; logged out
الرئيسية / إعلام الحروب: الأولوية لمن .. الحقيقة أم المصلحة؟!

العدد 174

إعلام الحروب: الأولوية لمن .. الحقيقة أم المصلحة؟!

الأربعاء، 01 حزيران/يونيو 2022

لا مراء أن نعت الحرب الدائرة رحاها في شرق أوروبا بكونها حربًا روسية ـ أوكرانية، نعت يجافي الحقيقة إلى حد بعيد .. أما النعت الدقيق لها فهو كونها حربًا بين قوتين عظميين ملعبها حتى الآن هو أوكرانيا؛ هاتان القوتان العظميان هما روسيا من طرف والناتو من طرف آخر. وهو ما عبر عنه وزير الخارجية سيرجى لافروف بقوله إن «الناتو، في جوهره، يخوض حربًا مع روسيا من خلال وكيل» يدلل على صدق توصيف لافروف أن المساعدات التي قدمتها دول الناتو (أمريكا والاتحاد الأوروبي) لأوكرانيا  منذ بداية الحرب وحتى 5  مايو 2022م، ؛ أي بعد 69 يومًا من الحرب، حوالي 29 مليار دولار منها 11.2 مليار من الولايات المتحدة و 2.1 مليار من كندا والباقي من الاتحاد الأوروبي ( 15.7 مليار)، أي ما يقارب  420 مليون دولار يوميًا، وبعدها بأيام ستة في 11مايو  أقر مجلس النواب الأمريكي مساعدة لأوكرانيا بقيمة 40 مليار دولار، في خطوة تأتي عقب تحذير الرئيس بايدن من أنّ الأموال المخصّصة لمساعدة كييف لمواجهة الغزو الروسي ستنضب على الأرجح في غضون أيام.  

     ورغم أن ساحة هذه الحرب شهدت تطورًا ملموسًا عما سبقها من حروب حديثة بين طرفين أوروبيين؛ لتطور الآليات الحربية المستخدمة فيها، كما شهدت ساحة الحرب الاقتصادية الداعمة لها زخمًا هائلاً نتيجة لذلكم التداخل والاعتماد المتبادل غير المسبوق بين اقتصاديات العالم .. إلا أن التطورات التي شهدتها ساحة الحرب الإعلامية بين طرفي النزاع تكاد تكون هي الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية؛ كنتيجة   للقفزات التقنية التي حظي بها ميدان الاتصال على مدار العقود الماضية، تلك القفزات حملت معها ثورة رقمية أتاحت الفرصة أمام كل شخص لصناعة ما يشاء من محتوى وبثه وغرسه وإعادة تدويره وهيكلته وتطويعه على النحو الذي يتوافق مع المصالح والغايات التي يصبو إليها. وهي قفزات لم تجعل فقط العالم قرية عالمية Global village)‏) على حد تعبير الباحث في نظريات وسائل الإعلام الكندي "مارشال ماكلوهان" في كتابيه غوتنبرغ غالاكسي صناعة الإنسان المطبعي (1962  وفهم وسائل الإعلام (1964م) ، وإنما جعلته إن جاز لنا التعبير(كبسة زر) على هاتف خِلوي ..لتضحى بعدها كل أحداث العالم رهنًا لحركة إصبع صاحب هذا الهاتف.. استقبالاً وإرسالاً. 

       وفي ظل هذه التطورات التي أضفت على وسائل ومنصات الإعلام قدرات تأثير غير مسبوقة كان من الطبيعي ألا تترك الدول -لاسيما تلك التي تمثل أطرافًا رئيسة في الحرب الدائرة رحاها الآن-هذه الوسائل تنقل ما يحلو لها من معلومات، وتطرح ما يعن لها من آراء، دونما ضبط لبوصلتها؛ لا لتحقق ما تصبو إليه من انتصارات في الميدان الإعلامي فحسب؛ وإنما لتتصدى لما يوجه لها من قبل الإعلام المعادي من ضربات .. ولا لتوجيه الرأي العام داخل بلدانها، أو داخل بلدان الطرف المعادي فقط؛ وإنما لتوجيه الرأي العام العالمي برمته.

واتخذ هذا التحكم مظاهر عدة مارسها طرفا الصراع كان أبرزها: حجب وسائل بعينها من الوصول للجمهور، ومواجهة ما يرى كل طرف أنه تضليل إعلامي من قبل الطرف الآخر بطرق غير معهودة، ثم تزييف الحقائق على نحو فج أتاحته التكنولوجيا الحديثة، وغيرها من الأساليب التي قد تحقق مصالح طرفي الصراع، إلا أنها تجور على حق الجمهور في تبيان الحقيقة .. وفيما يلي نتناول هذه المظاهر بشيء من الإيجاز:

 الحجب .. الحماية من شرور البث:

   قبل أن نتلمس أبرز مظاهر الحجب المتبادلة بين طرفي الصراع؛ يجدر أن نقر بأن الحجب لا يخرج عن كونه منع المحتوى الذي تعتبره الجهة الحاجبة معاديًا للحقيقة من وجهة نظرها ومخرباً للصالح العام. وغايته من ثم "حماية المتلقين من شرور البث". والقوس مفتوح أمام الحجج التي تبرر ذلك بين أقصى يمين يتجلى في حماية الأمن القومي ومجابهة أكاذيب الأعداء، وأقصى يسار يتجلى في السيطرة على مصادر معلومات ومنابع تكوين الرأي العام بين الجماهير المستهدفة من الحجب.

     وإذا ما تتبعنا تجليات ذلك الحجب في أرض الواقع سنجد أن حرب الحجب سبقت الغزو الروسي لأوكرانيا؛ ففي أوائل فبراير الماضي أغلقت السلطات الروسية مكتب "دويتشه فيله" (الألمانية)، ومنعت بث برامجها عبر القمر الصناعي وكل وسائل البث و قرار الحجب لم يكن من قبيل ما تم الاعتياد عليه من سيادة منهج الحجب والمنع الروسي، حيث قيم الديمقراطية وحرية التعبير والاختيار والإعلام ليست سائدة بالصورة التي تحول دون ذلك، وإنما  كان في حقيقته رداً على منع بث قناة "روسيا اليوم" في ألمانيا ذات النظام الديمقراطي المنفتح..أما علة الحجب فهو كون "روسيا اليوم" أداة دعائية للكرملين"، وكونها "تروج لنظرية المؤامرة وتبث معلومات مضللة "

   ورغم أن الفكر الإعلامي الغربي يصف الحجب بالقهر والمنع بالقمع؛ إلا أنه في وقت لاحق من بداية الحرب، أعلن كبير دبلوماسيي الاتحاد الأوروبي "جوزيب بوريل" حجب كل من "روسيا اليوم" و"سبوتنيك" الروسيتين في دول الاتحاد الأوروبي، ضمن جهود الاتحاد "لمكافحة التضليل الروسي. معتبرًا الحجب "خطوة حاسمة لإغلاق صنبور التلاعب الروسي بالحقيقة ".

 كما أغلقت بريطانيا الصنبور ذاته مبررة ذلك على لسان وزيرة ثقافتها "نادين دوريس" بأن الحجب تم لــ "ألا تعود آلة بروباغاندا بوتين الملوثة إلى الشاشات البريطانية مجدداً"، مشيرة إلى أن "روسيا اليوم لم تعد متاحة على الشاشات في البيوت البريطانية سواء عن طريق التلفزيون أو (سكاي) أو (فريسات) أو (فري فيو)

وصعّدت الوزيرة بقولها، "الموقف المؤكد هو أننا لن نتوقف حتى نقنع كل مؤسسة -سواء أكان مقرها في المملكة المتحدة أو خارجها-أن الشيء الخطأ هو بث الدعاية الروسية في البيوت البريطانية".

 وبالفعل أعلن عمالقة مواقع التواصل الاجتماعي في وقت لاحق "فيسبوك" و"تويتر" و"يوتيوب" و"تيك توك"، أنهم لن يسمحوا لوسائل الإعلام الروسية بنشر موادها على صفحاتهم في أوروبا بطلب من الاتحاد الأوروبي، ولن يسمحوا بتمويل حملات إعلامية لروسيا، إضافة لتقييد وصول المحتوى التابع لها.

 التضليل الإعلامي .. العقوبات حتى على النخب:

     لم يقف الأمر عند حجب الوسائط الإعلامية التي يرى هذا الطرف أو ذاك أنها تنشر موادًا تجافي الحقيقة؛ وإنما امتد من قبل الطرف الغربي إلى استهداف النخب الروسية وما أسموه وسائل التضليل الإعلامي " فقد جاء في بيان أصدره وزير الخارجية الأمريكي "بلينكن" بعد بدء الحرب بأيام قليلة: "إننا نستهدف النخب الروسية وشبكاتهم المالية وأصولهم، ووسائل التضليل الإعلامي الروسية الكبرى التي تسهم في زعزعة استقرار أوكرانيا"، وأضاف، إن حكومته "تستهدف المتورطين في حملة التضليل والتأثير المزعزعة للاستقرار التي تشنها روسيا، بما في ذلك أفراد وكيانات موجودون في أوكرانيا"، وأن وزارة الخارجية أدرجت على لائحة العقوبات المسؤول الأكبر عن الدعاية في الاتحاد الروسي والمتحدث باسم فلاديمير بوتين ديميتري بيسكوف، "أن مكتب مراقبة الأصول الأجنبية يعمل على إدراج 26 فرداً وسبعة كيانات مرتبطة بحملة التضليل الروسية؛ لا المدعومة من أجهزة المخابرات الروسية. وتستخدم هذه الأهداف المنظمات التي تزعم أنها تعمل كمواقع إخبارية شرعية؛ ولكنها بدلاً من ذلك تنشر معلومات مضللة ودعاية قومية متطرفة للاتحاد الروسي".

     وجاء في بيان آخر للخارجية الأمريكية، أن جهودها تستهدف الأفراد والمنظمات الروسية التي "تعمل على نشر معلومات مضللة والتأثير في الأفكار كجزء من غزوها لأوكرانيا". ووصفت الخارجية الأمريكية ما تنشره هذه الكيانات بـ "الروايات الكاذبة التي تعمل على تعزيز الأهداف الاستراتيجية الروسية، وتبرير أنشطة الكرملين بشكل خاطئ".

وعلى الضفة الأخرى؛ أكد المتحدث باسم البعثة الروسية الدائمة لدى الأمم المتحدة فيودور سترجيجوفسكي، أن وسائل الإعلام الغربية اختارت لغة "التزييف والتضليل". وردًا على اتهامات عدد من الممثلين الغربيين -بمن فيهم دبلوماسيون من أمريكا والبرتغال وأوكرانيا-لروسيا بنشر معلومات مضللة حول العملية العسكرية، قال سترجيجوفسكي خلال اجتماع للجنة الإعلام التابعة للأمم المتحدة، إن الاتهامات بأن روسيا تستخدم معلومات مضللة كمبرر للعملية العسكرية الخاصة تتعارض مع الواقع، مضيفًا أن جميع البيانات الصادرة عن هيئات الدولة الروسية، بما في ذلك وزارة الدفاع الروسية تنشر في الوقت المحدد وتحتوي فقط معلومات تم التحقق منها وتنقل موقفًا موضوعيًا. وأشار إلى أن وسائل الإعلام الغربية اختارت لغة التزييف والتضليل، ورغم أن الكشف عن معظم عمليات التزوير يتم في غضون ساعات قليلة، إلا أنها تظل عالقة في الفضاء الإعلامي وتنجح في تضليل عدد كبير من مستهلكي المعلومات".

   التزييف ..خداع المنصات الرقمية:

       رغم أن تزييف الأخبار في وسائل الإعلام التقليدية أمر شائع في هذه الحرب وما سبقها من حروب إلا أن ثمة نوع جديد من التزييف الإخباري أتاحته التكنولوجيا الرقمية؛ ومن بين أبرز هذه الأخبار المزيفة فديو انتشر في اليوم التالي للعملية العسكرية لطيار مقاتل أوكراني يُدعى "شبح كييف"، يظهر فيه وهو يقوم بإسقاط طائرة روسية من طراز Su-35، ويُقال أنه أسقط بمفرده 6 طائرات روسية منذ بدء الغزو، وتم تزييفه لمنح الجنود الأوكرانيين الشجاعة في مواجهة الجنود الروس .. إلا أنه سرعان ما اتضح أن هذا الفيديو غير حقيقي، ومأخوذ من لعبة .

   كذلك فيديو قيل لطيار روسي يستعرض في سماء أوكرانيا، إلا أن هذا الفيديو لا علاقة له بأوكرانيا، وهو في الحقيقة مشاهد من لعبة فيديو أخرى.  كما انتشر فيديو في وقت لاحق يُظهر قصفاً روسياً على أوكرانيا. لكن الفيديو في الحقيقة كان لتصميم رقمي منشور قبل أشهر. 

 كما انتشر فيديو قيل إنه لمضادات دفاعية روسية تتصدى لمقاتلات أوكرانية، والرواية نفسها أوردتها مصادر أوكرانية بشكل معكوس، لكن اتضح لاحقاً أن الفيديو مأخوذ من لعبة فيديو تسمى Arma 3  ..  ناهيك عن استخدام لقطات من فيديوهات من أحداث أو حروب سابقة، وترويجها على أنها تحمل أحداثًا تمت خلال الحرب الروسية على أوكرانيا.

 

الإعلام العربي ..أين يقف من الحرب؟

    التأثير الأكبر لتداعيات هذه الحرب على طرفي الصراع الرئيسين فيها؛ إلا أن تأثيراتها الجيوسياسية والاقتصادية المباشرة وغير المباشرة لا تكاد تنجو منها دولة في العالم .. ومن بينها الدول العربية، وإن تباينت هذه التأثيرات بتباين دور كل دولة على الساحة الدولية؛ الأمر الذي جعل متابعة مجريات هذه الحرب عن كثب الشغل الشاغل لجل وسائل الإعلام العربية-لاسيما في أسابيعها الأولى -والمتأمل في موقف الإعلام العربي الرسمي من مجريات هذا الصراع سيجد أنه صدى لموقف الدولة التي ينتمي إليها من الحرب؛ سواء أكانت تميل لتبني وجهة نظر هذا المعسكر أو ذاك، أو تسعى لأن تتخذ موقفًا حياديًا صريحًا.

    ورغم أن ميل الإعلام الرسمي لدولة ما من الدول العربية لتبني وجهة نظر   طرف ما من طرفي الصراع يجعل ما يطرحه إعلام هذه الدولة عن الحرب مفتقرًا إلى الموضوعية، ويمكن أن يضحي بالحقيقة على مذبح المصلحة، فإن وسائل الإعلام التي تسعى لتحري الحقيقة وتسعى لإعلاء مبدأ الموضوعية -ناهيك عن المواقع الإخبارية والحسابات الفردية التي تضج بها منصات التواصل الاجتماعي والتي تنشد الحقيقة أيضًا-تواجه إشكالية صعوبة الوصول لهذه الحقيقة من قلب الحدث .. وأنى لها ذلك؟ وهو أمر يتطلب أن تمتلك جيشًا من المراسلين يتحرى الحقيقة في ساحات المعارك، وهو ما لم يتوفر إلا لقلة قليلة من الفضائيات التي لها مراسلون في أرض المعركة .. وللأسف فحتى هؤلاء المراسلين سيلتزمون بأجندة فضائياتهم قبل التزامهم بنقل الحقيقة المجردة.

    وهكذا؛ وفي ظل هذه الوضعية لم يعد أمام هذه الوسائل أو المواقع أو الحسابات الفردية التي تنشد الحقيقة مصدرًا تستقي منه المعلومات التي تنشرها أو تبني عليها تحليلاتها إلا مصادر لها أجندتها الخاصة أو مهمين عليها من قبل هذا المعسكر أو ذلك؛ مما يجعل إمكانية وصولها للحقيقة المجردة أمرًا بعيد المنال .. بل إن هذه الوضعية جعلت بعض الوسائل أو المواقع أو الحسابات الفردية التي لها أجندة لا تلتزم الحياد تقوم بتشويه مضاعف للحقيقة .. فبالإضافة للتشوية الذي قد يقوم به المصدر المباشر لهذه المعلومات... يأتي التشوية الذي يقوم به حراس البوابة داخل هذه الوسائل على النحو الذي يخدم أجندتها .. مما يبعدنا عن الحقيقة خطوات أخرى.

    انحياز الإعلام الغربي في عيون الإعلام العربي:  

 الواقع أن جل الكتابات والآراء التي قدمتها وسائل الإعلام العربية لتقييم أداء الإعلامين الروسي والغربي في المعركة الدائرة بينهما، استنكرت بشدة الخروقات التي مارسها إعلام الديمقراطيات الغربية للمهام الإعلامية الرئيسة التي نظر لها الفكر الإعلامي السائد فيها، والذي تجلى بشكل رئيس في نظرية الحرية الإعلامية التي ظلت مهيمنة على الفكر الإعلامي الغربي منذ القرن الثامن عشر تقريبًا حتى ورثتها نظرية المسؤولية الاجتماعية التي اكتملت ملامحها قبيل نهاية منتصف القرن المنصرم بقليل .. وتتمثل المهام الرئيسة لوسائل الإعلام فيهما -بصورتها المثالية-في تحري الحقيقة وتنوير الرأي العام بها. ورغم أن هذا الاستنكار له وجاهته من زاوية ما من زوايا الرؤية، إلا إن موقف إعلام المعسكر الغربي في هذا الصراع -إذا ما نظرنا إلى بنية العملية الاتصالية التي تفرزه بعين أقرب للأكاديمية -سيبدو له مبررات وجيهة يصعب استنكارها. 

 من يدفع للزمار يفرض عليه اللحن

   لفهم حقيقة موقف إعلام المعسكر الغربي-بصفة خاصة-من الصراع لا بد بداية من تقرير حقائق عدة .. هذه الحقائق تتعلق بطبيعة الدور الذي تلعبه و سائل الإعلام في الظروف الطبيعية داخل المجتمع الواحد وذاك الذي تلعبه عند سيادة العلاقات الطبيعية بين الدول .. ثم طبيعة الدور الذي تلعبه أثناء الصراعات أو الحروب بين دولتين أو أكثر.

وإذا ما نظرنا للدور الرئيس المنوط بوسائل الإعلام الاضطلاع به في الظروف الطبيعية داخل الدولة الواحدة سنجد أنه يتمثل طبقًا لكل النظريات الإعلامية الحديثة السائدة في البحث عن الحقيقة وتقديمها بالصورة التي تحدث تنويرًا للرأي العام في القضايا موضع اهتمامه.

     ورغم مثالية الغاية التي ترنو إليها تلك الطروح التنظيرية؛ إلا إن بنية العملية الاتصالية تحمل مثبطات تحول بين وسائل الإعلام وبين الاضطلاع بهذا الدور المثالي المنتظر منها في نقل الحقيقة وتنوير الناس بها ...  والأمر المحزن في هذه المثبطات أن إمكانية التصدي لها في أي مكان أو زمان أمر بعيد المنال؛ لأنها مثبطات كامنة في بنية العملية الاتصالية ذاتها؛ وليست أمرًا خارجًا عنها، ولعل أبرز هذه المثبطات هو كون أية وسيلة إعلامية – مهما صغر شأنها ومهما كان معدل وصولها للجمهور ضعيفًا، لابد لها من مالك  أو متحكم في أمرها  ولابد لها من تمويل يدبره هذا المالك لها سواء أكان من عائدات تدرها هذه الوسيلة،  ذاتها أو من دعم خارجي يقدمه  لها على نحو يضمن استمرارها، ولابد لها من علة تقف خلف قرار إنشائها من قبل المالك أو المتحكم فيها ..علة تبرر لديه تحمل تبعات استمرارها وتطورها.. ومثل هذه العلة لا يمكن أن تكون شيئًا سوى تحقيق مصالح ذلك المالك أو المتحكم في أمرها. قبل أية علة أخرى.  

   وهكذا فوسيلة الاتصال قبل أن تكون وسيلة لنقل الحقيقة وتنوير الرأي العام بها؛ هي وسيلة لتحقيق مصالح مالكها أو من له الكلمة العليا في تقرير طبيعة المادة التي تبثها. وهو ما يعني أن ما يحدد موقف صاحب القرار في هذه الوسيلة الإعلامية من الحقيقة .. هو مصلحته أولا.. فإن كان تقديم الحقيقة كاملة يصب في مصلحته فبها ونعم، أما إن كان الذي يصب في مصلحته هو ذكر نصفها أو بعضها أو إخفائها أو تشويه بعض ملامحها أو تشويهها بشكل كامل، أو تقديم طرح مغاير لما تحمله الحقيقة تمامًا.. فلن يتوانى عن ذلك طرفة عين.

   وكما أفرزت بنية عملية الاتصال وسائل إعلام تهدف-بالأساس-إلى تحقيق مصالح مالكيها أو المتحكمين فيها؛ فقد أفرزت نوعًا أخر من وسائل الإعلام التي لا مصلحة لمالكيها سوى تحويلها لبقرة حلوب تدر لهم – عبر الإعلانات-من الأرباح ما يشتهون.. وهو ما يجعل نشر أية حقيقة قد تتعارض مع مصالح المعلنين الذي يمدونها بالمال أمرًا محرمًا.. ناهيك عن سعي ملاكها لنشر ما يشتهي العامة من المتلقين من مواد التسلية والترفيه وإغراقهم فيها .. وهو الإغراق الذي يأتي –في حقيقته -على حساب تنوير وعيهم بالحقائق الرئيسة التي ينبغي الإحاطة بها للاشتباك على نحو سليم مع مجريات الحياة اليومية. 

   بالطبع ثمة مثبطات أخرى كُثر تحول دون وسائل الإعلام ودون نشر الحقيقة؛ ولعل أبرزها هنا أنه حتى لو سلمت النية لدى الوسيلة الإعلامية لنقل الحقيقة المجردة فإن ثمة صعوبة في الوصول للحقيقة الناصعة في جل القضايا الخلافية لتعقد جوانب أية حقيقة، وتعدد الزوايا التي يمكن أن يُنظر خلالها لكل جانب من هذه الجوانب.. وهو الأمر الذي يجعل كل طرف من أطراف القضية محل الخلاف يعتقد أن الحقيقة ملكه هو أما الباطل فهو من نصيب مخالفيه..  وهكذا.. وبين أقدامهم تتوه الحقيقة.

 وإذا كانت بنية العملية الاتصالية ذاتها تجعل قدرة وسائل الإعلام على بث الحقيقة المجردة والكاملة لجماهيرها ضحية لتلك المثبطات في الظروف الطبيعية التي تكون فيها الدولة مستقرة و ليس ثمة تهديدًا لوجودها أو لمصالحها العليا الآن أو مستقبلاً  ..فما بالنا إذا  ما كانت  هذه الدولة تكابد صراعًا يحمل الإخفاق في استغلال كل الوسائل القادرة على تحقيق النصر  فيه  تهديدًا  للوجود أو للمصالح العليا لها.. هل سيكون منطقيًا أن يكون هدف وسائل الإعلام -حينها-هو السعي لوضع اليد على الحقيقة المجردة حتى لو كانت ضد مصالح هذه الدولة العليا؟!

 الإجابة المنطقية هي لا؟ لآنه من الطبيعي وعند وجود هذا التهديد أن يكون سعي وسائل الإعلام لنقل الحقيقة أو الالتزام بها هو ضرب من الخيال الذي يصعب تصور تحققه.. أما الدور الطبيعي الذي على وسائل الإعلام أن تلعبه فهو أن تتحول من كونها وسائل إعلام ينبغي-في الوضع المثالي-أن تنقل الحقيقة المجردة .. إلى وسائل دعاية محضة، على نحو يجعل وصفها بوسائل إعلام يعد نوعًا من التزييف لواقع الممارسات التي تقوم بها  .. وأنى لها ذلك؟ وهي مطالبة أن تسير كتفاً بكتف مع أسلحة المدرعات والمشاة والمدفعية والطيران والبحرية، وأن تكون الحقائق التي تعادي مصالح دولتها العدو الأول الذي ينبغي أن تطلق عليه نيرانها. 

  وهذا ما أدركه سيناتور أمريكي يدعى هاريم جونسون أبان الحرب العالمية الأولى عندما قال في 1918م "الحقيقة هي أول ضحايا الحرب" ولعل ما يبرر إطلاق وسائل إعلام طرف ما النار على الحقائق التي تعادى مصالحه هو ما تعبر عنه المقولة الشهيرة لجوزيف ناي أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد "من يربح الحرب هو من تربح قصته في الإعلام"  

وإذا ما نظرنا-في ضوء ذلك -إلى الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام بمختلف أذرعها   في الحرب التي تدور رحاها حاليًا في أوكرانيا فسوف نجد أنها لا تخرج عن ممارسة دورها الطبيعي الماثل في كونها آلة دعائية أكثر من كونها آلة إعلامية .. تسعى للقيام بالدور المنوط بها في تحقيق مصلحة دولها العليا الماثلة في كسب الحرب في النهاية.  ولا مراء أن التضحية بالحقيقة حتى لو كانت شرًا فهو شر لا يقارن في أثرة بالهزيمة التي قد لا تقف عند تهديد مصالح أو سيادة ما لدولها؛ وإنما قد تهدد وجودها ذاته.

ولا مراء أن هذا الفهم يجعل تصرفات الغرب مع وسائل إعلامه هو أمر له مبرراته على النحو الذي لا يستحق كل ذلك الاستنكار الذي أشرنا إليه سالفًا.   

 تفسير آخر ودرس للإعلام العربي المغيب عن قضاياه:

 رغم أن ثمة حجج يسوقها الإعلام الغربي لتبرير تخطيه لقيم الحياد والموضوعية في تناوله لمجريات الحرب تنطلق من أسباب إنسانية وأخلاقية منبعها التعاطف الكامل المستحق مع الضحايا الأوكرانيين المدنيين الذين يتعرضون لانتهاكات الجيش الروسي. فإن الحقيقة التي ينبغي ان نلتفت لها-والتي ذكرناها سلفًا-هي أن المحرك الرئيس لأداء الإعلام الغربي الذي تمتد دوله لتغطي رقعة جغرافية هائلة، لاسيما في قارتي أوروبا وأمريكا الشمالية، هو الانتصار لمصالح دوله العليا وليس للحقيقة، والمصلحة العليا هنا هي حماية الأمن القومي لهذه الدول والذي بات مستهدفًا بشكل مباشر من قبل روسيا بهذه الحرب.  ولما كان أي إخفاق في حماية هذا الأمن القومي لا يحمل تهديدًا لمصالح دول الغرب فحسب بل ربما يحمل تهديدًا لوجودها ذاته .. فقد كان من الطبيعي أن تكون الأولوية الحاكمة لأداء وسائل الإعلام في كل دول الغرب هي الاصطفاف والتحرك المتناغم لتحقيق هدف واحد أسمى هو شل قدرة روسيا على تهديد مصالح دولها أو أمنها القومي الآن أو مستقبلاً.


  ورغم ضرورة متابعة وسائل الإعلام العربية لمجريات هذه الحرب التي لا تكاد تنجو من تأثيراتها دولة من دول العالم، وأهمية رصد وتقييم أداء الإعلام الروسي والغربي فيها، وأهمية فضح المقارنات العنصرية التي جرت على لسان بعض الإعلاميين الغربين بين اللاجئين الأوكرانيين وبين اللاجئين العرب والمسلمين، وأهمية أن تصطف وسائل الإعلام العربية خلف موقف دولها من هذه الحرب بما يتسق مع تحقيق مصالحها العليا .. رغم أهمية كل هذا الدور إلا أن ثمة أمر لابد أن تضطلع وسائل -بل وأكاديميات -الإعلام العربية به ألا وهو استخلاص الدروس والعبر -من الكيفية التي اصطفت بها مؤسسات الإعلام الغربية التقليدية والرقمية وتناغمت معًا في تحقيق مصالح بلدانها في أزمة جلل بهذا الحجم.

 وثمة درس أكبر من دروس هذه الأزمة هو ضرورة أن تعيد وسائل الإعلام العربية اكتشاف معنى الأمن القومي العربي. فلقد انغمس كثير منها – ومنذ عقود -في ترويج خطاب انعزالي يفصل الأمن القومي لكل دولة عن الأخرى، وهو ما حدا بالأمن القومي العربي إلى حالة الهشاشة التي نعيشها.. وقد حان الوقت لكل إعلامي روّج -بحسن نية-لهذا الخطاب أن يأخذ الدروس من موقف الإعلام الغربي من الأزمة الأوكرانية، وإعادة مفهوم الأمن القومي العربي إلى حقيقته... بل إن الانشغال حتى بالأزمة الأوكرانية نفسها لا ينبغي أن يكون على حساب الانشغال بقضايا الأمن القومي العربي ولا على حساب ما تعيشه الأمة العربية من مشكلات تعصف بكثير من مجتمعاتها وتحتاج تكاتفًا عربيًا لإيجاد حلول لها .. مثل هذا التكاتف لا يمكن أن يتحقق ما لم يكن الأمن القومي العربي المشترك أولوية قصوى لوسائل الإعلام العربي.. وهو ما يتطلب أن يدرك كل إعلامي عربي أنه ليس مجرد ناقل للأخبار أو محلل لها، وإنما هو جزء من مجتمع وأمة ينبغي أن تدافع عن أمنها المشترك وقضاياها المصيرية من الخليج إلى المحيط.

مقالات لنفس الكاتب