; logged out
الرئيسية / قطاع السلع الأولية يشهد صدمة عالمية لم يسبق لها مثيل على مدار 30 عامًا

العدد 174

قطاع السلع الأولية يشهد صدمة عالمية لم يسبق لها مثيل على مدار 30 عامًا

الأربعاء، 01 حزيران/يونيو 2022

اندلعت الأزمة الروسية الأوكرانية في لحظة حرجة للاقتصاد العالمي، التي بدأ يشهد فيها تعافيا من صدمة جائحة كورونا، مما فاقم الأزمة وتضررت منها كل دول العالم؛ مما دعا، منظمة التجارة والتنمية التابعة للأمم المتحدة (أونكتاد) إلى تخفيض توقعاتها للنمو الاقتصادي العالمي من 3.6% إلى 2.6%، لعام 2022م. وأوضحت تحليلات وكالة موديز أن أثر هذه الأزمة سينتقل للعالم من خلال خمس قنوات رئيسة، وهي: ارتفاع أسعار الطاقة، وارتفاع أسعار السلع الزراعية والمعادن، واضطرابات في سلاسل التوريد، وارتفاع التضخم، وزيادة المخاطر المرتبطة بعدم القدرة على السيطرة على التضخم مع سيادة حالة من التشاؤم. ويرى البنك الدولي أن قطاع السلع الأولية يشهد صدمة عالمية لم يسبق لها مثيل على مدار نحو 30 عامًا، بعد أن عزز التوسع في التجارة والاستثمار والابتكارات الاقتصاد العالمي وخلق حالة من الازدهار وجعل العالم أقرب إلى استئصال الفقر المدقع، وسمح للدخول في أشد البلدان فقرًا بتضييق الفجوة مع أكثر البلدان ثراء، وقلل من تواتر الأزمات الاقتصادية الوطنية وحدتها. لكن هذا التقدم اصطدم بأزمتين تعاقبتا سريعًا، حين اندلعت الحرب في أوكرانيا، قبل أن تسنح للعالم فرصة الخروج من حالة الركود التي سببها فيروس كورونا -ومن الواضح بالفعل أن الأضرار الاقتصادية ستكون شديدة وطويلة الأمد على حد سواء. وتشهد سوق النفط حاليًا نوعًا من الارتباك منذ تصاعد الأزمة الروسية الأوكرانية في 24 فبراير 2022م، خاصة وأن روسيا تعد ثاني أكبر مصدر للنفط الخام بعد السعودية، وتزود أوروبا بنحو ثلث احتياجاتها. وكانت سوق النفط قد شهدت، اضطرابا خلال جائحة فيروس كورونا التي أدت إلى خفض الطلب وتقلب معايير السوق، وانخفض الطلب العالمي على الطاقة في عام 2020م، بنسبة 4٪، وهو أكبر انخفاض منذ الحرب العالمية الثانية. وفيما يلي نعرض لأهم تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وتداعياتها على الاقتصاد العالمي وعلى دول مجلس التعاون الخليجي بصفة خاصة، والتي تتمثل في تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي وانفجار موجة من التضخم، وحدوث صدمة لا مثيل لها في أسواق السلع الأولية والأمن الغذائي والتحول من سلاسل التوريد إلى إعادة التوطين والقومية التكنولوجية، ثم نطرح سؤالا حول هل نحن على أعتاب صدمة في إمدادات النفط العالمية؟ وما هي آفاق المستقبل الاقتصادي في دول مجلس التعاون الخليجي.

أولا: تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي وتصاعد الاتجاهات التضخمية

تتوقع المنظمات الاقتصادية والمالية العالمية تراجع النمو الاقتصادي العالمي خلال عام 2022م، وفقًا لعدة سيناريوهات محتملة: يشير السيناريو الأكثر توقعًا إلى أن النمو العالمي سيتراوح بين 3%، و3.6%، مقارنة بالتقديرات التي سادت قبل الأزمة الروسية الأوكرانية البالغة 4.1%.، وبناء على هذا السيناريو، من المتوقع انكماش الاقتصاد الروسي بنحو 5.1% خلال عام 2022م، كما تراجع توقع معدل النمو في الولايات المتحدة من 3.5% إلى 3.1%، ومنطقة اليورو من 4.0% إلى 3.4% خلال عام 2022م، وبالنسبة للصين فقد تراجعت توقعات النمو الاقتصادي بنسبة طفيفة من 5.4% إلى 5.2%، بعد  اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا.

كما تسببت الحرب الروسية الأوكرانية في تفاقم أزمة سلاسل القيمة، وتأثر صادرات البلدين من السلع الغذائية خاصة الحبوب، واضطراب أسواق النفط والغاز، مع أهميتهما في أسواق تلك المنتجات، مما أشعل الاتجاهات التضخمية في أسعار هذه السلع الاستراتيجية، وأدى إلى زيادة التضخم العالمي هذا العام، وربما يمتد إلى عام 2023م، وتتوقع الإيكونيمست تضخمًا عالميًا يقارب 6% هذا العام.

وفقا لصندوق النقد الدولي، بلغ متوسط معدل التضخم العالمي في عام 2021م، حوالي 4.3% مقابل 3.2% عام 2020م؛ كما ارتفع التضخم في الاقتصادات المتقدمة خلال عام 2021م، ووصل إلى 2.8%، وكان من المتوقع أن يصل إلى 2.3% في عام 2022م، 5.5% عام 2021م، مقابل 5.1% عام 2020م، وكان من المتوقع أن يشهد انخفاضًا في عام 2022م، ليصل إلى 4.9%.

ولكن وفقًا للتوقعات الاقتصادية العالمية المعدلة، الصادرة في التقرير الأخير لصندوق النقد الدولي، يناير 2022م، فإنه من المتوقع أن يظل التضخم مرتفعًا على المدى القريب، وسيبلغ متوسطه 3.9% في الاقتصادات المتقدمة، و5.9% في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية، في عام 2022م.

كما أن احتمال حدوث ركود تضخمي ما زال محتملاً، عند نحو 6%، وفقًا لنموذج بنك الاحتياطي الفيدرالي بنيويورك، ومع ذلك يمكن أن يؤدي التضخم، مقترنًا بمخاطر الإفراط في تشديد السياسات النقدية من جانب البنوك المركزية، إلى بيئة يتزامن فيها التضخم مع الركود الاقتصادي.

ويتسبب الركود التضخمي في تدمير الاقتصاد والأعمال التجارية، كما أنه لا يترك المجال أمام صانعي السياسات ليتخذوا سبيلاً مضمونًا للتعامل مع تلك الأزمة، إذ يتزامن ارتفاع الأسعار وانخفاض النمو وتراجع ثقة الأعمال. كما أن صانعي السياسات على مستوى العالم الذين يبحثون عن حلول من خلال التوسع المالي، سيكونون مقيدين لأن مستويات الديون مرتفعة بالفعل.

ثانيًا: الحرب الروسية الأوكرانية تسبب صدمة لا مثيل لها في أسواق السلع الأولية

الزراعة والأمن الغذائي

تأتي الزراعة والأمن الغذائي على رأس القطاعات الأكثر تضررًا، وتواجه العديد من الدول مستويات متزايدة من انعدام الأمن الغذائي، وهو ما يهدد تحقيق أهداف التنمية المستدامة بحلول عام 2030م، وحتى قبل جائحة كورونا، كان انخفاض الدخل وتعطل سلاسل التوريد في ازدياد بسبب الجوع المزمن والحاد؛ نتيجة الصراعات، والظروف الاجتماعية والاقتصادية، والأخطار الطبيعية، وتغير المناخ والآفات، ثم جاءت جائحة كورونا، التي أدت إلى زيادات حادة وواسعة النطاق في انعدام الأمن الغذائي العالمي، مما أثر على الأسر الضعيفة في كل الدول تقريبًا، ثم بعد ذلك جاءت الأزمة الروسية الأوكرانية لتعمق مشكلة الأمن الغذائي.

ويعود ذلك لدور كل من روسيا وأوكرانيا في إمداد الأسواق العالمية بالمواد الغذائية، فعلى سبيل المثال، في قطاع القمح، تبرز روسيا كأكبر مصدر عالمي، حيث تصدر نحو 32.9 مليون طن من القمح، أو ما يعادل 18% من الشحنات العالمية، وقد كانت أوكرانيا سادس أكبر مصدر للقمح في عام 2021م، حيث صدرت 20 مليون طن من القمح بحصة سوقية عالمية تبلغ 10%.

 وقد أثرت ثلاثة عوامل إضافية على الاتجاهات التصاعدية في أسعار الغذاء العالمية خلال عام2021م، كانت على النحو التالي: 

أسعار الصرف: منذ بداية الوباء حتى منتصف عام 2021م، انخفضت قيمة الدولار الأمريكي بنسبة بين 10 و15% مقابل العملات الرئيسة، نظرًا لأن معظم تجارة السلع بالدولار، فكان التجار يطالبون بأسعار أعلى للتعويض عن خسارة الصرف، مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار في السوق العالمية.

2-أسعار الشحن الدولية: وصلت تكلفة الشحن بالجملة إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق في أوائل أكتوبر 2021م، وارتفع مؤشر Baltic Dry، وهو مؤشر مركب لأسعار الشحن الدولي السائب (بما في ذلك أسعار الحبوب)، بأكثر من 400% بين يناير وأكتوبر 2021م.

 وظهرت خلال عام 2021م، اختناقات في العرض مع ارتفاع طلب المستهلكين على السلع المصنعة، وواجهت الصناعات التحويلية وشحن الحاويات اختناقات لوجستية ونقصًا في العمالة أثناء محاولتها التعامل مع الزيادة في الطلب.

3 -أسعار الأسمدة: ارتفعت أسعار الأسمدة مؤخرًا؛ ويرجع ذلك أساسًا إلى زيادة الطلب وارتفاع تكاليف الطاقة، وتحسبًا لزيادة الإيرادات وسط ارتفاع أسعار السلع الزراعية، زاد المزارعون من استخدامهم للأسمدة في أوائل عام 2021م، ما أدى إلى زيادة إحكام أسواق الأسمدة، التي تأثرت بالفعل باضطرابات الإمدادات الأخيرة، ودفعت الأسعار إلى الارتفاع.

 الأزمة الروسية الأوكرانية تضيف بعدًا جديدًا لأزمة الغذاء العالمية

تعد تداعيات الأزمة الروسية ــ الأوكرانية؛ من أبرز الأسباب التي تهدد الأمن الغذائي حاليًا، حيث تعتبر روسيا وأوكرانيا من بين أهم منتجي السلع الزراعية في العالم، وفي قطاع الحبوب، تعتبر مساهمتهما في الإنتاج العالمي ذات أهمية خاصة للشعير والقمح والذرة. وفي قطاع البذور الزيتية، كانت مساهمتهما في الإنتاج العالمي ذات أهمية خاصة لزيت عباد الشمس. وتمثل روسيا وأوكرانيا 29% من المبيعات السنوية الدولية من القمح، وقد ساهم التهديد بالحظر من الغرب ضد روسيا في ارتفاع أسعار القمح التي كانت بالفعل أعلى بنسبة 49% من متوسطها خلال الفترة 2017-2021م، ثم ارتفعت منذ تصاعد الأزمة في 24 فبراير بنسبة 30% أخرى.

لكن الضرر الذي يلحق بالإمدادات الغذائية العالمية سوف يمتد إلى ما هو أبعد من الحبوب، وسيستمر لفترة أطول من الأزمة نفسها، فروسيا وأوكرانيا تصدران معًا 12% من الحبوب المتداولة في جميع أنحاء العالم، ويمكن أيضًا أن يزيد عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي، كما سيؤدي ارتفاع أسعار المواد الغذائية إلى زيادة التضخم، مما يزيد من ضغوط الأسعار الناتجة عن زيادة أسعار الطاقة.

وستظهر تداعيات الأزمة من خلال ثلاث قنوات، وهي:

تعطيل شحنات الحبوب الحالية.

انخفاض أو تعذر الوصول إلى المحاصيل المستقبلية في أوكرانيا وروسيا.

تراجع الإنتاج في أجزاء أخرى من العالم.

والأكثر إثارة للقلق هو تأثير الصراع على الزراعة في جميع أنحاء العالم، حيث تعد المنطقة موردًا كبيرًا لمكونات الأسمدة المهمة، بما في ذلك الغاز الطبيعي والبوتاس، وكانت أسعار الأسمدة قد تضاعفت بالفعل قبل الأزمة، بسبب ارتفاع تكاليف الطاقة والنقل والعقوبات المفروضة عام 2021م، على بيلاروسيا، التي تنتج 18% من البوتاس في العالم.

ومن المؤكد الآن أن الأسعار سترتفع أكثر لأن روسيا، التي تمثل 20% من الإنتاج العالمي، تجد صعوبة في تصدير البوتاس. ونتيجة لكل هذا، سيتم إنفاق نصيب أكبر بكثير من الدخل على الطعام، وسيكون هذا أكثر حدة في الشرق الأوسط وإفريقيا وأجزاء من آسيا، حيث يعتمد نحو 800 مليون شخص بشكل كبير على قمح البحر الأسود. 

وقد تسبب السياسات الحمائية مزيدًا من الضغط، فقد زادت القيود الوطنية على صادرات الأسمدة العام الماضي، وقد تؤدي القيود على صادرات المواد الغذائية، إلى ارتفاع في الأسعار، ففي 8 و9 مارس حظرت روسيا وأوكرانيا صادرات القمح، وأعلنت الأرجنتين والمجر وإندونيسيا وتركيا قيودًا على تصدير المواد الغذائية في الأيام الأخيرة، وهو ما سيسبب أزمة غذاء كبيرة في العديد من الدول. 

ثالثًا: التحول من سلاسل التوريد إلى إعادة التوطين والقومية التكنولوجية

الإغلاقات الجديدة المرتبطة بالوباء في الصين، من أبرز الأحداث التي هزت سلاسل التوريد العالمية، جنبًا إلى جنب مع الحرب التجارية بين الصين وأمريكا، وغيرها من الاضطرابات المرتبطة بالوباء والمناخ، ومن المؤكد أن تسريع حركة الشركات الغربية لتقليل اعتمادها على الصين في المكونات والسلع النهائية، وعلى روسيا في المواد الخام سيزيد من تلك الاضطرابات. ففي السنوات الأربع الماضية، تسببت الحرب التجارية بين الصين وأمريكا، واضطرابات سلسلة التوريد الناتجة عن الجائحة، والأحداث المتعلقة بالمناخ في ارتفاع وتيرة توطين سلسلة التوريد بشكل كبير، فقد أُجري استطلاع في يناير 2020م، على 3000 شركة، وجد أن الشركات في مجموعة متنوعة من الصناعات - بما في ذلك أشباه الموصلات والسيارات والمعدات الطبية - قد تحولت، أو خططت لتحويل، على الأقل جزء من سلاسل التوريد الخاصة بها من المواقع الحالية، بدافع من الحرب التجارية بين بكين وواشنطن، كما أعلنت الشركات في حوالي نصف جميع القطاعات العالمية في أمريكا الشمالية عن نيتها "لإعادة التوطين".

وقد بدأ ذلك يحدث بالفعل، فعلى سبيل المثال، القرار الأخير الذي اتخذته شنايدر إلكتريك لبناء ثلاث منشآت تصنيع جديدة في أمريكا الشمالية، بالإضافة إلى خطة صانعي السيارات ومصنعي البطاريات لإنشاء 13 مصنعًا جديدًا لبطاريات السيارات الكهربائية في أمريكا.

كما تم الإعلان عن تحركات مماثلة في صناعات الطاقة الشمسية وأشباه الموصلات والتكنولوجيا الحيوية، وستغير الأزمة الروسية ـ الأوكرانية والارتباط الوثيق بين الصين وروسيا بشكل كبير من عملية تبادل الطاقة والمواد الخام والأجزاء الصناعية والسلع بين العالم الغربي والصين وروسيا، وهو ما سيؤدي إلى تسريع اتجاه إعادة التوطين

 أزمة الرقائق الإلكترونية

وتمثل المصاعب التي واجهت صناعة السيارات أبرز الأمثلة على تعطل سلاسل التوريد، وقد حدثت الاختلالات الأولى لاضطراب سلاسل توريد الرقائق الإلكترونية في الصين وتايوان-المناطق المهيمنة في إنتاج الرقائق -خلال 2020م، حيث أُجبرت المصانع على الإغلاق عندما ظهر الوباء لأول مرة. وكانت للأزمة عدة تداعيات على عدد من الصناعات، إلا أن صناعة السيارات –خصوصًا-تلقت ضربة كبيرة بسبب نقص الإمداد بالرقائق الإلكترونية، حيث أصبح من الصعب العثور على هذه الرقائق الضرورية لتجميع السيارات، وتراجعت أرباح شركة فورد -ثاني أكبر شركة لصناعة السيارات في الولايات المتحدة، كما أن عام 2021م، قد يشهد انخفاضًا في صناعة السيارات بمقدار 5 ملايين سيارة؛ بسبب نقص بعض مكوناتها 

نتائج أزمة نقص الرقائق الإلكترونية:

النتيجة الأولي: الاتجاه إلى زيادة الاستثمار في صناعة الرقائق، حيث يخطط كبار المنتجين مثل Intel وSamsung وTSMC لإنفاق مئات المليارات من الدولارات على صناعة تلك الرقائق خلال السنوات القليلة المقبلة، وفي يونيو الماضي، قام "روبرت بوش" -وهو مورد كبير لقطع غيار السيارات-بافتتاح مصنع رقائق خاص به بقيمة مليار يورو (1.2 مليار دولار) في دريسدن.

النتيجة الثانية: وهي تأقلم عملاء الرقائق الإلكترونية مع الأزمة، فعلى سبيل المثال، أعلنت بعض شركات صناعة السيارات مثل شركة "فولكس فاجن" عن خطط تطوير الرقائق الإلكترونية.

النتيجة الثالثة: وهي نتيجة غير مرغوب فيها، تتمثل في اندلاع "القومية التكنولوجية"، ويقصد بها رغبة الدول في تحقيق الاكتفاء الذاتي من إنتاج الرقائق الإلكترونية اللازمة للصناعات القائمة فيها، وهو ما يخنق سلسلة التوريد العالمية، حيث تخطط الولايات المتحدة لتوزيع مليارات الدولارات لجذب صانعي الشرائح الإلكترونية من شرق آسيا للداخل الأمريكي، وتريد أوروبا مضاعفة حصتها من الإنتاج العالمي إلى 20% بحلول عام 2030م، كما أعلنت بريطانيا أن مصير مصنع صغير للرقائق في ويلز أمر يتعلق بالأمن القومي.  

وعليه، يمثل الصراع ضربة جديدة لصناعة السيارات التي عانت من اضطرابات واسعة النطاق في سلسلة التوريد منذ بداية جائحة "كورونا"، ثم النقص العالمي في أشباه الموصلات الذي أدى إلى شل الإنتاج، في وقت كان التحول فيه إلى السيارات الكهربائية مكلفًا، وهو أكبر تحول في الصناعة منذ أكثر من قرن، ومن الممكن أن يتردد صدى الأزمة الآن إلى ما هو أبعد من القطاع، الذي يعد من بين أكبر القطاعات في أجزاء كبيرة من الدول الغربية.

رابعًا

 العقوبات التي فرضتها الدول الغربية على موسكو حظرًا لتجارة الطاقة مع روسيا، إذ أعلنت بريطانيا وأمريكا إيقاف استيراد النفط والغاز الروسيين، وتراجعت شركات النفط الكبرى والشركات التجارية وشركات الشحن والبنوك عن أعمالها التجارية مع الدولة، وقطعت أو علقت كبريات شركات النفط مثل شل وبريتش بتروليوم علاقاتها التجارية مع موسكو.

وتعد روسيا نقطة ارتكاز رئيسية لأسواق النفط، وتستحوذ على نصيب الأسد من صادرات النفط العالمية، إذ تشحن 8 ملايين برميل يوميًا من المنتجات النفطية الخام والمكررة لعملائها في أنحاء العالم. وتوقعت الوكالة أن ينخفض إنتاج النفط الروسي بنحو 3 ملايين برميل يوميًا اعتبارًا من أبريل.

تراجع المخزونات العالمية

 تزداد المشكلة تعقيدًا عند الوضع في الاعتبار حقيقة أن مخزونات النفط في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية كانت في يناير دون متوسطها لخمس سنوات بمقدار 335 مليون برميل، وعند أدنى مستوى لها منذ عام 2014م. ومن المرجح أن يضطر منتجو النفط إلى السحب أكثر من الاحتياطيات الضعيفة خلال العام المقبل لتغطية أزمة العرض.

هذا التراجع في العرض يعني ارتفاع الأسعار -مما يؤدي إلى حدوث ركود في الطلب، مما دعا الوكالة الدولية للطاقة إلى تعديل توقعاتها لنمو الطلب على النفط إلى 2.1 مليون برميل يوميا خلال عام 2022م، مما يمثل انخفاضًا بمقدار مليون برميل يوميًا عن تقديراتها السابقة، الأمر الذي يضع مستويات الاستهلاك عند 99.7 مليون برميل يوميًا على مدار العام.

هل هناك بدائل لسد العجز؟

 على الرغم من أنه يمكن للسعودية والإمارات، ثاني وثالث أكبر منتجي الطاقة في منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك)، أن تغطي الفجوة المتبقية في إنتاج النفط، فقد شهد الاجتماع الأخير للمنظمة موافقة الدول الأعضاء على زيادة الإنتاج الشهري هذا العام بمقدار ضئيل قدره 430 ألف برميل يوميًا، مع تراجعها بشكل تدريجي عن تخفيضات الإنتاج التي شهدتها حقبة كوفيد-19. وقالت أوبك إن أسواق النفط لا تزال متوازنة بشكل جيد، إلا أن التقلبات الحالية ليست بسبب عوامل جوهرية، بل تعود إلى التطورات الجيوسياسية الجارية.

كما أن هناك أيضًا عقبة فنية تتمثل في الاستبدال السلس لنقص الإنتاج بهذا الحجم حيث عجزت أوبك منذ فترة طويلة عن الوفاء بحصصها المتفق عليها، ويرجع ذلك في الغالب إلى مشكلات فنية وقيود أخرى على الطاقة، مما أدى بالفعل إلى سحب حاد من المخزونات العالمية، حسبما ذكرت الوكالة الدولية للطاقة في تقريرها. وهو القلق ذاته الذي أشار إليه الأمين العام لمنظمة أوبك، الذي قال في وقت سابق إنه لا توجد قدرة في العالم حاليًا يمكنها تعويض سبعة ملايين برميل [يوميًا] من الصادرات من روسيا.

ويتركنا هذا أمام خيار وحيد هو اللجوء إلى الاحتياطيات، حيث تشير التقديرات إلى أن المملكة العربية السعودية لديها احتياطات نفطية بنحو مليوني برميل في اليوم، فيما تمتلك الإمارات نحو 1.1 مليون برميل يوميًا، لكن التقرير يستبعد أن يلجأ البلدان إلى هذا الحل. وتحركت الولايات المتحدة بشكل منفصل لإتاحة 30 مليون برميل من احتياطاتها، كجزء من خطة أكبر بالتنسيق مع دول أخرى لدعم الإمدادات العالمية من خلال إطلاق 60 مليون برميل، بعد تحرك واشنطن لفرض عقوبات ضد موسكو.

مؤشرات التحول العالمي بعيدًا عن الوقود الأحفوري؟

 من المتوقع أن يكون لأزمة الإمدادات "نتائج دائمة" على سوق العالمية، بما في ذلك فرض إعادة التفكير في الاعتماد على الوقود الأحفوري، وتسريع التحول الأخضر. ذلك أن "التوافق بين أمن الطاقة والعوامل الاقتصادية قد يؤدي إلى تسريع التحول بعيدًا عن النفط

والجدير بالذكر أنه في حالة استمرار نمو استهلاك الطاقة الأولية عند المعدل نفسه كما في العقد الماضي، فإن الطلب العالمي على الطاقة سيرتفع بنسبة 75% عام 2050م، مقارنة بعام 2019م، حيث ستعزز عوامل النمو السكاني، والتوسع الحضري، وارتفاع الدخل والطلب، واستهلاك الطاقة على مدى العقود الثلاثة القادمة، لاسيما في الاقتصادات النامية سريعة النمو. ولموازنة هذه العوامل الدافعة، فإن هناك مجالًا لزيادة الكفاءة، ولكن على مدى العقود الخمسة الماضية، لم تعوض مكاسب الكفاءة بشكل كامل الطلب المتزايد على الطاقة، باستثناء البلدان الأكثر ثراءً. 

تداعيات ارتفاع أسعار النفط والغاز على الميزان التجاري للدول المتقدمة والناشئة

ارتفعت أسعار النفط إلى مستويات غير مسبوقة نتيجة للأزمة الروسية ــ الأوكرانية، حيث قفز سعر برميل نفط برنت إلى 127.98 دولارًا في 8 مارس 2022م، مقابل 80.87 دولارًا في 10 يناير2022م، بينما بلع سعر نفط برنت في 5 أبريل 2022 نحو 108.95 دولارات/ للبرميل. كما ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي، حيث بلغ سعر الغاز نحو 5.8 دولارات في 5 أبريل 2022م، مقارنة بنحو 3.8 دولارات في 10 يناير2022م، وتجدر الإشارة إلى استمرار أزمة الغاز الأوروبية، حيث انخفضت إمدادات الغاز في أوروبا بشكل حاد خلال عام 2021م؛ ويرجع ذلك إلى عدة أسباب وهي: الانخفاض الشديد في درجات الحرارة في الشتاء، وانخفاض سرعة الرياح في فصل الصيف، وتراجع الإمدادات الروسية من الغاز.

أما فيما يتعلق بالأسواق الناشئة فهي تعتبر بشكل عام مصدرًا صافيًا للنفط، لكن معظم هذه الصادرات تتركز في عدد قليل من الدول، حيث إن الغالبية العظمى من هذه الأسواق مستوردة للنفط والغاز.

وتتمثل أهم النتائج المترتبة على ارتفاع أسعار الغاز والنفط فيما يلي:

وفقًا لتقرير "أثر ارتفاع أسعار البترول على الحساب الجاري" الصادر عن مؤسسة "فيتش سوليوشنز"، فإن ارتفاع أسعار النفط سينعكس بالإيجاب على عدد قليل من الدول في الأسواق الناشئة والمتقدمة، وهي الدول المصدرة للنفط، والتي ستواجه طفرة في ميزان مدفوعاتها. أما غالبية الدول، وهي المستوردة للنفط، ستواجه عجزًا شديدًا في ميزان مدفوعاتها.

من المتوقع أن تكون لزيادة أسعار الطاقة عواقب وخيمة على الاقتصاد العالمي، فقد يؤدي ارتفاع أسعار الكهرباء والوقود إلى انخفاض حاد في الاستهلاك الكلي، كما أن الشركات لن تتمكن من التعامل مع أسعار الطاقة المرتفعة، ما يؤدي للمزيد من خفض الإنتاج، خاصة في الصناعات شديدة التنافسية.

اتجاه العديد من الدول وخاصة الأوروبية إلى التغيير في استراتيجية الطاقة. فمن المتوقع أن تكون هناك مشروعات جديدة تركز على الطاقة المتجددة وخطوط الأنابيب ومحطات الغاز المسال.

على الرغم من عدم اعتماد العديد من الدول، بما في ذلك أمريكا وبريطانيا ومناطق أخرى مثل الشرق الأوسط وآسيا والمحيط الهادئ، على النفط والغاز الطبيعي الروسي، فإن شراء الدول الأوروبية الطاقة من الأسواق البديلة سيزيد من الطلب من الأسواق غير الروسية، بدون زيادة مقابلة في المعروض، الأمر الذي يؤدي إلى مزيد من الارتفاع في أسعار الطاقة.

خامسًا: آفاق المستقبل في دول مجلس التعاون الخليجي

من المرجح أن تستفيد البلدان المصدرة للنفط في منطقة الخليج من ارتفاع أسعار الطاقة من خلال ارتفاع عوائد الصادرات وتحسين أرصدة المعاملات الجارية وأرصدة الموازنات العامة، خاصة أن صادرات الوقود تقوم بدور بالغ الأهمية في اقتصادات دول مجلس التعاون، غير أن التوقعات طويلة الأجل لأسعار النفط لا تزال منخفضة، مقيدة في ذلك بالتحول طويل الأجل بعيدًا عن النفط، وبالتالي لا تزال التحديات طويلة الأمد المتمثلة في تراجع العائدات النفطية في المقدمة والصدارة.

ومن المتوقع أن يرتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في دول مجلس التعاون الخليجي إلى 4,5% عام 2022م، لكنه لن يتمكن من الارتفاع إلى مستوى ما قبل الجائحة، حتى عام 2023م، ومن المتوقع أن يتحسن رصيد معاملات الحساب الجاري عام 2022م، بنسبة 7,9% نقطة مئوية لدول مجلس التعاون الخليجي، و3,9 نقطة مئوية.

وعلى الجانب الآخر، تتنامى توقعات التضخم داخل دول مجلس التعاون لأسباب عدة، من أهمها ارتباط العملات الوطنية بالدولار الأمريكي، وانعكاسات أسعار الطاقة على المستهلكين المحليين والشركات، مدعومة في ذلك بارتفاع أسعار السلع الأولية والاختناقات في جانب العرض، خاصة مع ارتفاع توقعات التضخم في الولايات المتحدة من 2.25 % قبل الغزو إلى 2,31 عقب الغزو، ورغم أن التضخم المتوقع لا يزال متواضعًا ويدخل في نطاق المستهدف، فإن التغير في توقعات التضخم سريع بشكل ملحوظ، وقد تجبر البنوك المركزية على رفع أسعار الفائدة بقوة أكبر مما كان متوقعًا من قبل.

كذلك فإن الشركات والقطاع العائلي سيواجهان ارتفاعًا في أسعار الطاقة والمواد الغذائية، كما قد يؤدي ارتفاع أسعار النفط إلى تقليل الضغوط على إجراء الإصلاحات مع ارتفاع عائدات النفط، مما سيعزز الحيز المتاح في المالية العامة لزيادة الدعم، كما أن تحسن موازين التجارة والمالية العامة الناجم عن ارتفاع أسعار النفط لبلدان المنطقة المصدرة للنفط، سيقابل بأثار سلبية على المستهلكين بل وقطاعات الأعمال في هذه البلدان بعدما تم تقليص برامج الدعم.

ويمكن التخفيف من احتمال حدوث زيادات حادة في أسعار النفط من خلال قيام الولايات المتحدة وبلدان أخرى بطرح كميات من الاحتياطيات الاستراتيجية، ولكن مع التوقع بأن تبقى الأسعار متقلبة على الأرجح، مما يخلق حالة من عدم اليقين للبلدان المصدرة للنفط إذا لم يرتفع إنتاج الطاقة العالمي لإعادة التوازن في أسواق النفط.

ومن المسلم به أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية، سيزيد على الأرجح من الضغوط التضخمية وانعدام الأمن الغذائي في بلدان المنطقة، غير أن الأثر العام سيتوقف إلى حد كبير على الآثار المباشرة لزيادات الأسعار وبرامج الدعم الحكومي، ومن المرجح أن تتوقف الآثار الأوسع نطاقًا على الرفاه على سياق الاقتصادات الوطنية، حيث تكون خسائر الرفاهة كبيرة بسبب عدم القدرة على التغير في إنتاج واستهلاك السلع الغذائية نتيجة للزيادة في أسعار القمح والحبوب.

وقد تشهد دول المنطقة انخفاضات في إيرادات قطاعات السياحة بسبب انخفاض أعداد السائحين من روسيا وأوكرانيا، وسيواجه البحرين بمستوى دين عام مقلق، وهو الأكبر على مستوى دول الخليج، حيث رفعت الجائحة والحرب الأوكرانية مستوى الدين العام في البحرين إلى 123% من الناتج المحلي وسط تحسن طفيف في الموازنة العامة للدولة. (البيانات السابقة مصدرها مجموعة البنك الدولي، مراجعة الحقائق: تنبؤات النمو في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. 2022م).

مقالات لنفس الكاتب