; logged out
الرئيسية / "المنظومة" تحتاج تخفيف حدة الصراع وبناء الثقة ومبادرات الدول المعنية

العدد 179

"المنظومة" تحتاج تخفيف حدة الصراع وبناء الثقة ومبادرات الدول المعنية

الخميس، 27 تشرين1/أكتوير 2022

ينصرف تفكيرنا عند سماع سؤال: ما هو الأمن الجماعي، وماذا تعني التوازنات؟ مباشرة إلى الإجابة التقليدية، التي تقول إنه ببساطة فكرة تقوم على أن أية دولة تهاجم دولة أخرى هي بمثابة اعتداء على كل الدول الأخرى، التي من واجبها معارضة الهجوم ورد العدوان. ويصبح مفهوم الأمن الجماعي بذلك كنوع من العقد الاجتماعي بين الدول، في حين أن نظام التوازنات هو آلية في حد ذاتها، مع قدر من عدم التدخل، الذي من المفترض أن يمنع أية دولة من زيادة القوة بما يكفي لتكون قادرة على الإخلال بالوضع الراهن. لذلك، فإن هدف الأمن الجماعي هو الاستقرار والسلام، بينما من المتوقع أن يحافظ نظام توازن القوى على الوضع الراهن، خاصة بين القوى الكبرى في الإقليم، أو تلك القوى العظمى على المستوى العالمي، الذي قد يصل حد اللجوء إلى الحرب؛ ذات الأهداف المحدودة، إذا لزم الأمر، من أجل الحفاظ على التوازن الجيوسياسي. فمن الناحية التاريخية، كان مفهوم الأمن الجماعي يعبر عن الشعور الأوروبي في القرن الثامن عشر، عندما كانت فكرة التقدم هي السائدة ومفهوم توازن القوى، الذي بدا غير مرضٍ للمراقبين الأكثر حكمة. ومع ذلك، فقد ولدت الأمم المتحدة، التجسيد الزمني للأمن الجماعي، في وقت تحطم فيه الإيمان بالتقدم بسبب الأهوال غير المسبوقة للحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية. بعبارة أخرى، أنشأ العالم، في عام 1945م، نظاماً توقف فيه عن الاعتقاد بمنطق أن الحروب الكونية قد انتهت، أو ينبغي لها ألا تقع بعد الآن، وذلك كما لو أنه، مع عدم وجود قناعة حقيقية بأنه سيفعل ذلك، كان يرغب في تهدئة ضميره المفجوع بالخسارة البشرية في الحرب العالمية الثانية، التي قضت على أكثر من 77 مليوناً من الأرواح.

وبإلقاء نظرة سريعة على التكوين الهيكلي للأمم المتحدة، ولا سيما مجلس الأمن التابع لها، نجد أنه يميل إلى دعم هذا التوجه التبريري التاريخي. ولذلك، يجب أن نلاحظ أن تأسيس الأمم المتحدة تزامن تاريخياً مع فقدان الثقة في "العقلانية"، وهو المصطلح، الذي يشيع استخدامه من قبل الخبراء السياسيين، ومع إحياء السياسة الواقعية التقليدية، على النحو، الذي جسدته عصبة الأمم. فالمبادئ، التي طبقها قادة القوى العظمى، التي انبثقت عن الحرب العالمية الثانية، كانت سائدة في الواقع في أقسام جامعات العلوم السياسية بعد الحرب. على سبيل المثال، استندت استراتيجية الاحتواء، التي حكمت سياسة الولايات المتحدة، حتى عام 1991م، وتجددت "شهية" الإدارة الأمريكية إلى محاولات تطبيقها على روسيا بعد بدء غزوها لأوكرانيا، على وجهة نظر تقليدية لترابط القوى. نتيجة لذلك، مارست الولايات المتحدة، والاتحاد السوفيتي، والأعضاء الدائمون الآخرون في مجلس الأمن، سياسة واقعية أثناء تموضعهم في الأمم المتحدة، والتي كان سبب وجودها، تحديداً وضع حد لمثل هذه الممارسات. وهذا يسمح لنا بالقول، من دون أن نكون بعيدين عن القاعدة، إن إخفاقات الأمم المتحدة لا ترجع، كما هو مؤكد بشكل عام، إلى حقيقة أن عالم اليوم لم يعد هو عالم عام 1945م، وأن الأمم المتحدة لم تكن قادرة على التكيف، ولكن بالأحرى أنه في عام 1945م، جرت ممارسة لعبة "النرد" بالفعل، وتم تحديد مصير الأمم المتحدة عملياً كطاولة تنافس بين القوى العظمى. يمكننا حتى أن نضيف أن الأمم المتحدة ربما تكون أكثر تكيفاً في عام 2022م، مع السياق الحالي بدلاً من سياق الوقت، الذي تأسست فيه، إذ نجحت في السيطرة على منطقة خاصة بها، وأحياناً حتى في تجنب الإلزام المكتوب في أصولها، التي التزمت الصمت حيالها.

لهذا، إن أول ما يتوقعه المتأمل في فلسفة قيام مجلس التعاون لدول الخليج العربية هو إدراكها لمثل هذا القصور الأممي، وضرورة العمل الخاص لتحقيق أمنها الجماعي كنظام للتعاون بين مجتمعاتها بحيث يكون أي عمل عدواني ضد أحد أعضائها عملاً عدوانياً ضد الجميع، أي سلامة الجميع بالجميع. ومثلما سبق أن اقترحت اللجنة رفيعة المستوى للأمم المتحدة أن الأمن الجماعي يجب أن يرتكز على ثلاث ركائز: الحاجة المستمرة للاستجابات الجماعية على المستويات العالمية والإقليمية والوطنية، وقبول أن بعض التهديدات تشكل مخاوف أمنية خطيرة لجميع الدول، ومسؤولية الحماية، من منطلق إدراك أن بعض الدول لا تستطيع، ولن تحمي شعوبها، وستؤذي جيرانها. ولاحقاً، أضافت ركيزة رابعة تمثلت في واجب المنع، الذي يركز الانتباه على التهديد، الذي تشكله أسلحة الدمار الشامل، والدول المارقة، والإرهاب، والحاجة إلى التدخل العسكري الجماعي. ولذلك، استشعرت كثير من الدول، وفي مقدمتها دول الخليج، أن هناك خطر في إضافة هذه المبادئ الجديدة إلى نظام الأمن الجماعي للأمم المتحدة، الذي يعاني بالفعل من عيوب جذرية. ألن تؤدي هذه الركائز الجديدة؛ مسؤولية الحماية، وواجب المنع، والحرب المفتوحة على الإرهاب، إلى انعدام الأمن الدولي، الذي كان لدول الخليج نصاب المقدمة فيه؟

إطار منهجي:

إن مقدمة هذا المقال تجترح مدخلاً يقول إن مبدأ الأمن الجماعي، الذي بدأ كمنظور أممي، صاحبته الكثير من الاختلالات المنهجية، والإخفاقات الإجرائية، يمكن أن يطبق في حيز جغرافي أضيق من إقليم الشرق الأوسط، الذي لا تلتقي الدول المتجاورة فيه على هدف واحد. لذلك، فإن دول الخليج العربية، بغير قطيعة مع جوارها الإقليمي، يمكن أن تكون قادرة على التعامل مع المشاكل الجيوسياسية الرئيسة، ومؤهلة لخلق واقع آمن لمجتمعاتها، وهي في المنحى لا غنى عن تكاملها لتحقيق غاية الاستقرار الإقليمي، وحتى على المستوى العالمي. والقصد من ذلك ليس فقط استكشاف آلية الأمن الجماعي الإقليمي؛ على النحو المتوخى في ميثاق الأمم المتحدة، وإنما إدماج مسؤولية الحماية وواجب المنع داخل منظومة مجلس التعاون، والمنظمات الإقليمية الرديفة؛ كالجامعة العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، ويمتد ذلك إلى الاتحاد الإفريقي، كتنظيم سياسي مجاور، وينضوي تحت لوائه أكثر من ثلثي العرب. فقد كشفت القراءة السريعة لبيانات هذه المؤسسات الإقليمية أنه لا يوجد فرق كبير بين ما تتضمنه مواثيقها من مبادئ الأمن، والمبادئ المزدوجة لمسؤولية الحماية وواجب المنع، والمصلحة الراسخة لدول الخليج في إدارة الأزمات القائمة والمحتملة. فقط تحتاج إلى اعتماد نطاق أوسع لمفهوم العدوان ليشمل العدوان غير المباشر على شكل تخريب، وعدوان اقتصادي، وأشكال أخرى من الضغط، بمبادرة من المجلس، وإعطاء تعريف موضوعي صريح لما يشكل تهديداً للسلم والأمن الإقليميين.

ولتقييم هذا المنظور، يقول بعض علماء العلاقات الدولية؛ أمثال إنيز كلود ومومولا نايدو، إن إمكانات الأمن الجماعي تاريخياً لم تكن كبيرة كما هو الحال الآن، آخذين في الاعتبار أنه بعد الحرب العالمية الأولى، بسبب الانتشار الكبير للسلطة عبر العديد من الدول في شكل مصالح، ومن ثم تنامي المشاحنات السياسية، التي أدت لإضعاف إمكانات نظام الأمن الجماعي. غير أن الثقة المفرطة في الأمن الجماعي باعتباره الدواء الشافي لعمل المجتمع الدولي أعطته هالة لا يمكن أن ترقى إلى مستوى الفعل المطلوب حيال الأزمات المعقدة كقضية فلسطين، وما كان قبلها من نظام عنصري في جنوب إفريقيا. ومن المفارقات، في الأزمنة المعاصرة، أن "الثقة" في نظام الأمن الجماعي للأمم المتحدة؛ تجددت إلى حد كبير لأنه تم تصميمه مع مراعاة الحرب العالمية الثانية، فقد أدى إلى دعوات لتوسيع نطاق التهديدات، التي يتعامل معها النظام بالقوة، مما يجعل النظام أكثر مرونة، من أجل الحفاظ على السلم والأمن الدوليين. ومع ذلك، فإن وجهة نظرنا في هذه المنطقة المضطربة من العالم؛ "الشرق الأوسط"، التي حطمت فرضية وحدة العمل الدولي للأمم المتحدة، ووضعت نظام الأمن الجماعي في حالة شلل تام. وبما أننا ندخل مجال حرب باردة/ساخنة جديدة، يتجدد السؤال، الذي يجب طرحه هو ما إذا كانت نهاية هيكل الحرب الباردة السابقة قد شلّت النظام بوصفه القديم، فهل نتوقع إعادة قابلية هذه الفرضية للحياة والسماح للنظام بالعمل كما كان مخططاً له في الأصل؟

إشكالية الأمن الجماعي:

وباستصحاب التاريخ مجدداً، نلاحظ أن الأمن الجماعي، كما كان يُنظر إليه في القرن الثامن عشر وطُبق في القرن العشرين، قد أسس على أربعة مبادئ تبدو اليوم غير ملائمة لسياقات الأحداث العالمية، بل إنها عفا عليها الزمن: وفي أولها، فكرة تفوق الدولة، كلاعب شرعي وعقلاني. وثانيها، حرمة سيادة الدولة. وثالثها، النظرة الضيقة لمفهوم الأمن. أما رابعها، فهو تصور العلاقات الدولية لصالح البعد السياسي/الجغرافي، أو الجيوسياسي. وهذه كانت، مع تلك، المبادئ، التي تحكم ولادة الأمم المتحدة ولا تزال تلك، التي تشكل سبب وجودها، والتي إن تفحصنا افتراضاتها في ضوء سياقنا الحالي، سنعثر على سبب لتعثر جهود الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، وشيوع عدم الاستقرار في أقاليم العالم المختلفة. فقد كانت الأمم المتحدة جزءاً من ديناميات العلاقات الدولية لأكثر من 60 عاماً، تغيرت خلالها أشياء كثيرة، بما في ذلك المنظور، الذي قد يكون لكل فرد مكانه، أو مكانها في الكون. ولا شك أن الأمم المتحدة موجودة في العديد من المجالات ومن المتوقع أن تكون أكثر من ذلك. من خلال وكالاتها المتخصصة العديدة، التي تحقق أحياناً المعجزات، وتقوم بذلك بموارد محدودة للغاية. لكن العالم يتغير بسرعة أكبر من قدرة الأمم المتحدة على التكيف، بما في ذلك التحولات الهيكلية العميقة، التي غيرت مجرى الأشياء والتاريخ. لذلك، فإن الأمم المتحدة تجسد التفكير في حقبة أخرى، وقد تم وضع هياكلها منذ البداية في قالب صارم يناسب في المقام الأول القوى العظمى، التي بالكاد تجاوز نطاقها العقلي نطاق الحكم العالمي، الذي تحكمه بشكل أساس القوانين القاسية للعلاقة بين هذه القوى. 

لقد ولت الأيام، التي كان من الممكن فيها من الناحية النظرية تسوية جميع مشاكل العالم تحت مظلة أممية واحدة فقط. من هنا تبدو فكرة مظلة أمنية إقليمية لدول الخليج العربية، مقبولة في سياقات جديدة تتعامل مع التهديدات داخل حيزها الجغرافي، أو نطاقها الجيوستراتيجي، الأمر الذي جعل دولة مثل الولايات المتحدة تستبعد حلف شمال الأطلسي "الناتو"، لتعقد حلفاً ثلاثياً "الأوكوس" مع المملكة المتحدة وأستراليا، لأن التهديد المباشر للطرف الثالث متوقع أن يتأتى من الصين، لا من روسيا، كما هو الحال بالنسبة لأوروبا. ورغم ما حملته "إرهاصات" التفكير في "ناتو" عربي، أو شرق أوسطي، بافتراض أن إسرائيل يمكن أن تكون جزءًا منه. إلا أن ما تواتر من أخباره لم تجعل من إمكانية قيامه، كنسخة طبق الأصل من حلف شمال الأطلسي، أمراً محتملاً؛ لأسباب عملية إجرائية، ولا مقبولاً لاعتبارات سياسية، خاصة مسألة طرح المكون الإسرائيلي كأحد أضلاعه. وما أبانته تراجعات تصريحات من يفترض أنهم المعنيون بإقرار تنفيذه هي بلا شك كافية لإطلاق رصاصة الرحمة على الفكرة في رحم غيبها، وقبل أن ترى النور. وهذا لا ينفي الحاجة الملحة لمنظومة أمنية خليجية، تمتلك دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية زمام المبادرة في إنشائها، وتصور طبيعتها، وتحديد قدرتها، وتعيين أهدافها، والسيطرة المطلقة على نوعية تسليحها، ونطاق عملها واستجاباتها لما هو قائم من أزمات، أو ما يطرأ من مهددات. وإذا كان "الردع" هو مقصود استدامة السلام، فإن تهيئة هذه المنظومة بما تتطلبه "جاهزيتها" النوعية من عدة وعتاد تبقى في قمة الأولويات الجماعية، التي من شأن إحسان ترتيبها وتوظيفها رفع القدرة على تأمين منابع النفط، وخطوط الإمدادات، والملاحة البحرية، التي تتحكم في كل الصادرات والواردات.

خيارات الداخل:

إن الحجة المنطقية لمنظومة أمن خليجية تبدو أكثر قابلية للتأييد، وأكثر يسراً في التجربة العملية، من المشاريع الممتدة عبر جغرافية أوسع، تحمل في طياتها اختلالات أعمق في بنيتها الاجتماعية والسياسية. وما كان من تجارب المنظومات "الإقليمية" كافٍ لرد التفكير عن تكرارها؛ فلا اتفاقية الدفاع العربي المشترك فُعِّلَت بشكل يطمئن على الاستمرار في تبنيها، ولا الحلف الإسلامي تكاملت له عناصر الوحدة، التي تمكن من اختبار جدواه كمرتكز، أو بديل يصلح للاعتماد عليه. فالتحالف العربي الأوسع أثبت فشله على مدى عقود القضية الفلسطينية، والدول العربية الفاعلة في النظام العربي تقاعست عن نداء مجلس التعاون حين شعر بتهديد التحول السياسي والعسكري في اليمن، والاحتفاء بالتحالف الإسلامي ما يزال لم يتجاوز "النوايا"، رغم كل ما يحمله "نظرياً" من قوة ردع، نرى أن دول الخليج في أمس الحاجة إليها. أما ما عدا هذه الاحتمالات، فاليقين يكذب ما يمكن أن يقال عن صلاحية الاعتماد على الغرب، أو النظام العالمي، المتمثل في الأمم المتحدة، التي ما أن دُعيت لِخَطْبٍ إلا سارعت للشجب والتنديد والتعبير الممض عن القلق. فهناك مشاكل متعددة لكل طرح يتجاوز دول الخليج إلى غيرها، لا يسهل حلها بمجرد التفاوض على مبدأ عام، لأن أية منظومة أمنية يجب أن تكون بنية المجتمع ونظام الحكم محددة بنفس القدر. كما يجب أن تقدم إجابات للأسئلة الأساسية: لمن؟ ولماذا ا؟ وكيف؟ ولأي أغراض؟ ومن يقرر ماذا؟ بمعنى آخر، كما هو الحال بالنسبة لأية منظمة بشرية، تثار مشكلة الشرعية السياسية كمنطلق حاكم لكل التصرفات. 

وتخضع صلاحية وجدوى مفهوم الأمن الجماعي لدول الخليج للنقاش، منذ فترة طويلة، يتجاوز الحماس فيها ما يعترض الفكرة من تحديات وعقبات، ومواقف متباينة على أسس قُطْرِيَّة مُختلفة. وعلى الرغم من الممسكات التشريعية لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، التي وضعت الأسس القانونية للتعاون الأمني والدفاعي المشترك، باعتبار أن هذا الأمن الجماعي هو البنية التحتية للنظام القانوني والسياسي، الذي يمكن الارتكاز عليه، إلا أن الاعتراضات الرئيسة ما تزال تتعلق بالتعارض المزعوم في حصرية فكرة المفهوم "الجماعي" مع المصالح الوطنية الخاصة لبعض دول المنطقة، التي ما تزال تتعارض تصوراتها حول المهددات ومصادرها الإقليمية والدولية. وبسبب من هذا، يظل جدوى تكتلها الإقليمي مرهون بقدرتها المستقبلية في تأسيس تشكيلات للقوة، ذات قيادة عسكرية مركزية، يتم فيها فحص العلاقة بين مفهوم الأمن الجماعي، والمفاهيم ذات الصلة؛ مثل منع الصراع، وإدارة الأزمات، والإنذار المبكر، وحل النزاعات بين دول الخليج، وبينها وجوارها القريب والبعيد. فإذا كان "درع الجزيرة" بقيادة المملكة العربية السعودية، مثلاً، قد تعامل بسرعة حاسمة مع أحداث مملكة البحرين إبان انتفاضات الربيع العربي، ونهض مجلس التعاون بموقف سياسي جماعي في البداية من الأزمة اليمنية، وابتدر عملاً عسكرياً منسقاً؛ تداعت لِنُصْرَتِهِ أطرافٌ إقليمية وعالمية، إلا أن عدم وجود البنية المؤسسية لتشكيل عسكري موحد، وقيادة عسكرية مركزية، جعل استمرار المشاركة خيارات فردية لأعضائه وحلفائه، وانطفأت حماسة دول "التحالف الإسلامي"، ليصبح الأمر وكأنه حرباً بين دولتين تعاونها دولتين أخريين؛ دولة الإمارات العربية المتحدة إلى جانب السعودية، في حين تقف إيران مع حلفائها الجدد في صنعاء.

لهذا، فإن السعي لمنع الحرب والحفاظ على السلام قد عم التفكير السياسي والقانوني في دول الخليج العربية لعدة عقود ماضية، أي بُعَيد استقلالها الوطني. ونشطت العديد من الأفكار والمبادرات والمشاريع، تكللت بخلق أول مؤسسة جماعية حقيقية هي مجلس التعاون لدول الخليج العربية، التي مثلت اعترافاً بحقيقة أن النظام الإقليمي، القائم على التوازن بين القوى الرئيسة في المنطقة، يحتاج إلى معادل موضوعي يستند على كل المشتركات الجامعة بين دوله الست. ورغم ما أحدثه المجلس من تطور ملحوظ في جوانبه التشريعية الاجتماعية والثقافية، ومؤسساته السياسية والاقتصادية، وتوافقاته الأمنية والاستراتيجية، إلا أن هناك حاجة إلى ترتيب جديد متعدد الأطراف يتعامل مع مشاكل الحرب والسلام في سياق عضوي يستند إلى اتفاقية خليجية مُلْزِمَة، ونواة منظومة أمنية مُوَحَّدَة؛ على شَاكِلَة "الناتو"، ويعمل من خلال جلسات مجدولة بانتظام، ومناقشات خاصة وعامة، ووثائق مُشْهَرَة ومعتمدة رسمياً. وسيحدد النظام المعتمد في ميثاق المجلس سبب أية دعوى لعمل دفاعي، أو إجراءات أمنية، وأهلية رفعها، فضلاً عن التدابير، التي سيتم تنفيذها رداً على أي تهديد قائم للسلم والأمن. وقد يبدو الأمر يسيراً، ولكن الأساس، الذي يمكن أن تُحدثه هذه الترتيبات في الأنماط الحالية، سيكون كبيراً وحاسماً. إذ يعج الخليج وإقليم الشرق الأوسط الأوسع، وشمال إفريقيا وقرنها المضطرب الآن، بأزمات تأخذ رشد العقل وتتقطع معها الأنفاس، ويتسابق الناس فيها بحثاً عن حلٍ يلتمسونه عبر لقاءات رسمية وغير رسمية، ودبلوماسية علنية وسرية، تؤكد جميعها أن مشكلات السلم والأمن الإقليمية أصبحت مسألة وجودية، ولا مناص من إيجاد حلول عاجلة لها. فحفظ الأمن والنظام، فيما يَمُرُّ به الإقليم من مصاعب وصراعات، لا يمكن إلا أن يتأسس إذا كان احتكار القوة جماعياً، وعبر منظومة عسكرية، لا يشذ فيها طرف عن قرار الحرب والسلام.

ولهذا، علينا أن نفترض أن هناك اتفاق، على سبيل المثال، على الاختلاف بين الهيكل الدولي عند إنشاء الأمم المتحدة لأول مرة مقارنة بعصر الحرب الباردة من جهة، والعصر الحالي من جهة أخرى، لا سيما مع إضافة التهديدات الجديدة، التي أوجدتها الحرب الروسية الأوكرانية، للتهديدات الكلاسيكية من النزاعات المسلحة في الخليج، وجواره الإقليمي؛ من اليمن، وسوريا، وليبيا، والسودان، والصومال، إلى جنوب السودان، وإثيوبيا، والتي لا تعني الأمن من الصراع العسكري فحسب، بل تعني أيضاً عدم القدرة التحرر من الخوف والعوز، أي تحقيق الظروف الاقتصادية والاجتماعية، وكل ما يجعل الحياة في الإقليم أقل احتمالاً. لذلك، يعني الأمن الجماعي الإقليمي، الذي يمكن أن يشكل ضمانة حقيقية لأمن واستقرار دول الخليج، العمل على القضاء على هذه النزاعات الإقليمية المسلحة، أو على الأقل الحد منها، وحل الخلافات ما دون العسكرية، وعدم إغفال إيجاد حل عادل لتلك المشكلة الخطيرة للغاية، التي يمثلها الصراع العربي ـ الإسرائيلي، التي لا تتناول فقط الأمن الفلسطيني، بل أيضاً أمن الخليج، من وجهة نظر ارتباطها القديم والجديد بكل التطورات في المنطقة. كما يجب إيجاد معادلة تعايش مع الجمهورية الإسلامية في إيران وجمهورية تركيا، كجزء لا يتجزأ من استراتيجية خليجية لضمان السلام والأمن الإقليمي. هذا مع إدراكنا إلى أن مفهوم الأمن الجماعي الخليجي بسعة تستوعب إيران، أو الإقليمي ببعد يضم القضية الفلسطينية، زلق للغاية، إلا أنه يحدد مدى القدرة على النجاح في مستوياتها الأعمق، لأنه مرتبط بالمفهوم، الذي يقول إن جميع النزاعات الدولية تخضع في النهاية لتسوية سلمية وعادلة ومرضية، وبافتراض أن الأمم في معظمها تميل إلى السلام وليس الحرب، التي يلجأ إليها أحد الأطراف عندما يكون مذنباً بارتكاب عمل عدواني متعمد.

مبادرات الخارج:

على الرغم من أن الأمن الجماعي يتطلب فهماً بين الأطراف المعنية للطريقة، التي يعتمد بها أمنهم على بعضهم البعض، وهو غالباً ما يأتي بشروط مسبقة، إلا أن قوىً عالمية معتبرة ظلت دائماً على مقربة من شؤون دول الخليج. وللتعامل مع هذه الشروط على نحو فعال، كان عليها جميعاً أن تعترف بأن" أمن الفرد هو اهتمام الجميع"، على حد تعبير العديد من خبراء الأمن. فالأمن الجماعي يختلف عن الدفاع الجماعي الموجه إلى عدو مشترك، الذي تسعى القوى الخارجية للتذرع به، وليس ضد أعضاء المجموعة نفسها. ووقع التحالف الاستراتيجي للشرق الأوسط، الذي سعت إليه الإدارة الأمريكية السابقة، في فئة الدفاع الجماعي، لأنه كان يهدف بوضوح إلى مواجهة إيران. غير أن مثل هذا التحالف، الذي تأسس بشكل أساس من قبل دول مجلس التعاون الخليجي، تأخر حتى الآن في الظهور إلى حيز الواقع، ولا يرجع هذا فقط إلى عدم استعداد الولايات المتحدة لتقديم التزام على غرار حلف الناتو بأمن الدول العربية، ولكن أيضاً بسبب بعض الخلافات الداخلية بين الدول الخليجية نفسها حول ماهية التهديد الأمني النهائي، الذي يتربص بها في الجوار الإقليمي. بالإضافة إلى ذلك، فإن الوجود المفترض للإطار الإقليمي، الذي تشكله دول مجلس التعاون الخليجي الست وإيران والعراق يساعد الحكومات على قبول فكرة أنه لا توجد دولة بمفردها تمثل مشكلة، بل يجب أن تكون جزءاً من الحل.

لقد استندت مبادرات القوى الخارجية لأمن الخليج بالولايات المتحدة، منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي، على نفوذ الولايات المتحدة ونهجها الأمني في الخليج إلى الحفاظ على وجودها العسكري. وسعت الولايات المتحدة إلى منع نفوذ الاتحاد السوفيتي باستخدام سياسة توازن القوى، الذي يهدف إلى تأمين الوصول إلى مصادر الطاقة وحماية الحلفاء في الخليج بعد الثورة الإسلامية في إيران، عام 1979م، والغزو السوفيتي لأفغانستان، فضلاً عن مكافحة النفوذ السوفيتي، الذي شعرت به آنذاك في جنوب اليمن والقرن الأفريقي. وأدى الاحتلال العراقي للكويت والإطلاق اللاحق لعملية عاصفة الصحراء، التي قادتها الولايات المتحدة، عامي 1990-1991م، إلى توسيع الوجود العسكري الأمريكي في الخليج، مع زيادة القواعد ومبيعات الأسلحة إلى دول مجلس التعاون الخليجي. لقد مهد غزو العراق من قبل التحالف، الذي تقوده الولايات المتحدة عام 2003م، الطريق لزيادة النفوذ الإيراني، حيث أصبحت الأحزاب الشيعية العراقية الموالية لطهران تسيطر على الحكومة في بغداد. وازداد النفوذ الإيراني في سوريا واليمن في أعقاب ثورات الربيع العربي في عام 2011م.

لقد سبق أن هدفت السياسات الأمريكية، التي تستند إلى ميزان القوى، إلى دمج إيران في الهيكل الأمني الخليجي، ولكن بوسائل مختلفة. إذ طرح الرئيس السابق باراك أوباما سيناريو "مشاركة" إيران، خاصة بعد توقيع الاتفاق النووي، في عام 2015م، على أمل "السيطرة على سلوكها"، إلا أن إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب انسحبت من الاتفاقية، في عام 2018م، واستخدمت حملة "الضغط الأقصى"، وأنشأت تحالفات إقليمية لإخضاع إيران والتفاوض على صفقة جديدة. فيما طرحت بعض القوى الكبرى مقترحات تستند إلى نهج أمني شامل. في عام 2019م، أطلقت روسيا مبادرة لإنشاء منظمة للأمن والتعاون في الخليج، لتشمل جميع دول الخليج، وفي جميع المجالات. وقدمت الصين ورقة السياسة العربية في عام 2016م، لكنها لم تكشف النقاب عن خطط محددة للأمن في الخليج. بدلاً من ذلك، يبدو أنها تنتهج دبلوماسية "الصبر الكبير" لتعزيز مصالحها وجعل مبادرة "حزام واحد، طريق واحد" بمثابة حافز لتوسيع دورها في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، أبدت الهند اهتماماً بزيادة مشاركتها في أمن الخليج من خلال شراكاتها الاستراتيجية مع بعض الدول. وركزت باكستان مؤخراً أيضاً على مبادرات الوساطة في الخليج بدلاً من نهج التحالف التقليدي، مع المملكة العربية السعودية في المقام الأول.

وبالنظر إلى الدور الأوربي، يمكن قراءة ما قال به كورنيليوس أديبهر، الزميل غير المقيم في كارنيغي أوروبا، في شهادته الشفوية، يوم 28 مايو 2021م أمام لجنة البرلمان الأوروبي للشؤون الخارجية، إنه يجب أن تكون أوروبا مستعدة لدعم إنشاء آلية إقليمية للأمن الجماعي في الخليج العربي عندما تسنح الفرصة. ويقول إن بدء محادثات أولية حول قضايا ملموسة، مثل الأمن البحري والسلامة النووية، سيكون خطوة أولى جيدة نحو تخفيف حدة الصراع وبناء الثقة. ويشير أديبهر، الذي يركز بحثه على السياسة الخارجية والأمنية الأوروبية، لا سيما فيما يتعلق بإيران والخليج العربي، إلى أن التوترات في الخليج العربي وحوله مستمرة، مع هجمات منتظمة على البر والبحر. في الوقت نفسه، يحدث تحول واسع في التحالفات، سواء من خلال تباعد الولايات المتحدة المستمر، أو التقارب الجديد بين إسرائيل والدول العربية، أو قبول العالم العربي بأن إيران عامل يجب حسابه، مما تمنى بعيداً، بدلاً من ذلك. ففي هذه البيئة الهشة، لا يُنظر إلى الاتحاد الأوروبي بشكل عام على أنه قوة، ولكنه مع ذلك مجهز بموارد معينة، توجب عليه أن يستعد؛ لمصلحته ومصالح الدول المعنية في الاتحاد، لدعم إنشاء آلية إقليمية للأمن الجماعي. وبهذه الطريقة، يمكن للاتحاد الأوروبي أن يمارس نفوذه إذاً، وعندما تظهر فرصة للمحادثات.

استنتاج:

في الختام، يجدر التنبيه إلى أن ما تقدم من أفكار لا ندعي من خلال طرحها اقتراح نهج في التعامل مع مسائل الأمن الجماعي في الخليج، وإنما هو مجرد تذكير ببعض الأبعاد النظرية لأهمية الأمن متعددة الأطراف، أو ما يمكن أن نصفه بالتحالف معاً لمواجهة أية أزمة معينة يتطلب التعاون عليها بين الدول المتدخلة، أو الأقاليم المتجاورة، تقريب الصالح العام لجميع الأطراف وليس فقط السعي وراء المصالح الوطنية، التي تكتسي بشبهة الأنانية. كما أن التعاون، الذي تفرضه الإجراءات المتعددة الأطراف مفيد للغاية للمجتمع الإقليمي بقدر ما هو مفيد لدول الخليج، ويقدم مكافآت للدول المتحالفة على التعاون بدلاً من النزاع، والصراع معاً. لأن مشاجراتهم قادرة على إحداث أكبر قدر من الضرر لهم؛ فرادى وجماعات، ما يستوجب عادةً اعتبار هذا أمراً خارج عن الحصافة السياسية.

أخذاً في الاعتبار المقاييس الموضوعية لتعريف الأمن الجماعي، الذي يجب أن يكون فريداً في سياقه الخليجي الخاص، والذي يستند إلى واقع المنطقة حيث ينتشر الصراع والمنافسة. وذلك بافتراض أن التحالف وتعظيم القوة العسكرية والردع ضرورية لضمان الأمن والحفاظ على توازن القوى، والهيكل الأمني الشامل، الذي يُعنى بالتعاون في القضايا المتعلقة بالاقتصاد والبيئة والتجارة والطاقة وأمن الممرات البحرية ومكافحة الإرهاب، باعتباره الاستراتيجية المناسبة للوصول تدريجياً إلى نظام أمني شامل يلبي احتياجات جميع الأطراف. وبالتالي، فإن أي ترتيب أمني للمنطقة لن يصلح إذا كان مجرد إنشاء معادل جاهز لنموذج منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، أو "الناتو"، أو غيرهما من الترتيبات الأمنية. فالخليج؛ بدلاً من ذلك، يحتاج أولاً للموافقة الجماعية على تخفيف حدة الصراع، وتدابير بناء الثقة في عملية مفتوحة يمكن أن تؤدي إلى نوع من إضفاء الطابع المؤسسي على ما يمكن أن يصعد من مبادرات، وينشأ عليها من ترتيبات وتجهيزات تأسس على الأرض. والأهم من ذلك، أن مثل هذه المبادرات يجب أن تأتي من الدول المعنية ثم تتلقى الدعم، وفي النهاية، ضمانات من القوى الخارجية.

مقالات لنفس الكاتب