array(1) { [0]=> object(stdClass)#12962 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 183

مشاركة الحكومات العربية والقطاع الخاص والمجتمع المدني لمواجهة أزمة الغذاء العالمية

الإثنين، 27 شباط/فبراير 2023

منذ اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا كان واضحا موقع الموانئ وما يرتبط بها من سلاسل الإمداد لسوق الغذاء العالمي والذي بلغ في أهميته مصاف المحدد الحيوي في استراتيجيات أطراف الصراع، لما لهذا المحدّد من تداعيات مباشرة على "الأمن الغذائي العالمي" وبخاصة الأمن الغذائي للدول المرتهنة لإمدادات أوكرانيا من الحبوب كالعديد من الدول العربية التي تعتبر وجهة لما يقارب 40% من صادرات أوكرانيا من القمح، وتزداد أهمية "الموانئ" إذ أن 95% من صادرات القمح الأوكرانية يتم تصديرها بحرًا عبر الموانئ الأوكرانية على البحر الأسود.

تعتبر روسيا وأوكرانيا من أكبر مصدري الحبوب في العالم وتشكّلان 25%من سلة الغذاء العالمية ما يجعل هذا الصراع بين أحد أكبر قوتين زراعيتين عالميًا، كما تعتمد نحو 50 دولة في العالم على استيراد ما لا يقل على 30% من احتياجاتها من القمح على روسيا وأوكرانيا في حين أن 26 دولة من الخمسين تستورد ما لا يقل عن 50% من احتياجاتها من القمح من الدولتين، وقد أشارت بيانات منظمة (FAO) إلى أن حجم التجارة الزراعية العالمية مع البلدين بلغت حوالي 1.8 تريليون دولار (الشكل 01).

 

الشكل (01): نسبة صادرات روسيا وأوكرانيا الزراعية والطاقوية من الصادرات العالمية خلال فترة (2019 – 2021) (%)

 

هذه الأرقام كفيلة بتفسير مدى عواقب هذه الحرب بالنظر لتداعياتها على ارتفاع أسعار المنتجات الزراعية الرئيسية واضطراب حركة تجارة المحاصيل ويزداد الأمر خطورة مع ارتفاع مستوى الجوع في العالم فقد أشارت تقارير "الفاو" لوجود 828 مليون جائع سنة 2022م، بزيادة قدرها 150 مليون عن 2020م، ومن المرشح أن ترتفع هذه النسبة سنة 2023 إلى 1.7 مليار نسمة في حين يواجه زهاء 50 مليون نسمة خطر المجاعة، فضلًا على وجود 349 مليون شخص في 79 دولة يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد.

في المنطقة العربية تفاوت حجم تأثر دول المنطقة بحرب الموانئ الجارية في إطار الأزمة الأوكرانية، بتفاوت مستوى ارتهان هذه الدول لصادرات الأطراف المباشرة في هذه الحرب، وإن كانت الدول المرتهنة لصادرات أوكرانيا الأكثر تضرّرا من نظيرتها المرتهنة للصادرات الروسية (الشكل 02).

الشكل (02): أكثر الدول العربية اعتمادًا على صادرات أوكرانيا وروسيا من القمح لسنة 2021

 

في آخر تقاريرها الصادرة في 3 فبراير 2023 م، أشارت منظمة "FAO" إلى أن مؤشرات أسعار الغذاء خلال 2022م، قد بلغ أعلى مستوياته بزيادة قدرها 14.3% (143.7 نقطة) عن سنة 2021 (125.7 نقطة)، رغم حالة الهدوء النسبي التي شهدها هذا المؤشر نهاية 2022م، وبداية 2023م، حيث تراوح ما بين (136 نقطة) خلال شهر سبتمبر 2022م، واستمر الانخفاض لغاية يناير 2023م، عندما بلغ أدنى مستوى له منذ بداية الأزمة الأوكرانية بتسجيله لـ (131.2 نقطة)، بعد أن بلغ أشدّ ارتفاع له في مارس 2022 م، عندما سجل (159.7 نقطة) (الشكل 03).

الشكل (03): مؤشرات أسعار المواد الغذائية الأساسية -أسعار الحبوب من يناير 2022م، إلى فبراير   2023م، (2014-2016=100 نقطة)

رغم أن الصادرات الأوكرانية هي المتضرّر الأكبر خاصة وأن معظمها قادمة من الشرق الأوكراني الأكثر سخونة في الحرب، إلا أن صادرات روسيا هي الأخرى ستتأثر وتؤثر في الدول المعتمدة عليها لأسباب مرتبطة أساسًا بالتداعيات غير المباشرة للعقوبات الغربية على روسيا وارتفاع الأسعار العالمية للحبوب وارتفاع أسعار النقل ومعظم الخدمات اللوجستية فضلًا عن ارتفاع تكاليف الإنتاج، وهو ما لخّصه تقرير "الفاو" الذي ذكر فيه جملة مخاطر هذه الأزمة وأن بعضها موجود من قبل إلا أن الأزمة الأوكرانية ساهمت في تعميقه وهي:  مخاطر الإنتاج الغذائي العالمي/ مخاطر الطاقة/ مخاطر التجارة الدولية/ المخاطر اللوجستية/ مخاطر تقلبات أسعار الغذاء/ مخاطر سعر الصرف والنمو الاقتصادي/ المخاطر الإنسانية الناجمة عن انعدام الأمن الغذائي

تبنت الدراسة الإشكالية الآتي مفادها:

ما تأثير صراع الموانئ القائم في أوكرانيا على الأمن الغذائي للمنطقة العربية؟ وما مدى نجاعة وفاعلية الاستراتيجيات الرامية لتجاوز مخاطر هذه الأزمة؟ وما هي البدائل المقترحة آنيًا ومستقبلًا أمام الدول العربية في ظل غياب أفق الحل للصراع؟ وما هو دور الجهود الإقليمية والدولية الرامية لحلحلة الأزمة؟

المحور الثاني: صراع الموانئ في الحرب الروسية الأوكرانية "رؤية إستراتيجية"

منذ سنة 2014م، لم تُخفي روسيا سعيها لحسم حربها البحرية مع أوكرانيا، بما يُفضي إلى فرض حصار بحري على أوكرانيا والسيطرة على خطوط الملاحة البحرية في شمال وغرب البحر الأسود، تجلّ ذلك في ضم شبه جزيرة القرم، وبعد اندلاع حرب روسيا في أوكرانيا شهر فبراير 2022م، اتضح ذلك أكثر بالسيطرة على "بحر آزوف"، ثم بفرض حصار كامل على الموانئ الأوكرانية المطلة على البحر الأسود، وترمي روسيا من وراء ذلك لتحقيق جملة من المكاسب الاستراتيجية:

داخليًا، سيسمح هذا لروسيا بوقف أي سيناريو لتقديم إمدادات عسكرية غربية لأوكرانيا عبر البحر، كما سيتيح لها التحكم في صادرات أوكرانيا الزراعية والتي تمثل 45% من مجمل صادرات أكرانيا.

إقليميًا، عزّز هذا المُعطى من قدرة روسيا على بسط نفوذها على معظم خطوط الملاحة في البحر الأسود، وبخاصة فيما يتعلق بالممرات البحرية المرتبطة بسلاسل الإمداد الأوكرانية لسوق الغذاء العالمي من الحبوب. 

دوليًا، كسبت روسيا هامشًا للمناورة في صراعها مع الغرب عبر استخدامها للموانئ كورقة مساومة في مواجهة العقوبات الغربية على الاقتصاد الروسي، رغم تأكيد بيانات وزارة الخزانة الأمريكية على عدم استهداف قطاع الزراعة الروسي في تبرئة للدور الأمريكي من هذه الأزمة، إلا أن العقوبات الأمريكية أثّرت سلبًا على قطاعات "ذات صلة" كقطاع صناعة وتجديد الماكينات الزراعية، فضلاً على قطاع شركات النقل العالمية والتي زادت تخوفاتها من إبرام عقود نقل من قطاع الزراعة الروسي، وعلى نفس المنوال سار موقف الاتحاد الأوروبي عبر تأكيده أن حزمات عقوباته لا تمس قطاع الزراعة الروسي، غير أن الدول الأوروبية اشترطت لضمان ذلك عدم مشاركة الكيانات الخاضعة للعقوبات في أي نشاط ذات صلة بالقطاع الزراعي الروسي، أما الموقف الروسي فقد جاء على نحو معاكس حيث حذّرت الخارجية الروسية من أن العقوبات الغربية الأحادية الجانب ستتحول إلى ركود يصيب الاقتصاد العالمي، ولم يكن خافيًا على منظمة "FAO" تداعيات أي عقوبات غربية على قطاع الزراعة الروسي ما دفعها للعمل على التقليل من أثر العقوبات على روسيا إلى الحد الذي يسمح بإعادة بعث سلسلة التوريد عبر ممرات مائية آمنة للصادرات الزراعية الأوكرانية "مبادرة البحر الأسود للغلال".

تجدر الإشارة إلى أن هناك من الدول التي تُعتبر ضمنيًا منحازة لروسيا كونها لم تُبدِ معارضة للغزو الروسي لأوكرانيا وبقيت في حالة حياد كالصين ومعظم الدول العربية، وحتى وإن أبدت معارضة لذلك إلا أنها لم تتخذ خطوات فعلية لتكون جزءًا من العقوبات الغربية على روسيا  كتركيا، إلا أن هذه الدول السالفة الذكر تعدّ من أهم زبائن أوكرانيا في الحبوب، ما جعل الاستراتيجية الروسية الهادفة لإحكام الحصار على الموانئ الأوكرانية ترتدّ في جزء من مخرجاتها على أطراف تعتبر مبدئيًا ضمن خانة "أصدقاء روسيا"، وقد لعب هذا المتغير دورًا بارزًا في التخفيف من تشدّد موسكو في هذا الملف.

المحور الثالث: تداعيات صراع الموانئ في الحرب الروسية / الأوكرانية على الأمن الغذائي للمنطقة العربية

تجنح كثير من الدول العربية تحت وطأة هذه الأزمة، إلا أن ذلك كان بشكل متفاوت بين كل دولة وأخرى، وهذا بالنظر لثلاثة محدّدات:

الأول مرتبط بمدى التفاوت بين الدول العربية في الارتهان لصادرات أوكرانيا من الحبوب وقدرتها على تنويع هذه المصادر حاليًا ومستقبلًا، حيث تبرز دول عربية كلبنان ومصر وتونس كأكثر الأطراف تأثرًا بهذا المحدّد (الشكل 04)

الشكل (04): حصص الدول العربية من إجمالي صادرات أوكرانيا من القمح لسنة 2021 (الوحدة بـ %)

أما الثاني، فمتعلق بمدى قدرة هذه الدول على سداد مستحقات وارداتها من الحبوب بالنظر للوضع الحالي للسوق العالمية، حيث ارتفع سعر القمح والذرة بحوالي 10.6% و12.5% على التوالي مقارنة بـ 2021 (الشكل 5)، وتبرز تونس واليمن ولبنان كأكثر الدول تأثرًا بهذا المحدّد.

الشكل (05): أسعار عقود القمح الآجلة في بورصة "شيكاغو" لغاية الثلث الثاني من 2022 ($/ بوشل)

وأما الثالث فمرتبط بمدى فاعلية السياسات والاستراتيجيات المتبعة للتقليل من تداعيات هذه الأزمة على الأمن الغذائي لهذه الدول.

وسيتم الأخذ بعديد الدول العربية التي تأثرت كبير الأثر بالأزمة الأوكرانية:

مصر:

تعتبر أكبر مستوردي القمح في العالم بزهاء 10% من صادرات القمح العالمية (12.9 مليون طن) في عام 2021/2022م، بتكلفة 3.2 مليار دولار، وبلغ الناتج المحلي المصري من القمح خلال نفس الفترة 9.2 مليون طن، وتشكل صادرات روسيا وأوكرانيا 75% من الواردات المصرية من القمح (27% من أوكرانيا، و46% من روسيا)، وهي اعتبارات تجعل مصر بما تشكّله من ثقل سكاني (103 ملايين) أكثر الأطراف تأثرًا بهذه الأزمة (الشكل 6).

الشكل (6): أهم واردات مصر من إجمالي وارداتها من روسيا وأوكرانيا لسنة 2021م.

بالنظر لاعتماد 70% من المصريين على دعم الدولة للخبز ستكون مصر أمام حتمية إيجاد الحلول اللازمة لمواجهة هذا الوضع، كان من بينها إلغاء بعض مناقصات شراء القمح نظرًا لقلة العروض وارتفاع الأسعار، بالتوازي مع البحث عن مصادر بديلة لتأمين متطلبات مصر، وتبني بعض البرامج التنموية التي من شأنها تشجيع مستوى الإنتاج المحلي وإقرار إجراءات لضبط الأسعار، أدّى ذلك لارتفاع الإنتاج المحلي للقمح موسم 2021/2022م، بـ 300 ألف طن عن السنة السابقة لها، غير أن بعض الإجراءات الحكومية الموازية لهذه الرؤية كرفع الضرائب وتقليص الدعم السلعي التي صاحبت العجز المزمن للميزان التجاري وميزان المدفوعات والارتفاع الكبير للديون الخارجية (123.5 مليار دولار) ساهمت في انخفاض مستوى المعيشة والحدّ من الإيجابيات المنتظرة لهذه الاصلاحات سواء منها الآنية كحظر تصدير المواد الغذائية الرئيسية، وتسقيف سعر الخبز، أو المستقبلية كمشروع استصلاح الأراضي (200 ألف فدان) الهادف لزيادة الإنتاج المحلي بنسبة 11% خلال 2023م، في حين تعتبر سلة الغذاء المصرية المتنوعة نسبيًا وكمية الاحتياطات الاستراتيجية من القمح من العوامل المساعدة على إمكانية التكيف مع الأزمة (الشكل 7).

الشكل (7): استهلاك وواردات وإنتاج ومخزون مصر من القمح خلال الفترة الممتدة من "2018 – 2022" (مليون طن)

لبنان:

يعتبر لبنان أحد أكثر الدول العربية تأثرًا بتداعيات الأزمة الغذائية العالمية، فبالإضافة إلى أن الأوضاع المالية والسياسية والاقتصادية فاقمت من حدّة الأزمة، إلا أن اعتماد لبنان على صادرات أوكرانيا من القمح بما يفوق 60% سنة 2021م، وقبلها بنسبة 80% (حوالي 600 ألف طن) سنة 2020م، تعدّ السبب الرئيسي، خاصة إذا كانت صادرات روسيا تغطي معظم ما تبقى من نسبة الواردات اللبنانية حيث بلغت 15% سنة 2021، وإذا أضفنا المشاكل اللوجستية المرتبطة بالافتقار إلى مخازن الحبوب بعد أن دمّر انفجار ميناء بيروت أحد أهم مخازن الحبوب في البلاد، فإن المحصلة ستكون دخول الأمن الغذائي للبنان مرحلة حرجة للغاية جعلت الحكومة تلجأ للاستدانة وطلب المساعدة الدولية كان من بينها نصف مليون طن تلقتها من تركيا في مارس 2022م، كما أشرفت الحكومة مباشرة على توريد القمح بعد أن كان القطاع الخاص هو المسؤول، فضلاً على دعم البنك المركزي اللبناني لأسعار الحبوب تجنّبا للارتفاع المفرط لأسعارها داخليا رغم الإمكانات المالية المحدودة والتي كثيرًا ما أثارت المخاوف حول قدرة الحكومة على دفع مستحقات واردات الحبوب. 

اليمن:

الوضع الأمني والسياسي المنفلت وتداعيات الحرب وجائحة (COVID-19) كلها عوامل جعلت اليمن يُعاني من أزمات غذائية مستمرة منذ سنوات، وعزّزت الأزمة الأكرانية من أزمة الأمن الغذائي لليمن لمستويات تنذر بحدوث مجاعة، كنتيجة لتراجع إمدادات المانحين وارتفاع الأسعار وتراجع الإنتاج المحلي والانخفاض الحاد في المخزون المحلي، وضع لخّصه "ديفيد بيسلي" المدير التنفيذي لبرنامج الأغذية العالمي في اليمن بقوله "كنا نظن أننا وصلنا للقاع لكن الحال يبدو أسوء فالحرب سيكون لها تأثير مأساوي خاصة وأن نصف وارداتنا من الحبوب هي من أوكرانيا وروسيا"، تستورد اليمن ما يقارب 45% (04 مليون طن) من حاجياتها من القمح من أوكرانيا وروسيا بواقع 25,7% لروسيا و19,6% لأوكرانيا، وهي نسبة كفيلة بأن تُحول الأزمة لحالة من انعدام الأمن الغذائي الحاد، خاصة في ظل الارتفاع الهائل لنسبة الواردات الغذائية من إجمالي الواردات السلعية لليمن (40%) في المرتبة الأولى عربيًا وبما يساوي أربعة أضعاف المتوسط العالمي الذي يبلغ حوالي 10% وفق مؤشر (WFP) (الشكل 8).

 

الشكل (08): أعلى نسب الواردات الغذائية للدول العربية من إجمالي الواردات السلعية (%)

فضلًا عن اعتماد الأمن الغذائي اليمني بنسبة كبيرة على مساعدات المانحين مما جعله مرهونًا في أحد أهم أبعاده بظروف الأطراف المانحة ومدى رغبتها في الاستمرار في ذلك وسط هذه الظروف الدولية المتقلّبة،  كلها عوامل ساهمت في ملامسة نسبة انعدام الأمن الغذائي في اليمن حدود 65% بحسب التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي لسنة 2022م، الصادر عن المنصة العالمية للتصنيف الدولي للبراءات (IPC)، هذه المعطيات جعلت اليمن أحد أكثر الدول العربية والآسيوية حاجة إلى مساعدة المانحين إلى جانب كل من لبنان وسوريا حسب آخر تقارير منظمة "الفاو" (الشكل 9).

 

الشكل (9): خطة الاستجابة الإنسانية لليمن من طرف المانحين لسنة 2022م.

تونس:

تعتبر تونس وجهة لـ 4,21% من صادرات القمح الأوكرانية ما يشكل قرابة 48% من واردات تونس من القمح، وما زاد من حدّة الأزمة في تونس هي الأوضاع المالية والعجز الكبير في الميزان التجاري وميزان المدفوعات ما ساهم في العجز عن دفع المستحقات المالية اللازمة قبل تفريغ الشحنات، حيث وصل الأمر لحد توقف سفن شحن الحبوب في وسط البحر في الثلث الأول والثاني من سنة 2022م، حتى تُوفر الحكومة التونسية المقابل المالي (الشكل 10).

الشكل (10): ترتيب الدول العربية في مؤشر الأمن الغذائي العالمي لسنة 2022 (من على النقطة /10 التي يعد الاقتراب منها أكثر أمانًا).

المحور الرابع: دور الوساطة التركية والأممية لحل الأزمة

منذ اندلاع الصراع في أوكرانيا سعت تركيا إلى الوساطة بالنظر لعلاقاتها الجيدة مع طرفي الصراع، ففي يوليو الماضي أفرزت جهود الوساطة إلى توقيع "اتفاق إسطنبول"، رغم الريبة التي أبداها طرفا الصراع في ظل تباين مطالبهما فالروس كانوا يطالبون بضرورة إزالة الألغام الحربية لتأمين الموانئ أما الأوكرانيون فيخشون من أن يُستغل ذلك للهجوم على موانئها.

مبدئيًا يعد الاتفاق إنجازًا قياسًا على مستوى الصراع، إلا أن تسارع الأحداث كان يُنذر بأن استمرارية الاتفاق مرهونة بتطورات الصراع، ما جعل الوسطاء يعملون على أن يُلبي الاتفاق بشكل متوازن مطالب الطرفين ووفق معادلة الربح للجميع، أمر انعكس على طبيعة الاتفاق في حدّ ذاته والذي كان عبارة عن اتفاقين الأول بين أوكرانيا والوسطاء (مدته أربعة أشهر قابلة للتجديد) ويمكَن أوكرانيا من تأمين صادراتها الزراعية عبر ممرات آمنة، والتوافق حول إنشاء مركز للتنسيق والرقابة في إسطنبول يكون مسؤولًا عن تفتيش ومراقبة السفن العائدة للموانئ الأوكرانية، أما الثاني فبين الوسطاء وروسيا مرتبط بالعقوبات الغربية على روسيا.

استراتيجيًا بالنسبة لروسيا ورغم أن طموحها كان أكبر مما تم التوصل إليه إلا أن استخدامها للاتفاق كدرع أمام العقوبات الغربية المستهدفة لقطاع الزراعة الروسي أتى اُكله، فضلًا عن التسويق السياسي للاتفاق على أنه يدحض الرواية الغربية التي تُحمّل روسيا مسؤولية أزمة الغذاء العالمية، أما أوكرانيا فقد مكّنها الاتفاق من توفير عائدات مالية من أجل تغطية تكاليف الحرب المدمرة على اقتصادها وبنيتها التحتية، بعدما سمح لها بتصدير ما يقارب نصف صادراتها العالقة (20 إلى 25 مليون طن)، أما أطراف الوساطة فقد زاد الاتفاق من أهمية الدور التركي إقليميًا ودوليًا كطرف يتمتع بقبولٍ لدى أطراف الصراع ويمكن التعويل عليه مستقبلًا.

تجدّدت المخاوف العالمية شهر نوفمبر الماضي مع قرب نهاية صلاحية الاتفاق (4 أشهر) ، فرغم أن أوكرانيا صدّرت 11 مليون طن من الحبوب فقط (50% من صادراتها خلال نفس الفترة في 2021م) إلا أن ذلك كان كفيلًا بإعادة الهدوء للسوق العالمية للغذاء، في ظل اتهامات روسية للغرب حول الوجهة الحقيقية لشحنات الحبوب حيث أن 40% فقط من هذه الصادرات توجهت للدول النامية في حين لم تتلق الدول الأشد فقرًا سوى 3% من الصادرات الأوكرانية، كما انهالت اتهامات الغرب لروسيا بسرقة الحبوب الأوكرانية، دفع هذا الوضع جهود الوساطة للتحرك من جديد لإنقاذ الاتفاق وهو ما تم من خلال تمديد الاتفاق لنفس المدّة.

المحور الخامس: مستقبل أزمة الموانئ في ضوء تطورات الحرب الروسية الأوكرانية

رغم حزمات العقوبات الغربية المتتالية والكثيفة على الاقتصاد الروسي إلا أن المرونة الكبيرة التي أبان عليها اقتصاد روسيا أعطت أبعادًا أخرى للأزمة مفادها أنه لا يوجد في الأفق ما يدفع روسيا للتخفيف من وطأة حصارها للموانئ الأوكرانية، وبالتالي التقليل من تشدّدها خلال مرحلة ما بعد نهاية صلاحية الاتفاقيات الحالية، خاصة في ظل فعالية عديد التدابير الاستراتيجية التي اتخذتها روسيا لمواجهة العقوبات كترسيمها لقرار دفع الدول غير الصديقة لثمن وارداتها من الغاز الروسي بالروبل، فضلًا عن سقوط التوقعات التي كانت تشير إلى تقلص الاقتصاد الروسي والناتج القومي بمستويات مرتفعة تصل لحد 15%.

في ظل هذه المعطيات يبرز التساؤل عن مستقبل الاتفاقيات الحالية التي تُعبّر مبدئيًا عن الحد الأدنى من التوافق بين أطراف الصراع ؟، الإجابة تبقى مرهونة بعديد المحدّدات أولها تطورات الوضع في أوكرانيا أما ثانيها فمرتبط بمدى مناعة الاقتصاد الروسي في مواجهة العقوبات بما سيُغني روسيا عن تقديم تنازلات مهمة تقلّل بموجبها من حصارها للموانئ إلا إذا ارتبط ذلك بتنازلات غربية ملموسة.      

أبرزت إحصائيات سنة 2022م، تراجعًا رهيبًا في الصادرات الزراعية الأوكرانية سواء بسبب تراجع الإنتاج الذي شهد انخفاضًا بـ 40% مقارنة بسنة 2021م، (42 مليون طن سنة 2022 م، مقارنة بـ 80 مليون طن سنة 2021م) كأحد النتائج المباشرة للحرب وتركّزها في المناطق الشرقية (المصدر الرئيسي لإنتاج القمح)، ويزداد تأثير هذا العامل في ظل المستقبل المجهول إذا علمنا بأن ما بين 20% و30% من المناطق الأوكرانية المخصّصة لحصاد الحبوب الشتوية (50% من القمح الشتوي و63% من الذرة) مهدّدة بحكم موقعها بعدم جني حصادها، وحتى في حال نجح موسم الحصاد فإنها معرّضة لعدم زراعتها مجدّدا في فصل الربيع القادم (2023م).

ومن هنا يمكن وضع ثلاثة سيناريوهات رئيسية لمستقبل الوضع السائد حاليًا:

السيناريو الأول: انتقال الصراع في أوكرانيا إلى مستوى متقدّم من العنف بما سيؤثر حتمًا على الاتفاقيات الحالية، خاصة في ضوء ضعف موقع الوسطاء وعدم امتلاكهم لآليات الضغط اللازمة على الأطراف المعنية بالصراع، ما سيؤزم الوضع الغذائي خاصة في الدول العربية التي لا تمتلك مقدّرات مالية كبيرة.

السيناريو الثاني: متعلّق باستمرار الصراع في وضعه الحالي بما سيسمح باستمرار الاتفاقيات الحالية، وهو ما يعد متنفسًا مؤقتًا لعديد الدول العربية وخاصة تلك الغير قادرة على توفير بدائل مستعجلة لوارداتها من الحبوب الأوكرانية.

السيناريو الثالث: متعلّق باتفاق أطراف الصراع على تسوية الوضع في أوكرانيا، ما يعدّ انفراجًا أمام الأمن الغذائي العربي، إلا أن هذا السيناريو يبقى بعيد المنال على الأقل في ظل الظروف الراهنة، وامتلاك الأطراف للقدرة اللازمة على الاستمرار في الصراع وبخاصة في ظل تدفق الإمدادات العسكرية الغربية على أوكرانيا.

استنتاجات وتوصيات:

جيو سياسيًا ينتمي "صراع الموانئ" الحاصل إلى منطقة البحر الأسود إلا أن تداعياته مسّت معظم دول العالم بل وحتى الدول الغنية التي كان يُرى أنها في منأى عنها، فهذه الأزمة "روسية أوكرانية" المنشأ عالمية النتائج، رغم الاختلاف الحتمي في أثر هذه الأزمة كونها ستزيد من حجم التفاوتات العالمية.

إن اندلاع صراع في منطقة تعدّ "سلة حبوب العالم" (World Grain Basket) يحمل من المخاطر الكثير على الأمن الغذائي العالمي، فرغم أن بوادر انعدام الأمن الغذائي كانت موجودة قبل اندلاع الأزمة الأوكرانية نتيجة الهشاشة التي كان يعاني منها النظام الغذائي العالمي بفعل الصراعات وتغيرات المناخ وجائحة كورونا ما شكّل جملة من الاختلالات الهيكلية إلا أن اندلاع الصراع في منطقة تتسم بمزايا استراتيجية عديدة زاد من وطأة هذا الصراع على الأمن الغذائي العالمي.

وسط هذا التوسع تبرز المنطقة العربية كأحد المناطق المتضررة من وراء هذه الأزمة لأسباب تتمحور في مجملها حول اعتماد دول المنطقة على صادرات روسيا وأوكرانيا لتحقيق أمنها الغذائي وعدم قدرتها على توفير بدائل آنية لذلك، خاصة وأن بعضها لا تمتلك المقدّرات المالية اللازمة لمواجهة أزمة ارتفاع أسعار المواد الغذائية وأسعار النقل (التكاليف اللوجستية) مثل (اليمن، تونس، لبنان)، فضلًا عن غياب الاستقرار السياسي والأمني في بعض الدول (اليمن، سوريا، ليبيا)، في حين تبرز دول الخليج كأقل الدول العربية تضرّرا نتيجة توفر المقدرات المالية اللازمة لمواجهة تقلبات السوق، كما أنها وباستثناء المملكة العربية السعودية هي دول تتسم بقلّة الكثافة السكانية، وهي مؤشرات لقياس التفاوت النسبي في تأثّر الدول العربية بالأزمة.

لمواجهة تداعيات الأزمة الأوكرانية على الأمن الغذائي العربي وسيناريوهات تطورها تبرز عديد الحلول التي يمكن الاستناد إليها:

بالنسبة للجهات الرسمية المسؤولة تبرز أهمية وضع خطط قصيرة المدى لمواجهة تداعيات الأزمة على الأمن الغذائي العربي، والمرتبطة أساسًا بكيفية ضبط الأسعار المرتفعة على المستوى المحلي وتداعياتها على الطبقات المجتمعية الهشّة لهذه الدول عبر:

– محاربة كل أشكال المضاربة وتأمين الإمدادات لكل المناطق درءًا لأي تقلبات اجتماعية وسياسية

– زيادة حجم ومستوى المعروض من هذه السلع تماشيًا مع الحدود الدنيا مع حجم الطلب

– تحسين النظم الغذائية وتفعيل سياسات محاربة التبذير والإسراف عبر تحديد حصة كل فرد وترشيد الثقافة الاستهلاكية

– توسيع دائرة المصادر الغذائية خارج دائرة الاعتماد الكبير على المنتجات الزراعية كالاعتماد على الثروة السمكية خاصة وأن معظم الدول العربية تمتلك إطلالات بحرية واسعة نسبيًا بل إن بعضها تعتبر من أغنى السواحل من ناحية الثروة السمكية على غرار سواحل الدول المغاربية.

– العمل على تنويع خارطة الإمدادات الغذائية بشكل يعالج مسألة الارتهان لطرف دون آخر (حوالي 03 مصادر مختلفة على الأقل)، حيث تبرز دول مثل الهند (ثاني أكبر منتج للقمح في العالم بعد الصين) والتي ورغم تجميد صادراتها الخارجية مؤخرًا بسبب تخوفاتها من ارتفاع معدلات استهلاكها الداخلي إلا أنها تبقى من الأطراف المعول عليهم لتنويع مصادر الواردات العربية من القمح، كما تبرز دول مثل أستراليا وكندا والأرجنتين.

أما على المدى الطويل فتبرز حتمية تبنّي خطط استراتيجية لتعزيز الإنتاج المحلي عبر زيادة:

– دعم قطاع الزراعة والرفع من قيمة العقود الحكومية مع المنتجين المحليين وإعطاء الأولوية التفضيلية للمنتج المحلي

– دعم البرامج الإصلاحية المرتبطة بتحسين المقدّرات الزراعية في الدول العربية

– تعزيز دور التكنولوجيا الحديثة في قطاع الزراعة.

 

– توسيع الاعتماد على الزراعة المائية "الهيدروبونيكس" كونها تُوفر زهاء 95% من مياه الري، فضلًا عن أنها زراعة صحية كونها تتحدى الآفات بدون استخدام المبيدات.

–العمل على التوعية بالثقافة الاستهلاكية الصحية المرتبطة بسوء التغذية وتداعياتها على باقي القطاعات الحكومية على غرار ارتفاع الإنفاق على قطاع الصحة الذي يعتبر من مخرجات سوء التسيير الغذائي

– تعزيز العمل العربي التكاملي المشترك في مجال الزراعة في ظل توفر دول عربية معينة على إمكانيات طبيعية هائلة (احتياطات مائية جوفية – أراضي خصبة صالحة للزراعة) لكن مع الافتقار إلى القدرات المالية والتكنولوجية اللازمة وهو ما يمكن أن تُغطّيه دول عربية أخرى تمتلك هذه المقدرات وخاصة المالية منها، بما سيزيد من فرص بناء شراكة استراتيجية قائمة على المصلحة المشتركة في حال ما توافرت الإرادة السياسية اللازمة لمثل هذه الرؤية الاستراتيجية.

ختامًا يعتبر تبنّي منهجًا شاملًا تشترك فيه كل الأطراف المعنية بالأزمة سواء منها الحكومية أو تلك المرتبطة بالقطاع الخاص فضلًا على مؤسسات المجتمع المدني وهي الأضلاع الثلاثة التي تقوم عليها برامج الحوكمة الرشيدة في أي دولة كانت، والتنسيق بين هذه الجهود هو السبيل الحتمي لمواجهة تداعيات أزمة الغذاء العالمية على الدول العربية، بغض النظر عن التفاوت النسبي بين هذه الدول والذي يؤثر في سبل المواجهة الآنية لهذه الأزمة أما على المدى المتوسط والبعيد فالكل معني بضرورة تبنّي الرؤية الاستراتيجية الآنف ذكرها.

مقالات لنفس الكاتب