; logged out
الرئيسية / ضرورة المراجعة الشاملة لمساهمات الجامعات العربية في الآثار والتراث الحضاري

العدد 170

ضرورة المراجعة الشاملة لمساهمات الجامعات العربية في الآثار والتراث الحضاري

الثلاثاء، 01 شباط/فبراير 2022

لقد شكلت الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية عمومًا وعلم التاريخ والآثار بشكلٍ خاص أحد أهم المجالات التي افتتحت بها الجامعات العربية مسيرتها منذ منتصف القرن الماضي وذلك في إطار حركات التحديث التي سعت إلى تجاوز التعليم التقليدي ونَحَتْ أكثر فأكثر نحو التخصّص والقطع مع مفهوم التكوين الشامل الذي كان يجمعُ حقول علمية شاسعة ظلت شديدة الوفاء والارتباط بالتراث الديني المحافظ وبالموروث الثقافي التقليدي.

وإذ تمكنت بعض الميادين مثل الآداب العربية وبعض اللغات الحية والتاريخ وعلم الاجتماع والجغرافيا من حجز مكانها بشكل مُبكِّرٍ ضمن برامج الجامعات والأقسام الدراسية فإن العديد من المجالات بقيت غائبة وظل التخصص فيها مقتصرًا على الجامعات الأجنبية بسبب غياب الأُطر والكفاءات القادرة على تأمين عملية التكوين ولكن وبصفة خاصة بالنظر إلى التوجه العام الذي لم يكن يُولي اهتمامًا كبيرًا للتخصصات الدقيقة بسبب ضعف الإمكانيات المادية والتفرّغ لبناء المؤسسات الوطنية وغياب التشريعات ونقص الإطار البشري وغيرها...

ويعدُّ التراث الحضاري بمختلف فروعه من المجالات التي تأخّر الاهتمام بها كثيرًا من طرف البرامج الجامعية على الرغم من أهميته وارتباطه الوثيق بمسألة الهوية والشواهد الأثرية الكثيرة والهامة الذي تتوفر عليها المنطقة والفُرص التي يوفرها دراسةً وتوظيفًا وتثمينًا.

وتطمح هذه الورقة إلى تتبع تطوّر الاهتمام بهذا المجال من طرف الجامعات العربية من خلال مثال البلاد التونسية وتقديم تشخيص أوليٍّ حول التوجهات السائدة في التعامل معه وإسهامات الجامعة فيه وكلفة الإرث الاستعماري ومدى القدرة على مجابهة الرهانات المستجدة التي فرضتها الظرفية الجديدة منذ بدايات القرن الحالي.

 

 

أولا: الجذور التاريخيّة للاهتمـام بالتـراث الحضاري في الجامعات العربية

من البديهي جدًا أنه لا يمكن فصل اهتمام الجامعات العربية بمجال التراث الحضاري بصنفيه المادي وغير المادي على المسار الذي عرفه هذا المجال بشكل عام والذي تعود بدايات الاهتمام به إلى الربع الأول من القرن التاسع عشر وتحديدًا بالمشرق العربي في إطار البعثات الاستكشافية للرحالة الأوروبيين الذين نبّهوا إلى ضرورة توثيق هذه الآثار وحفظها توقيًّا من التحوّلات السريعة التي كانت تعرفها المنطقة وما يمكن أن ينجرّ عنها من إتلافٍ لهذا الإرث التاريخي والأثري الهام.

وقد تواصلت العناية بهذا الإرث ولا سيّما المتصل منه بالحضارة الغربية ونقصدُ هنا الآثار الرومانية والإغريقية، وبدرجة أقل البيزنطية، ضمن الحركات الاستعمارية وكان ذلك في البداية ضمن مبادرات فردية لتتحول لاحقًا إلى برامج رسمية ومن ثمَّ إلى رهانٍ سياسي بهدف إضفاء مزيد من الشرعية على التوسعات الاستعمارية في المناطق العربية عمومًا.

وبقطع النظر عن هذه الاعتبارات التاريخية وغيرها فقد نشأ وعيٌ متزايد تجاه التراث الحضاري بالوطن العربي وتعدّدت بذلك الدعوات إلى إنقاذه وحفظه ولا سيّما في إطار الأشغال الكبرى التي كانت تجري بالمدن التاريخية أو المتعلقة بالبنية التحتية من طرقات وسكك حديدية وغيرها وانتشرت بالتوازي مع ذلك ظاهرة تجميع عناصر التراث وبعث المتاحف الأثرية وغيرها.

وإبان حركات الاستقلال وبناء هياكل الدول المستقلة ظلت تأثيرات الرواسب الاستعمارية حاضرة في مختلف التوجهات العامة المتعلقة بمجال التراث الحضاري بحثًا وتكوينًا وتأطيرًا، وظل جيل الأثريين العرب الأوائل في تبعيّة شبه كاملة للمدارس الغربية؛ المدرسة الفرانكفونية بالنسبة إلى المغرب العربي والمدرسة الأنقلوسكسونية بالنسبة إلى مناطق المشرق، باستثناء الدول التي نشأت فيها أنظمة قومية-شعبية والتي وبالاستنادِ إلى مرجعياتها الفكرية حاولت القطع التام مع الماضي الاستعماري وتوجّهت إلى التعريب الشامل وهو ما تسبب في دمار كبير للإرث الحضاري وتم تجاهل فترات كاملة من تاريخ تلك المناطق وهُمشت مواقع أثرية بأكملها على الرغم من أهميتها وعلى الرغم من محافظتها على العديد من مكوناتها.      

وخلال الربع الأخير من القرن الماضي عرف علم الآثار تطوّرًا كبيرًا في مناهجه وأدواته وآليات تحليل واستغلال مواده وتوظيفها في طرح بعض الإشكاليات وفضِّ بعض المسائل التاريخية والأثرية. وقد انعكس هذا التطور على واقع البحوث والأطروحات التي أنجزت خلال هذه الفترة وأساسًا في بعض الجامعات ومراكز البحث الغربية حيث برز هذا التخصص تدريجيًّا ضمن صفوف الباحثين والتوجهات البحثية وخاصة من بين أصيلي الضفة الجنوبية للمتوسط الدارسين بهذه الدول.

وأمام هذه التوجهات الجديدة كان لزامًا على الجامعات العربية أن تلتحق بهذا الركب وأن تُواكب هذه التحولات المُتسارعة وأُجبر كبار المُنظرين إلى مراجعة نظرتهم تجاه التراث وعلاقته بعلم التاريخ والقطع تدريجيًا مع النظرة السائدة لفترة طويلة والتي كانت تعتبر الآثار والتراث علومًا ثانوية مُكمّلة للتاريخ ولا يمكن لها بأية حال من الأحوال أن تستقل بذاتها.

وفي هذا الإطــار، شهدت بعض الجامعات العربية بشكل مبكر نسبيًا نشأة بعض الأقسام الدراسية والمؤسسات القائمة بذاتها المختصة في الآثار على غرار قسم علم الآثار بكلية الآداب بالقاهرة الذي يعود تأسيسه إلى سنة 1925 والذي تحوّل في سنة 1970 إلى كلية للآثار مستقلة بذاتها، أو قسم الآثار بكلية الآداب بجامعة بغداد الذي يرقى إلى سنة 1951 ثم نشأت منذ بدايات القرن الحالي كليات وأقسام أخرى للآثار بكل من الموصل وبابل والقادسية والكوفة وغيرها، بينما تأخر الأمر نسبيًا في جامعات أخرى على غرار المغرب الأقصى حيث تعود أول مؤسسة تكوين في مجال الآثار والتراث إلى سنة 1985 وهو المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث والذي على الرغم من أنه مؤسسة تعليم عال إلا أنه وُضعَ منذ تأسيسه تحت إشراف وزارة الثقافة والشباب والرياضة وليس الجامعة. أما في تونس فقد ظل علم الآثار تحت عباءةِ علم التاريخ إلى حدود سنة 2000 عندما بُعثت أول مؤسسة جامعية متخصصة في التراث وهي المعهد العالي لمهن التراث بتونس وأول قسم في المجال وهو قسم علم الآثار في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة القيروان.

من جهة أخرى عملت بعض الدول العربية على توجيه العديد من الطلبة لمواصلة دراستهم في مجالات الآثار والتراث في الجامعات الغربية وبدرجة أقل إلى بعض البلدان العربية على غرار مصر وسوريا والعراق، وقد نتج على ذلك تكوين جيلٍ من الأثريين العرب مُتمكن من المناهج العلمية ومن عديد اللغات العالمية وساهم بشكل كبير في التأسيس لهذه التخصصات بالجامعات العربية وساعدها على الالتحاق بنظيرتها في بعض البلدان الأخرى...

 

ثانيًا: الجامعة التونسية من المساهمة الجزئية إلى الانخراط الكامل  

لم تخرج الجامعة التونسية على هذا السياق العربي حول بدايات التكوين والتأطير في التراث الحضاري وعرفت تقريبًا نفس المسار وقد مرت مساهمتها في التكوين والبحث في مجال التراث بعدة مراحل تدريجية انطلقت من المشاركة الجزئيّة وصولاً إلى بعث أقسام دراسيّة ومؤسسات ومخابر مُتخصّصة، وتنظيم مؤتمرات علميّة في المجال، مُواكبة في ذلك تطوّر مفهوم التراث وتطوّر المؤسّسات القائمة عليه، بحثًا وتصرّفُا ومحافظةً وتوظيفًا. وباعتبار صبغتها الأكاديمية، فقد اقتصر تدخّلها في قطاع التراث في أغلب الحالات على تكوين المختصّين والقيام بالبحوث العلميّة والتوثيقيّة للتراث دون سواها وبدرجة أقل المساهمة في عمليات الجرد والتوثيق والتنقيب الأثري وذلك ضمن التربصات الميدانية للطلبة في مختلف مستوياتهم.

          وعلى غرار كل الجامعات العربية كانت الجامعة التونسية إبان تأسيسها تفتقر إلى الإطار العلمي والبيداغوجي الكافي وعرف مجال التراث صراع كبير بين شباب الأثريين التونسيين وبقايا الاستعمار الفرنسي ولم تكن تؤمِّن التكوين في شهادات جامعية تهتم بالتراث بل كان الاقتصار على وحدات تعليمية اختيارية في الآثار القديمة والإسلامية ضمن الشهادة الجامعية الأم في التــاريـخ هذا إضافة إلى الاعتماد المكثّف على المصادر المكتوبة في الدراسات والبحوث التاريخية على حساب المصادر الأثرية وذلك بسبب هيمنة نوع من الاقتناع بأن علم الآثار لا يمثل سوى علم مساعد لعلم التاريخ وليس علمًا مستقلاً بذاته وعليه تظلُّ نتائجه وإضافاته في مرتبة ثانية مقارنة بما توفره المصادر التاريخية الكلاسيكية.  

          بداية من سنوات تسعينات القرن الماضي دار جدلٌ كبير حول مفهوم التراث وأصبح يكتسي صبغة شمولية بعدما كان هذا المصطلح مُلتصقًا بالموروث التقليدي لتمييزه عن الآثار التي كانت تَعني المُخلّفات المعمارية والمنقولات المستخرجة من الحفريات دون سواها ليصبح يضُمُّ كلّ ما خلّفه الإنسان من تراث مادي وغير مادي وقد انعكس هذا الجدل على تسميات المؤسسات الوطنية المشرفة على هذا القطاع وجزء من هيكلتها وقوانينها الأساسية ووظائفها وتوجهاتها العامة.

وإزاء هذه التحولات العميقة لم تبق الجامعة التونسية على هامش ما يجري من تغير وتطور في المواقف وفي مؤسسات التسيير، إذ تبلور انطلاقًا من تسعينات القرن الماضي نوع من الاقتناع بأهمية وجدوى نتائج البحوث التراثية وانعكس كل ذلك بشكل مباشر على التكوين الجامعي وعلى الأنشطة العلمية والثقافية بالجامعة حيث تكثف الإقبال على الشهادات الجامعية الاختيارية في مجال الآثار والتراث وأخذ العمل الأثري الميداني نصيبه إلى جانب التكوين النظري وشهدت المواضيع التي تُعنى بمجال التراث إقبالاً كبيرًا في مستوى رسائل التخرج، هذا علاوة على تعدد مخابر البحث المتخصصة والتي أصبحت تُولي لميدان التراث قسمًا كبيرًا من أنشطتها ومن منشوراتها وبرامجها.

وصل هذا المسار ذُروتهُ انطلاقًا من سنوات 2000 وبلغ هذا الانخراط أقصى مداه بتأسيس المسالك والشعب والأقسام الدراسية والمؤسسات الجامعية المتخصصة في التراث بمختلف مجالاته دراسةً ومحافظةً وتصرفًا وتثمينًا، أو في علاقة ببعض المجالات الأخرى مثل اللغات والوسائطية والمتحفية والسياحة والمجال السمعي البصري وغيرها... كما حظي مجال البحث الأكاديمي الأثري بنصيبه هو الآخر من خلال بعث أول شهادة دكتورا متخصصة في الآثار والتراث وإمضاء بعض الاتفاقيات بين الجامعة التونسية وبعض الجامعات الغربية وأساسًا الفرنسية للإشراف الثنائي على رسائل دكتوراه في ذات المجال.   

          لم يكن هذا التوجه يخصُّ قطاع التراث فقط وإنما كان ذلك يتنزل في إطار سعي الدولة آنذاك إلى استيعاب الأعداد المتزايدة من الطلبة وبعث جامعات في الولايات والمناطق الداخلية وتجاوبًا مع متطلبات المؤسسات العالمية المانحة. ورغم النقص الكبير في الإطار الجامعي المؤهل لتأمين الدروس النظرية والتطبيقية وضُعف الإمكانيات المادية للعمل الأثري الميداني فقد تمكنت بعض الأقسام الدراسية والمؤسسات الجامعية من الصمود تُجاه هذه الصعوبات والنجاح في تكوين مئات المختصين والمساهمة بشكل هام في ضخّ أعداد هامة من الكفاءات في المؤسسات المُشرفة على التراث على ما تُظهره إحصائيات الخريجين والمُلتحقين بالوظيفة العمومية من هذه التخصصات، وما تزخر به المكتبات من أعمال علمية هامة في هذا المجال على غرار المعهد العالي لمهن التراث بتونس وقسم علم الآثار بجامعة القيروان وقسم الآثار والحضارات القديمة بجامعة تونس المنار وغيرهم...

 

ثالثًا: التكوين الجامعي في التراث الحضاري في تونس والرهانات الجديدة

على الرغم من النتائج الكبيرة والمساهمة الهامة للجامعة التونسية في تكوين الأطر البشرية الضرورية القائمة اليوم على المواقع الأثرية والمعالم التاريخية والمتاحف والمؤسسات التراثية عمومًا ودورها الريادي في توثيق وجرد ودراسة قسم كبير من عناصر التراث الثقافي بالبلاد وهي حصيلة في الجملة تعتبر إيجابية جدًا، إلا أن الجامعيين والقائمين على الجامعة التونسية مدعوون اليوم إلى تقويم هذه التجربة ومواكبة التحولات التي أصبح يعرفها هذا المجال خاصة أمام تعطل بلورة سياسة تراثية واضحة ومشروع تكويني وبحثي استراتيجي يمتد على المدى المتوسط والبعيد.

ومثلما هو الشأن بالنسبة إلى كل الميادين والقطاعات فقد بدأ التراث الثقافي بشقيه المادي وغير المادي يعرف منذ بدايات القرن الحالي عديد التحولات في كل ما يتصل بالمواقف الفكرية والبحوث وسياسات المحافظة والتوظيف وتعدد المتدخلين ومستويات التدخل وغيرها...

وتُبرزُ المؤشرات المُستقاة من الجامعات العربية عمومًا والجامعة التونسية على وجه الخصوص التراجع الملحوظ في التوجه نحو البحوث الأثرية والتاريخية مقابل تطور ملحوظ في الدراسات الدقيقة وخاصة الاستعانة بالعلوم الصحيحة وبالتكنولوجيات الحديثة. كما سجلنا أيضًا التوجه أكثر نحو البحوث المتعلقة بقضايا المحافظة والصيانة والتوظيف والتثمين وهذا في علاقة وطيدة مع السياسات العالمية الجديدة المتعلقة بالتعامل مع الموروث الحضاري والتي أصبحت أكثر توجّهًا نحو التثمين وإدماج التراث في الدورة الاقتصادية والتركيز على مساهمته في تحقيق أهداف التنمية المستدامة...

وقد انعكست هذه التوجهات الجديدة في الشعب الدراسية منذ سنة 2000 والتي أصبحت في معظمها ترتكز على مسائل توظيف التراث وتثمينه، غير أن هذا التمشِّي ظل دون أُفُق تشغيلي بسبب عدم إعادة النظر في التشريعات المنظمة للقطاع وكبحِ المبادرة الخاصة ومواصلة احتكار الدولة لكل أشكال التعامل مع التراث بمختلف فروعه.

هذا التحول شمل أيضًا الدراسات العليا ومواضيع الرسائل الجامعية حيث لم يعد الأمر يقتصر على المواضيع الأثرية بالإشكاليات والمناهج المعروفة وإنما دخل نوع جديد من المواضيع وأصبح يحظى بالقبول وهو الذي يقوم على اقتراح مشروع تأهيل وتثمين لموقع أثري أو بعث متحف في جهة معينة أو مشروع ترميم وتوظيف لمعلم تاريخي معين.

وقد وجد هذا التوجه الجديد صداهُ أيضًا لدى المنظمات الدولية والمانحين العالميين الذين أصبحوا يفضلون التخصصات والمشاريع التي تتنزل في إطار سياسات الحفظ والتأهيل والتثمين وقد أصبحت هذه الأطراف تفرض بنودًا خاصة بهذا الصنف من البرامج والمشاريع ضمن الاتفاقيات التي كانت تُبرمُ مع المؤسسات الجامعية أو القائمة على قطاع التراث.

 

الخلاصــة

بعد حوالي نصف قرن من بعث أولى الجامعات العربية المتخصصة في الآثار والتراث الحضاري وبدايات الاهتمام بهذا المجال من طرف الجامعيين العرب في مختلف المستويات، وأخذًا في الاعتبار التوجهات الجديدة التي أصبحت تُحيط به بالنظر إلى تعدد الأطراف المتدخلة فيه وأمام تواتر وتكاثف الدعوات المطالبة بالعودة إلى المخزون الثقافي والموارد الطبيعية وتوظيفها في تحقيق أهداف التنمية المستدامة ولا سيّما بالنسبة إلى البلدان النامية، والإقبال الضعيف من طرف الطلبة على مثل هذه التخصصات، بـَـاتَ من الضروري اليوم إجراء مراجعة وموازنة شاملة حول حصيلة مساهمة الجامعات العربية في هذا المجال وتكييف توجهاتها وِفقَ الرهانات الجديدة.

تقتضي المرحلة اليوم إعادة النظر في المسارات الدراسية وفي برامج التدريس لجعلها أكثر جدوى وأكثر جلبًا للطلاب وأكثر التصاقًا بواقع هذا القطاع في مختلف البلدان وخاصة التكامل والتنسيق مع الوزارات المشرفة عليه، إذ باستثناء بعض التجارب المحدودة جدًا في بعض البلدان العربية حيث تخضع المؤسسات المكونة في هذا الاختصاص إلى إشراف ثنائي ظلت أغلب الجامعات العربية تُؤمنُ تكوينًا في اختصاصات لا علاقة لها بمتطلبات سوق الشغل ولا تفي بحاجة التراث الحضاري وخاصة إذا ما تعلق الأمر بالتخصصات الدقيقة من ترميم وحفظ وصيانة وغيرها...

تستدعي الظرفية أيضًا إيلاء جانب التثمين الأهمية التي يستحقها والاستفادة مما يوفره التراث الحضاري من فُرصِ متعددة للاستثمار بالنظر إلى الإمكانيات الكبيرة لبعث مشاريع مشتركة مع المنظمات العالمية والممولين الدوليين إذ لم يعد من الممكن توفير اعتمادات مالية للعناية بالتراث وما يتطلبه ذلك من إمكانيات وافرة وإنما التوجه هو أن يكتفي هذا التراث بذاته ويوفر بنفسه المداخيل الضرورية لذلك والمساهمة في الدخل الوطني للدولة وذلك في إطار مختلف أشكال الاستغلال والاستثمار وظهرت بذلك مصطلحات جديدة أصبحت رائجة كثيرًا بين الأوساط السياسية ولدى أصحاب القرار على غرار "السياحة البديلة" و"السياحة الثقافية" و"السياحة المستدامة"... وهي جميعها مفاهيم تنبع من المخزون الثقافي وتظل تدور في فلكه حسب مُتطلبات السوق وحسب الموارد المتوفرة وكيفية توظيفها. 

لكل هذه الاعتبارات وحتى لا تظل الجامعات العربية على هامش هذه التحولات وتنجح في كسب هذه الرهانات، أصبح لزامًا عليها إعادة النظر في هيكلتها وخاصة فيما يتعلق بالفصل بين البحث العلمي الصرف وقضايا التثمين والتوظيف، وأن تُكيّف برامجها وفق هذه المتطلبات الجديدة وتسعى إلى توفير مادة تكوينية تُلبي حاجة قطاع التراث الحضاري وتعمل على المشاركة في القرار المتعلق به وتذهب في التفتح أكثر على التجارب العالمية الناجحة في مجال التشاركية بين المؤسسات الجامعية العامة والخاصة من جهة، والجهات القائمة على التراث الحضاري بمختلف أشكاله من جهة ثانية، وبخاصة تلك التي وازنت في علاقة التراث الحضاري بقطاعي السياحة والثقافة في الآن نفسهُ.

 

مقالات لنفس الكاتب