array(1) { [0]=> object(stdClass)#12962 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 174

المنطقة العربية مطالبة بإدراك المتغيرات وعدم التعجل تجنبًا لتصفية الحسابات

الأربعاء، 01 حزيران/يونيو 2022

هناك ارتباط وثيق بين النظام العالمي القائم والقارة الأوروبية الذي تشكل وإلى حد كبير استجابة للتحديات التي كانت تمثلها القارة بوصفها من أكثر مناطق العالم دموية نتيجة معاناتها الطويلة مع الحروب التي ما إن تنتهي واحدة منها حتى تولد حروبًا أخرى أكثر عنفاً وتدميراً.  هذه القضية هي التي شكلت خلفية النظام العالمي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية والذي قام على أساس إحداث توازن في القوى العالمية وتفادي الصراعات المباشرة في تلك القارة من خلال تصدير النزاعات إلى الأطراف. ولإحداث توازن القوى فقد وقع اختيار روزفيلت على أربع دول أسماها "الشرطة الأربعة" وهي بريطانيا، والاتحاد السوفيتي والصين، بالإضافة إلى الولايات المتحدة، حيث تم إضافة فرنسا فيما بعد، لتصبح من الدول المسؤولة عن الأمن العالمي، ولذلك تأسست الأمم المتحدة ومجلس الأمن الذي أعطيت إداراته إلى هذه الدول الخمس بوصفها دائمة العضوية وتتمتع بحق نقض أي مشروع قرار لا يخدم الأمن العالمي. ما أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها حتى شبت الصراعات في الصين وشبه الجزيرة الكورية وفيتنام والهند ومنطقة الشرق الأوسط وإفريقيا وأمريكا الجنوبية.  وهكذا نجح النظام العالمي في تحقيق الأمن على الساحة الأوروبية لفترة زادت على ثلاثة أرباع قرن (76 سنة بالتحديد). لكن ذلك انتهى مع عبور أول جندي روسي حدود أوكرانيا لتكون الشرارة لأول حرب على الساحة الأوروبية منذ ذلك الحين. 

 

هذه الحرب أكبر من كونها صراعاً على الأرض ووحدة وسيادة أوكرانيا، لأنها تمس جوهر النظام العالمي، وهي القضية التي أشار إليها الجنرال مارك ميلي رئيس الأركان الأمريكي في تصريح له لمحطة (سي أن أن) على هامش انعقاد مؤتمر وزراء دفاع وقادة أركان حلف الأطلسي في ألمانيا الشهر الماضي، حين قال: "إذا مر هذا الأمر (يقصد الغزو الروسي لأوكرانيا) وإذا لم تكن هناك ردة فعل على العدوان وتركت روسيا بدون دفع الثمن، فإن ذلك يعني نهاية النظام العالمي، وإذا حصل ذلك فإننا نوشك على الولوج في مرحلة شديدة الخطورة". وهي عبارة تختصر الكثير لأنها تشير بوضوح إلى التداعيات الكبيرة التي قد تترتب على عودة النزاعات المسلحة إلى أوروبا. هذه الأهمية تستوجب وقفة لاستشراف الآثار المحتملة على القوى المتصارعة والنظام العالمي وانعكاسات ذلك على المنطقة، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن الحقيقة كانت أول ضحايا هذه الحرب ولا يمكن الاعتماد على طرفي النزاع في توفير الحقائق، ولذلك وجب أن تكون المتابعة مبنية على أساس فهم مصالح ومواقف الأطراف المختلفة، وليس ما يعرضه إعلامها.

 

تقييم دور النظام الدولي والمنظمات الدولية في الحرب

قد تكون الدول الغربية محقة في موقفها من الغزو الروسي لأوكرانيا من أن تلك الحرب تشكل خرقاً للأعراف المكتوبة والتفاهمات غير المكتوبة التي تم العمل بها منذ مؤتمر يالطا. وربما كانت روسيا محقة في شكواها من أن الولايات المتحدة وحلفاءها هم من بدأ الأزمة بمحاولتهم ضم أوكرانيا والعديد من الدول التي كانت في المعسكر الشرقي إلى حلف الأطلسي وأن ذلك يشكل مخالفة لمبدأ توازن القوى الذي هو أيضاً من أسس النظام العالمي.  لكن المشكل هنا يكمن في أن منظومة الأمن العالمي فشلت في إيجاد الحلول لتفادي الحرب وهي عاجزة عن إيقافها على الرغم من كونها على درجة كبيرة من الخطورة لأنها تضع العالم على شفا حرب عالمية جديدة قد لا تهدد وجود بعض الدول لكنها ربما تهدد الوجود البشري على الأرض كما نعرفه اليوم.

 

ليست هذه هي المرة الأولى التي يفشل فيها النظام العالمي في تحيق السلام العالمي، لأن هذا السلوك تجلى على أوضح صوره عندما قامت الولايات المتحدة وبريطانيا بجر الأمم المتحدة ومجلس الأمن إلى تبني خطتهما لغزو العراق على أساس دعاوى كاذبة مما أفقد المنظمات الدولية الكثير من المصداقية. بقية الدول الخمس فرنسا والصين وروسيا ليست بريئة لأنها هي الأخرى تعسفت في استخدام موقعها الذي أوكل إليها للحفاظ على السلم العالمي في سبيل تحقيق مصالح ضيقة لا تمت إلى دورها العالمي بصلة.  نذكر هذه الحقيقة للتقديم إلى الفشل الكبير في موقف المنظمات الدولية وعجزها عن القيام بدورها في حفظ الأمن العالمي والذي تجلى أكثر من أي وقت مضى خلال الأزمة الأوكرانية حيث تحولت الأمم المتحدة إلى منصة للخطابات ومجلس الأمن إلى منبر تبادل الاتهامات بين الدول الخمس والتباري في أي منهما يستخدم حق النقض، وانحصر دور الأمم المتحدة ومنظماتها الفرعية في القضايا الإنسانية مثل غوث اللاجئين والبحث عن ممرات آمنة للمدنيين في مناطق الصراع، وحتى هذه النواحي كان أداء المنظمات الدولية فيها اعتياديًا ولم يصل إلى مستوى الحدث.  هذا الفشل المدوي للمنظمات الدولية لا ينعكس عليها فقط وإنما ينعكس على مجمل النظام العالمي الذي تتوالى إخفاقاته في تحقيق أي نتيجة تبرر للعالم أساس وجوده، وسوف يأتي اليوم الذي تعض فيه الدول الخمس على أصابع الندم على تفويتها فرصة لعب دورها الحقيقي في حفظ الأمن العالمي، لأنها يومًا بعد يوم وأزمة بعد أزمة تعطي المبررات لزوال النظام العالمي الحالي وإبداله بنظام أكثر كفاءة وقدرة منه لذلك فإذا أردنا أن نتابع أداء المنظمات الدولية ومواقفها فما علينا إلا النظر إلى مواقف الدول الخمس لأنه لا توجد اليوم سياسة عالمية ولا موقف دولي يؤدي دوره في الأزمات الدولية.   

 

حسابات روسيا من التخطيط إلى الارتباك:

 

عند نشر المقال تكون عملية الغزو الروسي لأوكرانيا قد تجاوزت الثلاثة أشهر، وهي فترة لم يكن يتوقعها أحد لحرب غير متكافئة بكل المقاييس فإجمالي الإنفاق العسكري الروسي يبلغ عشرة أضعاف إنفاق أوكرانيا على قواتها المسلحة لذلك توقعت المخابرات الأمريكية سقوط العديد من المدن في شرق أوكرانيا في اليوم الأول وسقوط العاصمة كييف في غضون أيام من بداية الحرب بدليل أنها عرضت على الرئيس الأوكراني المساعدة في إخلائه إلى مكان أكثر أمناً في الساعات الأولى لانطلاق الحرب. الاجتياح الروسي السريع لم يحصل وجاءت المعطيات لتشير إلى أن تقديرات القيادة الروسية حول العملية وسيرها والإعداد لها كانت مفعمة بالتفاؤل. بغض النظر عن الأسباب وراء الإخفاق الروسي، إلا أنه أصاب المراقبين في الغرب بالحيرة والتساؤل عن طبيعة ردة فعل القيادة الروسية على تلك الحالة والتي يرجون ألا تكون خارج المعقول، لأنهم يخشون من اتخاذ القيادة الروسية الخطوة الشمشونية "علي وعلى أعدائي" والتي قد تشمل توسيع المعارك وجر حلف الأطلسي إلى الصراع المباشر من خلال مهاجمة دولة من دوله تحت أي ذريعة أو باستخدام السلاح النووي ولو بشكل تكتيكي ونطاق محدود.

 

التطورات الميدانية وضعت القيادة الروسية في وضع صعب جداً من حيث ضعف قدرتها على المناورة، فهي لا تمتلك اليوم سوى ورقة التهديد بالأرض المحروقة وتكرار ما قامت به في كل من الشيشان وسوريا، وهذا خيار يبدو أن القيادة الأوكرانية، ومن ورائها الدول الغربية، لم تعد تخشى منه كثيراً، أو على الأقل تتظاهر بذلك، كما أنه يبعد القيادة الروسية عن تحقيق أهدافها، لا بل يؤدي إلى تضييق الخناق عليها من خلال تقوية حلف الأطلسي وتوسيعه ليقترب أكثر من الحدود الروسية، وهو الأمر الذي كانت تسعى لإيقافه.  الورقة الثانية التي بيد القيادة الروسية هي توسيع دائرة الحرب، وهو خيار ليس باليسير لأنها تعلم قبل غيرها بأن العواقب ستكون وخيمة والنتائج غير مضمونة. يبقى هناك خيار الحل السلمي من خلال المفاوضات وتجرع مرارة إيقاف الحرب من دون تحقيق جميع الأهداف والاكتفاء بالبعض منها.  سير العمليات يوحي بوجود قناعة لدى الطرفين بأن نتيجة الحرب سوف تقرها طاولة المفاوضات المباشرة، لذلك فقد تحول الصراع إلى محاولة تحقيق أكبر المكاسب لدعم الموقف التفاوضي وليس لحسم الحرب عسكرياً.

 

أثر الأزمة على الساحة الأوروبية

كانت الساحة الأوروبية قبل الحرب مشغولة بالعديد من المبادرات التي كانت تسعى لإحداث تغيرات جذرية في بنية السياسة والاقتصاد والأمن على القارة ضمن عملية إعادة التموضع بعد الهزة الكبيرة التي أحدثها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. فجاءت مبادرة ألمانيا للانفتاح الاقتصادي على روسيا والتي توجت بمشروع "نورد ستريم 2" لنقل الغاز الروسي من بحر البلطيق إلى ألمانيا وهي فكرة أوسع بكثير من قضية الغاز لأنها كانت تسعى إلى جذب روسيا إلى المجموعة الأوروبية والتي عارضتها الولايات المتحدة منذ يومها الأول, وكذلك المبادرة الفرنسية الداعية إلى إقامة جيش أوروبي موحد يتولى الأمن بدلاً من حلف الأطلسي الذي بدا وكأنه قد فقد مبرر وجوده نتيجة انشغال الولايات المتحدة عن أوروبا واهتمامها بالمحيط الهادي الذي أزاح الأطلسي من هرم الأولويات الاقتصادية والأمنية الأمريكية، أو على الأقل هكذا بدت الأمور قبيل الحرب.

 

هذه الأفكار كانت تطمح لقيام عصر ذهبي أوروبي يقوم على أساس أن دمج التقنية الأوروبية مع الموارد الطبيعية الروسية، النفط والغاز والمعادن، من شأنه أن يعيد القارة الأوروبية مع بريطانيا أو بدونها إلى الصدارة العالمية.  لكن حصل ما لم يكن بالحسبان.  دخلت القوات الروسية إلى أوكرانيا وحطمت جميع تلك الخطط وحولت تلك الأحلام إلى أوهام ولتعيد إلى أذهان الأوروبيين مآسي الحروب التي ظنوا ولو لفترة أنهم تعافوا منها.  وإذا لم يكن ذلك كله كافياً فقد جاءت تصريحات بوتين حول حق بيلاروسيا في ممر إلى المياه (وهو تهديد مباشر لدول البلطيق)، وتصريح الجنرال رستم منكاييف نائب القائد العام للمنطقة الوسطى في الجيش الروسي بأن "روسيا تسعى لإيجاد ممر من ماريوبول إلى القرم ومن هناك إلى منطقة ترانسينتريا" وهي منطقة في مالدوفا يتحدث معظم سكانها اللغة الروسية وتدعم روسيا مجموعات متمردة تسعى لإلحاقها بها.

 

هذه القضايا أرعبت الأوروبيين وجعلتهم يشعرون ربما أكثر من أي وقت مضى بأن أمنهم مرتبط بالتحالف مع الولايات المتحدة ولذلك فقد سارعت فنلندا وهي دولة تمتلك شريطًا حدوديًا مع روسيا يمتد لمسافة 1300 كليو متر وكانت تلتزم الحياد سابقاً إلى الإعلان عن رغبتها في دخول حلف الأطلسي وطلبت الحكومة من الحلف الإسراع في العملية ومن المتوقع أن تحذو السويد وهي دولة محايدة أخرى حذو فنلندا وتطلب الانضمام إلى حلف الأطلسي. هذا التحول في موقف الدول الأوروبية يشكل الخسارة الأكبر لروسيا والتي سوف تبقى تدفع تكاليفها على المدى المنظور وهي خسارة أكبر من أن تعوضها أية مكاسب أمنية على الأرض الأوكرانية.

 

آثار الأزمة على الساحة الأمريكية

 كانت عملية الغزو الروسي لأوكرانيا بمثابة هبة لم تكن تحلم الولايات المتحدة بأفضل منها لأنها فتحت أمامها آفاقاً للتعامل مع القضايا الداخلية والخارجية. داخلياً شكلت الأزمة الفرصة الكبيرة للرئيس بايدن لكي يظهر بمظهر القائد العسكري أمام الرأي العام الذي كان يشكك في قدراته القيادية خصوصاً وأن الحكومة تترقب بقلق شديد نتائج الانتخابات التشريعية القادمة في نوفمبر من العام الحالي والتي قد تؤدي إلى خسارة الحزب الديمقراطي (حزب الرئيس بايدن) أغلبيته الضئيلة في مجلسي النواب والشيوخ مما يعني وصول الحزب الجمهوري بتفويض شعبي لمناكفة الرئيس وأجندته التشريعية والتي من شأنها أن تقلل حظوظ بايدن في الفوز بولاية ثانية بعد عامين ونصف من الآن. خارجياً منحت الأزمة إدارة بايدن الفرصة التي كانت تنتظرها لإعادة بناء علاقاتها الخارجية مع الحلفاء وخصوصاً في القارة الأوروبية التي بدأت تساورها الشكوك في جدية الشريك الأمريكي.

 

الأزمة الأوكرانية أعادت ترتيب أولويات الإنفاق العالمي إلى ما قبل أزمة الكوفيد-19, وأعطت جرعة قوية من المنشطات في ذراع صناعة السلاح الأمريكية والأوروبية التي كانت تعاني من تبعات أزمة كوفيد-19 التي صرفت الأنظار عن شراء السلاح بسبب تركيز الدول على شراء الأدوية واللقاحات وصارت اليوم تبحث عن الصواريخ والمضادات للطائرات بدلا من المضادات الحيوية.

 

الإدارة الأمريكية تنظر إلى الأزمة من زاوية أثرها على المصالح العالمية أكثر من كونها تجاوز روسيا للأعراف الدولية بغزوها لدولة جارة وهي مقاربة تذكرنا بمقولة هنري كيسنجر في وصف الحرب العراقية-الإيرانية: "من قال إن جميع الحروب سيئة"، لذلك فإن الموقف الأمريكي الداعم لأوكرانيا بقوة لا يفعل ذلك للحفاظ على وحدة التراب الأوكراني وإنما يسعى لإدارة الصراع ضمن رؤيته هو للنزاع وما قد يترتب عليه من آثار هي أكبر من أوكرانيا. لذلك فإن العديد من الدلائل تشير إلى أن الموقف الأمريكي يسعى لإدامة الأزمة وتحويلها إلى حرب استنزاف لروسيا على أساس "لا غالب ولا مغلوب" من خلال إبقائها ضمن الحدود المرسومة لها وألا تخرج عن حدود السيطرة. وقد أكد وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن هذا التوجه أثناء لقائه الرئيس الأوكراني في مدينة كييف بأن هدف الولايات المتحدة من الحرب هو "إضعاف روسيا".  وهذا يفسر طبيعة الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة والذي لا يشمل المعدات الهجومية بل اقتصر على المعدات الدفاعية مثل مضادات الطائرات ومضادات الدبابات، بالإضافة إلى الدعم المعلوماتي ومساعدة القوات الأوكرانية في استهداف مقرات القيادة الروسية على الساحة الأوكرانية.

 

أثر الأزمة على الصين

وضعت الأزمة الأوكرانية الصين في موقف لا تحسد عليه صحيح أنها كانت ولاتزال مؤيدة للموقف الروسي، لكنها لم تكن ترغب في أن تتطور الأمور إلى الحالة التي وصلت إليها لأن ذلك يضر بمصالحها من عدة زوايا، أولها أنها كانت تتمتع بعلاقات اقتصادية جيدة مع جميع الدول الأوروبية وهي اليوم صارت مطالبة بأن تختار الوقوف مع طرف دون آخر لذلك فهي في هذا المجال خاسرة بغض النظر عن النتائج، كذلك فإن الارتفاع الكبير في أسعار النفط الذي نتج عن الأزمة يؤثر سلبًا على الاقتصاد الصيني لأنه يرفع كلفة الإنتاج ويؤدي إلى ارتفاع أسعار البضائع مما يزيد في لهيب التضخم العالمي استعاراً والذي قد يؤدي بالنتيجة إلى حصول حالة ركود أو كساد عالمي يكون أثره على الاقتصاد الصيني القائم على التصدير أكبر من أثره على غيره من الاقتصاديات الكبرى.

 

هناك أثر آخر للحرب في أوكرانيا على الصين وهو أن الأزمة تسببت في فرض الولايات المتحدة والدول الغربية العديد من العقوبات الاقتصادية على روسيا ودللت أمام العالم على قدرة الغرب على إحداث أضرار اقتصادية موجعة في بلد يعتبر قوة عسكرية كبيرة. هذه الحقيقة وضعت الصين على مفترق طرق وعليها أن تختار بين استمرار الانخراط في النظام الاقتصادي العالمي القائم على الدولار أو الانسحاب إلى اقتصاد جديد أساسه العملة الصينية وربما عملات أخرى. الخيار الثاني يحمل في طياته العديد من المخاطر بالنسبة للصين على الأقل في هذا التوقيت لأنه قد يأتي على تجربتها الاقتصادية برمتها، لكون معظم تعاملاتها التجارية واستثماراتها الحالية بالدولار، ولأنها تعلم ربما أكثر من غيرها بأن محاولات الخروج من هيمنة الدولار، ولو على نطاق لم تنجح في الماضي وقد لا تنجح الآن وأن خطوة كهذه تنطوي على مخاطر كبيرة. الأيام القادمة سوف تنبئ عن المسار الذي سوف تختاره الصين وأيا ما كان الخيار فإن ذلك سوف يشكل منعطفاً مهمًا في توجهات السياسة العالمية لسنوات قادمة.

 

الأزمة في أوكرانيا بلا شك قد أثرت في حسابات الصين ومقاربتها تجاه هدفها البعيد وهو إعادة جزيرة تايوان.  هذه المسألة كانت محوراً مهما في حديث وليام بيرنز رئيس وكالة المخابرات الأمريكية أثناء مؤتمر أقامته صحيفة "فاينانشيل تايمز" في واشنطن حيث قال: "إن حرب روسيا على أوكرانيا قد أثرت على حسابات الصين حول التعامل مع قضية تايوان" وأضاف بأن: "القيادة الصينية صدمت من المقاومة الشرسة التي واجهها الغزو الروسي وبالثمن الباهظ الذي تدفعه روسيا جراء الحرب" وأنه لا يظن "ولو لوهلة واحدة بأن ذلك سوف يوهن من عزيمة الصين حيال ضم تايوان لكنه سوف يؤثر في حساباتهم في اختيار التوقيت وكيفية القيام بذلك".        

       

تداعيات الأزمة على المنطقة

أحد أهم تداعيات الحرب في أوكرانيا وكما توقعنا في مقال سابق كان أثرها على المفاوضات الجارية حول عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي مع إيران هذه المفاوضات التي وصلت إلى نقطة حاسمة قبيل الغزو وتراجعت بسبب إثارة موسكو مسألة العقوبات الغربية عليها وانعكاساتها على تلك المفاوضات. الواقع هو أن روسيا طرف مهم في الاتفاق وسوف تستخدم موقعها للضغط على الولايات المتحدة والدول الأوروبية التي تسعى إلى تحقيق الاتفاق في أقرب فرصة والذي زادت الأزمة الأوكرانية من الحاجة إليه لكونه الوسيلة لرفع العقوبات عن النفط والغاز الإيراني الذي من الممكن أن يعوض بعض النقص الحاصل في النفط والغاز الطبيعي الروسي وهو أحد العوامل التي تدفع بروسيا لوضع العراقيل أمام الاتفاق. بالطبع هناك عوامل أخرى تحول دون الوصول إلى اتفاق منها انشغال الإدارة في واشنطن بالقضية الأوكرانية واحتمال تعارض التوقيع على الاتفاق مع إيران مع أولويات الانتخابات التشريعية بعد خمسة أشهر.

 

الجانب الأهم في المتغيرات التي ترتبت على الأزمة الأوكرانية والمنطقة هي بروز أهمية النفط والغاز بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها. فقد جاءت الأزمة الأوكرانية لتعصف بأسواق الطاقة العالمية ليرتفع سعر النفط الخام إلى مستوياته القياسية المتمثلة بأسعار عام 2012م، وذلك بسبب عدة عوامل منها فرض عقوبات على قطاعي النفط والغاز في روسيا. بالطبع ليس هناك بديلًا للنفط الروسي خصوصاً بوجود العقوبات على إيران وفنزويلا سوى الطلب من الدول المنتجة وخصوصًا دول أوبك زيادة الإنتاج والاستفادة من الطاقة الإنتاجية الفائضة لدى المملكة العربية السعودية لرفع إنتاجها النفطي لمواجهة النقص الموجود في الأسواق العالمية.  لكن تلك الدول ولأسباب غير معلنة لم تستجب للنداءات الأمريكية برفع الإنتاج لحد الآن ولكل منها حساباته الخاصة. بالطبع هذه المواقف قد يعاد النظر فيها إذا أصبحت الخشية من أزمة كساد عالمي أكثر إلحاحاً.

 

الأوضاع الضاغطة في أسواق الطاقة العالمية والتأخر في التوقيع على الاتفاق النووي مع إيران سوف تؤدي إلى زيادة أهمية العراق بالنسبة للإدارة الأمريكية بسبب امتلاك العراق لخزين كبير من النفط الخام والغاز الطبيعي.  هذه الأهمية قد تدفع بالولايات المتحدة للضغط في سبيل تشكيل حكومة عراقية جديدة إن لم تكن موالية لها فعلى الأقل متوازنة لكن القوى الأخرى قد تستخدم نفوذها لوضع العراقيل أمام ذلك التحرك كوسيلة للضغط على الولايات المتحدة بالإضافة الى إعادة الروح في تنظيم داعش الذي بدأ يعيد نشاطه من جديد خصوصاً بعد عملية مهاجمة "سجن الصناعة" في الحسكة وكان من نتائجها هروب المئات من قادة التنظيم من السجن والذين انتقلوا إلى معسكراتهم عن طريق المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري.  هذه العملية التي تذكرنا بما حصل قبل سنوات عندما هاجم التنظيم سجني التاجي وأبو غريب في العراق وتمكن من تحرير قادته بتواطؤ واضح من مسؤولين عراقيين ليعود التنظيم بعدها ويكتسح معظم الأراضي السورية والعراقية فهل يعيد التاريخ نفسه؟ وهل تجد الإدارة الأمريكية المشغولة بالهموم الداخلية والأزمة الأوكرانية الاهتمام الكافي لإنجاز المهمة في العراق وتجنيب نفسها والعراق والمنطقة تكرار مأساة عودة داعش؟

 

خلاصة القول إن الأزمة التي ترتبت على غزو روسيا لأوكرانيا هي من أكبر التحديات التي واجهت النظام العالمي في العقود الأخيرة وقد أثبتت مرة أخرى فشل النظام العالمي وأدواته المتمثلة بالمنظمات الدولية في تجنيب العالم مآسي الحروب. هذا الفشل قد يجعل الأزمة تتطور لتضع أقطاب السياسة العالمية في مواجهة مباشرة لذلك ننصح المسؤولين في المنطقة بالعمل على إدراك حجم التغيرات التي يمكن أن تتمخض عنها هذه الأزمة والعمل على ألا تتحول المنطقة إلى ساحة لتصفية الحسابات من قبل القوى العالمية والإقليمية وكذلك أخذ الحيطة والحذر وعدم التعجل في اتخاذ مبادرات لها آثار بعيدة لأن المرحلة الحالية هي مرحلة مخاض ولها ارتدادات كبيرة سوف تجعل من العالم بعد الأزمة الأوكرانية مغايرًا لما كان قبلها. 

مقالات لنفس الكاتب