير من الدول قللت من التعامل بالعملات الورقية، واستبدلتها بالتعاملات الإلكترونية والمدفوعات عن طريق البطاقات الائتمانية، وذلك لمنع انتشار الفيروس عن طريق تداول العملات النقدية، والتي ستكون أقل تكلفة على الحكومات من العملات المحسوسة.

   ولعل ما تبنته الصين من تفعيل تطبيقات الدفع مثل Alipay وWeChat لتتبع تحركات المستخدمين، وإعادة فرز هواتف مستخدمي الاتصالات وفقًا لترميز خاص بأزمة "كورونا" بحيث يتم الإبلاغ عن كل من قاموا بكسر الحجر الصحي بشكل تقني ومباشر للسلطات، وكذلك منصات التواصل الاجتماعي الصينية مثل Weibo وWeChat ، التي تقوم بأدوار رقابية شديدة لمواجهة نظريات المؤامرة والشائعات والترهيب المجتمعي للصينيين، لعل كل تلك الإجراءات عكست إلى حد كبير جدوى تطويع العلم والتكنولوجيا للحد من آثار وانتشار خطر الفيروس.

   إن التركيز في الوقت الحالي ينصب على التقنيات التي تساعد في تجاوز الأزمة، ولكن التقنيات التي ستطور لضمان عدم حدوث الكارثة مرة أخرى قد تفوقها، كمًّا وانتشارًا، خصوصًا مع ارتفاع القيمة الاقتصادية لهذه التقنيات، كون الحكومات ستتسابق لشراء هذه المنتجات بهدف الوقاية من انتشار الفيروس. وإن كان الأطباء وعلماء العلوم الحياتية الآن يسعون للبحث عن لقاح للفيروس، فهناك جانب آخر من البحث العلمي يعمل على إيجاد الفرص الاستثمارية والتقنيات الواعدة لمرحلة ما بعد الفيروس. فالسوق متغيرة لا محالة، وصناعات عدة سوف تظهر لم تكن موجودة من قبل، وأخرى كانت مهددة بالانهيار، وزادتها الأزمة ضعفًا مثل قطاع التجزئة. والمؤكد أن عديدًا من الشركات سوف تصبح من كبريات الشركات بعد انتهاء الأزمة، لحسن التخطيط واستثمار الفرص.

هل تفتح الجائحة آفاقًا لشراكة عربية في البحوث العلمية؟

   لعل الكشف عن أزمة العلم والصحة العامة، من أهم ما كشفت عنه "كورونا"، وبقدر ما طرحت الجائحة عددًا كبيرًا من التحديات على المستويات المحلية والإقليمية والدولية كما سبقت الإشارة، إلا أنها في الوقت نفسه تطرح فرصًا كبيرة من الممكن أن تؤدي إلى نتائج مثمرة إذا أحسن استغلالها. فمعظم الدول في المنطقة العربية تعاني ضعف البنية الاقتصادية بشقيها التعليمي والصحي، وتراجع الأبحاث وضعف المشاركة التي يمكن أن تُسهم في مواجهة الأوبئة والكوارث، رغم وجود عقول مبهرة وعلماء متميزين تستعين بهم الدول الكبرى، وتنظر إليهم باحترام وتقدير. وقد حان الوقت لنظرة عاجلة إلى هذه الثغرة الكبيرة ، فالثروة وحدها لا تنفع والأموال من دون معرفة وعلم لا جدوى منها، لذلك فإننا يجب أن نحيل إمكاناتنا العربية إلى قدرات علمية مع توظيفها بحثيًا وتطبيقيًا والاستفادة من التجارب الأخرى، وما حققته الدول في هذه الميادين.

   كما أن هناك فجوة كبيرة بين المؤسسات والجامعات وبين المجتمع، وهذه الفجوة بحاجة إلى تجسير بقدر يفيد مؤسسات المجتمع من الأبحاث الأكاديمية على النحو المطلوب، ولن تنجح دولة عربية منفردة على القيام بالمهمة الملقاة على جامعاتها مهما كانت إمكاناتها. ولعل الأزمة الراهنة قد تعطي فرصة كبيرة لمشروع نهضوي عربي ذو استراتيجية تعليمية بحثية مشتركة مع تطبيق وتنفيذ وإشراف ومتابعة، وهو أمر متيسر بفضل التطورات والمستحدثات التكنولوجية، وبعد ظهور الفضاءات المفتوحة أصبحت المعلومة متاحة ، وبالتالي هناك إمكانات للاعتماد على الذكاء الاصطناعي، والقفز على مرحلة النظام التعليمي التقليدي ، والاستفادة من معطيات الأزمة الراهنة في مجالات الأمن المعلوماتي والتقنيات الذكية والاستثمارات في مجالات جديدة.

   وفى هذا الإطار يمكن تقديم مجموعة من المقترحات والتوصيات:

-الربط بين فروع العلوم المختلفة ومخرجات أبحاثها: رغم اختلاف طريقة استثمار مخرجات البحوث في إطار التخصصات الإنسانية عن طريقة استثمار البحوث في إطار التخصصات العلمية، إلا أن ذلك لا يُمّكن من تكاملها، فهناك ثمة حاجة للتكامل بين البحوث الطبية في مجال مواجهة الوباء العالمي والإطار القانوني لمسؤولية ناقل الوباء، فالمختص في القانون لا يعرف الجوانب العلمية عند تحديد الوضع الصحي للمصاب أو من يضطلع بمعالجته، إنما رأيه القانوني سيكون مبنيًا على الرأي العلمي ليقرر فيما بعد المسؤولية القانونية. وبالمثل فالمختص في تقنيات تكنولوجيا المعلومات يزود المختص بالقانون بالإطار التقني والفني للإنسان الآلي لكي تحدد المسؤولية القانونية فيما بعد عن الأفعال الصادرة عن الإنسان الآلي. كما يقترح استثمار ما يتمخض من مخرجات عن البحث العلمي في كافة التخصصات لتحقيق عوائد مالية مفيدة للباحث والجهة التي يتبعها، وفي نفس الوقت مفيدة للمستثمر الذي سيضع مخرجات أبحاث الباحث تحت تصرف المستهلك بالكمية والنوعية التي ترضيه وتسد حاجته سواء كانت تلك الحاجة متعلقة بالغذاء أو الدواء أو السكن أو غيرها.

تحديد الجهات المسؤولة عن إدارة البحث العلمي العربي: من خلال رعاية البحث العلمي، وهو أمر يقتضي أن يحكمه مبدآن للوصول إلى إدارة صحيحة وسليمة للبحث العلمي في مدخلاته ومخرجاته، وهما: التعاون والتكامل، فعلى سبيل المثال، الجهة المنظمة والمسؤولة عن السياسة العامة في الدولة، عليها مسؤولية تخصيص دور كل طرف من الأطراف في البحث العلمي -الجهة البحثية كجهة منتجة والجهة المستفيدة كجهة مستثمرة أو مستهلكة- بموجب قانون ملزم ورادع. وكذلك تحديد الجهات البحثية -المؤسسات التعليمية، الجامعات، المراكز البحثية... وأيضًا الجهاتالمستفيدة كالمؤسسات الحكومية وغير الحكومية، ووزارات الدولة... مع اتخاذ إجراءات في كل طرف من الأطراف الثلاثة تأخذ على عاتقها رسم خارطة طريق لتقييم أعمالها، وتوصيفها التوصيف العلمي والعملي الصحيح.

تكوين قاعدة بيانات لمتابعة سير وتقدم البحوث العلمية عربيًا لغرض الاطلاع على الإشكاليات والتحديات التي تعترض عملها على المستوى التشريعي، والقضائي، والتنفيذي، وبهدف التحول باتجاه جعل البحوث العملية بحوثًا تطبيقية، مع تشكيل لجان لدراسة توصيات هذه البحوث التي تبحث في موضوعات تشكل تحديًا آنيًا أو مستقبليًا للفرد، أو المجتمع، أو للدولة بشكل عام.ويساعد ذلك في النهاية في تسويق المادة العلمية وتوظيفها باتجاه الواقع بالشكل الذي يحقق فكرة البحوث المنتجة. كما يقترح استحداث قسم متخصص بالبحث العلمي في فروع العلوم المختلفة مع تشكيل لجنة على المستوى العربي تكون وظيفتها الموافقة أو الرفض على جدوى أي بحث.

الاستفادة من حال التغيرات الراهنة التي يشهدها النظام الدولي، خاصة في ضوء الحاجة المتبادلة لأسواق القوى الكبرى بعضها مع بعض، مما سيدفعها نحو اللعبة غير الصفرية non zero sum game ، أي المزاوجة بين توظيف المصالح المتعارضة بطريقة لا تؤذي المصالح المشتركة التي أصبحت ذات وزن كبير في سياسات هذه الدول، خصوصًا في بعدها الاقتصادي والمالي والنقدي. كما يوصى بإعادة النظر إلى الأبعاد الجيوسياسية التي خلّفتها الأزمة ،سواء في إطار اهتزاز تماسك الاتحاد الأوروبي، أو توتر العلاقات الأوروبية-الأمريكية ، مما قد يقود إلى إعادة هيكلة بعض التنظيمات ، مع مشروع "عولمي" صيني ليس متوقعًا أن تتخلى عنه الصين بسهولة.

تنمية الموارد البشرية بشقيها العلمي الأكاديمي، والتقني الفني، وهذا المسار يحتاج إلى انفتاح أكبر لإثبات الذات في اقتحام مشروعات بحثية تنبؤية، برغم تكلفتها العالية، إلا أن العائد منها وبراءات الاختراع المصاحبة لها، تحقق أرباحًا طائلة، وبدا هذا جليًا –في إطار الأزمة- في قطاع شركات الدواء التي تجري مشروعاتها البحثية في شراكات مع جامعات مرموقة، تصل أحيانًا إلى تحالفات علمية بين أكثر من جامعة دولية، وهذا المجال بوابة جديدة للاستثمارات العربية، ربما تفوق الاستثمارات العقارية والاستهلاكية، ما يدعو لمراجعات كثيرة لمجالات الاستثمار العربي الخارجية في ضوء المتغيرات المستحدثة، والتي تصاحب استراتيجيات بعض البلدان لبلوغ 2030م، في مناخ آمن.

-ابتكار وسائل جديدة لدعم صناعة النشر من خلال: أولاً، دعم وسائل التوزيع، وثانيًا: تخفيض أسعار شحن الكتب بين المدن وبين الدول، وثالثًا: ردع التزوير وتفعيل قوانين حقوق الملكية للكتاب الورقي والرقمي، ورابعًا: دعم المشروعات المكلفة، مثل الترجمة وكتب البحث العلمي والعلوم، وخامسًا: تأسيس ودعم مشروع نشر الكتروني عربي، وسادسًا: تحديد آليات أمان لإقامة معارض الكتب القادمة. ومن ناحية إنقاذ الوضع الراهن، من الممكن تضمين قطاع صناعة النشر لحزم الدعم الاقتصادي المرصودة لمواجهة الأزمة.

العمل العربي على تطوير البحوث العسكرية والاستراتيجية، خاصة وأن الأزمة قد غيرت كثيرًا من صورة المؤسسات العسكرية في أذهان الرأي العام العالمي، نظرًا لإسهامها في محاولات محاصرة آثار الوباء، ومثاله الحي في هذا السياق لحاق روسيا بغيرها من الدول لمطالبة الجيش بدور أكبر في مواجهة الجائحة، وكذلك لجوء "ترامب" إلى الاستعانة بالجيش الأمريكي في مكافحة انتشار الفيروس . هذه المهمة للقوة الخشنة سيمنحها المزيد من مساحة الحركة خصوصًا في دول العالم النامي، ناهيك عن احتمال تعزيز دورها اقتصاديًا كما هو الحال في الصين ودول أخرى خصوصًا في تلك الدول التي تلعب فيها الجيوش أدوارًا ومهامًا غير تقليدية، وهنا يأتي دور الأكاديميات الطبية والإكلينيكية العسكرية في الدول العربية.

   في ضوء تلك المقترحات،وفى إطار الشراكة العربية للبحوث العلمية، من الممكن صياغة استراتيجية عربية تقدم حلولًا ومعالجات لمشكلات تعوق البحث العلمي، وتعمل في شكل شراكات ثنائية أو متعددة في مجالات نظم المعلومات، وشبكات المعلومات الدولية، وشركات الأدوية ، لاقتناص الفرصة التي طرحتها الأزمة الراهنة.

مجلة آراء حول الخليج