; logged out
الرئيسية / موسكو وبكين في خندق واحد لإضعاف أمريكا وإيجاد عالم متعدد بالتخلي عن الدولار

العدد 153

موسكو وبكين في خندق واحد لإضعاف أمريكا وإيجاد عالم متعدد بالتخلي عن الدولار

الثلاثاء، 01 أيلول/سبتمبر 2020

أدت التداعيات الاقتصادية والسياسية لأزمة "كورونا" إلى تسريع وتيرة جملة من التحولات العالمية كانت تختمر على مدى العقد الماضي، وجاءت "كورونا" لتدفع بها فتصير واقعًا دوليًا من المهم تفهمه والتعاطي معه برؤى استراتيجية غير تقليدية. لعل أهمها وأبرزها يتعلق بتوازن القوى العالمي وتأكيد التحول لنظام دولي متعدد القوى، وتأجيج المواجهة بين الولايات المتحدة التي تسعى جاهدة للحفاظ على مكانتها المهيمنة في النظام، والصين المارد الصاعد بقوة اقتصاديًا وعسكريًا. وعلى عكس الاعتقاد الذي ساد في بداية الأزمة من أنه "فيروس صيني"، على حد تعبير ترامب، وإنها أزمة صينية المنشأ والتداعيات، وستعصف بالصعود الصيني الذي تحقق، وبصورة الصين التي سعت جاهدة لتطويرها خلال السنوات القليلة الماضية، وأن الولايات المتحدة وأوروبا بعيدة تمامًا عنها، فإن تطورات الأزمة جاءت مخالفة لذلك. فقد اتسعت دوائر الإصابة والوفيات في الولايات المتحدة وعرفت الأخيرة المقابر الجماعية لأول مرة في تاريخها، كما أعادت الأزمة شبح الحروب العالمية لأوروبا التي أصبحت بؤرة المرض بعد تعافى الصين، وبدت الشوارع في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وغيرها خاوية وكأـنها في حالة حرب حقيقية.

 وفى الوقت التي أثبتت فيه بكين للعالم أجمع قدرتها كدولة ذات إمكانات هائلة وإرادة جبارة لمواجهة الأزمة، وتمتعها بتناغم فريد بين حركة المجتمع والحكومة مكنها من الانتصار على "كورونا". على النقيض جاءت الأزمة كاشفة للقدرات الحقيقة للولايات المتحدة والدول الأوروبية ونظمها الصحية التي عجزت عن استيعاب المصابين، ولم تسارع واشنطن لنجدة حلفائها الأوروبيين بل وأغلقت أبوابها في وجههم، في وقت بادرت الصين بمساعدة العديد من الدول الأوروبية. وقد أضاف هذا بعدًا جديدًا للتوتر بين واشنطن وبكين، واتهم ترامب صراحة الصين بإخفاء المعلومات عن الفيروس واعتبرها المسؤول عن انتشاره بل وأكد إنه يجب "محاسبة الصين" على تقاعسها عن احتواء المرض، في محاولة لإنقاذ السمعة والمكانة الأمريكية عالميًا.

وعلى حين أضافت أزمة كورونا بعدًا جديدًا للتوتر الأمريكي ــ الصيني، فإنها عززت أحد محاور التعاون والشراكة المتنامية بين روسيا والصين. فقد كانت الصين سباقة في إعلام روسيا بالمرض، وفى مرحلة مبكرة من تطورات الأزمة، في فبراير من العام الجاري، قامت مجموعة من خبراء الأوبئة الروس بزيارة الصين لتبادل الرأي والمعلومات مع نظرائهم الصينيين حول قضايا التشخيص والعلاج والإجراءات الوقائية من الفيروس. وسارعت روسيا بتقديم المساعدات للصين وردت الأخيرة بتقديم المساعدات لموسكو مع تفشى المرض في روسيا. وفى أبريل أعلنت وزارة التكنولوجيا والعلوم الصينية أن الصين على تواصل وثيق مع الجهات المعنية في روسيا بشأن تطورات الفيروس منذ بداية تفشى كورونا، وأن الطرفين يتعاونان علميًا للوقاية من المرض. ومن المعروف أن هناك لجنة حكومية مشتركة بين البلدين خاصة بالتعاون في المجال الطبي تجتمع مرتين على الأقل في العام لمناقشة التعاون في مجال الأمراض الفيروسية والخطيرة حيث أن روسيا معروفة بأبحاثها ودراستها في مجال مكافحة الأمراض الفيروسية. وقد تجاوز التنسيق بين البلدين المستوى الثنائي وامتد ليشمل التعاون لتقديم مساعدات لدول ثالثة ومنها تقديم 50 طن من المساعدات الصينية لمولدوفا في أبريل الماضي تم نقلها على متن طائرات "آن-124" العسكرية الروسية. كذلك ساندت موسكو بكين في مواجهة الهجمة الأمريكية والغربية وطالبت الغرب بالتعاون مع الصين للكشف عن سبل مواجهة هذا الوباء وعدم تسييس الجائحة.

يأتي هذا في سياق شراكة استراتيجية عميقة وممتدة بين البلدين بقدر امتداد الحدود المشتركة بينهما والتي تصل إلى  6 آلاف كم2، فالتصعيد الأمريكي ضد بكين على الصعيدين الاقتصادي والاستراتيجي حول مدى واسع من القضايا الثنائية والإقليمية والدولية، تزامن مع تدهور غير المسبوق في العلاقات الروسية ــ الأمريكية مما وضع موسكو وبكين في خندق واحد وذلك في مواجهة الولايات المتحدة موسكو وبكين في خندق واحد وذلك في مواجهة الولايات المتحدة ، التي أشارت صراحة في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الأخيرة الصادرة في 18 ديسمبر 2017م، إلى اعتبار البلدين التهديد الرئيسي لواشنطن مستخدمة مصطلح "الدول التحريفية" للإشارة إلى روسيا والصين اللتان تحاولان تغيير الوضع الراهن، أو "القوى المراجعة" التي ترغب في خلق عالم لا يتوافق مع المصالح والقيم الأمريكية. إن مواجهة النظام أحادي القطبية ومحاولة الانتقال إلى عالم يتسم بالتعددية أكثر عدالة وإنصافًا يعتبر هدفًا مشتركًا لبكين وموسكو منذ بدء تفاهماتهما الاستراتيجية منتصف التسعينات وعلى مدى ربع قرن.

إن كلاً من الصين وروسيا يعتبر ظهير وعمق استراتيجي للأخر، ففي الوقت الذي سعت واشنطن جاهدة لعزل روسيا دوليًا على خلفية الأزمة الأوكرانية، جاءت القمة الروسية ــ الصينية في شنغهاي في مايو 2014 م، لتؤكد أن روسيا لا يمكن عزلها، وأن لها عمقًا آسيويًا يمكنها الاحتماء فيه من هجمات الغرب، وفى مشهد مهيب وتحدٍ واضح ألقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كلمته أمام القمة الرابعة لمؤتمر التفاعل وإجراءات بناء الثقة في آسيا (سيكا) التي عُقدت بالتزامن مع القمة. كذلك فإن موسكو حليف أساسي لبكين إزاء الحرب التجارية والتصعيد الاستراتيجي الأمريكي.

فمن ناحية، تعتبر كل من موسكو وبكين السياسة الأمريكية "العدائية" والمتمثلة في حرب العقوبات التي تشنها واشنطن ضد روسيا وحربها التجارية تجاه الصين أبرز التهديدات والتحديات المشتركة التي تواجههما معًا، وتعملان على الانتقال لنظام دولي متعدد القوى تمثل أوراسيا مركز ثقل هام وقائد فيه على الصعيدين الاقتصادي والاستراتيجي. وتضمنت القمة الروسية ــ الصينية التي عقدت في 5 يونيو 2019م، تأكيد واضح على أن موسكو وبكين يد بيد في مواجهة السياسات الأمريكية. وأكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الصيني شى جى بينج أن التعاون بين البلدين وصل لمستويات غير مسبوقة في مختلف المجالات، وأنهما يعملان عن تعميق أكبر للشراكة الاقتصادية بينهما في إطار شراكة أوسع بين الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي تقوده روسيا ومشروع الحزام والطريق الذي تقوده الصين، وأن روسيا والاتحاد الاقتصادي الأوراسي تمثل فضاءً تجارىًا واستثماريًا داعمًا للصين في مواجهة العقوبات الأمريكية.

وتشهد الاستثمارات المشتركة بين البلدين نموًا ملحوظًا ويتم تنفيذ أكثر من 30 مشروعًا مشتركًا في المجالات المختلفة بعضها في الأقاليم الروسية ومنها الشرق الأقصى الروسي الذي يمثل فضاءً رحبًا للتعاون والاستثمار المشترك بينهما. أما على صعيد التبادل التجاري فقد بلغ 108 مليارات دولار عام 2019م، ويعمل البلدان على زيادته إلى200 مليار دولار، وهو رقم قياسي في تاريخ العلاقات بينهما وعالميًا، ويعزز من أهميته استخدام العملات الوطنية، الروبل واليوان، في التعاملات بينهما وعبر البنوك المشتركة.

كما تتيح الحرب التجارية بين بكين وواشنطن آفاقًا جديدة للاقتصاد الروسي حيث تفتح أسواقًا جديدة للصادرات الزراعية الروسية ومنها فول الصويا وغيرها للصين. وتم خلال القمة المشار إليها توقيع 21 اتفاقية تدعم التعاون الواسع القائم فعلا بين البلدين في مجال الطاقة والفضاء والمجال النووي وفى المجال الزراعي والصناعي ومجال النقل والاتصالات، من أبرزها إنشاء ممر للنقل يتضمن خطوط برية وبحرية لتسهيل التنقل بين البلدين، وتطوير البنى التحتية الحدودية بينهما. وكانت الصين هي الدولة الأبرز حضورًا في منتدى سان بطرسبورج الاقتصادي الدولي الذي أعقب القمة مباشرة حيث شارك في أعماله ألف من المسؤولين ورجال المال والأعمال الصينيين، وحضره الرئيسين بوتين وشى جي بينج ومثل الأخير ضيف شرف المنتدى. وفي مقابلة لتلفزيون "مير" الروسي، يوم 13 يونيو، وصف الرئيس فلاديمير بوتين العلاقة مع الصين بأنها "متينة وغير مسبوقة"، وأن روسيا والصين" شركاء استراتيجيون بكل معنى الكلمة"، في حين وصف العلاقات بين موسكو وواشنطن بأنها "تتدهور، وتسوء أكثر فأكثر".

وتتخذ روسيا والصين معًا خطوات جادة للتخلي التام عن الدولار في التعاملات التجارية، والتحول السريع نحو استخدام العملات الوطنية والعملات الأجنبية الأخرى غير الدولار. ومن المتوقع نمو التعاملات التجارية بالعملات الوطنية مع إطلاق سوق مالية مشتركة في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، ومع الخطوات الهامة التي اتخذتها مجموعة بريكس التي تضم كل من روسيا والبرازيل والصين والهند وجنوب إفريقيا، نحو زيادة التعاملات فيما بينها بعملات الدول الأعضاء. كما تعمل موسكو بالتعاون مع بكين على إنشاء أنظمة مصرفية ومالية مستقلة عن نظام "سويفت" الدولي، للخدمات المصرفية الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة. وأطلقت روسيا خلال عام 2018م، منظومتها المالية FFS التي تشبه نظام "سويفت. تزامن هذا مع إطلاق الصين بورصة عالمية في شنغهاي للطاقة، يتم تداول عقود النفط فيها بالعملة الصينية، في خطوة وصفت بضربة قوية للـ"بترودولار"، وأظهرت البيانات أن نسبة الصفقات المقومة باليوان ارتفعت إلى 10% خلال الستة أشهر الأخيرة من عام 2018م. ولا شك أن حلحلة وضع الدولار كعملة عالمية مهيمنة ستؤثر حتمًا على الاقتصاد الأمريكي، وتفقد واشنطن أداة هامة للتأثير الدولي، وتعد مؤشر قوى على التحول من نظام بريتون وودز الذي تهيمن عليه باتجاه نظام اقتصادي عالمي جديد.

على صعيد آخر، تدعم روسيا الصين استراتيجيًا في مواجهة واشنطن، وكانت الصين حتى منتصف العقد الماضي أكبر مستورد للسلاح الروسي، ورغم تراجع حجم صادرات السلاح الروسي لبكين إلا إنه أصبح يتضمن صفقات نوعية هامة، وكانت الصين أول دولة تحصل على منظومة "إس 400" الروسية، وهناك تعاون عسكري واسع النطاق بين البلدين. هذا في الوقت الذي تعمل فيه واشنطن على عرقلة نمو القدرات العسكرية الصينية. وكان انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى(INF) في إطار توجه أمريكي لنشر منظومة صواريخ متوسطة المدى في شرق آسيا، كان محظور عليها نشرها بمقتضى الاتفاقية، فيما يشبه درع صاروخي لتطويق الصين وعرقلة تمددها في مجالها الحيوي في منطقة شرق آسيا لاسيما بحر الصين الجنوبي، وجر الصين إلى الانضمام لمعاهدة جديدة، رغم إنها لم تكن طرفًا في الاتفاقية عند توقيعها في 8 ديسمبر 1987م، بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. ففي اليوم التالي مباشرة لبدء سريان الانسحاب الأمريكي من الاتفاقية، بدأ وزير الدفاع الأمريكي، مارك إسبر، يصاحبه وزير الخارجية، مايك بومبيو، يوم 3 أغسطس م، جولة آسيوية استمرت أسبوعًا وشملت خمس دول آسيوية هي أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية ومنغوليا ونيوزيلنده، مؤكدًا أن الولايات المتحدة تريد الإسراع في نشر صواريخ جديدة في آسيا في أقرب وقت، لاحتواء توسع النفوذ الصيني في المنطقة. ورغم أنه لم يحدد المكان الذي تعتزم فيه واشنطن نشر تلك الأسلحة، إلا إنه كان من الواضح أن ذلك هو هدف جولته وموضوع مباحثاته مع الدول التي شملتها الزيارة. واعتبر إسبر أن على الصين ألا تفاجأ بالخطط الأمريكية، والتي يتم الحديث عنها منذ وقت غير قصير، مؤكدًا أن 80% من ترسانة الصين مؤلف من أسلحة تشملها الاتفاقية، وأنه ليس مفاجئًا أن تبدي واشنطن رغبتها في قدرات مماثلة.

وتمتلك الصين ترسانة ضخمة من الصواريخ الباليستية التي تضم صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، إضافة إلى صواريخ عابرة للقارات، من أبرزها الصاروخ "إس واي — 400"، قصير المدى. كما تطور بكين نظام جديد لصواريخ باليستية لا يمكن رصدها بواسطة الرادارات، وأجرت في 1 و15 نوفمبر 2017م، تجربتين لصواريخ باليستية جديدة متوسط المدى يتراوح مداها بين 1800 إلى 2500 كم، يطلق عليها "دي إف — 17"، يمكنها حمل رؤوس نووية وتقليدية، مما أثار قلق واشنطن لا سيما في ضوء التنافس الشديد بينهما في منطقة بحر الصين الجنوبي.

وسيطلق خروج واشنطن من المعاهدة يدها في تطوير قدرات صاروخية، كانت محظورة، بمقتضى المعاهدة، وامتلاك قدرات عسكرية تمكنها من الوصول إلى قلب الأراضي الصينية وهو أمر بالغ الأهمية في أي مواجهة مستقبلية محتملة مع الجيش الصيني، أما إذا لم تمتلك واشنطن القدرة على ضرب قواعد الصواريخ المضادة للسفن الموجودة داخل الأراضي الصينية، فإن قدراتها العسكرية في المنطقة ستقتصر على قواعدها الموجودة في اليابان، وسيكون إرسال سفنها الحربية إلى المياه القريبة من سواحل الصين مخاطرة غير مقبولة بالنسبة للولايات المتحدة. ويفسر هذا الانتقادات التي وجهتها بكين للانسحاب الأمريكي من المعاهدة على لسان المتحدثة باسم الخارجية الصينية يوم 22 أكتوبر 2018م، هوا تشون ينج، التي أشارت إلى أنه من الخطأ انسحاب الولايات المتحدة من جانب واحد من المعاهدة التي تعود إلى حقبة الحرب الباردة والتي أزالت الصواريخ النووية من أوروبا، كما رفضت الصين فكرة الانضمام لمعاهدة جديدة في هذا الخصوص باعتبارها لم تكن طرفًا في المعاهدة الأصلية.

ينقل ذلك ساحة التنافس الاستراتيجي العالمي من أوروبا إلى آسيا، وخاصة منطقة شرق آسيا وبحر الصين الجنوبي، وسيفاقم من التوتر القائم بالفعل في تلك المناطق بين واشنطن وبكين. وحذرت الصين الولايات المتحدة من مغبة نشر صواريخ في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، داعيةً أيضًا دول المنطقة، خصوصًا اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، إلى أن تكون "حذرة"، وأكد المدير العام لمراقبة الأسلحة في الخارجية الصينية فو كونج أن الصين لن تبقى مكتوفة الأيدي، وستكون مضطرة إلى اتّخاذ تدابير في حال نشرت الولايات المتحدة صواريخ متوسطة المدى في المنطقة. ومن الواضح أن حلفاء واشنطن فضلوا النأي بأنفسهم عن المواجهة الأمريكية الصينية، وعقب ساعات من مغادرة وزير الدفاع الأمريكي سيدني استبعد رئيس وزراء استراليا، سكوت موريسون، نشر صواريخ أمريكية في بلاده حيث يضع ذلك استراليا في موقع صعب بين حليفتها الولايات المتحدة التي ترتبط معها بمعاهدة دفاع مشترك، وشريكها التجاري الكبير الصين الذي يقوم بشراء الفحم وخام الحديد الاسترالي ودعم اقتصاد استراليا.

وتدعم روسيا موقف بكين، وتبدي تخوفها من التصعيد الأمريكي في شرق آسيا وتعتبر أن نشر صواريخ أمريكية متوسطة المدى في المنطقة يستهدف روسيا وليس فقط الصين، وإنها محاولة لتطويق البلدين معًا. واعتبر سكرتير مجلس الأمن الروسي، نيقولاي باتروشيف، أن الدعوة لمعاهدة جديدة متعددة الأطراف للصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى تشمل الصين، دعوة بعيدة عن الواقع نظرًا لموقف الصين، التي ترفض الانضمام إلى هذه العملية، وتساءل باتروشيف: "لماذا الصين حصرًا ما دامت المعاهدة متعددة الأطراف؟ ولماذا لا يحسب حساب بريطانيا وفرنسا؟"، الأمر الذي عكس رؤية روسيا لمعاهدة دولية تشمل أيضًا بريطانيا وفرنسا وليس فقط الصين. ومن جانبها، أكدت بكين أنها لا ترى أي أسباب للمشاركة في بحث معاهدة ثلاثية محتملة مع الولايات المتحدة وروسيا، وأن هدف واشنطن من الانسحاب من الاتفاقية هو الدخول في حقبة جديدة من المنافسة الاستراتيجية مع الصين في مياه المحيط الهادئ جنوب شرق آسيا.

في هذا السياق، تضمنت المناورات الجوية المشتركة بعيدة المدى التي أُجريت للمرة الأولى بين القوات الجوية التابعة لجيش التحرير الشعبي الصيني والقوات الجوية الروسية في 23 يوليو من العام الماضي فوق بحر اليابان وبحر الصين الشرقي بالمحيط الهادي، رسائل ودلالات عدة منها ما يتعلق بمستوى العلاقات بين البلدين، ومنها رسائل لأطراف دولية وإقليمية عدة في مقدمتها واشنطن. فمن ناحية، ورغم عدم ضخامة القوات المشاركة بها ومحدودية الفترة الزمنية مقارنة بمناورات أخرى مشتركة للبلدين، إلا إنها تظل نوعية واستراتيجية وبالغة الدلالة فيما يتعلق بالمدى الذي وصل إليه التعاون الاستراتيجي بينهما. فقد شارك في المناورات أربعة من قاذفات القنابل الاستراتيجية المدعومة بالطائرات المقاتلة، اثنان من قاذفات القنابل الصينية من طراز"PLAAF Xian H-6K" وقاذفتين استراتيجيتين تابعتين للقوات الجوية الروسية "توبوليف Tu-95MS" طارت أحد عشر ساعة، قطعت خلالها مسافة تسعة آلاف كيلومتر. وقد أكد المتحدث باسم وزارة الدفاع الصينية في اليوم التالي للمناورات أن "القوات المسلحة لروسيا والصين ستواصل تطوير العلاقات العسكرية بين البلدين، وتعزيز دعم بعضهما البعض وتكثيف آليات التعاون الاستراتيجي، وتطوير المعدات العسكرية، ومكافحة الإرهاب"، و" إن الصين وروسيا دخلتا حقبة جديدة من العلاقات، كما أن تفاعل القوات المسلحة للبلدين دخل أيضًا حقبة جديدة تحت القيادة الاستراتيجية لقادة الدولتين"، وأضاف "سنعمق تعاوننا وبالتالي نسهم في الحفاظ على السلام العالمي والأمن والاستقرار الدوليين".

وقد جاءت المناورات في إطار خطة للتعاون العسكري بين البلدين لعام 2019م، وتعد واحدة في سلسلة تدريبات مشتركة تركزت في منطقة المحيط الهادي من أبرزها "التعاون البحري-2019"، التي أجريت للمرة الأولى أيضًا في مايو على الساحل الشرقي للصين في مياه المحيط الهادي، في ميناء تشينجداو الصيني على شاطئ البحر الأصفر، وتضمنت التدريب على عمليات مضادة للغواصات وإنقاذ السفن، ومن المعروف أن العمليات المضادة للغواصات تتسم بكونها سرية في القوات المسلحة لأى دولة، ومن ثم فإن قيام روسيا والصين بمثل هذه المناورات يؤشر للمستوى الاستراتيجي الذى وصلت إليه الشراكة بين البلدين. سبق ذلك في سبتمبر 2018م، مناورات "فوستوك-2018" أو "الشرق-2018"، قرب الحدود الروسية مع الصين، وكانت أكبر مناورات حربية تجريها روسيا منذ المناورات العسكرية السوفيتية "زاباد-81" أو "الغرب-81" عام 1981م، وتضمنت تدريبات مشتركة مع الجيش الصيني شارك فيها حوالي 3200 جندي صيني، مزودين بأكثر من 900 قطعة عتاد و30 طائرة هليكوبتر وعادية.

من ناحية أخرى، فإن لهذا التركيز الروسي ــ الصيني على منطقة شرق آسيا والمحيط الهادي دلالته فيما يتعلق بالتوازن الاستراتيجي في تلك المنطقة، والذي بدأ يميل تدريجيًا لصالح الصين وروسيا، وتعد المناورات مؤشرًا على ذلك ورسالة هامة للولايات المتحدة التي طالما كان لها النفوذ الأكثر تأثيرًا في المنطقة في ضوء الحضور العسكري الأمريكي الضخم في اليابان وكوريا الجنوبية والمحيط الهادي عامة، وكون طوكيو وسيول حليف استراتيجي لواشنطن. وهو مؤشر لتعزيز الشراكة الاستراتيجية بين الصين وروسيا لمواجهة "سياسة القطب الأوحد" والهيمنة الأمريكية على الشؤون الدولية والإقليمية، وتأكيد التحول لعالم متعدد القوى أكثر توازنًا. ولا يعني ذلك حرب باردة جديدة، فالصراع هو صراع مصالح وليس صراع أيديولوجيات يؤدي إلى انقسامات حدية جامدة كما كان عليه الحال زمن الحرب الباردة، والمصالح تتناقض في مراحل وملفات ولكنها قد تتصالح وتتلاقى في مواضع أخرى.

مقالات لنفس الكاتب