; logged out
الرئيسية / تحديات كبيرة وآمال عريضة وجهود مبذولة لتطوير التعليم في دول مجلس التعاون

العدد 170

تحديات كبيرة وآمال عريضة وجهود مبذولة لتطوير التعليم في دول مجلس التعاون

الثلاثاء، 01 شباط/فبراير 2022

للعلم رحلة طويلة طافت أنحاء العالم منذ القدم إلى زماننا هذا، توارثتها الأجيال وحملت مشاعلها منارات إنسانية آمنت بحق الشعوب في محاربة الجهل والتقدم في دروب الحياة.

‏تلك الرحلة طافت بشواطئ دول الخليج مجتمعةً ورست في أحضان شعوبها وقد بدأت بالتعليم الديني عبر مناهجه الدينية وأساليبه التقليدية البسيطة.. ثم تحولت هذه الدول إلى تبني التعليم النظامي الذي كانت بداياته متأخرة إلى مطلع القرن الماضي في بعضها وأوسطه في بعضها الآخر.. ثم توسعت شبكاته مع احتكاك أهل الخليج بالشعوب الأخرى عبر نشاط التجارة والسفر الذي نشطوا فيه ومع بدء تدفق خيرات النفط في بلدان الخليج تباعاً.

 

‏كانت البداية لنظم التعليم الحديث والنظامي في جميع هذه الدول بجهود تطوعية من أبناء شعوبها ثم آلت الحكومات على نفسها تنظيم الجهود وإقامة المدارس وانتهاج سياسات مجانية التعليم كما في البلاد العربية الأخرى وذلك لضمان توفير التعليم لجميع فئات شعوبها أطفالاً وشباباً ذكوراً وإناثاً في المدارس النظامية، كما نشطت جهود محو الأمية لمن فاتهم قطار التعليم في مراكز تعليم الأميين حتى تضاءلت نسبة الأمية إلى ما دون 5% لمعظم شعوب هذه الدول.. ومع تقدم الزمن وتطور نظم التعليم، توجهت البعثات الدراسية من أبناء المنطقة إلى مراكز وجامعات العالم المتقدم شرقاً وغرباً لاستكمال تكوينهم العلمي والتخصصي في مختلف مجالات العلوم الإنسانية والعلوم الأساسية والتطبيقية والطبية وغيرها.

 

‏لقد حققت سياسات مجانية التعليم واهتمام دول الخليج بها معدلات عالية من نسب التعليم بين مواطنيها، ومع تطور نظم التعليم وتقدم وسائله وإمكاناته في دول العالم المتقدم كان لزاماً على دول الخليج من تقييم نتائج ومخرجات نظمها التعليمية ولذا شاركت في الاختبارات الدولية التي تقيس نسب تحصيل طلبتها في المواد الأساسية والمهارات العلمية.. وهكذا كان، حيث يشترك طلبة دول الخليج منذ سنوات في سلسلة الاختبارات الدولية التي تعقد كل خمس سنوات لقياس مستويات القوة والضعف في اللغات (PIRLS) واختبارات مهارات الرياضيات والعلوم (TIMSS) للطلبة في الفصل الرابع والثامن التي تقيمها الجمعية الدولية لتقييم التحصيل التربوي (IEA) ومقرها الرئيسي في هولندا، وقد أظهرت تلك النتائج مستوى التحصيل العلمي لطلبة الخليج مقارنة بنتائج الطلبة في دول العالم.

 

وعلى سبيل الاستدلال، ففي الامتحان (PIRLS) لعام 2016م، حققت الإمارات المركز الأول خليجياً والبحرين الثاني وقطر الثالث والسعودية المركز الرابع وعُمان الخامس والكويت السادس. وفي اختبار (TIMSS) في العلوم للعام 2019م، فقد احتلت البحرين المركز الأول خليجياً والمركز (38) عالمياً، أما الإمارات فكانت الثانية خليجياً و(41) عالمياً وقطر الثالثة خليجياً و(47) عالمياً وعُمان الرابعة و(49) عالمياً والسعودية الخامسة و(53) عالمياً والكويت السادسة و(54) عالمياً وذلك من بين (58) دولة تم قياس نظمها، وتتشابه النتائج في المهارات الرياضيات في هذه الدول مثيلاتها في العلوم إلى حد كبير.

 

لكن الأهداف تبدلت والعلوم تقدمت والتطور يفرض نفسه، لذلك تبنت جميع دول الخليج سياسات طموحة لتطوير نظم تعليمها وتغيير أساليبه فحصدت بعضها ثمرات ما زرعت. وعلى الرغم من عمر التعليم النظامي القصير الذي لا يتجاوز القرن من الزمن مقارنة بالنظم التعليمية لدول العالم المتقدم إلا أن جهود التطور في بعض دول الخليج، استطاعت أن تحقق مكاناً بارزاً لنظمها في الخريطة التعليمية العالمية.. وبنظرة واحدة على مؤشر جودة التعليم العالمي للعام 2021م، نستبين ذلك حيث احتلت دولة قطرالمرتبة الأولى عربياً والرابعة عالمياً على هذا المؤشر، تلتها الإمارات التي حققت المركز العاشر عالمياً والثاني عربياً.. ثم البحرين الرابعة عربياً والثالثة وثلاثين عالمياً..أما المملكة العربية السعودية فقد حلت في المرتبة السادسة عربياً والرابعة والخمسين عالمياً.. تأخرت الكويت عن أقرانها فاحتلت المركز الثامن عربياً والسابع والتسعين عالمياً.. وأخيراً سلطنة عمان حققت المركز العاشر عربياً والسابع بعد المئة عالمياً.

 

 

 

 

التعليم في زمن الجائحة

 

لم تكن تلك الرحلة سالكة في كل دروبها.. فقد اصطدمت بجبل الجائحة الذي أوقف التواصل بين الطلبة ومدارسهم ومدرسيهم ‏ليس في دول المنطقة فحسب وإنما في العالم أجمع.. حيث تأثر منها ما يقارب 168 مليون طفل في العالم لمدة عام كامل، وخسر بعد ذلك 214 مليون طفل ثلاثة أرباع مدة التعليم وجهاً لوجه وفق ما كشفته منظمة اليونيسف في تقريرها المقدم للأمم المتحدة في نيويورك 3 مارس 2021م، فدول الخليج لم تكن استثناءً ولكنها استطاعت أن تدشن منصات التعليم عن بُعد عبر الشبكات الإلكترونية كمنظومة موازية لأسلوب التعليم الحضوري، ‏فانتظم الطلاب في دراساتهم وإن أثرت الجائحة على مستوى التواصل وعلى جودة التحصيل العلمي في هذه الدول وفي جميع الأنظمة العالمية.

 

التعليم النظامي وجهود التطوير

 

لعل هذه الأزمة ورغبة دول الخليج وجهودها في تطوير نظم التعليم حفزت الجهود الرسمية والشعبية إلى الدفع بتطوير المنظومة التعليمية في جميع مراحلها، تدفعها الرغبة في الانتقال من نظم التلقين والحفظ إلى أساليب الإبداع والابتكار ويحدوها التحرر من هدف نشر التعليم للتوظيف إلى هدف بناء أجيال تساهم في دفع التطوير والتجديد في مجتمعاتها، وتحقق التغيير وتتقبله، وتكون نشطة في تنمية القدرات الابتكارية وتحقيق الفرص الاقتصادية لمجتمعاتها، كما تساهم في توحيد مجتمعاتها متعديةً الفوارق الموروثة سواء كانت فئوية أو قبلية أو طائفية. لتحقيق ذلك بدأت جهود التطوير واضحة في جميع الدول حيث استضافت دولة قطر أغنى الخبرات العالمية في جامعاتها وشجعت المنافسة بين مؤسساتها التعليمية وحررتها من الأعباء البيروقراطية.

 

‏وتميزت الإمارات في التحول إلى التعليم الرقمي مبكراً، وأجرت المملكة العربية السعودية إصلاحات واسعة في سياساتها التعليمية سواء المتعلقة بالمناهج أوالتقييم أو التطوير المهني للمعلمين ولاحقاً طورت هيكلة وإدارة المؤسسات التعليمية على مستوى التعليم العام والعالي لتحرير المنظومة التعليمية من أسر الارتباطات البيروقراطية والرسمية إلى فضاء التجديد والمنافسة لتحقيق الجودة المنشودة، كما قدمت البحرين والكويت وعُمان خططًا مدروسة للنهوض في مناهجها وأساليب تعليمها لتواكب تطوراً فرض نفسه على منظومات التعليم في العالم أجمع.

 

التحديات وآفاق المستقبل

 

‏رحلة التعليم النظامي في دول الخليج العربي قصيرة في عمرها الزمني مقارنةً بكثير من الدول.. ولكنها رحلة غنية حملت لشعوب هذه الدول كثيرًا من التغيير والتطور واللحاق بركب التنمية العالمي المتسارع.. الجهود كبيرة والطموح أكبر.. ولكن التحديات عظيمة في عالم متسارع التطور وإحراز المراكز المتقدمة يضع مسؤولية كبيرة على من أحرزها للمحافظة عليها.. كما يتوجب على الدول التي أحرزت مراكز متأخرة النظر جدياً في متطلبات تطوير منظوماتها التعليمية.. فالمسؤولية عظيمة لتقديم نظام تعليمي متقدم يحاكي متطلبات المستقبل لأجيال تتميز بمهارات مختلفة وهي الأجيال التي يطلق عليها جيل زد (Z) وجيل ألفا (α) التي جاءت إلى عالم مختلف عن السابق، جيل (Z) يشمل من ولد بين الأعوام من 1997 إلى 2010م، وجيـــل ألفا (α) يطلق على مواليد الفترة من 2010 إلى 2025م.. هذه الأجيال قدمت إلى الدنيا مع التطور الرقمي وثورة التكنولوجية وبالتأكيد ستكون اهتماماتهم ووظائفهم مختلفة عما هو موجود الآن، حيث ينصب اهتمامهم على قضايا البيئة والعدالة الاجتماعية والمواطنة الرقمية وتقدس حرية التعبير والبحث والتواصل عبر التكنولوجيا ووسائلها، ولما كانت آفاق التطوير كبيرة ومتجددة ‏مع التقدم العلمي وتجدد أساليبه، لذا يتوجب على دولنا في الخليج العربي التحرك في أكثر من اتجاه وذلك وفق التالي:

  

أولاً : جعل التعليم أولوية متقدمة في الأجندات الحكومية الرسمية مع إثارة الوعي المجتمعي بأولوية التعليم وأهميته للديمومة والاستمرارية والتفوق والدفع بها لتكون اهتمامًا اجتماعي بين أفراد المجتمع كافة.

ثانياً : تحديد الأهداف التعليمية بوضوح بما يجعلها تخدم أهداف التنمية الوطنية، وهنا تجدر الإشارة إلى أن سياسة نشر التعليم بهدف القضاء على الأمية أمر تعداه الزمن ولابد من أن تكون تلك الأهداف خادمة للتطور والتغير السريع في متطلبات نمو ‏المجتمعات وتقدمها في عصر العلوم التقنية والرقمنة العالمية المتقدمة وبما يتوافق مع احتياجات الأجيال القادمة.

ثالثاً : العمل جدياً على توفير التعليم المتميز للفئات الأقل حظاً خاصة ذوي الهمم أو ذوي الاحتياجات الخاصة والعمل على دمجمهم في المنظومة التعليمية بما يجعلهم أفراداً منتجين ومشاركين في تنمية مجتمعاتهم.

رابعاً : السخاء في الإنفاق من الدخل القومي على التعليم والبحث العلمي، وهذا الكرم المنشود لا يعني الهدر، وإنما يجب أن يرتبط بقياس المردود والنتائج من هذا الإنفاق والذي يجب أن يتمثل في مخرجات تعليمية عالية الجودة وبنتائج بحثية لها أثر ملموس في معالجة قضايا المجتمع ومحاكاة متطلبات المستقبل.

خامساً : الاهتمام باختيار المعلمين من صفوة أبناء ‏هذه المجتمعات، على أن تكون الحواضن التعليمية والتأهيلية للطواقم التدريسية متطورة في أساليبها ومناهجها لإعداد المعلمين القادرين على التعامل مع متطلبات العلوم الحديثة والتقنية المتقدمة.

سادساً : أن رحلة التعليم في مساراتها الحديثة لا تنتهي بالمدارس والجامعات وإنما هي تمتد لتعليم مدى الحياة.. لذلك يجب أن ينصب اهتمام المجتمعات المتقدمة على إزالة محو "الأمية التقنية" لأفراد شعوبها.. والعناية بآليات البحث الإلكتروني والتعلم الذاتي وتوفير منصات تعلم المهارات الحياتية وهي أمور يجب ألا تغيب عن اهتمام راسم السياسة ‏وعن أفراد المجتمع بشكل عام فالمجتمعات الحيوية هي المجتمعات التي تنشد العلم والمعرفة ولا تركن إلى نيل الشهادة فقط.

 

تحديات كبيرة وآمال عريضة وجهود كُرست لتطوير التعلم في دول الخليج لعلها تضع هذه الدول على المسار الصحيح للتقدم ضمن المجتمعات والدول الأكثر تقدماً في العالم. ولعل التعاون وتبادل الخبرات بينها يمكّنها من تحقيق ما تصبو إليه من رسم مستقبل أفضل لأبنائها.  

مقالات لنفس الكاتب