; logged out
الرئيسية / انتقل الصراع من أوروبا إلى الشرق ومن اليابسة إلى المحيطات و الباسفيك

العدد 167

انتقل الصراع من أوروبا إلى الشرق ومن اليابسة إلى المحيطات و الباسفيك

الخميس، 28 تشرين1/أكتوير 2021

تاريخياً الصراع على الهيمنة الكونية، منذ عصر الامبراطوريات القديم، يبدأ ويدور وينطلق من منطقة الشرق الأدنى، التي يطلق عليها الآن في معظمها الشرق الأوسط. هذه المنطقة الممتدة من إيران مروراً بهضبة الأناضول إلى شرق المتوسط وجزء من الشمال الإفريقي، بالذات بؤرة جائزته الكبرى (مصر)، كان المسرح الرئيس للصراع على الهيمنة الكونية، بما في ذلك الحربين العظميين، اللتين سيطرت أحداثهما على مسرح الصراع في العالم القديم، انطلاقاً من أوروبا، إلى أطراف العالم.

 

من الصراع على اليابسة إلى الصراع في المحيطات

 

اليوم تنتقل حركة الصراع من مسرح عمليات الحروب الكونية في أوروبا والشرق الأدنى، إلى الشرق الأقصى، ومن خوض معاركه على اليابسة، لنشوب بؤرة اشتعال الصراع الكوني بين الدول العظمى ناره وانتشار سعيرها، إلى المحيطات الواسعة في الباسفيك والمحيط الهندي. كان قديماً الصراع يجري للسيطرة على اليابسة، أما اليوم فالصراع ينشب وينطلق وتمتد مسرح عملياته على المحيطات الشاسعة، بقوىً في الأساس غير تقليدية وجديدة على مسرح السياسة الدولية، وربما بإمكانات واستراتيجيات وأسلحة غير تقليدية.

 

اليوم من يسيطر على المحيطات الشاسعة العميقة، وليس فقط على مضائقها الضيقة، كما كان الأمر من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين عندما ساد العهد البريطاني (Pax Britannica 1815 – 1914 ) حيث كانت بريطانيا تسيطر على العالم، بالتحكم على أطراف ومضايق بحار العالم ومحيطاته الطبيعية والصناعية، مثل: قناة السويس ومضيق جبل طارق ومضيق ملقا ورأس الرجاء الصالح وهونغ كونغ وجزر الفوكلاند. صحيح أن بعض المعارك الفاصلة، التي تتسبب في استبدال قوة كونية بأخرى جرت في أعالي البحار، إلا أن الهدف الاستراتيجي كان السيطرة على العالم عن طريق السيطرة والتواجد في أطرافه بالسيطرة على الممرات والموانئ الدولية الكبرى.  

 

من أوروبا إلى الباسفيك

 

المعارك الفاصلة في التاريخ الحديث جرت على اليابسة، بالذات على المسرح الأوروبي، من حرب الثلاثين عامًا (١٦١٨ – ١٦٤٨م)، التي انتهت بصلح ويستفاليا، مروراً بحرب نابليون التوسعية في أوروبا (١٨١٣ – ١٨١٥م)، التي أنهت أحلام فرنسا الكونية، وظهور الإمبراطورية البريطانية، كقوة مهيمنة كونية جديدة استمرت مئة عام. وانتهاء بالحربين العالميتين الأولى (١٩١٤ – ١٩١٩م) والثانية (١٩٣٩ – ١٩٤٥م)، التي قضت، الأخيرة منها بالذات وللأبد على تطلعات ألمانيا الكونية، والمحور بشكلٍ عام (ألمانيا وإيطاليا واليابان).  ليس ببعيد: من يسيطر على اليابسة وبؤرة العالم الحيوية (أوروبا)، يسيطر على العالم ويمتلك ناصية الهيمنة القومية، أو على الأقل يتقاسمها مع قوى عظمى جديدة، وهذا ما حصل بعد الحرب الكونية الثانية، بظهور كلٍ من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي كقوتين عظيمتين، تقاسمتا العالم، وخاضتا بين معسكريهما حربًا باردة استمرت ثلاثة عقود ونصف، انتهت بانهيار أحدهما من الداخل (الاتحاد السوڤيتي ١٩٩١م).

 

بعد انهيار الاتحاد السوڤيتي، انهار نظام القطبية الثنائية ووجدت الولايات المتحدة نفسها قوة مهيمنة وحيدة على العالم، إلا أنه لم تتوفر لديها الإرادة السياسية اللازمة لتبوء مكانة الهيمنة الكونية، ربما لأنها لم تخض في سبيلها حرباً فاصلة، مع خصمها وعدوها ومنافسها الأول في نظام الحرب الباردة، فآثرت أن تتمتع بامتيازات مكانة الهيمنة دون أن تكون مستعدة لدفع تكلفتها، حتى أنها آثرت مؤخراً على الانسحاب الصلب لقواتها وتجاوزها، في كثيرٍ من بقع العالم الساخنة، عودةً لعزلتها الثقافية والتاريخية التقليدية. أمًا اليوم، فالمحيطات الواسعة، تبدو أنها مسرح الحروب القادمة بين القوى العظمى، خصوصاً بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية.

 

واشنطن: عودة هاجس الأمن مجددًا

 

قمة التوجه الانعزالي للولايات المتحدة حدث في عهد إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب (٢٠ يناير ٢٠١٧ – ٢٠ يناير ٢٠٢١)، عندما عمل على تطبيق شعاره الانتخابي أمريكا أولاً، مبدياً استعداده التخلي عن التزامات الولايات المتحدة تجاه أمن حلفائها التقليديين في أوروبا والشرق الأوسط واليابان، بل وحتى مطالبتهم بدفع تكلفة الحماية لهم، طوال فترة ما بعد الحرب الكونية الثانية. وكان ذلك آخر مسمار دُق في نعش مكانة الولايات المتحدة كدولة عظمى تكاد تكون متفردة بزعامة العالم بعد انهيار المعسكر الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفياتي عام ١٩٩١م، بفقدان إرادتها السياسية في تبوء مكانة الهيمنة الكونية، عندما أعلنت عن انسحابها من بؤر التوتر العالمية الساخنة في الشرق الأوسط في العراق وسوريا، وانسحابها النهائي، نهاية أغسطس الماضي من أفغانستان، إلا أنه في مواجهة ضغوط العودة لحالة العزلة، يعود هاجس الأمن مجدداً للولايات المتحدة. هذه المرة يأتي الخطر الاستراتيجي الناجز على أمن الولايات المتحدة القومي، من الغرب (جبهة المحيط الهادي)، وليس من الشرق جبهة (المحيط الأطلسي والعالم القديم)، حيث مصدر توتر وعدم استقرار العالم في أوروبا والشرق الأوسط.

 

الصين وأحلام الهيمنة الكونية

 

في ٢٨ يوليو ١٩٧٦م، توفي الزعيم الصيني مارتسي تونغ، الذي حكم الصين متزعماً الحزب الشيوعي، منذ إعلان قيام جمهورية الصين الشعبية ( ١ أكتوبر ١٩٤٩م)، بعد نجاح الثورة الشيوعية التي قادها بإعلان السيطرة الكاملة على البر القاري الصيني، وطرد الحكومة الوطنية بقيادة الجنرال تشاي كاي شيك ( ١٨٨٧ – ١٩٧٥م)، إلى جزيرة فورموزا ( تايوان ).

 

لكن الزعيم الحقيقي للصين الحديثة هو دنغ تشاو بنغ، الذي حكم الصين في الفترة ما بين ١٩٧٨ – ١٩٩٢م، وكانت له رؤيتين لنهضة الصين الجديدة، وصولاً إلى مكانة الهيمنة الكونية. كان يقول: لا يهم أن يكون القط أبيضاً أم أسوداً، لكن المهم: قدرته على اصطياد الفئران. بهذه النظرية رسم خطة نهضة الصين عن طريق التمسك بقيادة الحزب الشيوعي السياسية، والتخلي عن النظرية الماركسية في الاقتصاد، بالأخذ من النظرية الليبرالية الغربية شقها الاقتصادي (الرأسمالي)، وليس شقها السياسي (الديمقراطي). نجح دنغ هيستو بينغ بهاذ الخليط بين الفكرتين والتجربتين الشيوعية والرأسمالية، في بناء نهضة الصين الحديثة، حتى أصبحت ثاني اقتصاد في العالم، بعد الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن كانت عند وفاة ماو تسي تونغ، من أفقر بلاد العالم، وأكثرها تخلفاً.

 

النظرية الثانية، تتمثل في قوله: أن الصين تحتاج إلى خمسين عاماً لتكمل نهضتها الاقتصادية والاجتماعية في الداخل، وتصبح قوة دولية مؤهلة للمنافسة على مكانة الهيمنة الكونية، على مسرح السياسة الدولية. يبدو أن في فترة أقل من خمسة عقود، منذ تولي دينغ تشاو بينغ زعامة الحزب الشيوعي ورئاسة الصين، شارفت الصين على تحقيق الهدفين الاستراتيجيين، الداخلي: بناء دولة عصرية غنية ومتقدمة، على أسس رأسمالية، دون التخلي عن الزعامة والقبضة الحديدية للحزب الشيوعي.. وخارجياً: حتى أصبحت الصين قوة كونية عالمية، لها نفوذ سياسي واقتصادي عالمي، مع تنامي ملحوظ في قوتها العسكرية الضاربة، على المستويين التقليدي وغير التقليدي، مع توفر الإرادة السياسية لدخول حلبة المنافسة على مكانة الهيمنة الكونية، لاستعادة أمجاد الصين التاريخية، لتصبح الصين أكبر خطر ماثل وناجز على أمن أقوى وأغنى وأكثر دول العالم تقدماً (الولايات المتحدة الأمريكية)، التي. لتوها عائدة لعزلتها الثقافية والتاريخية التقليدية!

 

جبهة الباسفيك الخطرة استراتيجياً

 

تدخل الولايات في قضايا العالم القديم، في فترة ما بعد الحربين العظميين، كان ترفاً امبراطورياً، مقابل ما تواجهه من تحدٍ حقيقيٍ من جبهة الباسفيك الواسعة والعميقة المتلاطمة الأمواج التي تجتاحها موجات التسونامي، نتيجة ما يعتمل تحت قاع المحيط الهادي من تقلبات جيولوجية عنيفة ومتتابعة للقشرة الأرضية.

 

الصين، بوقوعها على سواحل المحيط الهادي الغربية، تمثل خطراً ناجزاً على أمن الولايات المتحدة القومي، وليس فقط على أمن حلفائها في غرب الباسفيك (اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين وأستراليا). لم تعد مشكلة الولايات مع العالم القديم شرقه وغربه، مشكلة توفير الاستقرار، لكسب مكانة كونية، قد تأتيها فجأة بسقوط منافسيها من داخلهم، كما حدث في حالة انهيار الاتحاد السوڤيتي، وسقوط الإمبراطورية البريطانية، بعد الحرب العالمية الثانية، نتيجةً لعدم القدرة، وليس بالضرورة فقدان الإرادة، لتبوء مكانة الهيمنة الكونية.

 

الولايات المتحدة، لأول مرة في تاريخها تواجه خطراً استراتيجياً حقيقياً وناجزاً من ثلاثة أعداء تقليديين، يصطفون في مواجهتها على طول جبهةً واحدة، تتوفر لديهم الإمكانات الاستراتيجية (التقليدية وغير التقليدية)، مستعدين لمواجهة، ليس فقط قوتها الكونية الحقيقية والمحتملة، بل تهديد أمنها القومي مباشرةً. هذه القوى هي الصين، كوريا الشمالية، وروسيا. من بين هذه القوى، تبرز الصين كقوة كونية محتملة بإمكانات حقيقية استراتيجية (تقليدية وغير تقليدية) واقتصادية وعلمية تدفعها أحلام تاريخية إمبراطورية توسعية، ليس على المستوى الإقليمي، فحسب…. بل على المستوى (الكوني).

 

صحيح أن الولايات المتحدة واجهت أول تحدٍ لبزوغ قوتها الكونية الضاربة، بداية الحرب الكونية الثانية، جاء من جبهة الباسفيك، عندما أغار الأسطول الإمبراطوري الياباني في السابع من ديسمبر ١٩٤١م، على ميناء بيرل هاربر في جزر هاواي، وجرى تدمير معظم الأسطول الأمريكي، في ذلك الوقت. إلا أن هجوم بيرل هاربر، كان نتيجة لتوجه لدى النخبة الحاكمة في واشنطن، لدخول الحرب من أجل مساعدة حلفائها في أوروبا، خاصةً بريطانيا، وليس استشعاراً غريزياً لخطرٍ مباشرٍ وماثلٍ وناجزٍ، لأمنها القومي، كما هو حال ما يمثله تنامي النفوذ الصيني في منطقة المحيط الهادي، وتظهره تطلعات الصين لبسط نفوذها في مناطق العالم المختلفة، وخاصةً في قلب أوروبا نفسها.

 

بداية الشرارة

 

من تايوان يطل فتيل البارود انتظاراً للهب عود الكبريت. من تايوان تبدأ الحرب العالمية الثالثة، التي تحسم زعامة العالم لقوة معينة، ربما لقرن من الزمان. إذا جازفت تايبيه بإعلان استقلالها عن الصين، فإن معنى ذلك، بالنسبة لبكين الحرب، وليس غير الحرب. وإذا ما تمادت الصين في تحرشها بتايوان، اعتماداً على تقديرها في استغراق الولايات المتحدة في عزلتها.. وعدم توفر ضمانة حقيقية لتايوان من قبل الولايات المتحدة، عدا توفير إمكانات الدعم اللازم لتايوان في الدفاع عن نفسها، بنفسها، حيث لا يمكنها مجاراة الصين في قوتها العسكرية ومواردها البشرية والاقتصادية الضخمة، فإن احتمال غزو الصين للجزيرة، إنما هو مسألة الوقت.

 

ثم على جبهة واشنطن في عمق الساحل الغربي للمحيط الهادي هناك حلفاء تقليديون للولايات المتحدة، وللغرب بصورة عامة، يمثلون أيدلوجياً جناحي النظرية الرأسمالية (السياسي والاقتصادي) لا تستطيع الولايات المتحدة التنصل من التزامها المباشر للدفاع عنها، وتبقي على وضعها المتميز في المنطقة، الذي استثمرت فيه منذ الحرب الكونية الثانية. على امتداد هذه الجبهة الأمريكية في عمق غرب الباسفيك تقع، نقاطٌ سياسية واقتصادية وعسكرية لواشنطن تشمل كلاً من اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا. إذًا ما سقطت هذه القلاع الأمريكية القوية في غرب الباسفيك، فإن الشواطئ الأمريكية على الساحل الشرقي للباسفيك، غرب الولايات المتحدة، من كاليفورنيا إلى ألاسكا ستكون مفتوحة أمام الزحف الصيني القادم عبر الباسفيك من الغرب.

 

هامشية الرادع النووي

 

الولايات المتحدة الأمريكية تتمتع بإمكانات غير تقليدية محملة برؤوس نووية في غواصات تجوب بحار العالم وصوامع للصواريخ النووية تغطي الولايات المتحدة وقواعد مزودة بترسانة نووية في جميع أنحاء العالم. الولايات المتحدة الأمريكية، على جبهة الباسفيك تتمتع بغلبة نووية نوعية كاسحة تتكون من آلاف الرؤوس النووية، بينما الصين بالكاد تمتلك عشرات الرؤوس النووية، التي لا تصل المئة. وإذا ما حصرنا الصراع على جبهة الباسفيك بين واشنطن وبكين، فإن الرادع النووي هنا يكون ثنائي القطبية، ويستبعد كثيراً في حسابات الصدام العسكري، الذي سيعتمد أساساً على الأسلحة التقليدية المتقدمة وقوة الحشد البشري المتباين وضيق مسرح العمليات، رغم وسع مساحة نيرانها، بالإضافة إلى تباين إمكانات إرادة القتال بين الطرفين الرئيسيين.

 

الولايات المتحدة، يمكن في بداية أي أزمة محتملة على جبهة الباسفيك، يمكن لها أن تتبع سياسة الاسترضاء التي اتبعها الحلفاء في أوروبا عندما ظهرت تطلعات هتلر التوسعية في القارة. الولايات المتحدة، في هذا الاحتمال لصراع قادم مع الصين، وتفادياً لتوسع الصراع ليكون صراعاً مباشراً مع الصين، فإنها قد تتجاوب مع أطماع الصين تجاه تايوان وبحر الصين الجنوبي وربما قد تضحي بالفلبين، في سبيل عدم التفكير في الخيار النووي، وحتى ضرورة اللجوء إليه.

 

لكن في النهاية، على الولايات المتحدة أن ترسم خطأً على الرمال، إذا ما تجاوزته الصين، فإنها الحرب، بكل ما تعنيه من معانٍ تقليدية وغير تقليدية. تماماً كما رسم الحلفاء مثل هذا الخط على الرمال عندما تمادى هتلر المضي في استراتيجيته التوسعية وسط أوروبا، وجعلوا من احتمال غزو بولندا خطأً أحمرَ يعني تجاوزه الحرب. وكان دخول الجيش النازي بولندا في الأول من سبتمبر ١٩٣٩م، بداية الحرب العالمية الثانية، ونهاية سياسة الاسترضاء التي اتبعها الحلفاء بزعامة بريطانيا تجاه طموحات هتلر التوسعية.

 

الحشد على طول جبهة الباسفيك

 

بدأت الولايات المتحدة، مؤخراً تكثف من وجودها في جبهة عمقها الاستراتيجي في غرب الباسفيك، أملا في ردع الصين من التقدم في خططها التوسعية على حساب مصالح الولايات في تلك المنطقة. وكانت مؤشرات ذلك انسحابها من مناطق توتر تقليدية كان توازنها واستقرارها يخدم مصالح الولايات المتحدة الخارجية. لقد انسحبت نهاية شهر أغسطس الماضي من أفغانستان وتزمع أن تنهي انسحابها من العراق نهاية العام وكانت قد سحبت معظم قواتها الضاربة المتمركزة في شمال سوريا منذ عهد إدارة الرئيس ترامب.

 

ثم أن واشنطن، قللت من تركيزها على الجبهة الأوروبية، واختارت أن تترك قضايا أمنها لدولها، وفي "رقبة" حليفتها الاستراتيجية الأولى هناك (بريطانيا). وكانت الضحية الأولى التي ضحت بها واشنطن، على الجبهة الأوربية فرنسا، عندما طلبت من أستراليا إلغاء صفقة الغواصات النووية الفرنسية، واستبدالها بصفقة غواصات أمريكية، استكمالاً لتطوير جبهة متكاملة في منطقة غرب الباسفيك، بعيداً عن بؤر الصراع ومسرح العمليات الرئيس الذي فقد أهميته الاستراتيجية لدى الولايات المتحدة في أوروبا والشرق الأوسط.

 

حرب عالمية ثالثة تقليدية

 

لن يقف أطراف الصراع القادم على جبهة الباسفيك عاجزين لإدارة جولة صراعهم القادم، على مكانة الهيمنة الكونية، أمام احتمال تطوره إلى مواجهة نووية شاملة. ما لم يتطور هذا الصراع العنيف المحتمل بين الولايات المتحدة والصين على جبهة الباسفيك، إلى خطر مباشر وناجز على أمن الولايات المتحدة، فإنه يمكن أن ينتهي بمعادلة تخدم مصالح الطرفين من حركة الصراع، دون التفكير في استخدام الرادع النووي، حتى لو اقتضى الأمر تحييد طرف ثالث يمتلك الرادع النووي، ويجد نفسه في منطقة لتبادل إطلاق النيران، ليست ببعيدة عنه، مثل كوريا الشمالية.

 

لكن الخط الأحمر، بالنسبة للولايات المتحدة، لا يعني احتمال الصين عبور المحيط، لتهديد أمنها القومي، بصورة مباشرة، كما في حالة هجوم اليابان على بيرل هاربر بداية الحرب العالمية الثانية. خط الولايات المتحدة على الرمال يمتد بطول الجبهة من أستراليا جنوباً إلى اليابان شمالاً، مروراً بكوريا الجنوبية. ويكون مجال توسع الصين، في هذه المنطقة، إن استطاعت، باحتلال تايوان وفرض السيطرة على بحر الصين الجنوبي، بما فيه احتلال الفلبين، وربما النزول جنوباً إلى ماليزيا.

 

الولايات المتحدة لن تساوم على أمن اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية، والصين تعي هذا الأمر جيداً، ولن تقع فيما وقع فيه هتلر في الحرب العالمية الثانية، ظاناً أن سياسة استرضاء الحلفاء له، سوف تعني عدم تنفيذ تهديدهم بالحرب لو دخلت قواته بولندا. وكانت تلك أول أخطاء هتلر، التي يعيها الصينيون تماماً.

 

الخاتمة:

 

المواجهة القادمة على جبهة الباسفيك، ستقدم اختباراً حقيقياً لإرادة الطرفين الرئيسين فيها لحسم قضية الهيمنة الكونية، لو مرحلياً. الصين تريد تعزيز مكانتها الدولية المتزايدة، تنفيذاً لرؤية زعيمها الكبير دنغ تشاو بنغ، الذي أرتأى دوراً عالمياً للصين، خلال خمسين سنة، يتواكب مع نهضة اقتصادية واجتماعية وتكنولوجية للصين خلال خمسين سنة.

 

بالنسبة للولايات المتحدة تمثل المواجهة المحتملة مع الصين، اختباراً على قدراتها الاستراتيجية لحماية مصالحها وأمنها القومي الحيوي، من منافس خطير ومتمكن غير تقليدي لا يخفي طموحاته التوسعية للمنافسة على مكانة الهيمنة الكونية.

 

لكن هذه المواجهة المحتملة، وإن انتهت باقتسام موارد المنطقة والعالم بين واشنطن وبكين، دون الحاجة للجوء لخيار الرادع النووي، إلا أنه يترك مناطق العالم التقليدية في أوروبا والشرق الأوسط ومسرح صراع القوى الكبرى تاريخياً في أوروبا والشرق الأوسط، في فراغ أمني يخل بتوازن المنطقة، وربما يعرض سلام العالم بأسره لخطر ماثلٍ وناجز. ليس هناك من ضمانة أن اشتعال جبهة الباسفيك، لا تجر معها اشتعال جبهة الشرق الأوسط وأوروبا، من جديد. فيشتعل العالم، بأسره، على جبهتين، بعيداً عن إرادة وربما رغبة القوى الرئيسية المتصارعة على جبهة الصراع الرئيسية المحتملة الجديدة، غرب الباسفيك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أستاذ العلوم السياسية ـ جامعة الملك عبد العزيز ـ المملكة العربية السعودية

مقالات لنفس الكاتب