; logged out
الرئيسية / أحد أهداف دعم أمريكا للحرب الروسية الأوكرانية ضرب التقارب التركي الروسي

العدد 174

أحد أهداف دعم أمريكا للحرب الروسية الأوكرانية ضرب التقارب التركي الروسي

الأربعاء، 01 حزيران/يونيو 2022

لا يمكن التنبؤ بما يمكن أن تؤول إليه أحداث الحرب الروسية ـ الأوكرانية في المرحلة الحالية، فنحن أمام حرب تحاول روسيا أن تكون قصيرة في زمانها، ومحدودة في خطورتها وأهدافها، ولكنها لم تتمكن من ذلك لأن الطرف الثاني في الحرب في الظاهر وهي الجمهورية الأوكرانية ليست وحدها في اتخاذ قرار الحرب والسلم فيها، بل إن أمريكا التي تتابع الوضع في أوكرانيا منذ أكثر من قرن من الزمان تعتبر نفسها الشريك الأكبر والأقوى لأوكرانيا أولاً، وتدفع كل الدول الأوروبية لتكون شريكة لها في تحمل مسؤوليات دعم الحرب عسكريًا وسياسيًا ولوجستيًا وماليًا، وما توالي حضور المسؤولين الغربيين إلى العاصمة الأوكرانية كييف أثناء الحرب إلا دليلا على رغبة أوروبية وأمريكية لجعل الحرب حربهم وليست حرب الشعب الأوكراني فقط، وقد صرح الرئيس الأمريكي بايدن بتاريخ 21 نيسان/أبريل 2022م، بأن أمريكا تقدم لأوكرانيا دعمًا تجسسيًا عسكريًا عن مجريات الحرب، وهذا يرجح أن غرفة عمليات الحرب هي في إحدى القواعد العسكرية الأمريكية القريبة من أوكرانيا، فضلاً عما تقدمه أمريكا والدول الأوروبية الكبرى من أسلحة خطيرة ومتطورة، وكذلك ما تقوم به الماكينة الإعلامية الغربية من دعم للرؤية الأوكرانية الغربية للحرب ومهاجمة المواقف الروسية وتشويهها ورفضها.   

إن المشهد السياسي والعسكري للحرب يشير إلى أننا أمام حرب طويلة، تسعى أمريكا ومعظم الدول الأوروبية إلى رفض الخسارة فيها، حتى لو أعلنت روسيا الاتحادية عن نيتها وقف الحرب وأنها قد حققت أهدافها فيها، لأن الرؤية الروسية مرفوضة أوكرانيًا وأمريكيًا وأوروبيًا، ومراهنة روسيا على إحداث خلاف استراتيجي بين دول حلف الناتو لن تكون مؤثرة على وقف الحرب، وإن كانت كل دول الناتو تعلن عن رفضها الدخول المباشر في الحرب مع روسيا، ولكنها ستبقى داعمة لاستمرار الحرب لحين تحقيق أوكرانيا أهدافها وانتصارها، الذي يعني أمريكيا وأوروبيا إضعاف دولة روسيا الاتحادية أو القضاء عليها ولو بعد سنوات، إضافة إلى مراهنة الغرب على وقوع ثورات واحتجاجات للشعب الروسي رافضة للحرب ومطالبة بتغيير نظامها السياسي، كما حصل في مرحلة تفكيك الاتحاد السوفيتي عام 1990م، وهذا يعني أن العالم أمام احتمالات كبيرة لتغيير نظامه الدولي من جديد، فنائب المستشار القومي الأمريكي يقول بعد ثمانية وخمسين يومًا من اندلاع الحرب:" سنفعل كل شيء للتصدي لروسيا باستثناء المواجهة المباشرة"، وهذا قرار أمريكي مرحلي يمكن أن يتغير إذا تأكدت أمريكا أن روسيا أصبحت منهكة وجاهزة للإنقضاض عليها وتقسيمها.

الحرب الروسية ـ الأوكرانية وتركيا:

يتابع الشعب التركي مجريات الحرب الروسية ـ الأوكرانية باهتمام كبير ، بسبب قربها الجغرافي أولاً، وبسبب تأثيرها على الأوضاع الاقتصادية والسياسية في تركيا ثانيًا، وبسبب ما تمثله من تحديات داخلية تواجهها حكومة العدالة والتنمية في تركيا قبل وقوعها وبعدها ثالثاً، فقد عملت الحكومة التركية دبلوماسيًا على منع وقوع الحرب بزيارات مكثفة إلى موسكو وكييف، ومنذ أن وقعت الحرب في الرابع والعشرين من شهر شباط/فبراير من عام 2022م، والحكومة التركية تواصل اتصالاتها مع أطراف الحرب بهدف وقفها وإيجاد حل سياسي لها، وتركيا وهي تعبر عن موقف حيادي حتى الآن، وترغب أن يبقى لها علاقات حسنة مع الطرفين، فإنها تدرك صعوبة اتخاذ قراراتها نحو الحرب ونحو روسيا ونحو أوكرانيا، والتي ينبغي أن تحافظ على مصالح الشعب التركي أولاً، وأن تجنب تركيا انعكاساتها السلبية على الأوضاع السياسية والاقتصادية الداخلية والخارجية ثانياً، ويجنبها انعكاساتها السلبية على علاقاتها مع محيطها الإقليمي وتحالفاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، وبالأخص مع أمريكا وأوروبا، سواء في سياسات الاتحاد الأوروبي نحو روسيا، أو مواقف حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي يطالب تركيا بالتقيد بسياسات الحلف العسكرية في الحاضر والمستقبل، مهما كانت تطورات الحرب سلبية أو إيجابية، فالرؤى التركية من الحرب الروسية الأوكرانية صعبة جدًا، وفي بعض أبعادها خطيرة على مستقبل تركيا في علاقاتها مع روسيا أولا، ومع أوكرانيا ثانيًا، وفي إقليمها ومع دول أوروبا الشرقية ووسط آسيا الناطقة بالتركية، ولكن الأخطر منها هو تأثيرها على استقرار النظام السياسي التركي داخليًا أيضًا.

خطورة الحرب الروسية الأوكرانية إقليميًا ودوليًا:

لم يكن نشوب الحرب الروسية الأوكرانية وليد أحداث مفاجئة، بل كان جزءاً من الصراعات الدولية أثناء وبعد الحرب العالمية الأولى ونشوء دولة الاتحاد السوفيتي عام 1917م، فضلاً عن جذورها التاريخية القديمة، فقبل ثمانية قرون تقريبًا كانت كييف هي عاصمة الشعوب السلافية في تلك المنطقة من العالم، بما فيها أبناء القومية الروسية، وكانت الكنيسة الأرذودكسية في كييف هي الكنيسة الأم للمسيحيين السلاف، ولكن التطورات التاريخية اللاحقة ونشوء الدولة الروسية المستقلة قد أوجد انفصالاً وتباعدًا بين الأوكرانيين والروس، وكانت المرحلة التاريخية السوفيتية قد جعلت أوكرانيا جزءًا من الاحتلال الروسي في ظل جمهوريات الاتحاد السوفيتي منذ عام 1921م، وتحت سلطة الحزب الشيوعي السوفيتي الدكتاتوري في موسكو، وفي ذلك الوقت كانت أوكرانيا ثاني أكبر جمهورية سوفيتية بالمساحة والقوة العسكرية والتقدم التكنولوجي، وفيها نحو ثلاثة عشر (13) من المفاعلات النووية السوفيتية، ومجمعات صناعية هائلة.

وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1990م، استقلت جمهورية أوكرانيا، وأخذت تتقرب أكثر إلى الدول الغربية، وكان من شروط روسيا على الدول الغربية أن يتم تجريد أوكرانيا من الأسلحة النووية ونقلها إلى روسيا، وعدم تحويل الجمهورية الأوكرانية إلى دولة معادية لجمهورية روسيا الاتحادية، ومنذ ذلك التاريخ بقيت العلاقات الروسية ـ الأوكرانية متوترة ومتضاربة، وبالأخص بعد احتلال روسيا شبه جزيرة القرم وضمها إليها عام 2014م، مما جعل أوكرانيا تشكو روسيا للأمم المتحدة ومجلس الأمن، مطالبة باسترداد القرم إليها، وقد وجدت أوكرانيا الدعم السياسي الغربي الأمريكي والأوروبي، وفرضت أمريكا وأوروبا عقوبات اقتصادية على روسيا، ولكن روسيا تابعت مطالبتها باستقلال وضم منطقتي دونتسك ولوغانسك الأوكرانيتين على الحدود الروسية، بحجة مطالبة بعض سكانها الانفصاليين إليها، كما فعلت عندما ضمت القرم إليها عام 2014م، هذه الرؤية تؤكد أن الحرب القائمة بين روسيا وأوكرانيا ليست حربًا إقليمية فقط وإنما هي حرب عالمية، هدفها إضعاف روسيا اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا عن أن تكون دولة عظمى أو فاعلة على المسرح العالمي.

الموقف التركي من سياسة روسيا نحو أوكرانيا وشبه جزيرة القرم:

رفضت الحكومة التركية ضم روسيا للقرم وطالبتها بالانسحاب منها مرارًا، وأصبحت قضية احتلال روسيا للقرم من نقاط الاختلاف بين الدولتين، لأن تركيا تعتبر السكان الأصليين للقرم وهم من التتار المسلمين أحق الشعوب بحكمها وتقرير مصيرها، وحتى تاريخ احتلال القرم كانت العلاقات الروسية التركية في حالة توتر في العديد من القضايا، حيث كانت السياسة التركية عمومًا مشاركة في حالة الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتي لعقود طويلة، وكان رفض الغرب والناتو حاسمًا ضد أي تقارب سياسي أو عسكري تركي من روسيا أو العكس، بينما كانت الحكومة التركية تسعى إلى تحسين علاقاتها بروسيا لأسباب اقتصادية وسياحية وسياسية بحكم قرب الحدود بينهما وحاجة تركيا إلى الغاز الروسي، ومعها رغبة روسيا بتمرير أنابيب الغاز الروسي إلى أوروبا عبر الأراضي التركية، ومع ذلك بقي الموقف التركي رافضًا لضم القرم إلى روسيا الاتحادية، دون أن يكون هذا الرفض عقبة في مشاريع تطوير العلاقات السياسية بينهما، ولا عائقًا في زيادة التبادل التجاري بينهما أيضًا.

وكذلك لم يكن التدخل العسكري الروسي في سوريا متوافقًا مع الرؤية التركية لإيجاد حل سياسي للصراع في سوريا، ولكن السياسة التركية عدلت من موقفها من الصراع في سوريا بعد أن رجحت أن أمريكا غير جادة في إيجاد حل سياسي للأزمة السورية، بل وتسعى أمريكا لاستثمار الصراع في سوريا لتنفيذ مشاريع تقسيم تخدم المصالح الأمريكية في شمال سوريا، بما فيها إقامة كيان انفصالي للأكراد، وهو الأمر الذي رفضته تركيا وقاومته عسكريًا بشدة، وأجبرها على اتخاذ قرار التدخل العسكري لاحقًا، فقامت بتنسيق دخولها العسكري في سوريا مع روسيا قبل غيرها، وزيادة تعاونها معها في العديد من القضايا الدولية.

إن مما شجع تركيا على زيادة تطوير علاقاتها مع روسيا اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا الموقف الروسي المؤيد للحكومة التركية ضد الانقلاب العسكري في تركيا بتاريخ 15 تموز/يوليو 2016م، فقد ارتأت الحكومة الروسية أن الانقلاب العسكري لو نجح سيكون ضد المصالح الروسية في المنطقة، وضد تطوير العلاقات الروسية التركية أيضًا، وهذا ما شجع الحكومة التركية ورئيسها رجب طيب أردوغان على تحسين علاقاته مع روسيا أكثر ومع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصيًا، والأخير عمل بدوره لكسب صداقة أردوغان وتشجيعه لسحب السياسة التركية نحو روسيا أولاً، وتقليل اعتماده على أمريكا والغرب، وتشجيعه على تزويد الجيش التركي بالأسلحة الروسية الدفاعية المتقدمة، مثل منظومة الصواريخ الدفاعية س400 وغيرها، وكان هدف بوتين إبعاد تركيا عن الغرب وأمريكا والناتو مرحلياً، وإحداث شرخ في العلاقات التركية الأمريكية والأوروبية، وقد نجح في ذلك إلى درجة معينة.

على هذا الأساس قرأ عدد من المحللين السياسيين والعسكريين الأتراك وغيرهم أن أحد أهداف دعم أمريكا لنشوب الحرب قبل وقوعها بين روسيا وأوكرانيا هو ضرب التقارب التركي الروسي، ورأوا أن تركيا مستهدفة بهذه الحرب، حكومة ورئاسة واقتصادًا، فأمريكا لم تخف رفضها شراء تركيا لمنظومة الدفاع الجوي الروسي من طراز S-400 ، وطالبت تركيا مرارًا بالتراجع عن شرائها، وبعد شرائها عام 2019م، طالبتها بعدم تشغيلها، وإلا تعرضت تركيا للعقوبات الأمريكية العسكرية والاقتصادية وغيرها، ونفذت أمريكا تهديداتها بمعاقبة وكالة المشتريات الدفاعية ومنعها من برنامج لتطوير وشراء طائرة مقاتلة من طراز  F-35، ولكن الحكومة التركية واصلت تعاونها العسكري مع روسيا، كما واصلت تعاونها العسكري والاقتصادي مع الجمهورية الأوكرانية قبل نشوب الحرب الروسية الأوكرانية.

ولكن نشوب الحرب الروسية ـ الأوكرانية قد فتح آفاقا استراتيجية لتركيا ونوعًا من المكاسب الاقتصادية أيضاً، فقد وجدت السياسة التركية فرصتها لتحقيق مكاسب تعاونها مع السياسة الأمريكية في هذه المرحلة، فقد أصبحت تركيا مطالبة أن تحسن علاقاتها مع أمريكا ومحورها الدولي والإقليمي، حيث أن أمريكا والناتو أصبحوا بحاجة أكثر لتركيا بعد نشوب الحرب، وعاد لتركيا موقعها الاستراتيجي لدى حلف الناتو، فبدت مبادرات دبلوماسية لتحسين العلاقات التركية اليونانية، والعلاقات التركية الإسرائيلية، والعلاقات التركية الأمريكية، وبالأخص بتزويد تركيا بالأسلحة الأمريكية المتطورة ومنها أحدث طراز من طائرات إف16، أو إعادتها لمشروع إنتاج المقاتلة الأمريكية إف35 المتطورة.

ومن المكاسب الاقتصادية لتركيا هو التشجيع الأمريكي لتسريع إخراج الغاز في شرق المتوسط، للتغطية على انقطاع الغاز الروسي عن أوروبا بسبب العقوبات الغربية على روسيا، وكذلك التشجيع الأمريكي أن يوجد تعاون اقتصادي بين تركيا وحكومة كردستان شمال العراق لنقل النفط منها إلى أوروبا عبر الأراضي التركية بسبب الحرب الروسية الأوكرانية أيضاً، فتم توقيع اتفاقية تعاون بين تركيا وحكومة كردستان شمال العراق، وكان من المكاسب تخلي أمريكا عن دعم حزب العمال الكردستاني، وبالأخص في العراق وسوريا بما فيه الدعم العسكري، وهذا مكسب كبير في نظر السياسة التركية، كما أن العديد من الشركات العالمية قد نقلت أعمالها من روسيا إلى تركيا.

حقيقة الحرب الروسية ــ الأوكرانية والمبادرة التركية لحلها:

قبل وقوع الحرب الروسية على أوكرانيا كان للرئيس التركي زيارة ثنائية لروسيا والتقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ثم قام بزيارة أوكرانيا والتقى الرئيس الأوكراني فولديمير زيلينسكي، وكان ذلك بحدود الرابع من شباط/فبراير 2022م، أي قبل وقوع الحرب بعشرين يوماً، وكان من أهداف الزيارتين منع وقوع الحرب أولاً، واقناعهما بعقد مؤتمر قمة في أنقرة لإيجاد حل سياسي للأزمة بينهما، وفي نفس الوقت عبر الرئيس التركي عن مخاوفه من الموقف الأمريكي والأوروبي واتهمهما بعدم العمل بما يكفي دبلوماسيًا لمنع وقوع الحرب، وكأنه يشير إلى أن هناك رغبة غربية لتوريط روسيا بزعامة بوتين في حرب قاسية وطويلة ومدمرة للاقتصاد الروسي وجيشه، ومنع الرئيس بوتين من إعادة أمجاد الاتحاد السوفيتي التاريخية كدولة عظمى منافسة للولايات المتحدة الأمريكية على المسرح الدولي، وكأن هدف أمريكا من الحرب وضع حد لتضخم روسيا دوليًا في عهد بوتين.

هذه الرؤية التركية كانت هي المرجعية الأساسية للمبادرة التركية التي قدمتها بعد نشوب الحرب بأسبوعين تقريبًا، وهي تقوم على أن روسيا محقة بمخاوفها الأمنية القريبة من حدودها، وغير محقة باحتلال أراض خارج حدودها مهما كانت المخاوف الأمنية، وبما أن المخاوف الروسية الأمنية تدور حول تحويل أوكرانيا إلى دولة معادية لروسيا، سواء انضمت إلى حلف الناتو أو تم بناؤها عسكريًا من قبل أمريكا والدول الغربية، فإنه يمكن بحث وضع أوكرانيا أمنيًا وعسكريًا بحيث لا تكون دولة منافسة لروسيا في إقليمها.

لذا فإن تركيا أعلنت أنها ضد توسع روسيا الجغرافي سواء في احتلالها للقرم أو في سعيها لأخذ أراض تابعة للجمهورية الأوكرانية، فلم تؤيد المبادرة التركية روسيا بمطالبتها أن تعترف أوكرانيا بأن جزيرة القرم أراض روسية، كما لم تؤيد اعتبار مقاطعة أو مناطق أوكرانية حدودية مع روسيا على أنها جمهوريات مستقلة من طرف واحد، وترى تركيا أن الحل السياسي ينبغي أن يكون بالبحث عن الرؤية والإجراءات التي يتم الاتفاق عليها من قبل الطرفين عبر المفاوضات الثنائية، وقد استضافت تركيا جولتين من مفاوضات السلام بين روسيا وأوكرانيا من دون التوصل إلى حل دبلوماسي.

من الممكن اعتبار المبادرة التركية أنها تعبر عن موقف الحكومة التركية من الأزمة الروسية الاوكرانية عمومًا، فلم تؤيد الحكومة التركية الرواية الروسية للحرب من أنها تعمل لتطهير أوكرانيا من القوى النازية، كما لم تؤيد الرواية الأوكرانية للحرب التي تحمل الرواية الغربية للحرب أيضًا، وأخذت تركيا في مبادرتها موقف الحياد الحذر ، بل وذهبت للتعامل مع أزمة الحرب كما تعاملت من قبل مع أزمة القرم، فهي وإن لم تؤيد روسيا في حربها ولكنها لم تذهب للوقوف ضد روسيا، ولا الاصطفاف إلى جانب الدولة الأوكرانية ضد روسيا ـ كما تطالبها بعض الدول الغربية ـ ، أي أن تركيا تمارس سياسة براغماتية محضة، تدفع عن نفسها الخسائر أولاً، وتجلب لنفسها المنافع ثانياً، وتركيا راضية عن المواقف الغربية المتفهمة لعدم مشاركة تركيا للدول الغربية في فرض عقوبات على روسيا، إضافة لمشاركتها المخاوف العالمية من أن يؤدي مواصلة الحرب لفترة طويلة إلى انهيار اقتصادي عالمي، وقد خفض صندوق النقد الدولي بتاريخ 19 أبريل/نيسان 2022م، تقديراته للنمو الاقتصادي العالمي إلى 3,6% في عام 2022 م، بسبب الحرب الروسية الأوكرانية،  كما أن الخشية عالية أن تنتهي الأمور إلى حروب نووية وحرب عالمية ثالثة.

مستقبل الحرب الروسية الأوكرانية وأثرها على النظام العالمي:

لا شك أن العالم يتضرر من استمرار الحرب الروسية الأوكرانية لمدة أطول، والمبادرة التركية وإن لم تتوصل إلى اتفاق بين الطرفين حتى الآن إلا أنها لم تتوقف وتواصل الرئاسة التركية دعوة القيادتين الروسية والأوكرانية إلى عقد مؤتمر قمة في تركيا، وليس من المتوقع عقدها قريبًا ولو عقدت فليس من المتوقع نجاحها بسبب الإصرار الأمريكي والغربي على إلحاق الهزيمة بالقيادة الروسية، مهما طالت مدة الحرب ومهما وقع فيها من خسائر للطرفين، وكذلك فإن ما يتخوفه المراقبون وهو مقارب لما يراه الرئيس الروسي بوتين بأن الغرب سوف يواصل القتال في أوكرانيا حتى آخر جندي أوكراني، والشاهد على ذلك ضخامة المساعدات الأمريكية والأوروبية الغربية العسكرية ونوعيتها، لمواصلة أوكرانيا هذه الحرب، بالرغم من إعلان روسيا على لسان وزير خارجيتها لافروف بتاريخ 19 نيسان/أبريل 2022م، أن روسيا دخلت المرحلة الثانية من عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا، وأن هذه المرحلة ستكون لحظة مهمة من العملية الخاصة ككل، وأنها ستكون حاسمة لتحرير مقاطعتي دونتسك ولوغانتسك، وأن روسيا لا تنظر لاستخدام الأسلحة النووية في أوكرانيا، ومتهما الحكومة الأوكرانية بأنها تنفذ سياسات الناتو العدوانية.

إن دخول روسيا المرحلة الثانية من عمليتها العسكرية الخاصة يعني أنها قد فشلت في تحقيق أهدافها في المرحلة الأولى، وتم تراجعها عن محاصرة العاصمة الأوكرانية كييف الذي اتخذته في الأسابيع الأولى للحرب، وسحب قواتها العسكرية منها إلى جهة الجنوب الشرقي، فإن ذلك يعني أن الخطة الروسية الثانية هي أنها تعمل على اقتطاع جزء كبير من الأراضي الأوكرانية، إن لم تعمل على ضمها إلى الأراضي الروسية فإنها سوف تصنع منها جمهورية أوكرانيا الشرقية، بحيث تكون متواصلة الأطراف في جغرافيتها الأرضية أولاً، ومحاذية للأراضي الروسية ثانياً، ثم دعوة السكان الأوكرانيين تحت احتلالها إلى استفتاء تقرير مصيرهم، وإقامة مؤسسات دولة وحكومة انتقالية معادية للحكومة الأوكرانية المعترف بها دوليا، وجعل ذلك واقعًا تفرضة القوة العسكرية الروسية، وهذه إعادة لأخطر مشاهد الحرب الباردة بين روسيا والغرب بعد الحرب العالمية الثانية التي أقامت حائط برلين وجمهورية ألمانية الشرقية في ذلك الوقت، لأن الحرب ستكون مستمرة على صعيد أوكرانيا مباشرة، ومع أمريكا والدول الغربية بطرق غير مباشرة.

في الظاهر فإن سبب الأزمة الروسية الأوكرانية هو سعي أوكرانيا إلى الانضمام إلى حلف الناتو، وأن روسيا ترفض ذلك وتمنعه بالقوة العسكرية حفاظًا على أمنها القومي، وفي نفس الوقت تتهم روسيا أوكرانيا بأنها واقعة تحت النفوذ الغربي، بينما تتهم أمريكا روسيا بأن حربها على أوكرانيا تهديدًا للنظام العالمي واستقراره، فماذا لو استمرت أوكرانيا في هذه الحرب لفترة طويلة، سواء بقناعتها الذاتية بالدفاع عن أراضيها وشعبها، أو بسبب دعم أمريكا والدول الغربية والناتو لها لاستمرار الحرب، فإن ذلك سيعني المزيد من الدمار والخسائر البشرية للشعب الأوكراني والروسي والعالمي، ومع ذلك فإن استمرار هذه الحرب هو الأرجح حتى لو تمكنت روسيا من تحرير أراضي مقاطعتي دونتسك ولوغانتسك، بل ولو نجحت في تقسيم أوكرانيا إلى شرقية وغربية، فرؤساء الدول الغربية يصرحون دون مواربة بأنهم لن يقبلوا بانتصار روسيا في هذه الحرب، لأنهم لا يضمنون توقف الأطماع أو الحجج الروسية الأمنية من التمدد أكثر في المستقبل، إضافة إلى أن أوكرانيا وأمريكا والدول الغربية لن تتوقف عن ملاحقة روسيا عبر المحاكم الدولية عن مسئوليتها عن الدمار الذي لحق بالشعب والدولة الأوكرانية، وقد اعتبر الرئيس الأمريكي بايدن الرئيس الروسي بوتين "مجرم حرب"، ومنذ بدء الحرب يتم جمع الأدلة والوثائق عن الجرائم التي ارتكبها الجيش الروسي وقادته في هذه الحرب، فهذه المعطيات تجعل نهاية الحرب وتوابعها مستحيلة في السنوات والعقود القادمة.

إن في قول وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو في مقابلة مع قناة CNN Türk الإخبارية يوم الأربعاء 21/4/2022م، إن " هناك دولاً بحلف الناتو تريد استمرار حرب أوكرانيا، وإنهم يرون أن استمرار الحرب يضعف روسيا، لذا لا يهتمون كثيرًا بالوضع في أوكرانيا"، فإن هذا التصريح التركي دليل واضح على احتمالية استمرار الحرب الروسية الأوكرانية لسنوات قادمة، وبالأخص أنه جاء بعد اتصال هاتفي مع نظيره الروسي سرجي لافروف الذي أبلغ نظيره التركي:" أن مفاوضات السلام مع أوكرانيا تتوقف على قبول كييف لمطالب روسيا"، وإمكانية قبول أوكرانيا للمطالب الروسية مستحيلة، حيث أنها تطالب أوكرانيا الاعتراف بأن شبه جزيرة القرم روسية، وكذلك المناطق التي ستقيم عليها روسيا جمهورية مستقلة عن أوكرانيا، وهذا يعني أن روسيا تطالب الحكومة الأوكرانية بالتنازل عن الأراضي الأوكرانية وهذا مستحيل، وأقصى ما وصلت له الحكومة الأوكرانية بقيادة زيلنسكي هو بحث حيادية الدولة الأوكرانية، وبشرط أن تتم ضمن شروط أوكرانيا، ومن أهمها امتلاك أوكرانيا للقدرة العسكرية التي تمكنها من حق الدفاع عن نفسها ضد أي هجوم روسي عليها.

مقالات لنفس الكاتب