; logged out
الرئيسية / مشروعات التوثيق الرقمي ومستقبل التاريخ في الوطن العربي

العدد 173

مشروعات التوثيق الرقمي ومستقبل التاريخ في الوطن العربي

الإثنين، 25 نيسان/أبريل 2022

يتشكل تاريخ الأمم مما تملكه من تراث فكري وحضاري تراكم عبر مراحل تطور تلك الأمم، وعليه فإن هذا التراث يُشكّل عقول أبناء هذه الأمة، ولذا فإن العناية بتراثنا العربي ما هو إلا خطوة استراتيجية نحول مستقبل الحفاظ على التاريخ.

وتلعب المصادر التاريخية والتراثية دورًا هامًا في صياغة مستقبل الدول، وتشكّل هوية الأجيال القادمة بما تملكه من دلالات تاريخية وحضارية للأجيال القديمة والتي تمتد حتى الأجيال الحالية. كما يعتبر التاريخ مصدر فخر كبير لمعظم الأمم العربية بما يحمله من قيم ومعاني تعكس الأصالة والعراقة الخاصة بكل أمة.

ومما لا شك فيه أن الوطن العربي غني بالمصادر التاريخية والتراثية التي تمثل عصورًا تاريخية مختلفة، وقد أصبح الحفاظ على تلك المصادر وصيانتها وإتاحتها بشكل رقمي هدفًا هامًا لجميع الدول العربية، سواء للاستفادة منها في عملية تنمية الخلفية المعرفية للجمهور بتاريخ وتراث بلادهم من خلال إتاحتها رقميًا، أو في عملية بث الفكر وتصحيح الصور الذهنية إلى الأمم والحضارات الأخرى بالإضافة إلى الأغراض التعليمية والسياحية والتنموية.

 ومع بداية الثورة الرقمية عام 1971م، وبدء استخدام الحاسب الآلي وانطلاق شبكة الإنترنت في أوائل التسعينيات من القرن الماضي. فنجد أن الرقمنة تتيح إنجاز أضعاف ما تقوم به المطبعة وما تستوعبه المخازن والأرشيفات الوطنية وهو ما دفع العديد من الدول العربية للإقدام في تدشين العديد من المشروعات الرقمية سواء في مجال رقمنة التاريخ والتراث بالصورة التقليدية من خلال تحويل آلاف الكتب التاريخية وأمهات التراث العربي وكذا المخطوطات، أو في مجال آخر وهو الأكثر حداثة وهو رقمنة التراث والحفاظ على التاريخ من خلال بوابات رقمية ومواقع توثيقية رقمية تشمل توثيق التاريخ في شتى مناحي الحياة سواء السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية أو الفنية أو الاجتماعية.

ورغبة بالحفاظ على الذاكرة العربية وإتاحتها للأجيال القادمة كان من المهم توظيف تكنولوجيا المعلومات للحفاظ على تراث الأمم العربية الإنساني والمادي والمعنوي باستخدام الوسائل العلمية الحديثة، الذي تأتي أهميته نتيجة توسّع استخدام شبكة الإنترنت وضرورة أن يكون المحتوى المعلوماتي العربي مساو للمحتوى الموجود عالميًا باللغات الأجنبية الأخرى، وعليه باتت أهمية التوثيق الرقمي لكل ما يمكن توثيقه وحفظه ورقمنته وإتاحته بشكل رقمي عبر مشروعات رقمية وطنية عربية من أجل ضمان الحفاظ على مستقبل تاريخنا العربي.

ومع تقدم وسائل التكنولوجيا باتت المواد الوثائقية من أفلام وأرشيف صحفي وصور مادة خصبة تجذب الكثيرين للتاريخ. وتحول الاهتمام إلى دراسة أحوال المجتمعات الماضية والحياة اليومية للبشر، وتطور الإنسان ومنجزاته الحضارية، وما تركته هذه المنجزات من تأثير في تطور الحضارة المعاصرة، بعد أن كان الغرض الرئيسي من التاريخ مدح الحاكم وتمجيد الدولة، وعدم اهتمام المؤرخين بالحياة اليومية للبشر، وانتقاء الأحداث والوقائع التي يؤرخونها. لذا فإن المشروعات الرقمية المطلوبة لتوثيق التاريخ وتقديمه للأجيال القادمة ليست في حاجة تقديم الماضي بل للوصول إلى سياق أوسع غير قاصر على الأحداث المتتالية. فالتاريخ أساس لتثقيف المجتمع وإرشاده لقواعد السلم والحرب وإدارة شؤون الدولة والتخطيط لمستقبلها، من هنا يتحول مفهوم مستقبل التاريخ الرقمي من النطاق النظري إلى النطاق العملي، لأنه يرتبط بوجود الدولة وعناصرها المتمثلة في الأرض والشعب والسلطة ويعبر عن هوية الوطن ووجوده.

                من هنا نجد أن احتفاظ كل دولة بالمواد الوثائقية الخاصة بتاريخها ووثائقها داخل جدران دور الوثائق الوطنية والقومية أصبح منهجًا كلاسيكيًا وتقليديًا وعلى الدول العربية الآن أن تسعى إلى إتاحة تلك المواد الوثائقية عبر شبكة الإنترنت من خلال رقمنتها، من خلال منهج الإتاحة الكاملة بما لا يضر سياسة الدولة بما هو مسموح من وثائق كاملة. من خلال تدشين إقامة مواقع إلكترونية ومكتبات رقمية تمثل ما يسمى بذاكرة الدولة على شبكة الإنترنت، وتتمثل أهمية تلك البوابات الرقمية في تكوين الأجيال الجديدة لثقافتها عبر وسيط رقمي مباشر محايد. وكذلك أهمية تشبيك عدد متنوع ومختلف من المواد الوثائقية من مواد صوتية، الأفلام، أرشيف صحفي، الصور الفوتوغرافية، الوثائق، الكتب، العملات، طوابع البريد، وغيرها، وتربيطها بما يخدم مجال البحث. ويتم توصيف كل تلك المواد جميعًا في استمارات توصيف تشمل الكلمات التي يمكن للمستخدم النهائي المتصفح لتلك البوابات الرقمية أن يبحث من خلالها عن تلك المواد. فهناك مداخل متعددة لتصميم الصفحة الرئيسية للموقع الرئيسي، منها مداخل تتبع موضوع البحث مثل: الحكام، رؤساء الوزراء، الموضوعات كالحياة السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، الفنية، الحياة العلمية، الحياة الرياضية إضافة إلى الأحداث الهامة، فضلاً عن الشخصيات العامة في مقابل البحث بالموضوع، وهناك أيضًا البحث من خلال المواد؛ مثل: الصور، الوثائق، الأفلام، التسجيلات الصوتية، الخطب، الصحف والمجلات، الخرائط، النقود، طوابع البريد، الكتب، الأوسمة والنياشين، الأغلفة والملصقات، الإعلانات.

لكن هذا كله يجب أن يُعزز بمواد نصية تاريخية مبسطة تضم كل ما يتعلق بتاريخ الدولة والمواد الوثائقية المتاحة رقميًا؛ حيث إن المستخدم النهائي End User يفترض فيه أن يكون باحثًا عن مادة تاريخية يريد أن يقرأ حولها أو أن يتعلم قبل أن يستخدم هذا الكم الهائل من المواد، وهو ما يخرج لنا ذاكرة تاريخية رقمية وطنية مكتملة الأركان.

        وستمثل تلك المشروعات الرقمية المتمثلة في المكتبات الرقمية التاريخية المتاحة عبر شبكة الإنترنت، سجل وطني وقومي يحفظ كل ما يتعلق بتاريخ الأمة في ذاكرة لا تندثر ولا تتلف بمرور السنين، فستكون مكتبة رقمية تمثل وعاءً يجمع كل المواد التي لها علاقة بذاكرة الأمة وهويتها وشخصيتها.

كما لتلك المشروعات الرقمية المتعلقة بتاريخ الأمة، سنجد محورًا هامًا متعلقًا بأهمية تلك المشروعات ألا وهو التعليم، ففي عالم رقمي وفي ظلّ المشهد التكنولوجي الذي ذكرناه أصبحت ضرورة توفير التعليم ذو المستوى الممتاز أكثر أهمية من أي زمنٍ مضى، وذلك لتزويد الشباب بالمهارات والمعارف التي تمكّنهم من مواكبة العصر والتأقلم مع متطلبات البيئة التكنولوجية الحديثة سريعة التغير.

فقد أصبح التعلُّم التقليدي الذي يقوم على المادة ونصها دون معرفة معناها سمةً من سمات العصر الماضي. فأصبحت الأساليب التعليمية تتطلب تركيزاً أكبر على الإبداع والابتكار، الأمر الذي يتطلب ارتباط مناهج التعليم بعناصر ومشروعات رقمية هي تعزز قدرة الشباب على الفهم والمنافسة والتميز. 

ومن خلال هذه المشروعات الرقمية التاريخية سيتمكن الجميع من تغيير نموذج التعلُّم. والاعتماد على استراتيجية التعليم الذكي، حيث يتم دمج المناهج التاريخية والوطنية باختلاف تخصصاتها مع تلك المشروعات الرقمية التاريخية مما يجعل أسلوب التعلُّم للطلاب يتم بشكل تفاعلي. 

  لقد تمثل ما سبق بكل معانيه في مشروع دشنته مكتبة الإسكندرية وهو مشروع "ذاكرة مصر المعاصرة"، وهي ذاكرة تقدم الحياة في مصر خلال القرنين الميلاديين التاسع عشر والعشرين، من خلال مجهود فريق من الباحثين لأرشفة وتوثيق تاريخ مصر من خلال الصور والأفلام والطوابع والعملات والصحف والمجلات والوثائق والدراسات التاريخية التي كتبت خصيصًا لهذه الذاكرة.

فمكتبة الإسكندرية مؤسسة ثقافية تقدم مصر بشكل متميز للعالم، وتخدم الثقافة المصرية المعاصرة بصورة غير تقليدية. وتسعى جاهدة لمواصلة رسالتها بأن تكون نافذة مصر على العالم ونافذة العالم على مصر. ولقد جاء صرح مكتبة الإسكندرية كاملاً شاملاً ليجعل من ذاته مركزاً للخبرة الرفيعة في إنتاج المعرفة ونشرها، ومسرحاً للحوار والتعلم والتقاء الثقافات والشعوب.

وتعد "ذاكرة مصر المعاصرة" ذاكرة كل المصريين بلا استثناء، بدءًا من الفلاح البسيط والعامل المجد، إلى الملوك والرؤساء، بدءًا من الأحداث الهامة إلى يوميات المصريين، هذه الذاكرة ستجعل متصفحها يعيش مع المصريين كيفما عاشوا، في لحظات حزنهم وأفراحهم، في انتصاراتهم وانكساراتهم. وكان للمراجعة العلمية التاريخية دورًا كبيرًا وخصوصًا ضمها لكبار أساتذة التاريخ الحديث والمعاصر.

كما يضم مشروع ذاكرة مصر المعاصرة محورين آخرين وهما يمثلان الجانب المطبوع من المشروع وهما مجلة ذاكرة مصر وهي مجلة ربع سنوية صدر العدد الأول منها في أكتوبر 2009م، بالإضافة إلى سلسلة كتب ذاكرة مصر المعاصرة والتي صدر عنها ما يزيد عن الـ 20 كتاب حتى الآن.

ومن أبرز ما يميز ذاكرة مصر المعاصرة هو اهتمامها بالجوانب الثقافية والاجتماعية، فلأول مرة توثق مكتبة الإسكندرية من خلال ذاكرتها الجديدة تاريخ الرياضة المصرية، كما أن هناك جانبًا آخر تضمه ذاكرة مصر المعاصرة ألا وهو وجود روابط مختلفة مرتبطة بكل حدث أو موضوع أو حاكم، منها الإصدارات التي صدرت عن الموضوع، والمقالات المختلفة التي تتناوله، بالإضافة إلى الأفلام الوثائقية والفيديو والأفلام الصوتية. كما أنها تدعم الموضوعات في كثير من الأحيان بالخرائط المتنوعة والشهادات والجوائز، ليس هذا فقط بل لعل أجمل ما تضمه ذاكرة مصر المعاصرة هو مجموعة الطوابع والعملات والأعلام المصرية الخاصة بكل فترة تاريخية.

من خلال ذاكرة مصر التاريخية والمعاصرة يستطيع الزائر أن يتجول بين ثنايا التاريخ مستعرضًا الجانب السياسي والاجتماعي والثقافي معًا، فبإمكانك أن تستعرض حياة محمد علي باشا وتاريخ مصر في تلك الفترة من خلال الموضوعات والأحداث المتنوعة التي تضمها الذاكرة.

تتميز ذاكرة مصر المعاصرة بسهولة التصفح وتنوع المداخل، حيث يستطيع متصفح الذاكرة الاطلاع على 14 نوعًا من المواد الوثائقية المختلفة "الصور، الوثائق، الأفلام، الملفات الصوتية، الأرشيف الصحفي، الإعلانات، الخرائط، الخطب، الأوسمة، النقود والعملات، الكتب وغيرها من مواد تقدم تاريخ مصر الحديث والمعاصر عن طريق أكثر من مدخل رئيسي منها:

  • حكام مصر: ابتداءً من محمد علي باشا ومن خلال هذا المدخل، يستطيع الباحث أن يتعرف على مصر في عهد كل حاكم وأهم التغيرات التي طرأت عليها في مختلف النواحي؛ سواء السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية أو الاجتماعية.
  • رؤساء الوزارات المصرية: يستعرض هذا المدخل تاريخ النظارات المصرية منذ بدايتها في عهد الخديوي إسماعيل، بالإضافة إلى التشكيل الوزاري لكل وزارة والسيرة الذاتية لكل رؤساء الوزارات في مصر وألبومات الصور ومجموعات الوثائق الخاصة بهم والأرشيف الصحفي لكل منهم.
  • الموضوعات: يضم هذا المدخل خمسة موضوعات رئيسية هي:

الحياة السياسية: ويندرج تحتها (الدستور-المجالس النيابية-الدواوين والنظارات والوزارات-الأحزاب السياسية-القضاء-القضية المصرية-ثورات وحروب-الأسطول-انتخابات واستفتاءات-معاهدات واتفاقيات-شارات الحكم-الحركات السياسية والوطنية-مراسيم وفرمانات وقوانين-مفاوضات ومراسلات-شئون داخلية-شئون خارجية).

الحياة الاقتصادية: ويندرج تحتها (الزراعة-الصناعة-التجارة-الري-وسائل النقل والمواصلات-الاتصالات السلكية واللاسلكية-السد العالي-قناة السويس-الطباعة والمطابع-النقابات المهنية).

الحياة الاجتماعية: ويندرج تحتها (المجتمع المصري-الإعلام والصحافة-المدن والقرى والأقاليم-الجمعيات الأهلية-الطب والصحة العامة-الرياضة والأندية الرياضية).

الحياة العلمية: ويندرج تحتها (التعليم-المجامع والمراكز البحثية والعلمية-الرحلات والكشوف الجغرافية).

ثقافة وفنون: ويندرج تحتها (ثقافة وأدب وفنون-القصور الملكية-المتاحف-أبنية ومنشآت).

  • الأحداث الهامة: من خلال مدخل الأحداث الهامة يستطيع الباحث أن يلقي نظرة سريعة على أبرز الأحداث التي مرت بها مصر خلال قرنين من الزمان، كالحملة الفرنسية على مصر وتولي محمد علي باشا حكم مصر وحملة فريزر ومذبحة القلعة وامتياز قناة السويس والثورة العرابية وإعلان الحماية البريطانية على مصر وثورة 1919م، وتأسيس بنك مصر واكتشاف مقبرة توت عنخ آمون ومعاهدة 1936 م، وحرب أكتوبر 1973م، وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد...إلخ.
  • الشخصيات العامة: عبارة عن مجموعة تزيد عن الخمسمائة شخصية من أبرز الشخصيات التي أثرت تاريخ مصر السياسي والثقافي والاجتماعي، وتضم شخصيات بارزة سياسيًا، وفنيًا، وعلميًا، ورياضيًا.

إن تلك المشروعات الرقمية الطموحة هي ما تدفعنا إلى التفكير الجاد لمشروع رقمي من خلاله يتم التربيط والتشبيك الرقمي بين كافة مواقع التوثيق الرقمي العربية ليمثل في النهاية بوابة رقمية لذاكرة العرب، ليكون لدينا بوابة رقمية مرجعية لكل العرب والراغبين في التعرف على التراث والتاريخ والعراقة العربية. وما يزيد من أهمية هذا المشروع، هو اعتباره كأداة لحفظ الذاكرة التاريخية العربية للمستقبل، وكذلك فان تطلعات الأجيال الجديدة إلى الفضاء الرقمي توجب العمل على إتاحة المواد التاريخية لهم في هذا الفضاء بصورة سهلة وتشد الانتباه.

خلاصة القول، أن الدول العربية ومؤسساتها المعنية يجب أن تولي اهتمامًا عاجلاً وكبيرًا بمستقبل التاريخ في ظل تصاعد دور الفضاءات الرقمية في تشكيل الهويات الوطنية المعاصرة. والاهتمام بالمكتبات التاريخية الرقمية وبلورة دورها في العملية التعليمية. والتفكير في مشكلات تجميع وتوثيق المواد التاريخية والوثائقية، والإتاحة في الفضاء الرقمي وتقنيات الرقمنة. وتقييم الجهود العربية في جمع وفهرسة المواد الوثائقية والتجارب الدولية في مجال الإتاحة على شبكة الإنترنت للمواد التاريخية والوثائقية. والتعاون بين كافة الجهات الوطنية في هذا المجال. والنظر إلى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ليس فقط كأدوات تعزز الإنتاجية والتعبير الإبداعي والتواصل، ولكن كأداة لخدمة التاريخ ومستقبله كقوة دافعة للأمم، من خلال حفظ ومشاركة تراث الأمم والوصول إلى ما يريده الباحث بسهولة ويسر دون عوائق زمانية أو مكانية وبجودة كبيرة ومحتوى متكامل، والأهم من ذلك إمكانية المحافظة عليه وتوريثه للأجيال القادمة.

مقالات لنفس الكاتب