; logged out
الرئيسية / القمة فصلت بين عهدين وعكست إدراكًا عربيًا للتحولات

العدد 176

القمة فصلت بين عهدين وعكست إدراكًا عربيًا للتحولات

الخميس، 28 تموز/يوليو 2022

تعتبر قمة جدة العربية الأمريكية للأمن والتنمية التى عقدت يوم 16 يوليو فارقة ليس فقط فى العلاقات بين الدول العربية المشاركة، لاسيما المملكة العربية السعودية، وواشنطن، ولكن إقليميًا ودولياً وذلك بالنظر إلى السياق والظرف التاريخى شديد الخصوصية دولياً وإقليمياً التى جاءت فى إطاره، وما سبقها من مواقف أمريكية تضمنت تصعيدًا لفظيًا وسياسيَا غير مسبوق، لم يكن متوقعاً معه زيارة أمريكية عالية المستوى من هذا النوع. فى ضوء ذلك حملت القمة فى عقدها ابتداءاً ثم فعالياتها وما خرجت به من نتائج خمس دلالات ورسائل هامة.

أولها، إن المملكة العربية السعودية هى الرابح الأول والأكبر من القمة ومعها الدول العربية المشاركة، في حين عاد بايدن إلى واشنطن بخفي حُنين. لقد جاء بايدن أملاً فى تحقيق ثلاثة أهداف أساسية أخفق فيها جميعًا إلى حد بعيد. الهدف الأول يتمثل فى دفع دول الخليج وفى مقدمتها السعودية إلى زيادة إنتاج النفط لمواجهة أزمة الطاقة التى تعتصر الولايات المتحدة نتيجة الارتفاع غير المسبوق فى أسعار البنزين بعد أن فشل البيت الأبيض فى إقناع شركات النفط الأمريكية بخفض الأسعار للمستهلكين الأمريكيين، وما لذلك من تداعيات خطيرة على صورة إدارة بايدن وشعبيتها فى وقت تقترب فيه انتخابات التجديد النصفى للكونجرس فى الثامن من نوفمبر القادم، ويعتبرها البعض استفتاءً على الرئيس بايدن وإدارته، ويرجحوا استعادة الجمهوريين الأغلبية نتيجة التراجع فى شعبية بايدن وإخفاقاته المتكررة فى العديد من الملفات الداخلية والخارجية فى حين يسعى الديمقراطيون للاحتفاظ بمقاعدهم. كذلك لمساعدة الحلفاء الأوربيين فى تجاوز أزمة الطاقة الأشد ضراوة فى التاريخ الأوروبى ومواجهة التهديدات بشتاء قارس وركود اقتصادى.

إلا أن رد سمو الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي جاء حاسماً حين أشار إلى أن "المملكة أعلنت عن زيادة القدرة الإنتاجية إلى 13 مليون برميل يوميًا وبعد ذلك لن يكون لدى المملكة أي قدرة إضافية للزيادة". وأكد وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان أنه لم تتم مناقشة موضوع إنتاج النفط في قمة جدة وأن "أوبك+"، التى تقودها الرياض وموسكو، هى المعنية بذلك وأنها تواصل عملها لتقييم الأسواق وما تحتاجه.

الهدف الثانى هو مزيد من الإدماج لإسرائيل عبر دفع التطبيع بين الرياض وتل أبيب وإدخال "تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجى" الذى أُعلن خلال فترة ترامب حيز التنفيذ، أو إنشاء ما أطلق عليه "ناتو عربى" أو "ناتو شرق أوسطى" يضم اسرائيل ودول عربية. وذلك فى محاولة لمغازلة اللوبى اليهودى، وخاصة الإيباك، فى الداخل الأمريكى وتوظيف ما يمتلكه من تأثير قوي لدعم الديمقراطيين خلال انتخابات التجديد النصفى للكونجرس. يؤكد هذا خطاب بايدن فى إسرائيل وتكرار مقولته الشهيرة "ليس بالضرورة أن تكون يهودياً لكي تكون صهيونياً .. أنا صهيونى"، وتوقيع "إعلان القدس للشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل"، الذى ينص على أن البلدين سيستخدمان "جميع أدوات القوة الوطنية" لضمان عدم امتلاك إيران أسلحة نووية، فيما أعتبر دعم أمريكى مطلق لإسرائيل، ورسالة مباشرة للوبى اليهودي الأمريكى فى محاولة لضمان تأييده فى الانتخابات الأمريكية أو توازن مواقفه على أقل تقدير بحيث لا يكون ضد بايدن والديمقراطيين.

مرة أخرى، بدا الموقف السعودي واضحاَ لا يقبل التأويل فى هذا الخصوص، فقد أشار وزير الخارجية السعودي إلى أنه لم يُطرح ولم يُناقش أي نوع من التعاون العسكري أو التقني مع إسرائيل، ولا يوجد أي شيء اسمه "ناتو عربي"، ولا يوجد أي نقاش بخصوص "تحالف دفاعي" مع إسرائيل. وأن منظومة العمل العربي المشترك وصلت لمرحلة "النضج"، مضيفاً "نعرف ما نريد ونعرف كيف نحققه.. لا ننتظر أي أحد ليحقق احتياجاتنا". وفيما يتعلق بقرار السعودية فتح أجوائها لجميع الناقلات الجوية المدنية بما فيها تلك الإسرائيلية أكد أن ذلك القرار "لا يعني أي تمهيد لقرار لاحق"، وأنه يأتي فى إطار حرص المملكة على الوفاء بالتزاماتها المقررة بموجب اتفاقية شيكاغو لعام 1944م، والتي تقتضي عدم التمييز بين الطائرات المدنية المستخدمة في الملاحة الجوية الدولية، واستكمالاً للجهود الرامية لترسيخ مكانة المملكة كمنصة عالمية تربط القارات الثلاث، وتعزيزاً للربط الجوي الدولي.

أما الهدف الثالث فيتعلق بالورقة الإيرانية ومحاولة تجييش الدول العربية المشاركة فى القمة فى مواجهتها حيث ركز بايدن بشكل واضح على إيران كتهديد للأمن والاستقرار الإقليمى مشيراً إلى أن أنشطة إيران تزعزع الاستقرار في الشرق الأوسط، وأن لدى واشنطن العزيمة لمواجهة التهديدات الإرهابية في المنطقة، وستوفر الدعم لحلفائها لمواجهة الإرهاب، مضيفاً "لن نسمح لإيران بنشر التوترات في المنطقة، كما نرفض استخدام القوة لتغيير الحدود، لن نسمح بتعريض حرية الملاحة البحرية في المنطقة للخطر، وإدارتي تمنح الأولوية لحرية الملاحة البحرية في البحر الأحمر"، "سنعزز الدفاعات الجوية والإنذار المبكر لمواجهة التهديدات الجوية، ولن نسمح لإيران أبدًا بالحصول على سلاح نووي".

إلا أن رد الفعل السعودي بدا غير متوقع من الجانب الأمريكى، وكانت الرسالة السعودية والعربية واضحة بأنه لن يجر أحد الرياض أو أياً من الدول العربية إلى مواجهة مع طهران، ولن تسمح باللعب على الخلافات والتناقضات الإقليمية لتوريطها فى صراع يستنزف قدراتها التى يجب أن توجه للتنمية. فقد أشار سمو الأمير محمد بن سلمان إلى إيران باعتبارها دولة جارة تربطها بالرياض روابط دينية وثقافية بل ودعا طهران للتعاون مع دول المنطقة. صحيح أن الجولات الخمس من المفاوضات بين الرياض وطهران لم تصل بعد إلى نتائج ملموسة، إلا أن يد السعودية ممدودة لإيران على حد تعبير وزير الخارجية السعودي.

لقد سبق وأن اقترحت الدراسة الصادرة عن مجلس العلاقات الخارجية الأمريكى فى يونيو 2022  بعنوان " The Case for a New U.S.-Saudi Strategic Compact، "حالة الاتفاق الاستراتيجي الجديد بين الولايات المتحدة والسعودية" لكل من ستيفن أ.كوك ومارتن إس إنديك، مصالحة بين واشنطن والرياض تركز على احتواء طموحات إيران الإقليمية، مع زيادة الضمانات الأمنية من جانب الولايات المتحدة للرياض والخليج، مقابل دور سعودي أكبر في ضبط أسعار النفط من خلال الالتزام رسميًا باستخدام فائضها النفطي لإعادة الاستقرار لأسعار النفط إلى مستويات معقولة، وإنهاء الاتفاق النفطي مع روسيا، أوبك+، وأن توفر الرياض لأوروبا إمدادات النفط البديلة عن الصادرات الروسية، ما يعني تعزيز فعالية العقوبات ضد روسيا، هذا إلى جانب خفض التصعيد في اليمن، والمزيد من التطبيع مع إسرائيل. ويبدو أن بايدن تبنى هذا المقترح، إلا إن قمة جدة نجحت في "وضع النقاط على الحروف" وتوضيح الأولويات والأهداف السعودية التى قد لا تكون متسقة بالضرورة مع طموحات واشنطن وأهدافها.

ثانيها، ما تشهده السياسة الأمريكية من تصحيح مسار فى أعقاب اخفاقات حادة وتراجع فى المكانة والثقة بواشنطن. فقد تضمنت زيارة بايدن اعترافاً ضمنياً منه بسوء تقديره لمكانة وثقل السعودية ومنطقة الخليج والشرق الأوسط عامة، وتعتبر إعتذاراً وتصحيحاً لمسار خاطئ اتخذه دون مبرر حين توعد بعزل المملكة وجعلها "دولة منبوذة" غير مدرك لمحورية دورها الإقليمي والعالمي لاسيما في سوق الطاقة. وقد سبق القمة مقالاً نشره بايدن يوم 10 يوليو فى صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، حمل عنوان "لماذا سأذهب إلى السعودية؟" يبرر فيه عدوله عن مواقفه وتصريحاته السابقة إزاء المملكة. 

لقد وضعت إدارة بايدن قضايا الشأن الداخلى على قمة أولوياتها نتيجة إلحاح الأزمات الداخلية وتضمن ذلك مواجهة تداعيات جائحة كورونا، وتحفيز الاقتصاد الأمريكي والخروج به من الأزمة التي تسببت بها الجائحة وخطر الركود، وإعادة بناء البنية التحتية، وما سمي بالبنية التحتية البشرية، أي توسيع شبكة الضمانات الاجتماعية والصحية، وتخصيص مئات المليارات لمعالجة واحتواء أخطار التغير البيئي. وعلى الصعيد الخارجي احتلت المواجهة مع روسيا فى أوكرانيا والفضاء السوفيتى السابق قمة أولويات بايدن. وفى هذا السياق تراجعت منطقة الشرق الأوسط عامة، كما عادت واشنطن لتوجهات أوباما بشأن منطقة الخليج، والتي طالما تحفظت دوله عليها خاصة ما يتعلق بإيران.

كما وجه بايدن خلال حملته الانتخابية انتقادات لعدد من حلفاء واشنطن التقليديين في المنطقة، وأبرزهم السعودية ومصر وتركيا، بدعوى انتهاكات هذه الدول لحقوق الإنسان، وأعلن عن وقف تزويد السعودية والإمارات بالأسلحة الهجومية لكي لا تستخدم في حرب اليمن، وتجميد صفقات الأسلحة التي وقعتها إدارة الرئيس السابق ترامب مع البلدين، إلى حين الانتهاء من “مراجعة” السياسة الأمريكية تجاه الرياض، وقام برفع الحوثيين من قائمة الإرهاب الأمريكية فى تحول يتجاهل مقتضيات أمن الخليج العربي وتعهدات واشنطن بدعم البلدين فى مواجهة التهديدات المختلفة بما فيها تلك القادمة من إيران.

فقد تعرضت منشآت النفط السعودية الضخمة في أبقيق والخريص إلى هجوم بالصواريخ والطائرات المسيرة في منتصف سبتمبر 2019م، أحدث فيها أضرارًا بالغة، وفور حدوث هذه الهجمات اتهمت الولايات المتحدة إيران بشنّها، وهو ما أكدته لاحقًا التحقيقات الأمريكية، إلا أن الهجوم بقي دون رد أمريكي. هذا إلى جانب الهجمات الإيرانية ضد الملاحة الدولية في مياه الخليج وبحر العرب، والتي استهدفت سفن وناقلات نفط دولية وخليجية دون عقاب. بل وطلب الرئيس بايدن من وزارة الدفاع تخفيض عدد القوات الأمريكية وعتادها في منطقة الخليج في سياق إعادة تموضع القوات الأمريكية حول العالم، وخاصة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ لمواجهة النفوذ الصيني. هذه الإجراءات شملت سحب ثلاث بطاريات لصواريخ مضادة للصواريخ من طراز باتريوت من الخليج، من بينها بطارية صواريخ من قاعدة الأمير سلطان الجوية في السعودية، إضافة إلى سحب حاملة طائرات وغيرها من أجهزة الاستطلاع. كل هذه التطورات السلبية قوضت من ثقة دول الخليج فى إدارة بايدن، وفي جدوى التحالف الاستراتيجى معها.

ثالثها، القلق الأمريكي الشديد من تعاظم الشراكة بين دول المنطقة وكل من الصين وروسيا، وقد عكست كلمة بادين ذلك بوضوح حيث أكد أن بلاده لن تتخلى عن الشرق الأوسط ولن تترك فراغًا تملؤه الصين أو روسيا أو إيران، وتسعى للبناء على هذه اللحظة بقيادة أمريكية فاعلة وذات مبادئ. وأن الولايات المتحدة ستبقى شريكا نشطًا في الشرق الأوسط، والمصالح الأمريكية مرتبطة بالنجاحات في الشرق الأوسط. إلا أن رسالة الدول العربية كانت أيضاً واضحة في حرصها على العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة ولكن على أساس الشراكة المتوازنة التى تحقق مصالح مختلف الأطراف وتحترم سيادتها ومتطلبات أمنها القومي، فهي ترحب بالشراكة ولكنها لا تقبل محاولات الهيمنة وفرض الإرادة والإملاءات.

لقد فتحت القمة صفحة جديدة فى العلاقة مع واشنطن، وانهت الخرافة الأمريكية التي طالما اعتقدتها واشنطن بأنها الحامي والضامن لأمن واستقرار المنطقة. فقد كانت الرسالة واضحة بشأن قدرة الرياض على الاعتماد على الذات فى صون أمنها ومواجهة التهديدات والتحديات المختلفة. وأنها تسعى والدول العربية المشاركة إلى تحقيق مصالحها والانطلاق نحو التنمية بشراكات متنوعة مع كل القوى الكبرى التي تخدم مصالحها. وأن بوصلة المصالح هي التى تقود السياسة السعودية والعربية، وإنها لن تتخندق مع طرف ضد أخر، وهي منفتحة على العالم أجمع بالقدر الذى يمكنها من تحقيق مصالحها وضمان أمنها ورفاهية شعبها.

إن ما تواجهه أوروبا والعالم من أزمات غذاء وطاقة وسيولة نتيجة العقوبات المفروضة على روسيا والتي وصلت حد الإطاحة بحكومات في بريطانيا وإيطاليا تؤكد عقلانية وحكمة الموقف السعودي وغيره من المواقف العربية التى آثرت التوازن ومراعاة مقتضيات المصلحة الوطنية وعدم الإنجرار لمواجهات لا ناقة لنا ولا بعير فيها. فقد حددت كل دولة عربية موقفها وفقاً لمدى حيوية العلاقة والمصالح التي تربطها بروسيا من ناحية، والولايات المتحدة من ناحية أخرى، والتى تعتبر الطرف الأهم، وإن لم يكن المباشر، فى الأزمة، وكذلك مدى تأثرها بالعقوبات التي فرضتها الأخيرة على موسكو، وتحليلها للمشهد الدولي والتداعيات المستقبلية للحرب. وجاء الموقف السعودي والخليجي صادم للولايات المتحدة التى لم تتوقع سوى إلتزام العالم بما تقرره من عقوبات، فإذا بكلمة "لا" ترفع من العديد من الدول وفى مقدمتها الصين والهند والسعودية وغيرها. لقد أكدت الرياض نهج سياسة الحياد والتوازن إزاء الأزمة على المستوى السياسي،  وذلك بالنظر إلى العلاقات الاستراتيجية والمصالح الحيوية التى تربطها بكل من موسكو وواشنطن. هذا إلى جانب اتخاذ التدابير نحو ضمان الأمن الغذائي لها حيث أدت الحرب إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية، لأن كل من روسيا وأوكرانيا من كبار منتجي المواد الغذائية، وينتجان معاً 14% من القمح العالمي وتمثلان مصدر 29% من صادراته العالمية، وتعتبر روسيا أكبر مصدر له عالمياً، كما إن كلا البلدين من المنتجين الكبار لزيت الذرة وزيت دوار الشمس، وتُعد روسيا أكبر مصدر للأسمدة التي تُستخدم في الزراعة، وتؤثر الحرب والعقوبات على أسعار هذه المواد وزيادة التضخم.

يفرض هذا على الدول العربية التحرك في اتجاهين، الأول آلية لتسهيل التجارة العربية مع روسيا، والتى تجاوزت 18 مليار دولار عام 2021م، وربما يكون الأخذ بحذو الهند والصين وغيرهما والعمل بالعملات الوطنية خياراً مطروحاً في مختلف التعاملات التجارية وكذلك في صفقات الأسلحة التي أصبحت روسيا تديرها بالعملات الوطنية أيضاً. والثاني، تفعيل البطاقات الائتمانية الروسية، "مير"، حتى لا يؤثر ذلك على تدفق السياحة الروسية للبلدان العربية. وتعول العديد من الدول العربية على السياحة الروسية، وتعمل الرياض وروسيا على تعزيز التواصل الإنساني والمجتمعي بين الشعبين ووقعا عام 2019م، مذكرة تفاهم لتسهيل منح تأشيرات الزيارة لمواطني البلدين، وأخرى للتعاون في قطاع السياحة وتهيئة الظروف لجذب السياح الروس إلى المملكة وتعريفهم بمناطق الجذب السياحي بها خاصة الشواطئ ومناطق ممارسة رياضة الغوص فى البحر الأحمر. كما تعتبر روسيا من أهم الدول المصدرة للسياحة لمصر، التي تعتبر مصدر رئيسي للدخل القومي حيث تجاوزت إيرادات السياحة 13 مليار دولار عام 2021م. كما كانت تقديرات سابقة قد أشارت إلى أن حجم السياحة الروسية في الإمارات سيتجاوز مليار دولار، في ضوء حلول السياح الروس في المرتبة الثانية من حيث العدد، لكن، وبسبب القيود المفروضة على بطاقاتهم الائتمانية، قد لا يتمكن هؤلاء من السفر إلى الدول العربية مما يفقدها مصدرًا هامًا للدخل. على صعيد آخر، يتيح انسحاب الشركات الأمريكية والأوروبية وتلك التابعة للدول المتضامنة في نظام العقوبات من السوق الروسية مجالات رحبة لضخ الاستثمارات العربية والحصول على فرص هامة بقيمة منافسة، وهو ما تقوم به بعض الدول حالياً، وهناك مدى واسع يمكن لرأس المال العربي التحرك فيه.

وكانت الرياض وموسكو قد أطلقتا صندوق مشترك روسي سعودي بقيمة 10 مليارات دولار لتمويل مشاريع مشتركة، وقام الصندوق بتمويل واعتماد تنفيذ أكثر من 30 مشروعًا مشتركًا بين البلدين، باستثمارات إجمالية تزيد عن 2.5 مليار دولار في مختلف القطاعات الاقتصادية، بما في ذلك التكنولوجيا المتقدمة والطب والبنية التحتية والنقل والإنتاج الصناعي، وعدد من المشاريع الواعدة في قطاع خدمات حقول النفط بمبلغ إجمالي يزيد عن المليار دولار، بالإضافة إلى الاستثمار في قطاعي إنتاج النفط والغاز بأكثر من ملياري دولار. وأكدت شركتي "أرامكو" و"غازبروم نفط" استعدادهما لإطلاق مشروع رائد حول استخدام الذكاء الاصطناعي في الاستكشاف الجيولوجي.

رابعها، تجاوز المفهوم الضيق للأمن بمعناه العسكري التقليدي الذي ركز عليه بايدن فى خطابه، وتأكيد أهمية الأبعاد التي لا تقل أهمية وخطورة وفى مقدمتها أمن الطاقة والأمن الغذائي والأمن المائي والأمن البيئي والأمن المجتمعي الذى يركز على الهوية والخصوصية المجتمعية الثقافية والدينية. فقد ركزت الدول العربية المشاركة فى القمة على التحديات العالمية والعقلانية في التعاطي معها، وأكد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أن العالم يواجه تحديات مصيرية تستدعي مواجهتها بتكثيف التعاون المشترك في إطار مبادئ ميثاق الأمم المتحدة التي تقوم على احترام سيادة الدول وقيمها وعدم التدخل في شؤونها الداخلية واحترام استقلالها وسلامة أراضيها. وأن التحديات الكبرى التي يتعرض لها العالم مؤخرًا بسبب جائحة كورونا والأوضاع الجيوسياسية تستدعي المزيد من تضافر الجهود الدولية لتعافي الاقتصاد العالمي وتحقيق الأمن الغذائي والصحي. وركز الرئيس عبد الفتاح السيسى على ضرورة صون متطلبات الأمن المائي لدول المنطقة والحيلولة دون السماح لدول منابع الأنهار، التي تمثل شرايين الحياة للشعوب كلها، بالاعتداد على حقوق دول المصب فى إشارة لأزمة سد النهضة والتقاعس الأمريكي عن ممارسة دور إيجابي لتسويتها. كما أشار إلى ضرورة أن تكون لدول المنطقة إسهامات ملموسة في صياغة حلول دائمة غیر مرحلية لتحديات كورونا والغذاء والطاقة على أسس علمية وواقعية.

خامسها، أن الانفتاح على إسرائيل لن يكون على حساب الالتزام العربى بالقضية الفلسطينية، وبدعم حق الشعب الفلسطيني فى إقامة دولته. فقد أكد سمو ولى العهد السعودي على أن إزدهار المنطقة ورخاءها يتطلب الإسراع في اتجاه حل شامل وعادل للقضية الفلسطينية وفق المبادرات وقرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية. وأكد الرئيس عبد الفتاح السيسى على أنه لا حل لأزمات المنطقة إلا من خلال التوصل لتسوية عادلة وشاملة ونهائية لقضية العرب الأولى وهي القضية الفلسطينية. وأنه لابد من تكثيف الجهود المشتركة ليس فقط لإحياء مسار عملية السلام بل لنصل به هذه المرة إلى حل نهائي لا رجعة فيه لأزمة فلسطين. هذا إلى جانب تأكيدات مماثلة من القادة العرب المشاركين في رسالة واضحة أن القضية الفلسطينية ستظل قضية العرب الأساسية، وأنه لا سلام واستقرار حقيقي ومستدام دون تسوية نهائية وعادلة لها.  

إن قمة جدة تعد تاريخية بكل المقاييس وتمثل نقطة فاصلة بين عهدين في العلاقات العربية الأمريكية، وتعكس فهماً وإدراكاً عربياً عميقاً للتحولات الهيكلية التي تجتاح العالم وتؤثر بشكل مباشر على المكانة والدور الأمريكي إقليمياً ودولياً، ورؤية برجماتية وعقلانية في التعاطى معها. وهى خطوة استباقية لتصحيح مسار الشراكة مع الولايات المتحدة على النحو الذى يخدم المصالح العربية ويضمن أمن واستقرار المنطقة، ويحقق الانطلاقة التنموية التي طالما تطلعت لها الشعوب بعد عقد طاحن من عدم الاستقرار وأزمات عالمية متتالية اعتصرتها.

مقالات لنفس الكاتب