; logged out
الرئيسية / عودة طالبان للحكم في أفغانستان: محاولة للتفسير ورؤية للتداعيات

العدد 166

عودة طالبان للحكم في أفغانستان: محاولة للتفسير ورؤية للتداعيات

الثلاثاء، 28 أيلول/سبتمبر 2021

   لا شك أن التطورات الأخيرة في أفغانستان قد طرحت عدداً من الأسئلة حول تفسير ما جرى فضلاً عن أنها محملة بدلالات تتجاوز بكثير أفغانستان وإقليمها، وتهتم هذه المقالة بتقديم محاولة لتفسير تلك التطورات وطرح رؤية لأهم تداعياتها سواء على المستوى الدولي عامة أو فيما يتعلق بمنطقتنا خاصة.

 

   أولاً- محاولة للتفسير

      عندما سقطت كابول في براثن "طالبان" تحدثت تصريحات أفغانية وأمريكية عن "سرعة" التطورات التي أفضت لسيطرة "طالبان" كما في تبرير الرئيس الأفغاني السابق لتقدمها السريع  بسرعة انسحاب القوات الأمريكية وحلفائها وتصريح المتحدث باسم البيت الأبيض بأن سيطرة طالبان على أفغانستان حدثت على نحو أسرع مما كانت واشنطن تتوقعه، والواقع أن كلا التصريحين يثيران الدهشة، فعن أي انسحاب سريع للقوات الأمريكية وحلفائها تحدث أشرف غني؟ لقد كان من المقرر أن يكتمل هذا الانسحاب في مايو الماضي بموجب الاتفاقية التي وقعتها إدارة ترامب مع "طالبان" في فبراير٢٠٢٠ م، ثم أجله بايدن ليتزامن مع الذكرى العشرين لأحداث سبتمبر٢٠٠١م، وبالتالي فإن أمر الانسحاب محسوم منذ سنة ونصف وما حدث هو تأجيله وليس الإسراع به فأين هي المفاجأة؟ أما الأكثر إثارة للدهشة فهو التصريح الأمريكي بأن واشنطن لم تكن تتوقع سيطرة طالبان على أفغانستان بهذه السرعة، والحقيقة أن المغزى الحقيقي لاتفاقية فبراير٢٠٢٠ م ، هو حسم الصراع لصالح "طالبان" ، وبداية ما الذي يعنيه أن تختار القوة العظمى في العالم عندما تقرر الانسحاب من أفغانستان أن تتفاوض مع طالبان وليس مع الحكومة الأفغانية؟ بل وأن تطلب من "طالبان" تحديداً ضمانات لأمنها؟ أليس معنى هذا أن طالبان وليست الحكومة الشرعية هي القوة الفاعلة في أفغانستان؟ وتتأكد الإجابة بالإيجاب على هذه الأسئلة من إلقاء نظرة فاحصة على مضمون الاتفاق بين إدارة ترامب وطالبان، وهو الاتفاق الذي التزمت به إدارة بايدن رغم اختلافها مع سياسة ترامب الخارجية في قضايا عديدة.

 

   تُظْهِر قراءة الاتفاق أنه قد حدد مصير أفغانستان منذ لحظة توقيعه، فقد وُقع بين الولايات المتحدة و"إمارة أفغانستان الإسلامية"! صحيح أن المفاوض الأمريكي كان حريصاً كلما جاء ذكر هذا المُسَمى على أن تتلوه عبارة "التي لا تعترف بها الولايات المتحدة كدولة"، ولكن "طالبان" من جهة أخرى نجحت في فرض اسمها كإمارة إسلامية وليس مجرد حركة معارضة في نص الاتفاق، بل إن الاتفاق طالبها بألا تعطي أولئك الذين يمثلون تهديداً لأمن الولايات المتحدة وحلفائها تأشيرات أو جوازات أو تصاريح سفر أو أي وثائق أخرى! فمن تراه يعطي هذه الوثائق سوى حكومات الدول؟ وأليس معنى هذا استشرافاً أمريكياً لمستقبل "طالباني" لأفغانستان؟ أما بالنسبة لجوهر التزامات الاتفاق فقد كان في الجانب الأمريكي هو الانسحاب الكامل والشامل من الأراضي الأفغانية، وهو مكسب كبير لطالبان بدليل ما نراه بأعيننا الآن، وبالمقابل لم تتجاوز التزاماتها منع استخدام أراضي أفغانستان بواسطة أي مجموعة أو أفراد ضد أمن أمريكا وحلفائها، بل إن "طالبان" لم تلتزم حتى بوقف إطلاق النار بعد توقيع الاتفاق، وكان كفيلاً بتجميد الموقف ولو مؤقتاً إلى حين اكتمال الحوار والمفاوضات بين الأطراف الأفغانية، وإنما جعل الاتفاق وقف إطلاق النار بنداً من بنود ذلك الحوار وتلك المفاوضات، أي أنه قد لا يُتفق عليه، ومع أن المفترض أن تكون نهاية الحوار والمفاوضات مفتوحة فإن الملاحظ أن طالبان حققت نصراً إضافياً في الاتفاق بالإشارة إلى حكومة ما بعد التسوية التي ستأتي نتيجة للحوار والمفاوضات باعتبارها "الحكومة الإسلامية الأفغانية". واقع الحال إذن أن طالبان لم تحقق انتصاراتها في الأسابيع القليلة الماضية ولكنها فعلت ذلك على مدار سنوات وحسمته في فبراير٢٠٢٠م.

 

ويعني ما سبق ببساطة شديدة أن تفسير ما جرى يرجع إلى أن المشروع الأمريكي قد تلقى هزيمة واضحة، ويبدو نموذج الخبرة التاريخية شديد الدلالة في الحالة الأفغانية، ففي ثلاثة قرون متعاقبة )١٩و٢٠و٢١(هُزمت ثلاثة مشروعات لقوى عظمى على الأرض الأفغانية أولها المشروع البريطاني في القرن١٩ حيث لقي الجيش البريطاني هزيمة مذلة في الحرب البريطانية-الأفغانية الأولى )١٨٣٩-١٨٤٢(، وثانيها المشروع السوڤيتي حيث بدأ التدخل العسكري المباشر في١٩٧٩م، وانتهى بالانسحاب في١٩٨٩م، وآخرها المشروع الأمريكي الذي بدأ بغزو أفغانستان في٢٠٠١م، ولفظ أنفاسه في٢٠٢١، واللافت في هذه النماذج الثلاثة التي تجمع الهزيمة بينها هو أولاً استطالة أمدها الزمني عبر القرون الثلاثة، فقد هُزِمَت بريطانيا في أربع سنوات والاتحاد السوڤيتي في عشر والولايات المتحدة في عشرين، وقد يُفَسر هذا بتعاظم القدرات العسكرية لتلك القوى العظمى بما أبطأ من هزيمتها وإن بقيت حتمية، واللافت ثانياً أن الهزيمة في المشروعات الثلاثة لم تكن عسكرية فحسب وإنما سياسية بامتياز، فقد تمت المشروعات الثلاثة لنصرة حاكم أو نظام حكم معين أو سعت لبناء نظام حكم جديد ييسر لها تحقيق أهدافها وانتهت بتلاشي التغييرات الداخلية التي أحدثتها القوى الخارجية، فعاد "دوست محمد" الذي خلعه الاحتلال البريطاني إلى الحكم بعد الهزيمة البريطانية، وانهارت الحكومة التي تدخل الاتحاد السوڤيتي لدعمها بعد انسحاب قواته، وعادت "طالبان" إلى السلطة حتى قبل أن يكتمل الانسحاب الأمريكي، وهو ما يشير إلى ما يكاد أن يرقى إلى مرتبة القانون العلمي، وهو أن التغييرات التي تُدْخَل على نظم الحكم بإرادة خارجية ينتهي بها المآل إلى الفشل، والأمثلة عديدة من خارج الحالة الأفغانية.

   

والواضح أن الخبرة التاريخية لعمليات التدخل الخارجي في أفغانستان لم يكن لها أي اعتبار في القرار الأمريكي بغزوها في٢٠٠١م، ويثير هذا تساؤلات عديدة حول مدى رشادة عملية صنع القرار في بلد يتمتع بحكم ديموقراطي وبنية مؤسسية معقدة، ولا يقتصر هذا بطبيعة الحال على القرار الأمريكي بغزو أفغانستان فحسب، وقد وقع صانع القرار في بريطانيا -صاحبة التجربة الحديثة الأولى الفاشلة في غزو أفغانستان- في الشَرَك نفسه، ويُقال أن هتلر لم يستمع لرأي أحد مستشاريه عندما هم بغزو الاتحاد السوڤيتي في١٩٤١م، إذ حذره من العواقب على ضوء خبرة نابليون الفاشلة في غزو روسيا، غير أنه يبدو أن صانعي القرار كثيراً ما يستهينون بالخبرة التاريخية، والغريب أن تقع الولايات المتحدة بالذات في هذا الشَرَك وهي صاحبة ثلاث خبرات فاشلة شهيرة في عمليات التدخل الخارجي أولها عملية "خليج الخنازير" لإسقاط النظام الكوبي في١٩٦١م، وإن لم تتورط فيها بقوات أمريكية، والثانية هي التورط الأمريكي في ڤيتنام الذي بدأ بشكل متواضع للغاية في أواخر خمسينات القرن الماضي وانتهى بسحب القوات الأمريكية ف١٩٧٣م، وسقوط "سايجون" في أيدي الڤيت كونج في١٩٧٥م، -أي بعد سنتين من الانسحاب وليس قبل اكتماله كما حدث في حالة "كابول"- وفقدت فيه الولايات المتحدة حوالي ٦٠ألف قتيل و٣٠٠ألف جريح، والثالثة هي غزو العراق في٢٠٠٣م، والذي فقدت فيه بأرقامها الرسمية التي يشكك الكثيرون في طريقة حسابها ما يزيد عن ٣آلاف قتيل و٣٠ألف جريح وسحبت معظم قواتها في٢٠١١م، تاركة العراق الذي قدمته على طبق من ذهب للنفوذ الإيراني يعاني من عدم استقرار سياسي مزمن، ومن المهم تذكر أن النجاح الوحيد لعمليات التدخل الخارجي الأمريكية كان في عملية تحرير الكويت لأنها كانت تتمتع بشرعية كويتية وعربية ودولية، فهل آن أوان إعادة الاعتبار للخبرة التاريخية في عمليات صنع القرار؟

 

ويبقى أن نناقش في تفسير ما جرى فكرة ترددت عقب السيطرة السريعة لطالبان مفادها أن ثمة مؤامرة وراء ما جرى، وجوهر هذه الفكرة هو نفي أن تكون "طالبان" قد انتصرت بقدراتها الذاتية وإنما ثمة تواطؤ أمريكي سواء كان من جانب واحد أو بالاتفاق مع "طالبان"، ومنطق أصحاب هذا الطرح أن الولايات المتحدة تريد أن تجعل من "طالبان" القوية شوكة موجعة في أجساد خصومها الدوليين كالصين وروسيا والإقليميين كإيران، والحقيقة أنني لم أتحمس أبداً للإفراط في توظيف "نظرية المؤامرة" في تحليل العلاقات الدولية لسبب منهجي وهو أن مفهوم "المصلحة الوطنية" جدير بأن يفسر كافة مظاهر السلوك الخارجي للدول، فدعم بريطانيا مثلاً لجماعة "الإخوان المسلمين" منذ نشأتها في مصر١٩٢٨م، يُفَسر بسهولة بمصلحتها في ضرب الحركة الوطنية المصرية التي كانت تركز على مطلب الاستقلال فيما ركزت الجماعة على ادعاء إحياء الدين، ومن الممكن طبعاً أن نعتبر هذا الدعم "مؤامرة" على الحركة الوطنية المصرية، فما هو الخيط الرفيع الذي يفصل بين ما يمكن تسميته بالمؤامرة والسلوك العادي للدول؟ أعتقد أن ثمة معايير ثلاثة يمكن أن تفيد في هذا التمييز وإن لم يكن ضرورياً أن تتوفر كلها، وأول هذه المعايير صفة السرية بمعنى أن المؤامرات لا تكون علنية وإنما تتم في الخفاء، والثاني أنها تنطوي على أكاذيب والثالث أنها تخالف السياسة المُعلنة للدولة، ولنأخذ للتوضيح العدوان الثلاثي على مصر في١٩٥٦م، فقد بُني على معاهدة "سيڤر" السرية بين بريطانيا وفرنسا وإسرائيل وإن افتضح أمرها بعد فشل العدوان، وتضمن أكذوبة أن التدخل البريطاني-الفرنسي كان يهدف لتأمين الملاحة في قناة السويس بينما كان الهدف الحقيقي هو تصفية تجربة السياسة المصرية المعادية للغرب آنذاك، وهو ما كان يعني ضمناً أن السياسة المعلنة ليست هي السياسة الفعلية، وشهدنا في السنوات الأخيرة كيف تُستخدم اتهامات انتهاكات حقوق الإنسان أو التورط في عمليات إرهابية لتبرير عمليات التدخل الخارجي، فأين السلوك الأمريكي في أفغانستان من هذا التحليل؟

   

بداية ليس وارداً أن تمرغ القوة العظمى في العالم سمعتها الدولية في الوحل لمجرد أن تغرس "شوكة موجعة" في أجساد خصومها، وإنما واقع الحال يشي بأن المشروع الأمريكي في أفغانستان قد فشل كما فشل سابقاه في ڤيتنام والعراق لأسباب لا يعنينا الآن شرحها، وبالتالي فإن قرار الانسحاب الذي مثل الالتزام الأمريكي الرئيسي في اتفاقية فبراير٢٠٢٠ م، كان بسبب هذا الفشل وليس نكاية في خصوم الولايات المتحدة، غير أن هذا التحليل لا يستبعد افتراض أن تكون دوائر صنع القرار الأمريكية قد رأت أن تستفيد من هذه الهزيمة بشكل أو بآخر، بمعنى أنه إذا كانت قد فشلت في تحقيق النصر فلماذا لا تجعل هزيمتها مصدر إزعاج لخصومها؟ وذلك بالسماح بطالبان قوية تقض مضاجعهم، ويحتاج هذا الافتراض إلى إثبات بطبيعة الحال، ومن القرائن التي تعززه سلوك القيادة الأمريكية تجاه العتاد العسكري الهائل في أفغانستان، فقد كانت تستطيع أن ترتب لسحبه أو تدميره إن لم تستطع كما تفعل كل الجيوش المنسحبة خاصة وأنها تعلم بقرار الانسحاب منذ توقيع الاتفاق في فبراير٢٠٢٠م، وكان المفروض للانسحاب أن يكتمل في مايو٢٠٢١م، وأُجل، وقد صرح مصدر مسؤول بالبنتاجون من أيام بعد سيطرة "طالبان" على أفغانستان بأنها باتت تسيطر على كميات هائلة من المعدات والأسلحة الأمريكية ضاعفت قدرتها عشرات المرات مقارنة بما قبل غزو٢٠٠١م، قدرها بأكثر من ألفي مدرعة وعشرات المدافع الثقيلة ونحو ٤٠هليكوبتر و٢٠طائرة استطلاع وعدد من الطائرات المسيرة، وأعتقد أن هذا هو ما يجب أن تُحاسب عليه إدارة بايدن وليس تنفيذها لاتفاق ورثته عن ترامب أو فوضى انسحاب قواتها من أفغانستان.

 

ثانياً- رؤية للتداعيات

      لم تكن التطورات الأخيرة في أفغانستان حدثاً عادياً بقدر ما ارتبطت بهزيمة للقوة الأعلى في العالم، ولذلك ليس من المبالغة القول بوجود تأثيرات مهمة لها بالضرورة على النظام الدولي، وينقسم هذا الجزء من المقالة إلى نقطتين، أولاهما دلالة التطورات الأفغانية بالنسبة للنظام الدولي من منظورين هما بنيته القيادية وجدل العلاقة بين المستويين العالمي والإقليمي في تفاعلاته، أما الثانية فتتناول مستقبل التأسلم السياسي.

 

   ١- البنية القيادية للنظام الدولي:  من المعلوم أن نماذج القيادة في النظام الدولي قد تطورت من النموذج التعددي قبل الحرب العالمية الثانية كما يتضح من أطراف المعسكرين المتناحرين فيها إلى نموذج القطبية الثنائية بعدها حيث اضطلع بالوظيفة القيادية فيه كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوڤيتي حتي تفككه في مطلع تسعينات القرن الماضي وبزوغ نموذج الأحادية القطبية بانفراد الولايات المتحدة بقيادة النظام إلى حين، فقد بدت حدود القوة الأمريكية واضحة من خلال ورطتيها بغزو أفغانستان أولاً والعراق ثانياً واشتعال المقاومة فيهما، وواصل قطار الصين السريع تقدمه بثبات وعادت روسيا إلى ساحة التأثير الدولي في ظل قيادة بوتين، بالإضافة إلى وجود قوى دولية أخرى ذات شأن كالاتحاد الأوربي واليابان، ثم أضاف ترامب لهذه التطورات بسياسة "أمريكا أولاً" التي كان من تداعياتها إفساد علاقة الولايات المتحدة بحلفائها ومعه بدت معزولة عن قضايا عالمية مهمة كتغير المناخ ومواجهة جائحة كورونا، ولذلك رفع بايدن بعد وصوله للرئاسة شعار "أمريكا عادت"، لكن المعنى الذي فهمه البعض والأرجح أن بايدن كان يقصده -أن أمريكا عادت لقيادة العالم منفردة- لم يكن صحيحاً، ليس فقط لوجود مراكز أخرى للقيادة في النظام العالمي ولكن لأن القيادة ليست مجرد مقومات مادية تمتلكها الولايات المتحدة وتتفوق فيها بالتأكيد، ولكنها أيضاً "مشروع مقبول" من المستهدفين بالقيادة، وهو الأمر الذي كان غيابه واضحاً منذ عقود، ولم تفعل الهزيمة الأمريكية الأخيرة في أفغانستان لحساب تنظيم لا يمكن أن يكون نموذجاً مثالياً سوى أنها أكدت هذا الغياب.

 

   فعبر العقود توالت هزائم المحاولات الأمريكية لفرض رؤيتها على هذا البلد أو ذاك، فلم تتمكن من حسم الحرب الكورية في مطلع خمسينات القرن الماضي، وفشلت في القضاء على الثورة الكوبية منذ أواخر الخمسينات وحتى الآن وفي حماية النظام الذي دافعت عنه في ڤيتنام بما وصل إلى ربع مليون جندي مدججين بأشد الأسلحة التقليدية فتكاً في منتصف السبعينات، وبعد هذا الفشل بسنتين اعترفت بهزيمتها في حصار الصين الشيوعية وسلمت بتمثيلها للصين في الأمم المتحدة، ومنذ الثورة الإيرانية في نهاية السبعينات فشلت كل محاولاتها في خنقها، بل إن مشروعها الفاشل لغزو العراق جعل منه ساحة مستباحة للنفوذ الإيراني الذي تحاول القوى العراقية الوطنية حتى الآن التخلص منه أو على الأقل تحييده، وهذا بالإضافة إلى إخفاقاتها المتكررة في أمريكا اللاتينية عامة وفنزويلا خاصة، والسجل حافل بالمزيد، وليس معنى هذا أن السياسة الأمريكية لم تحقق أي نجاحات، فقد خرجت منتصرة في الحرب الباردة بتفكك خصمها وانهيار النظم الحليفة له، وأسست نظماً ديموقراطية في اليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا، وحمت أمن إسرائيل في محيط عربي معادٍ، لكن إمعان النظر في هذه الإنجازات يظهر أنها جاءت أساساً بسبب الضعف الداخلي للخصوم كحالة الاتحاد السوڤيتي، أو الظروف الخاصة للحلفاء كما في حالة إسرائيل القوية واليابان وألمانيا الغربية اللتين بدأت عملية البناء الديموقراطي فيهما على أنقاض تجربتين شموليتين روعتا شعبيهما والعالم أجمع.

 

   ويعني ما سبق أن أحداً لا يتحدث عن انتهاء الدور القيادي الأمريكي دولياً فهذا ضد طبائع الأشياء، لكنه يعني أنه آن الأوان لكي تحسم النخبة الاستراتيجية والفكرية الأمريكية طبيعة هذا الدور وأدواته، ذلك أن محاولات فرض الرؤية الأمريكية على الآخرين باءت بفشل ذريع، وحتى أولئك الذين خضعوا لضعفهم وسوء تقديرهم لضغوط أمريكية فجة فإن هذا الخضوع لم يُفْض لثمار تُذكر لصالح المكانة الأمريكية بل لعله زاد من تآكلها، ولعل تصريح بايدن بخصوص توقف الولايات المتحدة عن أن تلعب دور شرطي العالم ذو صلة وثيقة بإعادة التفكير في طبيعة الدور الأمريكي وأدواته، فالولايات الأمريكية تملك من مقومات القوة الناعمة ما يكفيها للاضطلاع بدور بالغ التأثير في الشؤون الدولية، وليكن لها في الصين أسوة حسنة، فقد حققت ما حققته من نفوذ عالمي بأدوات اقتصادية أساساً تحقق مصالحها طبعاً ولكنها تحرص أيضاً على استفادة الآخرين وربما الأهم أنها لا تتدخل في شؤونهم الداخلية، ولا شك أن التحول الأمريكي المطلوب لن يكون سهلاً بسبب الانقسام الأمريكي الراهن الذي تفاقم في ولاية ترامب وكذلك بسبب مصالح "المجمع الصناعي العسكري" الذي حذر منه الرئيس الأمريكي أيزنهاور منذ خمسينات القرن الماضي، لكن الدور القيادي الأمريكي سوف يكون مهدداً تهديداً حقيقياً بدون هذا التحول، والحقيقة أن الصين لو تمكنت من الحفاظ على تماسكها واستقرارها الداخلي ووتيرة النمو الاقتصادي فيها سوف تقفز في أمد منظور إلى قمة النظام العالمي خاصة وأن التحالف الأمريكي-الأوربي الذي قوضه ترامب بسياساته وحاول بايدن إعادته بات مُهَدداً من جديد بفعل تكرار المشاريع الأمريكية الفاشلة وآخرها في أفغانستان، ومعلوم أن ثمة قوى أوربية رئيسية وبالذات فرنسا تكافح منذ الحقبة الديجولية من أجل دور أوروبي مستقل، بل إن انتقادات رئيس وزراء بريطانيا الحليف الأمين للولايات المتحدة لفشلها الأخير في أفغانستان ذات دلالة واضحة في هذا الصدد.

 

   أما المنظور الثاني لمناقشة تداعيات التطورات الأفغانية على النظام الدولي فيتعلق بالعلاقة بين قمة النظام الدولي وبين النظم الإقليمية والتطورات الإقليمية بصفة عامة، وهو منظور مهم بالنسبة لنا لأننا نتحرك في إطار نظام إقليمي يهمنا أن ندرك حدود قدرة القوى العالمية على التأثير فيه، وقد كانت وجهة النظر السائدة حتى ستينات القرن الماضي تُفيد بأن علاقة التطورات في الأقاليم محكومة بإرادات القوى العالمية، وبالتالي فإذا أردنا تفسير ما يجري في إقليمٍ ما فليس علينا سوى النظر لما تريده القوى العظمى والكبرى لهذا الإقليم، وعلى سبيل المثال تكون حرب أكتوبر١٩٧٣م، نتاجاً لمسرحية خططت لها الولايات المتحدة مع السادات وليست عملاً مصرياً وعربياً فريداً لاسترداد الأرض وصولاً إلى أن انتصار طالبان الأخير تم برضا الولايات المتحدة كي تكون طالبان" شوكة في خاصرة خصميها اللدودين الصين وروسيا، ومشكلة هذا النوع من التحليلات أنه فاقد للبرهنة العلمية، ثم بدأت وجهة نظر أخرى تتبلور مفادها أن للأقاليم إراداتها الذاتية، وأنها قادرة على التقليل من تأثير القوى العالمية عليها بل وتحييده وصولاً إلى إمكان أن تؤثر الأقاليم في القوى العالمية، وقد اكتسبت وجهة النظر هذه جدارة على ضوء الواقع الفعلي، فهي لم تدع غياب أثر القوى العالمية على الأقاليم فهو موجود وظاهر، ولكن كل ما ذهبت إليه أن الأقاليم قادرة على مقاومة تأثير القوى العالمية فتقلل منه أو تحيده أو حتى تصبح هي صاحبة التأثير على القوى العالمية، والأمثلة عديدة وقد سبقت الإشارة إلى هزيمة بريطانيا في أفغانستان في القرن١٩، ويمكن أن نضيف هزيمة فرنسا في الهند الصينية في خمسينات القرن الماضي، وحركات التحرر الوطني الظافرة في الوطن العربي وبالذات في الجزائر وجنوب اليمن، وحرب أكتوبر١٩٧٣م، التي جاءت تحدياً لإرادتي القوتين العظميين آنذاك، وما فعلته المقاومة العراقية ومن بعدها الأفغانية بالغزو الأمريكي٢٠٠٣م، وقد تعمدت عدم ذكر الأمثلة التي كان الدعم الدولي فيها جلياً كحرب فيتنام التي كان الدعم السوڤيتي والصيني فيها للڤيت كونج واضحاً،  وقد لعبت الأقاليم على النحو السابق دوراً في التأثير على بنية النظام الدولي، فأدت حركات التحرر في خمسينات القرن الماضي وستيناته إلى تراجع الدور العالمي لبريطانيا وفرنسا تماماً كما أسهمت المقاومة العراقية في تآكل نموذج الأحادية القطبية التي بلغت أوج جموحها بغزو العراق في٢٠٠٣م، وها هي التطورات الأفغانية تضيف مثالاً آخر، فليست الولايات المتحدة بعد هزيمتها في أفغانستان كما كانت قبلها، وأصبح شعار "أمريكا عادت" الذي رفعه بايدن في بداية ولايته لا يعني عودتها لقيادة العالم وإنما عودتها للتركيز على داخلها، والدروس واضحة لمن يستسهلون الخضوع لإرادات القوى العظمى والكبرى.

 

   ٢- مستقبل التأسلم السياسي: وهنا يجب أن يكون واضحاً أن انتصار "طالبان" لا يعني تفوق نموذجها وإنما فساد نموذج التدخل الخارجي لتقويض نظام حكم وإحلال آخر محله، وقد راجت أفكار بعد انتصارها مفادها شروق الشمس على الحركات المتشددة وأن "طالبان" قد استفادت من أخطائها ومن ثم فسوف تقدم نموذجاً جديداً يتفادى هذه الأخطاء، وصحيح أن انتصارها قد يضخ دماءً جديدة في عروق مثيلاتها من الحركات المفارقة للتاريخ، لكن مقولة تطويرها لنموذجها فاقدة لأي أساس، فما الذي يدعو حركة انتصرت على القوة الأولى في العالم لأن تغير نموذجها؟ خاصة وقد أصبحت القوى المعنية إما خاطبة لودها أو داعية إلى التعامل معها لاعتبارات عملية، وحتى لو حدث تطوير ما فلن يكون سوى تطويرٍ شكلي وفي الأغلب وقتي، ويبقى السؤال المهم: هل يمثل انتصار "طالبان" دفعة لحركات التأسلم السياسي" في منطقتنا؟ الإجابة عندي بلا قاطعة لسبب بديهي وهو أن المنطقة باتت تملك مناعة قوية مضادة لهذه الحركات التي نالت فرصة غير مستحقة لولا تشرذم القوى السياسية عقب الانتفاضات الشعبية في مطلع العقد الماضي وغياب الوعي و/أو غلبة الانتهازية لدى البعض، وقد مثلت هذه الفرصة نقطة الذروة في منحنى صعودها، إذ انكشفت طبيعتها الشمولية العنيفة وعجزها الفاضح عن إدارة الدولة، وكانت البداية بمصر التي انتفض شعبها بحماية قواته المسلحة وأطاح بالحكم الشمولي، ثم امتدت الظاهرة إلى تونس التي تراجع فيها نفوذ "النهضة" بالتدريج عبر صناديق الانتخاب إلى أن اتخذ الرئيس التونسي قراراته الأخيرة بدعم شعبي واضح،، وإذا كان البعض قد اتهم الخطوات الحاسمة في التجربتين المصرية والتونسية بأنها غير دستورية فقد جاءت الانتخابات المغربية لتثبت بما لا يدع مجالاً لأي شك حصانة شعوب المنطقة ضد حركات التأسلم السياسي فقد سقط حزبها في المغرب من الحزب الأول إلى الثامن بآليات انتخابية صرفة، ناهيك بأن هذه الحركات لم تنجز سوى قدر هائل من التخريب في ليبيا وسوريا بدعم خارجي دون أن تحصل يوماً على أغلبية، ولا يجب أن يحرفنا هذا التحليل عن احتمال أن تضخ التطورات الأفغانية الدماء في عروق الحركات الإرهابية التي هللت لهذا الانتصار، وسيبقى خطرها قائماً ما بقيت مواجهتها مقتصرة على الحلول الأمنية.

مقالات لنفس الكاتب