array(1) { [0]=> object(stdClass)#12958 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 176

اقتناع بايدن بالشراكة الاستراتيجية مع المملكة لاستعادة المصالح الاستراتيجية

الخميس، 28 تموز/يوليو 2022

خلال العقدين الأخيرين أثيرت تساؤلات حول العالم عن توجهات وأهداف السياسة الأمريكية، وتزداد الحيرة في الشرق الأوسط تحديداً؛ حيث يجتهد المراقبون في محاولة تفسير تحركات واشنطن تجاه مختلف قضايا المنطقة. وهذه قائمة ببعض التساؤلات التي تبحث عن إجابات: كيف تتخلى واشنطن عن تحالفاتها التاريخية؟ كيف تراهن على وصول جماعات أصولية للسلطة؟ كيف تعلن أمام العالم عن خطوط حمراء وتقف عاجزة حين يتم تجاوزها؟ كيف تتخلى بكل سهولة وبشكل مهين عن جهود عشرين سنة في أفغانستان أنفقت خلالها أكثر من ترليوني دولار؟ باختصار، العجز عن فهم السياسة الأمريكية يكشفه هذا السؤال المباشر "ماذا تريد أمريكا" الذي أصبح عنواناً يتكرر لمقالات وأحاديث في وسائل الإعلام؟  

قبل أكثر من عشرين سنة قدَم استاذ العلوم السياسية الشهير صامويل هنتنغتون إجابة وافية لهذا السؤال، لكننا وفي غمرة انشغالنا بطرحه عن صدام الحضارات ومحاولاتنا المستميتة لنفي مقولته من خلال كم هائل من المقالات والكتب والمؤتمرات وتأسيس مراكز الحوار، لم نلق بالاً لمقالة في غاية الأهمية نشرها عام 1997م، تشرح وبالتفصيل الإشكالية التي تواجه السياسة الأمريكية والدور الأمريكي في العالم بعد انتهاء الحرب الباردة.

المقالة التي جاءت تحت عنوان "تآكل المصالح القومية الأمريكية" The Erosion of American National Interests ونٌشرت في مجلة Foreign Affairs  في 21 صفحة تضمنت شرحاً مفصلاً لحالة الغموض في السياسة الخارجية الأمريكية.  ولأهمية تلك المقالة سأحاول هنا عرض أبرز ما تضمنته من أفكار لعلها تفيد في فهم ما استعصى علينا فهمه من تحركات وتصريحات للإدارات الأمريكية المتعاقبة، وتحديداً منذ عهد الرئيس باراك أوباما.

يبدأ هنتنغتون مقالته بالحديث عن الجدل الذي دار بعد انتهاء الحرب الباردة حول المصلحة القومية للولايات المتحدة ودور واشنطن في العالم؛ فالبيئة الدولية الجديدة اتسمت بدرجة عالية من التعقيد حيث انتشار الصراعات العرقية، والتبشير بنهاية التاريخ، والتحذير من صراع الحضارات، وتفكك الدول. رغم أهمية هذه البيئة المستجدة، إلا أنها لم تكن السبب الوحيد للالتباس حول مفهوم المصلحة الأمريكية القومية.  فالأصل حسب هنتنغتون أن المصلحة القومية تفترض وجود هوية قومية؛ فعلينا أن نعرف أنفسنا قبل أن نعرِف مصلحتنا. إذن هناك سبب لهذا الارتباك حول مفهوم المصلحة القومية الأمريكية أكثر أهمية من التغير في البيئة الخارجية، ويتعلق بالتغير في الهوية الأمريكية. لهذه الهوية مكونان أساسيان ثقافي وعقائدي.

ثقافياً، ارتبطت الهوية الأمريكية بالمستوطنين البيض من شمال أوروبا وتحديداً من بريطانيا التابعين للديانة المسيحية "البروتستانتية".  وكانت أبرز مظاهر ثقافتهم هي اللغة الإنجليزية وجملة من القيم حول علاقة الكنيسة بالدولة، وموقع الفرد في المجتمع.  وخلال ثلاثة قرون تم استيعاب بقية المهاجرين الأوروبيين، وكذلك الأفريقيين، وإن بشكل جزئي. تطورت هذه الثقافة، لكن دون تغير جذري حيث مرت بثلاث مراحل: أنجلو-أمريكية خلال الفترة 1789-1861م، أوروبية-أمريكية خلال الفترة ١٨٧٥-١٩٥٧م، والفترة الثالثة التي تبدأ من عام 1972م، تحولت إلى تعددية ثقافية multicultural America .  

المكون الثاني للهوية الأمريكية يتمثل في مجموعة من القيم والمبادئ التي وضعها الآباء المؤسسون وتتمثل في الحرية والمساواة والديموقراطية والليبرالية والملكية الخاصة وأصبحت تُعرف بالمعتقد الأمريكي American Creed.

التحولات الاجتماعية والثقافية والسكانية في المجتمع الأمريكي أثارت الشكوك حول مدى صحة وملاءمة هذين المكونين التقليديين للهوية الأمريكية.  فبدون شعور واثق من هويتهم القومية أصبح الأمريكيون غير قادرين على تحديد مصلحتهم القومية، ولذلك تمكنت المصالح التجارية والمصالح العرقية العابرة (Diaspora) والمصالح الفئوية الأخرى من الهيمنة على السياسة الخارجية الأمريكية.

لقد ارتبط الدور الأمريكي في العالم بمواجهة الاتحاد السوفيتي من أجل حماية الأمن والقيم الأمريكية ضد خطر الشيوعية. فمنذ تأسيسها كان للولايات المتحدة هوية أصلية تتمثل في مواجهة الآخر سواء كان ذلك الآخر بريطانيا الارستقراطية المستبدة في مرحلة الاستقلال، أو أوروبا الملكية المتخلفة في القرن التاسع عشر، أو النازية والشيوعية في القرن العشرين.  

بعد الحرب العالمية الأولى عرّفت الولايات المتحدة نفسها بأنها زعيمة العالم الحر في  مواجهة الاتحاد السوفيتي والشيوعية العالمية. وخلال الحرب الباردة سعت واشنطن لتحقيق الكثير من الأهداف، إلا أنه كان هناك هدفًا واحدًا مركزيًا للسياسة الخارجية وهو مواجهة وهزيمة الشيوعية، وخضعت جميع الأهداف الأخرى لهذا الهدف لمدة نصف قرن.  ذلك الهدف كان المبرر لكافة السياسات والمبادرات خلال تلك الفترة مثل: تأسيس حلف الناتو، مشروع مارشال، الحرب الكورية، حرب فيتنام، بناء التحالفات، دعم إسرائيل، الإنفاق العسكري، الأنشطة الاستخباراتية، تقديم المساعدات للدول النامية، إنشاء القواعد العسكرية، ودعم المجاهدين في أفغانستان.

وحيث يعرِف الأفراد وكذلك الجماعات أنفسهم من خلال الاختلاف عن الآخر ومواجهته، فإن وجود منافس خارجي يكون له أثر إيجابي في تعزيز وتماسك الهوية القومية وأيضاً في حيوية المجتمع، وهذا ما حدث خلال الحرب الباردة.  لقد ساهمت الحرب الباردة ومواجهة الاتحاد السوفيتي في حدوث التطورات الاقتصادية والتقنية في الولايات المتحدة، وخلال السبعينيات كان لمنافسة الاقتصاد الياباني أثر إيجابي في رفع مستويات الإنتاجية والتنافسية في المجتمع الأمريكي.

التهديدات التي ظهرت بعد انتهاء الحرب الباردة لم تكن كافية لتعبئة المشاعر الأمريكية حول هوية قومية واحدة؛ فالصين تبقى خطراً ولكن على المدى البعيد حيث لم ينضج بعد، أما ما سمًي بخطر الأصولية الإسلامية فبقي مشتتاً وبعيداً جغرافياً.  إلا أن التعددية الثقافية والانقسامات العرقية في المجتمع الأمريكي تقتضي وجود عدو خارجي يساعد على التماسك الداخلي.

ولبيان  وضع الولايات المتحدة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي  يورد هنتنغتون اقتباساً للحاكم الروماني (سولا) Now the universe offers us no more enemies, what may be the fate of the republic”   

وخلال سنوات قليلة جاءت الإجابة حيث سقطت الجمهورية.  هنتنغتون لا يتوقع سقوط الولايات المتحدة، إلا أنه يتساءل عن حيوية وجاذبية المعتقد الأمريكي في غياب عدو خارجي، وفي ظل التعددية الثقافية والانقسامات الداخلية.

ويشير إلى أن الولايات المتحدة ورغم اختلافها الشديد عن الاتحاد السوفيتي، إلا أنها تشترك معه في خاصية في غاية الأهمية وهي أنهما لا يعتبران دول قومية nation states، ومن ثم لابد من وجود أيدلوجية سياسية، حيث توجد علاقة عضوية بين الأيدلوجية والهوية القومية في الدول غير القومية. ففي حين أن دولاً مثل فرنسا وألمانيا والصين واليابان حافظت على بقائها واستطاعت تجاوز أيدولوجياتها دون تأثير على هوياتها القومية، فإن الولايات المتحدة قد لا تستطيع ذلك." فإذا سادت التعددية الثقافية، وضعف التوافق حول الليبرالية الديموقراطية، فإن الولايات المتحدة قد تشهد مصير الاتحاد السوفيتي."

"If multiculturalism prevails and if the consensus on liberal democracy disintegrates, the United States could join the Soviet Union on the ash heap of history"            

لقد تزامن انتهاء الحرب الباردة وغياب العدو مع تحولات داخلية مهمة تمثلت في تغير في حجم ومصدر الهجرات، وترتب على ذلك نمو التعددية الثقافية multiculturalism ، فمعظم الهجرات كانت من أمريكا اللاتينية وآسيا، وتراجعت نسبة الأمريكيين البيض من ثلاثة أرباع إلى النصف تقريباً، وأصبح الأمريكيون من أصول لاتينية يشكلون 25% والأفارقة 14% والآسيويون 8% كما زادت نسبة المسلمين. وفي حين كان سهلاً انصهار المهاجرين في الماضي في المجتمع الأمريكي حيث تعلموا اللغة الإنجليزية، وتبنوا القيم الأمريكية، واكتفوا بممارسة تقاليدهم داخل مجموعاتهم الاثنية وداخل منازلهم وكانوا حريصين جداً على الاندماج، وشعروا بالتمييز حين لا يسمح لهم بالانصهار في الثقافة الأمريكية بأصولها الأوروبية البروتستنتية،  فإن المهاجرين الجدد يصرون على البقاء مختلفين، ويشعرون بالتمييز إذا لم  تتاح لهم فرص المحافظة على ثقافاتهم التقليدية والتمسك بها.

ويرى هنتنغتون أن أصحاب التعددية الثقافية  multiculturalism ينكرون وجود ثقافة أمريكية مشتركة وينددون بالانصهار الاجتماعي ويطالبون بالمحافظة على الهويات العرقية وتشجيعها وتفضيل حق الجماعة على حق الفرد، وقد شكل ذلك ضربة قوية للمعتقد الأمريكي الذي صاغه الآباء المؤسسون. ويشير إلى تغيير حتى في مفهوم الجماعة؛ حيث أصبحت تعرًف وفق معيار النوع الاجتماعي والهوية الجنسية، إضافة إلى التعريف الاثني والعرقي. وبدلاً من العمل على دمج هذه الهويات المتعددة في هوية أمريكية جامعة، كما كان يحدث في السابق، يصر أصحاب التعددية الثقافية على إبقاء هذه الهويات وتشجيعها الأمر الذي يضعف الهوية الأمريكية القومية، ومن ثم القدرة على تحديد مصلحة قومية تكون دليلاً للسياسة الخارجية، وموجهاً لدور أمريكا في الشؤون العالمية. 

في ظل هذا الواقع الجديد في المجتمع الأمريكي، ومع غياب عدو خارجي يصبح السؤال مشروعاً عن المصلحة القومية الأمريكية التي تسعى واشنطن لتحقيقها وحمايتها ويقبل الشعب التضحية بالمال والروح من أجلها. ما هي الغاية الكبرى للدور الأمريكي في العالم؟ فالمصلحة القومية لها ركنان أمن وقيم. أما الأمن الأمريكي فلم يعد يواجه تهديداً حقيقياً بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وأما القيم فقد تسببت التغيرات السكانية والاجتماعية والثقافية في سقوط الإجماع حولها.  إذن كيف يمكن للحكومة الأمريكية ضمان الدعم لسياساتها ومشاريعها الخارجية بعد اختفاء هاذين الركنين للمصلحة القومية؟

وإدراكاً لهذه الحقيقة فقد شكلت لجنة في عام 1996م، باسم لجنة المصالح الأمريكية القومية من عدة مراكز بحثية لتحديد المصلحة الأمريكية القومية والتي يمكن من خلالها تبرير الدور الأمريكي في العالم. وقد عرَفت هذه اللجنة خمس مصالح حيوية للولايات المتحدة تتمثل في: (1) منع الاعتداء على أراضي الولايات المتحدة بأسلحة دمار شامل (2) منع ظهور قوى مهيمنة معادية لأمريكا في أوروبا وآسيا (3) منع انهيار نظام التجارة العالمي وأسواق المال وانقطاع إمدادات الطاقة (4) حماية الحلفاء (5) بناء علاقات إيجابية مع الدول التي يمكن أن تكون منافسة للولايات المتحدة (الصين وروسيا). ويشكك هنتنغتون في إن كانت هذه المصالح "الحيوية" تتعرض لتهديدات تجعل الشعب الأمريكي مستعد للتضحية لدعم سياسات حكومته لمواجهتها. فالمواطنون الأمريكيون لم يعد لديهم الاستعداد لتعبئة موارد ثمينة للدفاع عن الحلفاء أو دعم التنمية في العالم الثالث، لذلك مهما عبرت الإدارة عن هذه الأهداف فلن تجد آذان صاغية.

ويلاحظ هنتنغتون حالة من اللامبالاة في المجتمع الأمريكي حيث لم يعد مقتنعاً بوجود تهديد حقيقي للولايات المتحدة، كما لم يعد الأمريكيون مؤمنون بأن يكون للولايات المتحدة دور قيادي في العالم.  بل إن قناعة جديدة قد تشكلت بأن المصلحة الأمريكية تقتضي عدم التورط في شؤون العالم. لقد فشل المسؤولون الأمريكيون في خلق غاية جديدة للسياسة الخارجية يمكن أن تلقى إجماعاً ودعماً من الشعب الأمريكي. هذا بالطبع لا يعني توجه واشنطن نحو العزلة، بل إنها استمرت في الانخراط في القضايا الدولية ولكن لخدمة مصالح تجارية واثنية وفئوية ضيقة، حيث يتم توظيف المؤسسات والقدرات الأمريكية الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية والاستخباراتية لخدمة هذه المصالح.  

ومن مؤشرات هذا التحول جعل الدبلوماسية التجارية هدفاً وغاية بعد أن كانت وسيلة لتحقيق المصلحة القومية الأمريكية. فتشجيع الصادرات الأمريكية أصبح أولوية في السياسة الخارجية الأمريكية، والإنجاز التجاري أصبح معيار النجاح الدبلوماسي، وأداة لتقييم كفاءة السفراء. ونتيجة لذلك تراجعت الأهداف الاستراتيجية مثل المحافظة على توزان القوى، والعلاقات مع الحلفاء.  

وبالإضافة إلى المصالح التجارية الضيقة تحولت السياسة الخارجية الأمريكية لخدمة مصالح الشعوب المهاجرة diaspora   (اليهود، الأرمن، البولنديون وغيرهم). هذه الجماعات العرقية وبسبب استمرار وسهولة تواصلها مع دولها نتيجة التطور التقني أصبحت تعرِف مصالحها مع مصالح دولها وتضغط من أجلها. في السابق كانت الأقليات التي هاجرت هرباً من الاضطهاد تدعم الحكومة الأمريكية للضغط على حكوماتها، أما الآن فهي تضغط على المؤسسات الأمريكية لاتخاذ سياسات لخدمة مصالح دولها والتي قد تتعارض أحياناً مع المصالح الأمريكية. لقد أصبحت هذه الأقليات تمتلك الموارد والتأثير الواسع والشرعية للمشاركة في رسم السياسة الخارجية الأمريكية.    

وبسبب هذه التحولات فقدت السياسة الخارجية الأمريكية تماسكها، ولم يعد لدى الولايات المتحدة سياسية خارجية تليق بدولة عظمى، بل مجرد سلسلة من الأهداف الضيقة. لقد بلغ تأثير هذه الأقليات درجة ولَدت قناعات لدى بعض المسؤولين الأمريكيين بأن هؤلاء يخدمون نشر القيم الأمريكية في دولهم، ويرون في مشاركتهم في توجيه السياسة الخارجية الأمريكية تطوراً إيجابياً لابد أن يستمر. ففي عام 1996م،نظم مجلس الشؤون الخارجية مؤتمراً بعنوان US  Foreign Policy In The 21st Century  شهد هجوماً على تعريف المصلحة القومية الذي ساد أثناء الحرب الباردة كونه حرم الأقليات من المساهمة في القضايا الدولية.  ويرى هنتنغتون في تنظيم هذا المؤتمر من قبل مجلس الشؤون الخارجية-الذي يمثل الذراع الفكرية لمؤسسة صناعة السياسة الخارجية الأمريكية- دلالة رمزية قوية على انتصار مصالح المهجر على المصلحة القومية الأمريكية في صنع السياسة الخارجية. لذلك ينصح هنتنغتون من يرغب في فهم السياسة الخارجية الأمريكية بأن لا ينطلق من المصلحة القومية، بل من هذه المصالح الفئوية الضيقة عرقية كانت أو تجارية أو نوع اجتماعي أو هويات جنسية.[1]

  Foreign policy in the sense of actions consciously designed to promote the interests of the US as a collective entity in relations to similar collective entities is slowly but steadily disappearing.

إن تراجع النفوذ الأمريكي حول العالم ووقوف حتى الدول الصغيرة ضد السياسات الأمريكية هو نتيجة لهذه التحولات وفقدان السياسة الأمريكية لجوهرها المتمثل في مصلحة قومية واضحة، وطغيان المصالح الفئوية الضيقة. لذلك بدأت تتشكل قناعة بأن الولايات المتحدة والتي قدمت خلال الحرب الباردة منفعة للجميع public good(مواجهة الخطر الشيوعي) لم يعد لديها اليوم ما تقدمه للعالم. 

 ولذلك لم تعد الحكومات تأخذ تصريحات المسؤولين الأمريكيين حول أهداف عامة بجدية كونها تدرك أن هذه الأهداف لا تجد دعماً لها في المجتمع الأمريكي، وعوضاً عن ذلك تهتم هذه الحكومات بأفعال الإدارة الأمريكية الموجهة لخدمة مصالح فئوية ضيقة.

وفي لغة متشائمة وفي ظل غياب مصلحة قومية واضحة يختم هنتنغتون مقاله بتوجيه نصيحة للمسؤولين الأمريكيين بضبط المشاركة في الشؤون العالمية من أجل عدم تبديد قدرات الولايات المتحدة على مصالح ضيقة، بدلاً من الاستمرار في تصريحات حول مشاريع واستراتيجيات كبرى ورؤى سياسية شاملة لا أحد يلقي لها بالاً، مع الأمل بأن تستطيع أمريكا مستقبلاً تجديد هويتها القومية، ومن ثم تحديد مصلحة قومية يقبل الشعب الأمريكي التضحية من أجلها.

نختم هذا العرض بعدة ملاحظات:

  • إن السنوات الأخيرة تشهد مظاهر متزايدة لتحذير هنتنغتون من فقدان السياسة الخارجية الأمريكية بوصلتها، ومن ذلك تردد وارتباك الإدارات الأمريكية تجاه قضايا منطقة الشرق الأوسط والتي كانت سابقاً تعد أحد أبرز مناطق المصالح الحيوية للولايات المتحدة. (2) إن التحول في السياسة الأمريكية تجاه آسيا والتركيز على مواجهة الصين واتخاذ خطوات استفزازية نحوها، ومن ذلك التصريحات حول تايوان قد يكون محاولة من بعض المدركين لتحذيرات هنتنغتون بهدف جعل الصين تظهر بمظهر العدو ليسهم ذلك في إعادة إحياء شعور قوي بالهوية القومية يكون ركيزة لاستعادة المصلحة القومية لمركز الاهتمام في السياسة الخارجية. (3) إن الجدل الكبير الذي شهدته واشنطن حول العلاقات السعودية الأمريكية، واقتناع الرئيس بايدن بأهمية زيارة المملكة كونها "شريك استراتيجي" قد يكون مؤشراً آخر على الوعي بالخطر الذي حذر منه هنتنغتون قبل ربع قرن، ومحاولة استعادة المصالح الاستراتيجية الأمريكية لموقعها كمحدد رئيس للسياسة الخارجية بدلاً من مصالح فئوية ضيقة. (4) قد يكون اجتياح بوتين أوكرانيا شعلة توقد من جديد المصلحة القومية الأمريكية لتوجيه الدور الأمريكي في العالم بشكل يلقى الدعم في الداخل والاهتمام في الخارج.

 

 

[1]لم يعش هنتنغتون ليرى علم  المثليين يرفرف بجانب العلم الأمريكي على سفارات الولايات المتحدة أو ليسمع وزير الخارجية بلينكن يقول اثناء جلسة الموافقة على تعيينه بأنه يدعم تعيين ممثلين لجماعة LGBTQ في السفارات.

مقالات لنفس الكاتب