; logged out
الرئيسية / أوكرانيا: نُذُر حرب باردة ببدايات ساخنة

العدد 174

أوكرانيا: نُذُر حرب باردة ببدايات ساخنة

الأربعاء، 01 حزيران/يونيو 2022

غزت روسيا أوكرانيا، في الساعات الأولى من صباح يوم 24 فبراير 2022م، تحت عنوان: "عملية خاصة"، أرعبت الجميع، وأدان زعماء العالم هذا الغزو باعتباره عملاً غير قانوني، ولا يمكن تبريره، وطفق الجميع يبحثون عن إجابات لأسئلة مكشوفة. فاسترجع العالم نبوءات المنجمين، وتصريحات السياسيين، وكل ما كان، أو كاد يُفصح عن "احتمالات" المواجهة بين روسيا والغرب عبر أوكرانيا. وأوغل الإعلاميون والساسة في البحث بين أضابيرهم للاستعانة بما أبانته، المحاذير والمقادير على فهم طبيعة الحرب الجارية الآن. واستعادت ذاكرتي حديثاً مفعماً بالأفكار الدالة، لمستشار الأمن القومي الأمريكي السابق زبيجنيو بريجنسكي، الذي كان مُخاطِبُنَا الرئيس، عام 2013م، في المؤتمر السنوي للأمن العالمي، الذي ينظمه منتدى GLOBSEC، في العاصمة السلوفاكية براتسلافا، والذي دُعِيتُ إليها وقتئذ كأمين عام لمنتدى الفكر العربي في عَمَّان. وقد تناول بريجنسكي في كلمته الافتتاحية موضوعيين؛ أولهما، ضرورة التفكير الجاد في مسألة ضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وأهمية ذلك لمستقبل الاتحاد؛ والثاني، التحذير القوي من أطماع روسيا، وأن شعورها القومي بهويتها وتميزها يجعلان من الصعب اقترابها من الوحدة الأوروبية. وقال بريجنيسكي، ذات يوم، إن روسيا من دون أوكرانيا تُعَد في نظر روسيا دولة قومية طبيعية، ولكن روسيا مع أوكرانيا تشكل إمبراطورية. ومع التوسع في التحليلات، تجاهل الغرب هذه الحقيقة، التي تبدو بَدَيهِيَّة عند أخذها قِياساً على ما كانت عليه روسيا قبل ثلاثة عقودٍ. إن هذا تاريخ حديث ينبغي أن تُقرأ على ضَوئه الأحداث الجارية الآن، إلا أن ردات الفعل الأولية لزعماء الغرب، ومحاولات استدراكاتهم اللاحقة، أظهرت غالبها الجهل بمعرفة هذا التاريخ، أو التغافل عنه، والعجز عن قراءة الواقع، والارتباك في توجيه المواقف، وصياغة التعبير عنها.

قوة الإدانة:

أثار الغزو الروسي لأوكرانيا إدانة واسعة في جميع أنحاء العالم، خاصة الغرب، الذي بدا قادته انفعاليين، وأخذتهم عاطفة الغضب إلى تجاوز لغة اللياقة الدبلوماسية، ووصفوا الرئيس الروسي فلاديمير بوتن بِنِعُوتٍ عَفَّتْ عنها الحرب الباردة. وإن بدت عاطفة الغرب، التي تصم آذان الحقائق، تجاه أوكرانيا، مبررة؛ لأن عدواناً روسياً وقع بالفعل، وأن حرباً وحشية تحصد الأرواح البريئة في بلد تتنازع القوتان العظميان على تاريخه وهويته، إلا أن صمت الفعل حتى لحظة التوغل والشروع في المغامرة يشر بشيء من النفاق والمناورة، إن لم نقل المؤامرة. وذلك لأنَّ ترك الرئيس فلاديمير بوتن ينفذ وعداً معلناً قطعه على نفسه بالهجوم والاحتلال غير قواعد اللعبة تلقائياً، وفرض على الغرب مجرد المواكبة، وأوجب عليه اللعب بحسب قواعد المواجهة الجديدة. ومع تفاقم الغضب ضد روسيا بشأن جرائم حرب يقولون ارتكبها جنودها في أوكرانيا، والتلويح بأن بوتين يواجه اتهامات بجرائم الحرب، وأن محكمة الجنايات الدولية قد تكون المكان المناسب للحرب القانونية الكونية القادمة.

لقد شجبت الدول والجماعات والمنظمات الدولية والأفراد على السواء هذا الاعتداء باعتباره "عدواناً غير مبرر" ضد أوكرانيا. وولّدت هذه الإدانة دعماً كبيراً بأشكال عديدة، فرأينا حتى الآن: (أ) عقوبات ضد روسيا وأوليغارشيها، (ب) دعم دول مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي والفيفا وحتى ماكدونالدز، لوضع عدد قليل من المنظمات، (ج) تقديم سلسلة من الدعم النقدي واللوجستي والقائم على الأسلحة لأوكرانيا، والصينيون يُخادِعون، والهنود يُساوِمون، والكثيرون متفرجون. والأخطر على الحلف الغربي ما يتبدى من انقسام وتأرجح في المواقف؛ دافع البعض الضرورة الاقتصادية، ومحرك البعض الآخر ترسبات المنافسة السياسية، ويتوجس الجميع من جدوى العقوبات الاقتصادية، وعدم اليقين بفاعليتها في وقف، أو إبطاء الحرب. كما أن هناك تحسباً للآثار المتعدية لهذه العقوبات الاقتصادية، التي تجلت في أكثر من مظهر.

عقوبات جديدة:

الولايات المتحدة، وحلفاؤها في الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع، لن تتوقف عن العمل المشترك وتنسيق فرض عقوبات جديدة على روسيا، كلما شعرت بأن ما أوقعته عليها لم يبلغ غاية الردع المطلوبة. وبغض النطر عمن تَعَمَّدَ قتل المدنيين، الذين تم الكشف عن جثامينهم في "بوتشا"، أو من استهدف محطة قطار مدينة "كراماتورساك"، بصواريخ توشكا، وتنفي روسيا استهداف المدنيين، قائلة إنها تنفذ "عملية عسكرية خاصة" لمواجهة "القوميين" الأوكرانيين و"النازيين الجدد". وغيرها مما سيقع من أحداث يكون ضحيتها الأبرياء في الأراضي الأوكرانية، فإن الملف القانوني للحرب سيكون في غاية الأهمية بالنسبة لواشنطن وحلفائها في مواجهة موسكو. وإذا كانت الحرب قد بدأت عسكرية، إلا أنها أصحبت حرباً اقتصادية عالمية، وتوقعت دراسة نشرتها شركة "Consultancy" للاستشارات الإلكترونية، أعدتها شركتا "Centre for Economic Recovery" و"Easy Business" للاستشارات والأبحاث، أن تتجاوز كلفة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا 20 مليار دولار يومياً. وأشارت إلى أن الأيام الـ 5 الأولى من الهجوم، كلفت روسيا 7 مليارات دولار، كخسائر مباشرة ناتجة عن العملية بما فيها خسائر القطع الحربية والجنود. وتوقعت أن تكاليف العملية ستزداد مع اتساع نطاق التدخل العسكري، بما قد يتجاوزها الـ20 مليار دولار يوميًا.

الحرب، إضافة إلى كلفتها العسكرية والاقتصادية، تتجه الآن لأن تكون قانونية، تُسَخَّر لها مؤسسات العدالة الدولية، التي يملك فيها الغرب نفوذاً لا تستطيع روسيا مقارعته. وما طردها من مجلس حقوق الإنسان، التابع للأمم المتحدة، إلا ضربة البداية والإنذار المبكر لموسكو حول ما ينتظرها من معارك قانونية لا تمتلك لها أسلحة مكافئة لأسلحة الغرب. وإذا كانت الحرب العسكرية قد بدأت بترتيبات لوجستية، واتخذت عنصر المباغتة، فإن المعركة القانونية بدأت بحملات إعلامية ضاربة في المسلك الأخلاقي لقيادة بوتين للحرب، ركزت على حادثتي "بوتشا" و"كراماتورساك"، وبادرت بوصف تعيين الجنرال "ألكسندر دفورنيكوف"، كقائد للقوات الروسية في أوكرانيا، واتهمته، قبل أن يبدأ، بأنه سيرتكب مجاذر وحشية في حق المدنيين. وهذا عين ما قاله المستشار النمساوي، كارل نيهامر، الاثنين 11 أبريل 2022م، قبيل زيارته إلى موسكو، وعقب زيارة أجراها السبت 9 أبريل إلى العاصمة الأوكرانية كييف، حين زعم بأنه سيبلغ بوتين بـ"أنه خسر الحرب أخلاقياً". وكان القائد العام للقوات المسلحة البريطانية ​توني راداكين​، أشار، إلى أن "بوتين خسر حربه في أوكرانيا بسبب سوء تقديرات كارثية، وأن الضباط الروس نقلوا معهم الجنود من دون علمهم بأنهم سيقاتلون هناك، وهو تكتيك جنوني ومفلس أخلاقياً". كذلك وصف الرئيس الأمريكي ​ بايدن​، بوتين، بأنه "مجرم حرب"، وأشار إلى أنه سيدعو إلى عقد محاكمة مختصة بجرائم الحرب.

القراءة الرئيسة:

ورد كثيراً في الأيام الماضية أن أحد أهم أسباب غزو أوكرانيا هو موقعها الجغرافي. إذ ترى روسيا ضرورة حيادها كجدار عازل. لذلك، عارضت موسكو انضمام كييف إلى الناتو، وقال بوتين إن أوكرانيا ليست دولة متميزة عن روسيا بسبب العلاقات الثقافية والتاريخية واللغوية المشتركة، وأنها تنتمي بشكل مباشر إلى دائرة نفوذ روسيا. ويؤكد أنه لا يريد أن تكون أوكرانيا جزءاً من فلك الغرب. وربما احتل شبه جزيرة القرم وفقاً لهذه الرؤية، مثلما غامر الاتحاد السوفيتي من قبل في أفغانستان. فيما يرى الغرب أن هذه الفكرة كانت ذات أهمية خلال فترة الحرب الباردة، إلا أنها لم تعد مقبولة اليوم. وللسبب نفسه، لا تريد روسيا أن تنضم جورجيا إلى الناتو. لذلك، شهدنا بالتزامن مع الحشد الأوكراني المستمر منذ عام، نشاطاً مكثفاً من أمريكا بالحديث عن أنّ الروس يحشدون كي يبدؤوا عملية عسكرية. وقام وزير الخارجية الأمريكي بلينكن، الأوكراني الأصل، بعرض معلومات استخبارية أمريكية عن سيناريوهات الهجوم الروسي أمام مجلس الأمن. وكان لهذا الأمر صدى يُذَكِّر بالوضع، بين عامي 2002 و2003م، قبيل الهجوم الأمريكي على العراق. ففي ذلك الوقت أيضاً قال الأمريكيون بأنّ الهجوم مبني على تقارير وتحاليل استخباراتية. في حينه، أعلنت المخابرات الأمريكية بأنّها غير مقتنعة بوجود أسلحة دمار شامل في العراق، ما يزال البحث عنها جارٍ بلا نتيجة.

أصرت موسكو؛ كجزء من تبريراتها للغزو، أنها تخشى من انضمام جارتها للناتو، لكن الحقيقة تقول إن الناتو لم يمنح أوكرانيا خطة عمل العضوية للانضمام إليه، لأن أمريكا والعديد من الدول عارضتها، خاصة ألمانيا وفرنسا. وفضلوا التريث، ولم يرغبوا في استعداء روسيا نظراً لاعتمادهم عليها في النفط والغاز. ومنذ عام 2008م، أوضح قادة الناتو أن أوكرانيا لن تحصل على جدول زمني للانضمام إلى الناتو. إلى جانب أن معارضة عضوية أوكرانيا في الناتو وكانت هناك أسباب متعلقة بأوكرانيا ذاتها أعاقت انضمامها؛ منها أنها لا يمكن أن تساهم في الأمن في أوروبا، ولكنها بدلاً من ذلك ستصبح عبئاً، ومسؤولية أمنية ثقيلاً، بسبب تداخلها الجغرافي وعلاقتها الثقافية والاجتماعية بروسيا، كما أن جيشها لم يتم تطويره بشكل كافٍ. كما أن الفقر والفساد والمخاوف بشأن سيادة القانون كانت عقبات لعدم التفكير في ضمها. وأن أوكرانيا لم تكن مؤهلة للانضمام إلى الناتو لأنها لم تتحكم في أراضيها وحدودها. وأغرب ما كان من شروط الانضمام للناتو، التي لا يتطرق إليها الإعلام والمعلقون، هو مطالبة بعض أعضاء الناتو لها بأنه ما لم تعترف بشبه جزيرة القرم كجزء من الاتحاد الروسي، وهو ما لم تكن مستعدة أوكرانيا للقيام به، فلن تتمكن من أن تصبح عضواً في الناتو، وهو ما لم يحدث حتى الآن.

أهداف متناقضة:

ظل الغرب يراقب لأشهر، وأكثر من 100 ألف جندي روسي يحاصرون أوكرانيا من ثلاث جهات، حيث يهدد الكرملين بتصعيد حربه المستمرة، منذ 2018م، ولأنه لم يتحدث مسؤول أمريكي، أو أوروبي، عن سيناريوهات المواجهة إذا قرر بوتين الدخول مرة أخرى، أو كيف يمكن صد هذا الهجوم الروسي؟ وتداول الخبراء السيناريوهات المحتملة، من إمكانية الاستيلاء على منطقة استراتيجية لإنشاء جسر بري من روسيا إلى شبه جزيرة القرم المحتلة، إلى تصعيد الحرب المختلطة، التي تمزج بين العمليات المعلوماتية والهجمات الإرهابية المزيفة، إلى الحرب الخاطفة الشاملة للدبابات والطائرات الروسية، التي تجتاح أوكرانيا. لكن لم يطرح بلد غربي مقترحاً حول ما هي الطريقة الأفضل لحماية أوكرانيا من عدوان الكرملين؟ فإذا صَحَّ أن الغرب أراد بِـ"تَحُّرُشِه" الممتد بروسيا جرها إلى حرب خاسرة، واتخاذ أوكرانيا مدخلاً لتوريطها، وأن يحقق عبرها "الهزيمة الاستراتيجية لروسيا"، فيبدو ذلك محتملاً، إذا ركنا فقط لقراءة ما يصرح به الساسة الغربيون من "تقييمات" لسير العمليات على أرض الواقع الآن. لذلك، ستشكل هذه الحرب فاصلاً كاشفاً لمتناقضات الصراع السياسي في العالم؛ في مختلف أوجه تمثلاته المؤسسية، وادعاءاته القانونية، التي تستدعي إعادة تقديرات كافة منظومات البحث والدراسات، ومراكز التخطيط والتحليل، كل ما يتعلق بطبيعة منظوراتها، وتصميمات رؤاها المساهمة في هندسة صناعة واتخاذ القرار، وتطوير وعيها بتعقيدات تداخل المصالح الاقتصادية، وصراعات النفوذ، والتي لا تكاد تٌبقِي على شبكات التحالف التقليدية.

أما بالنسبة لروسيا، فقد أعلنت مراراً أن لها أهدافاً محددة مما أسمته بـ"العملية الخاصة" في أوكرانيا. ورغم تباين هذه الأهداف؛ حسب تصريحات القادة الروس، إلا أن الإجماع الظاهر ينعقد على هدفين، يبدو أنهما في أفق التحقق، وهما: نزع السلاح، والقضاء على النازية في أوكرانيا. والظن أن الأول هو من الناحية العملية قد أنجز عبر التدمير الهائل للبنية التحتية العسكرية، كما أن الجيش الأوكراني الموجود بغالبيته في الجنوب هو في حُكم المحاصر، ومسألة تحقيق تحييده لن تطول. وسبق للناتو أن أشار إلى عدم قدرة أوكرانيا على تجنيد الشباب، لأنّ الجيش لم يكن لديه مصداقية؛ لا بين الشعب ولا حتّى داخل الجيش. وهذا ما دفع مدربي الناتو، الذين انتدبوا إلى دعم تشكيل قوات شبه عسكرية، مثل كتائب آزوف، وتطويرها وتسليحها، وتسليم قيادتها لليمينيين. وهذه الكتائب لا تضمّ فقط أوكرانيين، بل متطرفين يمينيين من أكثر من ١٩ جنسيّة، ولديها قرابة ١٠٠ ألف مقاتل، وشكلت امتداداً لظهور اليمينيين المتطرفين في كييف، وانقلابهم اللاحق على السلطة.

سيناريوهات:

حرب روسيا على أوكرانيا من نوع من الحروب، التي تتباين فيها المواقف، وتكثر فيها صناعة السيناريوهات، مثلما تزاحمت في تفسيرها التكهنات. فإذا كانت روسيا ترى أنها حققت، أو في طريقها إلى تحقيق أهدافها، وأن الغرب اقترب من هزيمة روسيا، أليس من الضروري أيضاً التفكير في مخرج يبعد الطرفين المتحاربين من شبح استمرار الأزمة ويمنحهما أملاً لحفظ ماء الوجه، ويجنب العالم الانحدار للمواجهة الشاملة؟ وهذا سؤال يبدو من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تقديم إجابات بسيطة ونهائية عليه، خاصة وأننا نرى كيف تتكشف الأحداث بشكل أكثر وضوحاً ومأساوية، وتتنازعها سيناريوهات مختلفة؛ بين العمل على تصعيد الصراع والمناداة الخجولة باجتراح الحل، الذي يفضي لنهاية هذه الحرب. غير أن المؤكد أن هناك فجوات جيوسياسية يستغلها الغرب لإضعاف روسيا وجعل بوتين منبوذاً عالمياً، وتستغلها روسيا بعناد في سعيها لإضعاف الجهود الأمريكية والأوروبية.

 التصعيد:

  • تتكشف سيناريوهات التصعيد أسرع من غيرها، فالدعم السياسي والعسكري يمضي بوتيرة أسرع مما كان عليه بداية الحرب، والإعلان عنه صار أفصح وأكثر جرأة، تضاعف من آثاره المعنوية المخاطبات شبه اليومية للقيادات الأوكرانية لبرلمانات العالم ومحافل ائتماره الأخرى، كمنتدى أنطاليا والدوحة، وجرأة الزيارات الرسمية لمسؤولين غربيين، التي تتسارع نحو كييف.
  • وهناك إصرار على الإجراءات العقابية الاقتصادية لن تتوقف، وإن تعدت أضرارها روسيا إلى غيرها، وقد تنتهي بحظر لاستيراد النفط والغاز الروسي، ليس فقط من قِبَل الدول الأوروبية، وإنما قد تلجأ ذات الدول إلى معاقبة من يحاولون تعويض صادرات روسيا من هذه السلعة الاستراتيجية؛ خاصة الصين والهند.
  • وينظر الغرب إلى مجموعة العشرين كمحك لاختبار التزام غيرها بما فرضته، وما تزمع فرضه من عقوبات، خاصة وأن المجموعة ما تزال منقسمة بـ"التساوي" حول حضور الرئيس بوتين قمتها السنوية هذا العام في بالي بإندونيسيا. إذ قاومت الصين والهند دعوة بايدن لطرد روسيا تراجعت الصين عن دعوة الرئيس الأمريكي جو بايدن لمجموعة العشرين لطرد روسيا، بحجة إنه لا توجد دولة لديها هذه القوة. بينما يرى آخرون في المجوعة أن لا فائدة اقتصادية، أو سياسية تذكر في تجنب حضور بوتين.
  • وتجاوز المسار القانوني مرحلة التهديد، إلى الإجراءات العملية، إذ أعلنت المفوضية الأوروبية، أنها "تشجع" الدول الأعضاء، التي فتحت تحقيقات في جرائم حرب محتملة في أوكرانيا على الانضمام إلى فريق التحقيق المشترك، الذي تنسق أعماله وكالة التعاون القضائي الأوروبية "يورودجاست"، والتي فتحت بالفعل تحقيقات وطنية في ثمانية بلدان أوروبية، هي فرنسا، تشيكيا، ألمانيا، إستونيا، لاتفيا، وسلوفاكيا، السويد، وإسبانيا. كما تم تشكيل فريق تحقيق مشترك من قبل بولندا، وليتوانيا، بالتعاون مع أوكرانيا وبدعم من "يورودجاست".
  • غير أن المؤكد، الذي ستتمخض عنه نتيجة هذه الحرب، وأياً كانت مساراتها، ومهما كانت خواتيمها، هو أن سباقاً جديداً للتسلح قد بدأ، خاصة بعد أن تختبر جميع الأطراف مخزوناتها من الأسلحة المتطورة في المحرقة الأوكرانية. ويستتبع هذا إنهاكاً غير مسبوق لاقتصاديات الكثير من الدول في الشرق والغرب، الأمر الذي سيلقي بظلاله القاتمة على الاقتصاد العالمي برمته، ويضعف معدلات النمو، ويزيد من نسب البطالة، ومن ثم يشجع على الاضطرابات الاجتماعية والثورات الشعوبية.

الخروج:

  • إن ما يُطرح من سيناريوهات "للخروج" من الأزمة يحمل في طياته أيضاً قدراً من التشاؤم، خاصة ما يتحدث منها عن "معركة مطولة دون نتيجة حاسمة" في أوكرانيا، وهذا وضع يقترب من الحالة السورية، مع اختلاف درجة ومقدار بين الحالتين. فروسيا تسعى إلى انتصار كامل لعمليتها الخاصة، حتى وإن لم تبلغ حد غزو كييف وقتل زيلينسكي، أو إجباره على النفي. ولن يستسلم بوتين وهو على يقين أنه سيتلقى دعماً نشطاً من الصين وكوريا الشمالية، ومن غيرهما، عندما تتمايز الصفوف أكثر.
  • لكن يبقى تعويل الكثيرين على أن مفتاح الخروج موجود في بكين، إذ يترسخ اعتقاد أن شي جين بينغ وحده هو القادر على دفع بوتين إلى الاعتدال، خوفاً من زعزعة الاستقرار السريع للاقتصاد العالمي، يمكن للزعيم الصيني التوسط، إلى جانب تركيا، بين أوكرانيا وروسيا، رغم بعض القناعات بأن الدبلوماسية الصينية غير مجهزة للقيام بدور الوساطة.
  • إن أحد سيناريوهات الخروج من الأزمة هو "تقسيم البلاد"، الذي سيمكن روسيا من ادعاء الانتصار مع تنازلها بالحفاظ على دولة أوكرانية في غرب البلاد، وعاصمتها لفيف الجديدة، ويمكن أن يكون نهر دنيبر بمثابة خط ترسيم الحدود، كييف مقسمة كما كانت برلين في يوم من الأيام، وأن يوافق زيلينسكي على هذا الترتيب لتجنب المزيد من الدمار الخطير، الذي حاق بغروزني، أو حلب.
  • ومما تستبعده موسكو وتأمله واشنطن، أن يكون "الفشل الروسي" أحد سيناريوهات الخروج، وهذا يتطلب صمود الأوكرانيين واستمرار دعم الغرب لهم، وأن تستمر روسيا في مواجهة التكاليف الاقتصادية والبشرية المتزايدة للغزو، الذي ينتهي ببوتين إلى التراجع، مع تعهدات إقليمية بالحفاظ على أمن روسيا القومي.
  • إن هذا السيناريو المحتمل، مع الإجحاف، الذي يمكن أن يستشعره الأوكرانيون، قد يبدو أقرب إلى الواقع بالنظر إلى جميع النتائج المحتملة الأخرى. فروسيا أياً كان النظام، الذي سيهيمن على الأوضاع فيها لن تقبل بأقل من ضمانات كهذه، لأن أوكرانيا بميولها الغربية ستظل تمثل تهديداً وجودياً. لكن التقسيم، على وجاهته من الناحية السياسية، إلا أنه لن يمنع استمرار المواجهة بين الغرب وروسيا.
  • المؤكد أن القوى العالمية المُحبة للسلام تتطلع إلى وجود سيناريو للخروج من الأزمة نتيجة لاتفاق بين روسيا وأوكرانيا، لكن اليقين عندها أن رد فعل الغرب ربما يكون أكثر سلبية مما يتوقع الجميع. لأن الغزو حقق له "صحوة" واجماعاً لم يتحقق له إبان الحرب الباردة، وهو يسعى لمزيد من الإجراءات لخنق الاقتصاد الروسي وعزل البلاد، وتحقيق الهزيمة الاستراتيجية، التي قال بها ويتطلع إليها.
  • المسار القانوني قد يكون أحد سيناريوهات الخروج غير المكلفة مادياً للغرب والمرهقة معنوياً وأخلاقياً لروسيا. فغزو دولة ذات سيادة ينتهك القواعد الأساسية للقانون الدولي، وهي ليست ظاهرة ستختفي بمجرد انتهاء الحرب في أوكرانيا. وإذا لم يتم تقييد فلاديمير بوتين قانونياً سيظل خطيراً على المدى الطويل، ويمكن أن يتوقع منه العالم الاستعداد لهجمات جديدة. وقد يحتاج المسار القانوني إلى نهج طويل الأمد، على أن يتضمن مخرجاً لروسيا الدولة والمجتمع، ولا يشجعهما أكثر على الالتفاف حوله.

ما الحل:

إن الغرب يعي أن الحفاظ على موقف حازم مع بوتين سيثير حتماً اعتراضات، ومع ذلك، يرى القادة في أمريكا وأوروبا ألا ينبغي أن يعني هذا أي ضعف، أو تنازلات من جانبهم. رغم أنه من المحتمل جداً أن يبرز وضع مماثل لما حصل بعد هجوم روسيا عام 2008م، على جورجيا، أو ضم شبه جزيرة القرم عام 2014م، ولأسباب استراتيجية بعيدة المدى، وخوف من حرب باردة جديدة أكثر استقطاباً، قد يشعر الغرب مرة أخرى بالحاجة إلى إعادة دمج روسيا ومراعاة مخاوفها الأمنية، بذات الروح، التي حدثت إبان أزمة الصواريخ الكوبية، وكيف أدت التنازلات المتبادلة إلى انفراج الأزمة. لذلك قد يضطر الغرب؛ وليس روسيا، إلى رفع دعوى لتجنب العقوبات، "التي لا رجعة فيها"، خاصة وأن العقوبات الحالية، التي تستهدف " فصل " روسيا عن الاقتصاد الدولي" قد حملت أيضاً تكلفة باهظة على الدول والمجتمعات الغربية. وما الهجوم المحموم على مصادر الطاقة البديلة، واللجوء لاستهلاك احتياطيات الطاقة الاستراتيجية، أو الضغوط التي تُمارس على العديد من الدول لزيادة إنتاجها، إلا مظهر أولي لأزمات ستتناسل كلما امتد أمد الحرب في أوكرانيا.

والمؤكد أن تسعى دول في معسكر الغرب لإثبات أن العقوبات مكلفة للغاية بالنسبة لاقتصاداتها بحيث يتعذر عليها مواكبتها على المدى الطويل، بما في ذلك دولاً أوروبية ظلت تبدو أقل حماساً للكثير من هذه العقوبات. على سبيل المثال، هل ستظل سياسة الطاقة الجديدة في أوروبا قابلة للاستمرار إذا توقف القتال وتم التوصل إلى اتفاقية سلام؟ ومحاولة الإجابة على هذا السؤال ربما تُثبِت أن ليست روسيا الوحيدة، التي تحتاج استراتيجية خروج تحفظ ماء وجهها من هذه الحرب، بل يحتاجها الغرب الثمل بإيمانه بتفوُّقه، كما يحتاجها الأوكرانيون، الذين يشعر بعضهم أنهم ضحية صِراع "الأفيال". لذلك، فإنه إذا لم يتمكَّن العالم من إيجاد إستراتيجية للخروج، سيتحقَّق حلم بوتين، وسيزعم أنه يخوض في الواقع حرباً ضدَّ "الغرب" لاستقطاب دعم الغاضبين من كل أنحاء المعمورة، ويغذي بذلك الدعاية المستعرة حول صراع القيم والثقافات والحضارات.

وإذا تساءلنا، في الختام: ما الحل؟ فبما أنه لا يبدو أن هناك حل عسكري في الأفق القريب، وأن تجييش المشاعر في الغرب على أشده، وسيف العقوبات على روسيا بلغ ذروته، والدبلوماسية تتراوح مكانها؛ من دون أن يعلو سقف طموحات القائمين عليها عتبة الاحتياجات الإنسانية الطارئة، وعقد اتفاقات مسارات الطوارئ للمدنيين الراغبين في الهرب من أتون الحرب، والبحث عن مظان لجوء قد لا تكون بعدها عودة. وكأنما نَتَعَمَّدُ هُنا قراءة عجلى في أزمة تتعمق بين تعقيدات خيارات بوتين ومسارات أزمة الغرب؛ غير أن هذه المسارات المتعرجة للأزمة، تتطلب من الساسة وكبار المحللين استدعاء مخزون ذاكرة التاريخ، وأن يبحثوا عن مماثلة تهدي قادة العالم لحل يجنب البشرية مصير حرب كونية لا تبقي ولا تذر. والقطع ليس هناك أفضل من أزمة الصواريخ في شبه جزيرة الخنازير الكوبية، التي تصلح لتفسير الحجج الروسية بشأن أمنها القومي، كما تصلح مدخلاً للتفكير الجدي في الخروج من وحل الحرب.

لهذا، فإن مقاربتها بما آلت إليها الأمور في أوكرانيا اليوم، وهي تتفاعل كأزمة مواجهة بين قطبين، ومقارنة ما تمحض عنها بما يمكن أن يحدث غداً، يوفر بصيص أمل لحل ممكن. فقد كانت رغبة الاتحاد السوفيتي للاقتراب من خصمه اللدود الولايات المتحدة وقتئذ عارمة، وبادلته واشنطن بإرسال صواريخ إلى تركيا، وكادت المواجهة أن تؤدي إلى حرب عالمية، لولا حكمة رؤساء بوزن نيكتا خروتشوف وجون كينيدي. فقد رأت أمريكا أن نشر صواريخ سوفيتية بجوارها فيه تهديد لأمنها القومي، واستشعرت روسيا الخطر ذاته من وجود صواريخ أمريكية في تركيا. ومثلما هي رغبة أمريكا الآن في ضم أوكرانيا لحلف الناتو، ترى روسيا أن في ذلك تهديدًا لأمنها القومي. لقد كانت هناك حكمة دفعت خروتشوف وكيندي لعقد صفقة سياسية، أو مساومة استراتيجية، سحب بمقتضاها الطرفان صواريخهما، وظلت تركيا عضواً في الناتو، كما ظل النظام الشيوعي قائماً في هافانا إلى يومنا هذا. فهل تقرأ واشنطن وموسكو تجربتهما السابقة ويجنبا العالم مأزق الانحدار لحرب عالمية ثالثة نووية لا تبقي ولا تذر؟

مقالات لنفس الكاتب