; logged out
الرئيسية / تعاني الترجمة إلى العربية من فجوة غياب التنسيق ونقص الاستثمارات

العدد 168

تعاني الترجمة إلى العربية من فجوة غياب التنسيق ونقص الاستثمارات

الأحد، 28 تشرين2/نوفمبر 2021

الترجمة هي نقل الكلام من لغة إلى لغة أخرى. وجاء في المُنجد: ترجم الكلام؛ أي: فسره بلسان آخر، وترجم عنه أي أوضح أمره، والترجمة هي: التفسير. ومعنى التفسير مهم للغاية لأنه أساس الترجمة، فمن لم يفهم، لا يستطيع أن يُفهم. وبناء عليه، إذا لم يفهم المترجم الكلام المكتوب بلغة ما، فلن يستطيع نقله إلى لغة أخرى. وإذا نقله بدون فهم كاف، فسوف يكتب ألغازًا وأحاجى يُحار فيها قارئها.

تُعد الترجمة وسيلة تبادل ثقافي ومعرفي بين الشعوب والأمم، وجسر تواصل بين اللغات والثقافات. وتسعى بذلك إلى توسيع الفكر الإنساني والحضاري من أجل الارتقاء بالفن والحضارة. وأصبحت بفضل العولمة تحتل مكانة عظيمة لتبادل الأفكار والمعارف والإنجازات خاصة العلمية والثقافية التي تساهم بدورها في تطور الحضارات.

علاقة الترجمة بالثقافة

يرى علماء الترجمة أن عملية الترجمة في جوهرها لا تقتصر على النقل اللغوي فقط، ولكنها تتضمن نقلًا آخرًا وهو النقل الثقافي، بمعنى أن المترجم ينقل نصًا وُلد في ثقافة ما، إلى ثقافة أخرى قد تشبهها، أو قد تختلف عنها تمامًا؛ ولذلك فإن علماء الترجمة يرون أن المترجم يجب أن يكون ثنائي اللغة، وثنائي الثقافة في آن.

جلي أن مفردة " الترجمة " ذاتها مُلتبسة، ولا تنحصر الترجمة في ما ينعت بــ "  النقل إلي  اللغة  الأجنبية " و "  النقل إلى اللغة  الأم " : وإنها ليست المفردة الشاملة التي تطابق هذين الضربين الخاصين من النقل، فالنقل إلى اللغة الأجنبية والنقل إلى اللغة الأم يحددان نوعًا خاصاً جداً من الترجمة : أي  "الترجمة باعتبارها تمرينا بيداغوجياً "، أو ما يمكن تسميته بالترجمة الحقيقية أو " الترجمة المقصودة لذاتها " ؛ فغاية الترجمة بالمعني  الحصري، بخلاف نمطي  النقل، هي  الترجمة ذاتها ويمثل  النص  المترجم جوهر عملية الترجمة .

وتلك العلاقة الأزلية بين اللغة والثقافة والفكر كانت محط اهتمام علماء اللغة بمختلف تخصصاتهم، وانتقلت هذه الفكرة أو العلاقة من علماء اللغة إلى علماء الترجمة الذين اهتموا بتفاصيل النقل الثقافي للنص، وقسموا هذه التفاصيل إلى تفاصيل عالمية لا يجد المترجم صعوبة في نقلها من لغة إلى أخرى بسبب دلالاتها وإيحاءاتها المتطابقة لكل البشر تقريبًا، وتفاصيل أخرى تخص ثقافة بعينها، ويصعب نقلها كما هي إلى الثقافات الأخرى لخصوصيتها الثقافة من حيث المعنى والدلالة.

طَليٌ أن الترجمة تُعد من أهم الظواهر الثقافية وركيزة من ركائزها، فمن خلالها يتم التواصل والتبادل الحضاري والثقافي، فهي مجموع التفاعلات التي تحدث نتيجة شكل من أشكال الاتصال بين الثقافات المختلفة: كالتأثير والتأثر، والاستيراد، والحوار، والرفض، والتمثل، وغير ذلك؛ مما يؤدي إلى ظهور عناصر جديدة في طريقة التفكير وأسلوب معالجة القضايا وتحليل الإشكاليات، الأمر الذي يعني أن التركيبة الثقافية وتركيب المفاهيم لا يمكن أن تبقى أو تعود – بأي حال من الأحوال إلى ما كانت عليه قبل هذه العملية."

ترتبط الثقافة باللغة ارتباطًا وثيقًا لأن استيعاب ثقافة ما يعني في المقام الأول استيعاب لغتها. وتًعرف الثقافة على أّنها "كل مركب يشتمل على المعرفة والمعتقدات والفنون والأخلاق والقانون والعرف وغير ذلك من الإمكانات أو العادات التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضوًا في مجتمع". وتعد الثقافة أيضًا مركَّبًا متجانسًا من الذكريات والتصورات والقيم والرموز والتعبيرات والإبداعات والتطّلعات التي تحتفظ الجماعة البشرية من خلالها بهويتها الداخلية.

تعمل الترجمة على تيسير التنمية البشريّة، فهي حاضرة دوماً في التبادل التجاريّ، وإشاعة المعرفة العلميّة، ونقل التكنولوجيا أو استنباتها وتوطينها، وغيرها من العمليّات الضروريّة للاستفادة من علوم الآخر وتقنيّاته في تحقيق التنمية الهادفة إلى ترقية حياة الإنسان.

ولعلَّ أثرَ الترجمة أشدُّ ما يكون وضوحاً في التفاعل الثقافي.  فهي تكمن في منظومة المفاهيم الثقافيّة مثل: الحوار الثقافيّ، والتبادل الثقافيّ، والمثاقفة، والتغلغل الثقافيّ، والإفراغ الثقافي، والغزو الثقافيّ، والاستلاب، والانفتاح على الآخر، والانغلاق على الذات، والعولمة، إلخ. باعتبار أنّ الترجمة هي السفينة التي تنقل الحمولات الثقافيّة المتنوِّعة من مرفأ إلى آخر.

ولكي يكون الحوار الثقافيّ مع الآخر فاعلاً ومؤثِّراً ومُنتِجاً، ينبغي لنا أن نعرف الذات بالإضافة إلى معرفتنا الآخر. وإذا كانت الترجمة تساعدنا على معرفة الآخر عن طريق نقل فكره إلينا، فإنّها تساعدنا أيضاً على إدراك الذات بطريقتيْن متكاملتين:

الأولى: تقوم الترجمة بتسليط الضوء على الآخر لنتعرّف عليه، وتعرُّفنا عليه يساعدنا على معرفة أنفسنا، لأننا لا يمكننا أن ندرك الذات ما لم نعرف الآخر، فبالآخر يتحدَّد الأنا.

والثانية: هي أن ندرك ذاتنا عن طريق إدراك الآخر لنا وتقوم الترجمة بنقل تصوّرات الآخر عنا إلينا.

وبعبارة أخرى، فإنّ معرفة الذات تتمّ بالتقاط صورتيْن متكاملتيْن: صورة ذاتيّة نلتقطها نحن لذاتنا، وصورة غيريّة يلتقطها الآخر لنا. ومن خلال المقارنة بين الصورتيْن يزداد إدراكنا لذاتنا وضوحًا. ولهذا كثيراً ما يقرأ المثقفون العرب بعض نصوص الثقافة العربيّة وهم يقارنونها بنصوص الآخر.

أثر الترجمة في الثقافة المنقول إليها:

تعمل الترجمة على إحداث نهضة ثقافيّة واقتصاديّة واجتماعيّة. فعندما تقوم الترجمة بنقل مفاهيم ثقافة من الثقافات وعلومها وتقنيّاتها إلى ثقافة أخرى فإنّها تهيِّئ الأرضيّة لتلاقُح الثقافة المتلقِّية بغيرها ومن ثمّ نموّها وازدهارها وغناها. ولذلك يلاحظ الباحثون تناسباً طرديّاً بين التقدم الحضاريّ وكمية الترجمة.  فالبلدان التي تُترجِم أكثر هي التي تحقق تقدُّما أكبر، وأنّ أغنى عصور الفكر هي تلك التي تزدهر فيها الترجمة وتتوسَّع.

وأنَّ اللغة العالميّة هي ليست تلك اللغة التي يتكلَّمها أكبرُ عددٍ من الناس، بل هي تلك اللغة التي تُرجِمَ إليها أكبر عدد من الأعمال من مختلف اللغات.

ولا يتوقَّف أثر الترجمة في التفاعل الثقافيّ عند إثراء الثقافة المتلقِّية بمعارفِ الآخرِ وعلومِه، وإنّما يمتدّ، كذلك، إلى تطوير اللغة المتلقِّية ذاتها. فالترجمة ليست نقلاً بسيطاً للنصِّ، أو مرآةً عاكسةً له، أو استنساخاً محضاً لمضمونه؛ وإنّما هي إعادةُ إنتاجٍ للنصِّ، وتجديده، وتحويله، وتطويره، حسب قدرات المترجم؛ لأنّها ترتبط بفهم المترجِم للنصّ وتأويله له وتطويعه اللغة المتلقِّية لاستيعاب مفاهيم النصّ ودلالاته. فالترجمة عملية حوار بين المؤلِّف الذي أنتج النصَّ الأصليَّ وبين المترجِم الذي يعيد إنتاجه على الرغم من بُعْد الشقّة الزمانيّة أو المكانيّة بينهما. والترجمة كذلك عمليّة حوار بين لغتين بالإضافة إلى كونها حواراً بين ثقافتيْن. ويؤدِّي كلُّ حوّار فعّال إلى تغيير وتبديل وتعديل في مواقف المتحاورين. ولهذا ينتج عن حوار الترجمة بين لُغتَيْن، تغيير في مفاهيم اللغة المنقول منها، وتطوير اللغة المنقول إليها، في مفرداتها وتراكيبها ودلالاتها وأساليبها، بالإضافة إلى استيعابها لمفاهيم جديدة.

وإذا تأمَّلنا أسلوبَ اللغة العربيّة قبل القرن الميلاديّ التاسع عشر، ألفيناه أسلوباً كلاسيكياً مُثقلاً بالسجع، مُرصَّعاً بالمحسِّنات البديعيّة، زاخراً بالعبارات المسكوكة المحُنَّطة، وعندما اتسعتْ حركة الترجمة من اللغات الأوربيّة إلى اللغة العربيّة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين لتشمل ترجمةَ الروايات والقصص البوليسيّة التي كانت تنشرها المجلات والصحف اليوميّة التي تتطلب السرعة في إعداد النصوص للنشر، اضطر المترجِمون إلى الكتابة بأسلوب أيسر وأسرع يقوم على النثر المُرسَل السهل الذي تفهمه عامّة القراء.

أثر الترجمة في الثقافة المنقول منها:

لا تقتصر فائدةُ الترجمة على إثراء الثقافة المتلقِّية، وإنَّما تمتدُّ كذلك إلى خدمة الثقافة التي نُقِلت منها النصوص. فالترجمة تَهبُ النصَّ الأصليَّ وجهاً جديداً وتمنحه حياة جديدة في محيط ثقافيّ جديد.  وهكذا يُصبِح النقلُ اللغويُّ انتقالاً وتحولاً وتلاقُحاً وتناسلاً للمفاهيم والأفكار في أفضية متجدِّدة وعوالم متكاثِرة. ولهذا فإنَّ المُترجِم لا يسدي خدمةً لأُمّته ولغته فحسب، وإنَّما كذلك للّغةِ التي نُقِل منها النصُّ الأصليُّ وأهلِها.

ويمكننا أن نورد هنا حالات محدَّدة لا يحيا فيها النصُّ الأصليُّ إلا بالترجمة:

الأولى: فقدانُ النصِّ الأصليِّ. فالنصُّ لا يحيا بلغته الأصليَّة، وإنَّما يحقِّق حياتَه في اللغات التي تُرجِم إليها، لأنّ النصَّ الأصليَّ مفقود. فملحمة كلكامش الشهيرة كُتِبت أصلاً باللغة السومرية، ولكنَّ علماء الآثار لم يعثروا على نصوصها الأصليّة حتّى اليوم، وإنَّما عثروا عليها مُترجَمة إلى اللغة الأكديّة، وبعض اللغات السامية القديمة، ولهذا فإنِّها تُرجِمت لنا عبر اللغة الأكديّة.  وهكذا أدّتِ الترجمة خدمةً عظيمةً للثقافة السومريّة.

الثانية: موت اللغة الأصليّة، التي كُتِب بها النصُّ، بحيث لم يعُد بإمكاننا الاطلاع عليه إلا مُترجَماً باللغات الحيّة.  وهذا هو حال الكتاب المقدّس (العهد القديم والعهد الجديد) الذي لا يعيش اليوم بلغته الأصليّة الميتة، وإنَّما بلغات الترجمة. والأمر ينطبق كذلك على فكر سقراط وأفلاطون وأرسطو الذي يحيا باللغات الأخرى وليس بلغته الأصليّة الإغريقية القديمة الميّتة.

الثالثة: صعوبةُ النصِّ الأصليِّ على الفهم، ووضوحُ ترجمتِه بلغةٍ أُخرى. وعندها يلجأ بعض الناطقين بلغة النصِّ الأصليِّ إلى قراءته في ترجمة أجنبيّة لفهمه. ومن الأمثلة التي تضرب على ذلك اضطرار بعض القراء الألمان إلى قراءة كتاب " الفينومينولوجيا "لا بالنصِّ الألمانيِّ الأصليِّ الذي كتبه به هيجل، وإنّما بترجمة هيبوليت الفرنسيّة، وذلك من أجل استيعابه بشكل أفضل.

أهمية الترجمة في نقل الثقافة في دول الخليج

نشطت في الآونة الأخيرة حركة الترجمة في دول الخليج بصفة عامة وفى الإمارات بصفة خاصة، والتي تأخذ على عاتقها مهمة إثراء المكتبة العربية بأفضل ما قدّمه الفكر العالمي من أعمال، عبر ترجمتها إلى العربية، إضافة إلى إبراز الوجه الحضاري للأمة عبر ترجمة أبرز الإبداعات العربية إلى لغات العالم.

ويعد "تحدي الترجمة" الذي أطلقه الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، في سبتمبر 2017م، إحدى أبرز مبادرات الترجمة التي تهدف إلى توفير محتوى تعليمي شامل ومتكامل في مجالي العلوم والرياضيات، باعتبارهما من أهم روافد التطور الحضاري.

ونجح التحدي خلال سنة من إطلاقه في تعريب 5 آلاف فيديو تعليمي، بواقع 11 مليوناً و207 آلاف كلمة، وبمعدّل 500 فيديو شهرياً، وبإجمالي عدد دقائق يُقدَّر بنحو 50 ألف دقيقة من مونتاج الفيديوهات التي توفر حصصاً تعليمية تتناول مساقات مختلفة ضمن مواد العلوم، كالفيزياء والكيمياء والأحياء والرياضيات والعلوم العامة، وفق خطة تعريب مدروسة تراعي الاحتياجات التعليمية للطلبة العرب في شتّى المراحل الدراسية.

واستقطب "تحدّي الترجمة" ما يزيد على 51 ألف متطوع ومتطوعة من مختلف أنحاء الوطن العربي من أصحاب الخبرات والمهارات للمساهمة في تعريب المواد العلمية أو إنتاج الفيديوهات التعليمية أو التعليق عليها، أو تصميم رسوم الجرافيكس، وغيرها من أدوات المساعدة البصرية والفنية والتقنية.

بدورها، تتصدى مبادرة " كلمة" التي أطلقها الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبو ظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية، منذ عام 2007م، لمهمة إحياء حركة الترجمة في العالم العربي ودعم الحراك الثقافي الفاعل الذي تشهده أبو ظبي للمساهمة بدورها في خارطةِ المشهدِ الثقافي الإقليمي والدولي، من أجل تأسيس نهضة علمية ثقافية عربية تشمل مختلف فروع المعرفة البشرية. وفي كلّ عام، تختار "كلمة" مئات الكتب من أهم المؤلفات العالمية الكلاسيكية والحديثة والمعاصرة من مختلف دول العالم وتترجمها إلى اللغة العربية، مع مراعاة الجودة والدقة في نشر الكتب.

وتستضيف الإمارات منذ عام 2013م، "مؤتمر أبو ظبي الدولي للترجمة"، الذي يهدف إلى تأكيد أهمية الدور الذي تلعبه الترجمة في بناء الجسور بين الحضارات والشعوب، وبناء قدرات المترجمين الشباب ورفد الجيل الصاعد لاستكمال مسيرة نقل الثقافات والعلوم والآداب من وإلى العربية.

تعزيز دور الترجمة في الانفتاح على العلم والثقافة في الدول المتقدمة

توصف التّرجمة عادة على أنّها سفينة تنقل الكنوز من تنشيط حركة الترجمة في الدول المتقدمة بصورة متزايدة. الدول الأكثر تقدمًا علميًا وتقنيًا هي الأكثر إنفاقًا على الترجمة، فاليابان وإسبانيا وإيطاليا وروسيا وإسرائيل وغيرهم هم أكثر الدول والشعوب إنفاقًا على الترجمة من اللغات الأخرى إلى لغاتهم وتتصدر ألمانيا واليابان وروسيا وإسرائيل حركة الترجمة من العلوم والتقنية. نسبة الترجمات العلمية والفنية تصل إلى أكثر من 80% في الدول المتقدمة، بينما نحن (الدول العربية) نفتقر إلى مترجمين متخصصين لعدم وجود ميزانيات وتوجهات ضمن الاستراتيجية والميزانيات.

هناك آراء متضاربة حول تقييم الدّور الثّقافيّ لحركة التّرجمة، فهناك من يعتبرها مكسبًا كبيرًا للثّقافة العربيّة، ورافدًا أساسيًّا من روافدها، وأحد مظاهر حيويّتها وغناها وانفتاحها على الثّقافات الأخرى، ولكن هناك بالمقابل من يرى فيها مصدرًا رئيسيًّا لغربتنا الثّقافيّة، وصورة من صور التّغلغل أو الغزو الثّقافيّ الأجنبيّ وبالتّالي خطرًا على ثقافتنا وهوّيتنا الحضاريّة:

أنصار الترجمة: يرون أن الثّقافة القوميّة (العربيّة (تغتني بالتّفاعل مع الثّقافات الأجنبيّة، وباستيعاب ما تحويه تلك الثّقافات من إنجازات، وهم لا يرون أيّة خطورة في الأخذ بما هو أجنبيّ مادام ذلك يؤدّي إلى إثراء الثّقافة العربيّة وتطويرها، فهم ينطلقون من مبدأ الانفتاح على الآخر وضرورة التّواصل معه، بل يرون فيه ندًّا ينبغي محاورته وتحقيق تبادل ثقافيّ معه. ويعتمد هذا الموقف على الثّقة بالنّفس، وبالهويّة الحضاريّة القوميّة، فهم لا يخشون تعريضًا للتّفاعل مع الثّقافات الأخرى، لأنّها قادرة على الصّمود أمام ذلك التّفاعل، كونها لا تقلّ عن تلك الثّقافات أصالةً وإنجازًا ورسوخًا، كما يرون أن التّقوقع الثّقافيّ يعبّر عن انعدام الثّقة بالثّقافة القوميّة وعدم قدرتها من محاورة الآخرين من موقع النّديّة.

خصوم الترجمة: أو منتقدوها فهم يستندون إلى اعتقاد أنّ ثقافتهم متفوّقة على سائر الثّقافات وبالتّالي فلا حاجة إلى التّفاعل أو التّبادل بين الثّقافة العربيّة والثّقافات الأخرى، كما ينطلق هؤلاء المناهضون من موقف الخوف الشّديد على الثّقافة القوميّة، لاعتقادهم أنّها لا تصمد للمواجهة مع ثقافات متفوّقة ومهيمنة. وقد قوي هذا التّيّار بعد غزو الاستعمار الأوروبيّ للوطن العربيّ عسكريًّا، وهيمن عليه اقتصاديًّا وسياسيًّا، وسعى إلى فرض سيطرته الثّقافيّة واللّغويّة، فهم يرون أنّ التّرجمة صورة حديثة من صور الغزو الثّقافيّ، لذا فهم يدعون إلى تحقيق نوع من الاكتفاء الذّاتيّ الثّقافيّ والإعراض عن التّفاعل والتّبادل والتّواصل مع الثّقافات الأخرى، فهم يتساءلون عن الفائدة الّتي جنتها الثّقافة العربيّة من ترويج كتابات غربيّة تنشر أفكار الوجوديّة والفوضويّة والإلحاديّة والإباحيّة.

على الرّغم من حجج معارضي التّرجمة الّتي تنطوي على شيء من الصّحة، فإن هناك حقيقة موضوعيّة مفادها أن التّرجمة نشاط ثقافيّ إنسانيّ لا غنى عنه، ففي عالم يعرف تعدّديّة لغويّة وثقافيّة ضخمة، وكلّ لغة تحتوي ثروات أدبيّة وفكريّة وعلميّة هائلة، من مصلحة الشّعوب الاطّلاع عليها، وهذا يُحتّم تعزيز دور الترجمة في الانفتاح على الدول المتقدمة للاستفادة من ثقافات الآخرين وعلومهم.

ولهذا، لابد من البحث عن سُبل لتعزيز دور الترجمة في الانفتاح على الآخر، ومنها ما يلي:

  • اعتبار التّرجمة مشروعَا قوميًّا تُوفر له كلّ الإمكانيات المادّية والبشريّة والتّشريعيّة الّتي تلزم استخدام الّلغة العربية في كلّ الأنشطة، ووضع التّشريعات والقوانين الملزمة لذلك.
  • ضرورة إنشاء هيئات متخصّصة للمصطلحات في مختلف فروع المعرفة.
  • الاستفادة من التّقنيات الحديثة مثل التّرجمة الآلية إلى الّلغة العربيّة، مع توفير البرامج والمعاجم العربيّة في جميع التخصّصات والمستويات.
  • إنشاء مركز للتّعريب والتّرجمة تابع لجامعة الأزهر ذي طبيعة خاصّة، تكون مهمّته التّرجمة من الّلغات الأجنبيّة وإليها.
  • أن يكون لكل جامعة خطّة في مجال التّأليف والتّرجمة وتشجيع تفرّغ أعضاء هيئة التّدريس لهذا الغرض.

إذا كانت ترجمة التّراث العربيّ هامّة لتعريف الآخر الحضاريّ بسموّ حضارتنا وتنقيتها من الشّوائب الّتي علقت بها، فإن ترجمة التّراث الغربيّ مهمّة ليس من أجل الحصول على المخزون المعرفيّ الّذي يحتويه فقط، وإنّما لتصحيح الأفكار المتطرّفة الّتي يحملها الشّباب العربيّ عن الشّعوب الغربيّة، تحول دون وقوعهم ضحيّة الحملات الدّعائيّة الّتي تقودها بعض الأطراف العربيّة والّتي خلقت جوًّا من الصّراع والتّخوّف بين الشّعوب في كلتا الحضارتين.

نحن بحاجة إلى التّواصل الإنسانيّ القريب، وفهم لغة الآخر لكي نستطيع التّعرف على معاني وأبعاد الأمور وحيثياتها الخاصّة من وجهة نظرهم وليس بالطّريقة الّتي تصل إلينا عبر الوسائط المتعدّدة المرئيّة أو المسموعة كالإعلام مثلًا.

وفي سبيل النّهوض بحركة التّرجمة ومنحها المكانة الحضاريّة الّتي يجب أن تلعبها، فنحن ملزمون في جميع أقطار العالم العربيّ بتحديث البنيات التّحتيّة لتكنولوجيا المعلومات وتوسيع الاستثمارات فيها. إنّ ذلك من شأنه المساهمة في تحسين ظروف إنتاج الأعمال المُترجمَة، عن طريق تمكين المحترفين في ميادين التّرجمة، وكذلك طلبة معاهد تكوين المترجمين من الاطّلاع والاستفادة من التّكنولوجيّات الجديدة المساعدة في هذا المجال، وكذلك الإلمام والتّمرّس بالأنظمة المعلوماتيّة الأحدث.

رؤيتنا لتنمية حركة الترجمة

على الرغم من النهضة التي تشهدها حركة الترجمة في الآونة الأخيرة إلا أنه في أحيان كثيرة تعاني حركة الترجمة إلى العربية من فجوة بين ما هو مأمول وما تقتضيه الضرورة في هذا المجال. وترجع تلك الفجوة إلى عدم وجود عمل تنسيقي بين الجهات العاملة في مجال الترجمة وغياب الاستثمارات الكافية؛ ولذلك يجب دعوة المؤسسات العامة ومؤسسات المجتمع المدني إلى رعاية الترجمة والمواكبة في متابعة وترجمة التطور التقني.

كما نرى الكثير من دور النشر العربية تسعى إلى ترجمة ما يرغب فيه القارئ أو الجمهور لتضمن عائداً ماديًا سريعًا؛ ولذلك نجد القصة والرواية هي المادة القرائية الأولى الجاذبة للمترجمين على حساب المواد العلمية.  ولذلك، لابد من تحقيق التوازن المطلوب بين فروع المعرفة بما يعالج التدني الملحوظ في ترجمة الثقافات العلمية والعلوم المختلفة بما يؤدي إلى الارتقاء بالوعي العلمي، وتطويره بوجه عام، ودعم حركات البحث العلمي بفروعه المختلفة بوجه خاص.

لا بُد من الارتقاء بأوضاع الترجمة، وذلك للوصول إلى معدلات قريبة من المعدلات العالمية في حدها الأدنى، علماً بأن أقطارا مثل: إسبانيا وإيطاليا وحتى إسرائيل يترجم كل قطر منها سنويًا حوالي 20 ألف كتاب وإذا وصلنا في المركز القومي للترجمة في مصر إلى معدل 2000 كتابًا في العام بدلًا من ألف كتاب في عشر سنوات تكون النتيجة باعثة على الأمل والتفاؤل بإمكان الوصول إلى الحد الأدنى من المعدلات العالمية.

ينبغي تنمية حركة الترجمة عن طريق إعداد المترجمين وتدريبهم، وتطوير قدراتهم لتكوين أجيال جديدة تكتسب الخبرة والمران من خلال الدورات الخاصة، وورش الترجمة، وتطبيق نظام المترجم المقيم بالتعاون مع المنظمات والهيئات العالمية، ووضع خطة للتفرغ والجوائز التشجيعية.

لا بُد من وضع خطة لرفع مستوى التدريس باللغة العربية وبخاصة في مراحل التعليم الأولى دراسة وتدريساً ومناهج.

وختامًا، في ضوء التفاصيل والحقائق المذكورة أعلاه، ينبغي للمرء أن يكون ممتنًا للمترجمين والمترجمين الفوريين في جميع أنحاء العالم بسبب الجهود المضنية التي ما فتئوا يبذلونها لجعل هذا العالم يبدو أفضل وجعل التواصل بين شعوب العالم أسرع وأسهل. وبالتالي، يتوقع منك أن تتوقف لحظة للنظر في هذه المهنة التي غالبًا ما يتم تجاهلها، بالرغم من أهميتها، فالترجمة كانت وما زالت تقوم بدور كبير جداً في توطيد العلاقات بين جميع شعوب العالم، فهي وسيلة نقل الحضارات، وجميع جوانب المعيشة، فلم تعد مجرد أسلوب لغوي، بل أصبحت مسألة ثقافية وحضارية تستخدم من قِبل جميع دول العالم، وبدونها لا يمكن الانفتاح على حضارات وثقافات الشعوب الأخرى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* أستاذ ورئيس قسم اللغة الإسبانية بكلية الألسن، جامعة عين شمس.

مقالات لنفس الكاتب