; logged out
الرئيسية / التوسع الصيني في أمريكا اللاتينية يؤكد عدم كفاءة واشنطن في احتواء بكين

العدد 159

التوسع الصيني في أمريكا اللاتينية يؤكد عدم كفاءة واشنطن في احتواء بكين

الأحد، 28 شباط/فبراير 2021

سيشهد العالم في العقد القادم تنافسًا على الهيمنة بين كل من الولايات المتحدة والصين، وسوف تصبح الأمريكتان أحد مناطق العالم التي ستحتدم فيها تلك المنافسة بشكل كبير. وبالرغم من أنه لا يبدو أن هناك مطالب للاصطفاف الصارم خلف إحدى هاتين الدولتين في المستقبل القريب، إلا أن المنطقة قد شهدت في الماضي نزاعات كأزمة الصواريخ الكوبية، والتي لم تتساهل خلالها الولايات المتحدة مع الإجراءات العسكرية والنووية من جانب القوى الأخرى في نصف الكرة الغربي. ويحمل هذا الموقف تاريخًا طويل الأمد على صعيد العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة وباقي دول نصف الكرة الغربي، ولقد نُظر إلى مبدأ مونرو، الذي تأسس عام 1823م، باعتباره استراتيجية ضد التدخلات الأوروبية في الأمريكتين، وعليه فإنه برر التدخل العسكري الأمريكي في حال اعتبر أن مصالحه كانت مهددة في أي مكان في نصف الكرة الغربي. وقد تم تبرير عدد كبير من التدخلات العسكرية باستخدام مبدأ مونرو؛ وقد يتنبأ هذا المثال التاريخي بالتوترات الكبيرة التي تنتظرنا الآن مع الصين بوصفها متحديًا للهيمنة الأمريكية في نصف الكرة الغربي.

 

ومن شأن الحقائق المحلية في كل من الولايات المتحدة والأمريكتين أن تبين كم الموارد السياسية والاقتصادية والدبلوماسية التي تكرسها الإدارة الجديدة للأمريكتين. ولقد شهد النظام السياسي في الولايات المتحدة قبل أسابيع فقط أكثر الهجمات خطورة من قبل مواطنيها على مؤسساتها الديمقراطية منذ أكثر من قرن، وستواصل البلد المستقطبة بشدة تشكيل إجراءات كلا الحزبين ومؤسساتها الحكومية. ولا عجب إذن أن الرئيس بايدن استعان بمصطلح الوحدة 8 مرات في خطاب تنصيبه، وهو أكثر بواقع 7 مرات من استخدام ترامب لها منذ أربعة أعوام. وخلال الخطاب الثاني في وزارة الخارجية، دعا الرئيس بايدن لوقف حالات التمييز بين السياسة الخارجية والمحلية، مطالبًا الدبلوماسيين الأمريكيين بأن يوجهوا جهودهم لزيادة رفاهية الأسر الأمريكية. ويؤكد هذا الاقتباس الأخير على البعد الثاني من السياسة الخارجية في عهد الإدارة الجديدة، فعلى الرغم من أن الرئيس الجديد قدم سلسلة من المبادرات الرامية إلى إعادة إحياء تعددية الأطراف والانخراط الأمريكي في النظام العالمي، إلا أنه لن يقوم بذلك على حساب رفاهية أسر (الطبقة الوسطى) الأمريكية.   

 

إن الهجرة في السياسة الأمريكية ليست مجرد موقف أخلاقي أو خطاب سياسي؛ إذ أن لها تأثير مباشر على مواطنيها من خلال إطالة أمد الميزة الديمقراطية التي تحظى بها الولايات المتحدة، وتقديم مصدر للقوى العاملة، وعلى مدى العقدين الأخيرين، بدأ أن يكون لها تأثير حاسم على السياسات الانتخابية. ولقد بات المهاجرون اللاتينيون من أمريكا اللاتينية وأحفادهم أول أقلية في البلاد يبلغ مجموعها 50 مليون؛ ولقد تنامى اللاتينيون ليس في العدد فحسب، بل أيضًا في التعليم وتعزيز الخريجين الجامعيين على مدى السنوات العشر الأخيرة. ونتيجة لذلك، بدأت الخريطة الانتخابية في الولايات المتحدة في التغير، فلا يعتبر اللاتينيون مجموعة محورية في فلوريدا وكاليفورنيا وأقلية لا يستهان بها في الولايات الشمالية الشرقية فحسب، بل امتد تأثيرهم بشكل متزايد إلى الولايات الجنوبية الغربية مثل: أريزونا ونيفادا ونيو مكسيكو وكولورادو. ولقد دعمت مجموعة كبيرة منهم بايدن، الأمر الذي يفسر التغيرات الأساسية في السياسات الانتخابية الأمريكية. وبناء عليه، فإن الهجرة من أمريكا اللاتينية هي في جوهرها قضية خلاف سياسي أكثر من كونها خلاف حول سياسات الهجرة أو الاقتصاد وحدهما، وتعطي هذه المسألة معنى استراتيجي لأمريكا اللاتينية بالنسبة للولايات المتحدة.

 

إن بايدن يعرف المنطقة أفضل من أي رئيس أمريكي؛ فلقد سافر 26 مرة إلى جنوب ريو برافو وكانت معظمها إلى أمريكا الوسطى وكولومبيا، كما أنه يخطط لمنح الجنسية الأمريكية إلى 11 مليون مهاجر على مدى الأعوام الثمانية المقبلة. 

 

وفي الطرف الآخر من علاقات نصف الكرة الغربي، تواجه أمريكا اللاتينية كمنطقة، مجموعة من التحديات: الانقسام السياسي والفقر المتنامي والديون الخارجية.

 

وعلى الصعيد السياسي وعلى عكس الفترات التاريخية الأخرى التي تميزت بوجود رؤى مشتركة وتوافقات فكرية بين معظم البلدان في المنطقة، تبدو المنطقة اليوم منقسمة انقسامًا عميقًا؛ إذ يسيطر زعماء الوسط اليساري الشعبوي على المكسيك والأرجنتين ممن يهدفون إلى تأسيس علاقات جيدة مع الإدارة الأمريكية القادمة، فيما ستواجه البرازيل، تحت قيادة الرئيس اليميني المتطرف بولسونارو، تحديات كبيرة في علاقتها مع إدارة بايدن. وفي حال بات تغير المناخ حجر الأساس لسياسة أمريكيا الخارجية والمحلية، فعندئذ ستصبح المبادرات المؤيدة لإزالة غابات منطقة الأمازون التي يدعمها بولسونارو، خاضعة للمراقبة الشديدة من قبل الولايات المتحدة، بما سيفضي في نهاية المطاف إلى نشوب خلافات بين البلدين. وقد تواصل كلا من كولومبيا وتشيلي علاقاتهما المتينة مع الولايات المتحدة بشأن مجموعة من المسائل التي تمتد من العلاقات الاقتصادية وصولًا إلى التعاون الدفاعي.

 

وعلى الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، فلقد تسببت الجائحة في زيادة حادة في الفقر الذي ارتفع إلى 163 مليون حالة عام 2020م، فيما بلغ عدد الفقراء 143,9 مليون عام 2018. فضلًا عن أن المنطقة أضحت كذلك أكثر هشاشة من الناحية المالية، حيث مُولت معظم الإجراءات لمكافحة الجائحة من خلال الديون الخارجية، كما ارتفع الدين الحكومي في متوسط اقتصاد أمريكا اللاتينية والكاريبي بشدة من 53 بالمائة من إجمالي الناتج المحلي عام 2019 م، إلى 69 بالمائة عام 2020 (البنك الدولي، 2021).

 

وكلما اهتزت المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية لدى أمريكا اللاتينية، كلما زادت الحوافز الصينية من أجل تعميق نفوذها في المنطقة، فمن خلال فرص الوصول القليلة إلى أسواق رأس المال في البلدان الغربية وتقليل الاستثمار الأجنبي المباشر في المنطقة بسبب الجائحة، واصلت الصين وتيرتها السريعة في التوسع في أمريكا اللاتينية.

 

ومنذ انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001م، بدأت الصين في توسعها في كل منطقة في العالم لترتقي إلى موقع القوة الصناعية الرائدة في العالم، ولا تعد أمريكا اللاتينية استثناءً من ذلك النمط. وعلاوة على ذلك، فلقد تمكنت الصين من اختراق أسواق أمريكا اللاتينية بصرف النظر عن تحولاتها الأيديولوجية الكلاسيكية والأزمات الاقتصادية المتكررة؛ ولقد قامت بذلك في البلدان المؤيدة للسوق والبلدان الشعبوية على حد سواء. إن الاستثمارات الصينية في أبرز القطاعات الاستراتيجية كالطاقة والبنية التحتية والتكنولوجيا على امتداد المنطقة تعززها الأوضاع المالية المرتبطة بكل مشروع؛ فلقد أثبتت القروض طويلة الأجل بأسعار فائدة منخفضة أنها أدوات فعالة في اختراق الأسواق. ولقد عملت سياسة الصين الخارجية على استكمال مشاريعها التجارية وأكدت على نفوذها السياسي في المنطقة.

 

وتكمن المعضلة التي تواجه الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية في أنه مع تنافس الصين على النفوذ والتوسع الاقتصادي في نصف الكرة الغربي، سوف تتقلص إمكانيات السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة. ومع مشاركتها الرخوة في سياستها الخارجية تجاه المنطقة ونقص الاستثمار الخارجي لشركاتها، قد تثبت الولايات المتحدة عدم كفايتها في احتواء التوسع الصيني في أمريكا اللاتينية.

مقالات لنفس الكاتب