array(1) { [0]=> object(stdClass)#12962 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 184

828 مليون شخص جائع بينهم 345 مليونًا يُعانون الجوع الحاد و50 مليونًا على حافة المجاعة

الأربعاء، 29 آذار/مارس 2023

في تقريره الأخير الصادر في يناير الماضي، حدد تقرير المخاطر العالمية 2023 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، أبرز المخاطر العالمية في المديين قصير الأجل (عامين) وطويل الأجل (عشرة أعوام)، لتأتي أزمة تكلفة المعيشة في قمة المخاطر العالمية في المدى القصير. حيث يتوقع التقرير أن تستمر أزمة تكلفة المعيشة لتشكل خطرًا خلال العامين القادمين قبل أن تتراجع بعد ذلك. وهو الأمر الذي من شأنه خلق تحدِ إضافي للأمن الغذائي للأفراد في مناطق متفرقة في العالم. فما يواجهه عالمنا اليوم من أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية وبيئية تفرض تحديات خطيرة على قدرة الأفراد على تحمل تكاليف المعيشة مما يعرض أمنهم الغذائي للخطر. وهو الأمر المتوقع استمراره في الأمد القريب.

ومنذ عام 2018م، أخذ انعدام الأمن الغذائي في التزايد، كنتيجة لتحديات عدة.  فمن ناحية كان للتغيرات المناخية تأثيرها على العديد من المناطق في العالم، مع توقعات بمخاطر مستقبلية أكثر حدة خاصة في ظل الصراعات والحروب في عدة مناطق. كما كان لتفشي جائحة كورونا وما صاحبها من حالة الإغلاق والتأثير على سلاسل الإمداد تأثير على الأمن الغذائي، ثم جاءت الحرب الروسية الأوكرانية والتي كان تأثيرها خطيرًا على الأمن الغذائي كنتيجة لارتفاع أسعار الحبوب والأسمدة.  

ووفقًا لبرنامج الأغذية العالمي، فقد زاد عدد الأفراد الذي يُعانون انعدام الأمن الغذائي في العالم بأكثر من الضعف منذ عام 2019م؛ كنتيجة لأزمة تفشي فيروس كورونا والتغيرات المناخية والصراعات وكذلك الحرب الروسية ـ الأوكرانية. لحد وصف البرنامج لعام 2022م، بأنه عام من الجوع غير المسبوق؛ حيث إن 828 مليون شخص في العالم يُعانون الجوع من بينهم 345 مليون شخص يُعانون الجوع الحاد في 82 دولة، إضافة إلى 50 مليون شخص على حافة المجاعة في 45 دولة عبر العالم.  

والأمن الغذائي هو أحد الأبعاد السبعة لمفهوم الأمن الإنساني وفقًا لما طرحته الأمم المتحدة في تقرير التنمية البشرية لعام 1994م؛ إذ جاء طرح مفهوم الأمن الإنساني في إطار مراجعة مفهوم الأمن ما بعد الحرب الباردة، في محاولة لتعميق وتوسيع المفهوم التقليدي للأمن. والأبعاد السبعة هي: الأمن الاقتصادي (الحماية من الفقر)، والأمن الغذائي (القدرة على الوصول إلى الطعام الآمن)، والأمن البيئي (الحماية من التلوث ونفاد الموارد)، والأمن الصحي (الحماية من الأمراض)، وأمن المجتمع المحلي (الهوية والبقاء الثقافي)، والأمن الشخصي (الأمن من الاضطهاد والتعذيب والحروب)، والأمن السياسي (الحماية من الاضطهاد). ليحدد التقرير ثلاثة جوانب للأمن الغذائي ترتبط بالمقدرة والنفاذ والأمان.

كما عرف مؤتمر القمة العالمي للأغذية لعام 1996م، الأمن الغذائي بأنه: "وضع يتحقق عندما يتمتع جميع الناس في جميع الأوقات بإمكانية الحصول المادي والاقتصادي على أغذية كافية وسليمة ومغذية تلبي احتياجاتهم وأفضلياتهم الغذائية من أجل حياة نشطة وصحية". محددًا بذلك أربعة أبعاد للمفهوم هي: التوافر المادي للغذاء، وتوافر القدرة المادية، والاستفادة من المواد الغذائية، وأخيرًا استقرار الأبعاد الثلاثة سالفة الذكر مع الوقت.

والحديث عن واقع ومستقبل الأمن الغذائي كأحد التحديات الأمنية للأفراد في الوقت الراهن، تبرز عدة إشكاليات. فمن ناحية فإذا كان انعدام الأمن الغذائي يُعدّ نتيجة لتحد أمني آخر كالتغيرات المناخية أو الحروب والصراعات، فإن انعدام الأمن الغذائي قد يقود لمشكلات أمنية أكثر حدة. كما أن هناك صعوبة في الفصل بين العوامل المؤثرة على الأمن الغذائي للأفراد، ففي حالات كثيرة يكون هناك عوامل عدة متداخلة تقود لهذا الأمر. كذلك ففي بعض الحالات وإن كانت المشكلات ذات طبيعة محلية إلا أن تداعياتها لن تكون محدودة بنطاق جغرافي محدد.

 ويستعرض هذا المقال، مستقبل الأمن الغذائي كأحد أبرز التحديات التي يواجهها العالم في الأمد القصير. بالتركيز على أبرز العوامل المؤثرة على الأمن الغذائي في الوقت الراهن وتداعياتها حاليًا ومستقبلًا.

الحرب الروسية الأوكرانية والأمن الغذائي عالميًا:

رغم وجود جملة من التحديات المؤثرة على الأمن الغذائي للأفراد، إلا أن الحرب الروسية ـ الأوكرانية أسهمت في تأجيج مشكلات انعدام الأمن الغذائي في مناطق عدة من العالم. ليصبح الأمن الغذائي على قمة الأولويات العالمية منذ فبراير 2022م، خاصة أن اندلاع الحرب كان في العام الثالث لجائحة كورونا وسط أزمات سلاسل التوريد العالمية.

وقد كان للحرب الأوكرانية تأثيرها على الأمن الغذائي من أكثر من جانب؛ فمن ناحية تأثر الأمن الغذائي داخل أوكرانيا ذاتها في ظل عدم قدرة المنظمات الدولية الوصول إلى العديد من المناطق بسبب العمليات العسكرية. من ناحية ثانية، فالدولتان من كبار موردي القمح، وزيوت البذور، والذرة والشعير. إضافة إلى كون روسيا من أهم مصدري الأسمدة عالميًا. حيث أثرت الحرب على الدول المستوردة للحبوب من كل من روسيا وأوكرانيا ومن بينها الأردن واليمن وإسرائيل ولبنان وبعض الدول الإفريقية مثل اريتريا والصومال، ومدغشقر وتنزانيا وإثيوبيا. وحتى بالنسبة للدول الأخرى الأقل اعتمادًا على الواردات الروسية والأكرانية من الحبوب فقد عانت من مخاطر الاضطرابات في الأسواق العالمية. خاصة أن التحول إلى مصدرين آخرين صاحبه ارتفاع في التكلفة وأسعار الشحن.

ويوضح جدول رقم (1) حصة روسيا وأوكرانيا من صادرات الحبوب والسلع الرئيسة عام 2021م، فالدولتان كانتا مسؤولتين عن تصدير ما يقرب من 12% من السعرات الحرارية عالميًا، إضافة إلى نحو ثلث صادرات العالم من القمح وأكثر من نصف صادرات العالم من زيت دوار الشمس.

جدول (1): حصة روسيا وأوكرانيا في مجموعة من الصادرات العالمية 2021

 

روسيا

أوكرانيا

السعرات الحرارية الغذائية المتداولة عالميًا

5.8%

6%

القمح

24%

10%

الذرة

2%

15%

زيت عباد الشمس

24%

31%

الأسمدة

16%

 

 

 

 

 

 

 

وانعكست الأزمة على الأمن الغذائي من خلال تأثيرها على ارتفاع أسعار السلع الأساسية ومصادر الطاقة مما زاد من معدلات التضخم وأضاف أعباءً لميزانيات الدول؛ بحيث يشهد العالم موجة تضخمية لم يشهدها منذ قرون، وبلغ التضخم عالميًا في 2022م، 8.8%.  لتسجل أرقام التضخم رقمين في نحو نصف دول العالم، وثلاثة أرقام في بعض دول العالم في العام ذاته.

ووفقًا لنشرة الأمن الغذائي الصادرة عن البنك الدولي، فخلال الفترة من أكتوبر 2022 وحتى يناير 2023م، كانت معدلات التضخم أعلى من 5% في نحو 88.9% من الدول منخفضة الدخل، و87.8% من الدول ذوات الدخل المتوسط المنخفض و93% من الدول ذات الدخل المتوسط الأعلى.

هذا التزايد في معدلات التضخم يعود في جزء منه إلى الارتفاع الكبير في معدلات تضخم الغذاء. فوفقًا لمؤشر الفاو لأسعار الغذاء ويقيس معدل التغير الشهري في أسعار سلة من السلع الغذائية على مستوى العالم، مكونًا من خمسة مؤشرات فرعية. وقد بلغت قيمة المؤشر في فبراير 2023م، 129.8 نقطة منخفضًا 0.6% مقارنة بالشهر السابق. وقد كانت ذروة المؤشر في مارس 2022م، حيث بلغت قيمته 159.7 نقطة، وفي إبريل 2022م، بلغت قيمة مؤشر منظمة الأغذية الزراعية والذي يقيس تكلفة سلة الغذاء المتوسطة حيث بلغ 160 نقطة وهو ما يمثل أعلى نقطة على الإطلاق. ويوضح جدول رقم (2) أعلى عشر دول من حيث معدل تضخم الغذاء وخلال الفترة من أكتوبر 2022 وحتى يناير 2023م، حيث تجاوز الرقم ثلاثة أرقام في 3 دول وهي زيمبابوي وفنزويلا ولبنان. كما تجاوز الرقمين في باقي الدول.

جدول (2): أعلى 10 دول في العالم من حيث تضخم الغذاء

(أكتوبر 2022-يناير 2023)

الدولة

معدل التضخم في أسعار الغذاء

زيمبابوي

264%

فنزويلا

158%

لبنان

143%

الأرجنتين

98%

تركيا

70%

سورينام

61%

غانا

61%

سيرنلاكا

60%

رواندا

57%

جمهورية لاوس الديمقراطية الشعبية

49%

 

الارتفاع في أسعار الغذاء انعكس على عدد من مؤشرات التغذية؛ فوفقًا لتقديرات منظمة الفاو أسهمت الحرب في زيادة أعداد الأفراد الذين يُعانون من سوء التغذية بين عامي 2022 و2023 من 7.6 مليون إلى 13.1 مليون شخص.  أما الأمم المتحدة فتقدر عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي الشديد بنحو 276 مليون شخص وذلك في مايو 2022م.

وتعكس الأرقام حجم تضرر العديد من الاقتصادات كنتيجة لارتفاع تكلفة الغذاء كنتيجة للحرب؛ فوفقًا لصندوق النقد الدولي، فمن شأن ارتفاع تكلفة استيراد الغذاء والأسمدة في البلدان التي تعاني بشكل أكبر من انعدام الأمن الغذائي أن يُسهم ذلك في إضافة 9 مليارات دولار على ميزانيات تلك الدول عامي 2022، 2023 م، مما سيؤثر على وضع الاحتياطات النقدية بتلك الدول.

وبذلك يتضح تأثير الحرب الخطير على ارتفاع تكلفة المعيشة في العديد من مناطق العالم، وما صاحب ذلك من تحديات أمنية أخرى.

التغيرات المناخية وانعكاساتها على الأمن الغذائي:

حدد تقرير المخاطر العالمية 10 مخاطر على المدى الطويل (10 سنوات) هي: الإخفاق في التخفيف من آثار تغير المناخ، والإخفاق في التكيف مع تغير المناخ، والكوارث الطبيعية والظواهر المناخية الحادة، وتهديد التنوع البيولوجي وانهيار النظم الإيكولوجية، والهجرة القسرية واسعة النطاق، وأزمات الموارد الطبيعية، وتآكل التماسك المجتمعي، وانتشار الجرائم السيبرانية وغياب الأمن السيبراني، والمواجهات الجيواقتصادية، وحوادث الدمار البيئي واسعة النطاق. وبذلك يتضح أنه من بين 10 مخاطر محتملة ترتبط 6 مخاطر من بينها بالتغير المناخي. وأربعة من بينها في قمة سلسلة المخاطر.  وعلى المدى القصير جاءت المخاطر المرتبطة بتغير المناخ على النحو التالي: الكوارث الطبيعية والظواهر المناخية الحادة (الترتيب الثاني)، والإخفاق في التخفيف من آثار تغير المناخ (الترتيب الرابع)، وحوادث الدمار البيئي واسعة النطاق (الترتيب السادس)، والإخفاق في التكيف مع تغير المناخ (الترتيب السابع)، وأزمات الموارد الطبيعية (الترتيب التاسع). لتُمثّل التغيرات المناخية وما يُصاحبها من تداعيات على مجالات متنوعة من حياة البشر إحدى أهم المخاطر الحالية؛ إذ تؤثر التغيرات المناخية على الأمن البشري على كافة أبعاد الأمن الإنساني بدرجات متفاوتة.

ويُعدّ الارتباط بين الأمن الغذائي والتغيرات المناخية ارتباطًا وثيق الصلة، وذلك في ضوء التأثير الحاد للتغيرات المناخية ومن بينها الفيضانات والعواصف الشديدة وذوبان الجليد والتصحر وغيرها من تداعيات من بينها الموارد المائية وتراجع المساحات المنزرعة وانتشار الآفات والأمراض التي تصيب المحاصيل وحرائق الغابات وغير ذلك. ووفقًا لبرنامج الأغذية العالمي فخلال عام 2021م، انضم 30 مليون شخص إضافي من الدول منخفضة الدخل إلى قائمة من يعانون انعدام الأمن الغذائي كنتيجة للتغيرات المناخية الحادة.

إحدى المشكلات الخطيرة المرتبطة بتغير المناخ تتمثل في نقص المياه وانعكاس ذلك على الأمن الغذائي، فخلال السنوات الأخيرة بدأت بعض المؤشرات في البروز، فوفقاً لبيانات المركز الوطني للثلج والجليد، سجلت كمية الجليد في العالم في يناير 2018م، أدنى مستوى لها مقارنة بنفس الشهر منذ عام 1981م، حيث سجل المعدل الشهري لامتداد الجليد في القطب الشمالي ما يقرب من 13 مليون كيلومتر مربع وهو ما يقل بنحو 1,36 مليون كيلو متر مربع عن متوسط الأعوام 1981-2010م، ويقل بمقدار 110 ألف كيلو متر مربع عن عام 2017م، كما تشير الإحصائيات أيضاً إلى تسجيل معدل الجليد في القطب الشمالي في فبراير 2018م، أدنى مستوى له في هذا الشهر منذ عام 1979م.

ففي الوقت الراهن يُعاني ما يزيد على بليوني شخص في العالم إجهاد مائي شديد، وهذا العدد من المتوقع أن يتضاعف بحلول عام 2050م، ووفقًا لليونسكو، فإن العالم سيُعاني نقصًا شاملًا للمياه بنسبة 40% وذلك بحلول 2030م.

وفقا لتقرير " انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في عام 2022م"، والصادر عن الوكالة الدولية للطاقة. فقد نمت انبعاثات ثاني أكسيد الكربون عالميًا بنسبة 0.9٪ أو 321 مليون طن في عام 2022م، لتصل إلى مستوى مرتفع جديد يزيد عن 36.8 جيجا طن، وبعد عامين من التذبذبات الاستثنائية في معدلات الانبعاثات، والناجمة جزئيًا عن جائحة كورونا، فقد زادت الانبعاثات من احتراق الطاقة في العام الماضي بمقدار 423 مليون طن، بينما انخفضت الانبعاثات من العمليات الصناعية بمقدار 102 مليون طن.

وجغرافيًا، يُشير البنك الدولي إلى أن نحو 80% من سكان العالم الأكثر عرضة لمخاطر انعدام الأمن الغذائي كنتيجة للتغيرات المناخية يعيشون في إفريقيا جنوب الصحراء وجنوب شرق آسيا. حيث يعيش المزارعون غالبًا على حافة الفقر، وفي حال لم تكن هناك خطوات جادة للحد من تداعيات التغيرات المناخية يتوقع البنك أن يقع نحو 43 مليون شخص في إفريقيا وحدها تحت خط الفقر بحلول عام 2030م.

وتشهد القارة الإفريقية واحدة من أسوأ موجات الجفاف منذ عقود، حيث يواجه أكثر من 37 مليون شخص الجوع الحاد. مما يُشكل واحدّا من أهم أزمات الجوع على مستوى العالم.

وتُعاني المنطقة العربية من تداعيات عدة للتغيرات المناخية، مما سيكون له انعكاساته على الأمن الغذائي مستقبلًا. إحدى تلك التحديات تتمثل في ارتفاع درجات الحرارة، فقد كان عام 2010م، الأسوأ من حيث ارتفاع معدلات درجات الحرارة، والذي سجلت خلاله درجات حرارة قياسية في 19 دولة على مستوى العالم كان منها خمس دول عربية.

كنا تُعدّ منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من أكثر المناطق عرضة لخطر ارتفاع منسوب البحر، خاصة المناطق الساحلية في ليبيا وتونس ومصر وقطر والإمارات والكويت، مما سيعرض عشرات الملايين من سكان المنطقة لنقص المياه بحلول 2025م، وتأثير ذلك الخطير على الأمن الغذائي في ظل تراجع المساحات المزروعة. ليحذر البنك الدولي من أن معدلات درجات الحرارة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ستزيد 6 درجات مئوية بحلول عام 2050م، وهو ما يعني أنها قد تصل إلى 55 أو 56 درجة مئوية في بعض دول المنطقة.

العنف المسلح والصراعات والأمن الغذائي:

للصراعات المسلحة سواء كانت داخل الدولة أو بين الدول تداعياتها الخطيرة للأمن الغذائي على أمن الدول والأفراد؛ حيث تترك تداعياتها على كافة جوانب الأمن الإنساني المادية وغير المادية (كالتراث والثقافة)، كما تمتد تداعياتها لأبعد من أماكن اندلاعها. وفيما يتعلق بالأمن الغذائي، فللنزاعات المسلحة تأثيرها على الأمن الغذائي من أكثر من ناحية فالصراعات قد تدمر المساحات المنزرعة أو تؤثر على طرق نقل المحاصيل الزراعية أو انهيار السوق المحلي بسبب النزاع أو التأثير على موارد المياه حيث تستخدم المحاصيل كوسيلة لتجويع المواطنين.       

وفقًا للتقرير العالمي للأزمات الغذائية، فقد أسهمت النزاعات المسلحة خلال عام 2021م، إلى معاناة 139 مليون شخص في مناطق متفرقة في العالم من انعدام الأمن الغذائي الحاد، وهو ما يزيد 40 مليون شخص عن العام السابق مباشرة. وهو ما زاد سواءً في عام 2022م، على خلفية اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.  

مستقبل الأمن الغذائي في ضوء تعقد المشهد الأمني:

يرتبط الحديث عن مستقبل الأمن الغذائي كأحد المخاطر العالمية في المدى القريب، وفي ضوء التحديات المتزايدة، بعدة إشكاليات من بينها التعقيد والتشابك، حيث تمتزج عدة عوامل للتأثير على مستقبل الأمن الغذائي؛ بحيث يصعب القول بوجود عامل واحد مسؤول عن انعدام الأمن الغذائي، ومن ثم فإن اختفاءه قد يُسهم في تحقيق الأمن الغذائي.

ومن ذلك فقد أسهمت التغيرات المناخية وما صاحبها من شح للموارد وتقلص للمساحات المزروعة في بروز مجموعة من الصراعات حول الموارد المحدودة، وأحد أبرز الأمثلة هي بحيرة تشاد، التي يقطنها ما يربو على 170 مليون شخص، والتي فقدت نحو 90% من مساحتها الإجمالية على مدار العقود الستة الماضية كنتيجة للجفاف، وهو الأمر الذي أثر على حياة الملايين من قاطني المنطقة مما قاد للعديد من النزاعات بين المزارعين والرعاة بسبب شح ومحدودية الموارد. هناك نحو 50 مليون شخص يفتقدون لوسائل كسب العيش، وذلك في ظل اعتمادهم الرئيس على أنشطة الزراعة والرعي. كما أن هذا الوضع أسهم في نزوح ما يقرب من 25 مليون شخص.

من ناحية أخرى، هناك بعد خاص بالتأثير المتبادل للأزمات، فبقدر ما تُسهم مجموعة من التحديات والأزمات في التأثير سلبًا على وضع الأمن الغذائي، فإن انعدام الأمن الغذائي قد يقود لتحديات أمنية محدودة مثل تزايد الصراعات خاصة في ظل ندرة الموارد. كما يرتبط الأمن الغذائي ارتباطًا وثيقًا بالأمن الصحي للأفراد، فسوء التغذية من شأنه مضاعفة المشكلات الصحية خاصة للفئات الأكثر هشاشة. وتكشف التطورات خلال السنوات الأخيرة عن ارتباط وثيق بين الأمن الغذائي والأمن السياسي، من خلال دور غياب الأمن الغذائي على تأجيج عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي. فوفقًا لتقرير المخاطر العالمية 2023م، فقد أدت الزيادة في أسعار الوقود وحدها إلى احتجاجات فيما يُقدّر بـ 92 دولة، أدى بعضها إلى اضطرابات سياسية ووفيات، جنبًا إلى جنب مع الإضرابات.

كما أن التداعيات الصحية للتغيرات المناخية قد تقود الأفراد إلى الوقوع في براثن الفقر، ومن ثم التأثير على الأمن الاقتصادي لهم. فوفقًا لمنظمة الصحة العالمية، تقود المشكلات الصحية 100 مليون شخص عبر العالم كل سنة إلى الوقوع في براثن الفقر، وهي الأعداد التي من المتوقع أن تزداد في ظل الظواهر المناخية الحادة.

الأمر ذاته يرتبط بالبدائل المطروحة للحل، فاللجوء للوقود الحيوي كبديل للوقود الأحفوري للتخفيف من حدة الانبعاثات له تأثيره الخطير على الأمن الغذائي للأفراد.   

إشكالية أخرى ترتبط بالأطر القانونية ومدى ملاءمتها للتحديات المتزايدة والنتائج المصاحبة لانعدام الأمن الغذائي مثل بروز ما يُطلق عليه "اللاجئون الاقتصاديون"، إذ أن غياب الأمن الغذائي من شأنه المساهمة في زيادة ظاهرة اللاجئين الاقتصاديين. وهو ما سيكون له تأثيره على الأمن المجتمعي للأفراد. ويُقصد به قدرة المجتمع على الحفاظ على نماذجه التقليدية من لغة وثقافة وهوية وعادات، ويرى بارى بوزان، أن أهم مصدرين من مصادر تهديد الأمن المجتمعي هما الهجرة والصراع بين أبناء الإثنيات والعرقيات المختلفة أو ما يُطلق عليه "الهويات المتصارعة". حيث ينبع من الهجرة خوفاً من التغيير المستقبلي في تركيبة السكان، كما أن الصراع بين أبناء الإثنيات المختلفة يؤثر في تماسك المجتمع، ومن ثم يؤثر على الأمن المجتمعي.  وبذلك فمن شأن بروز ظواهر اللاجئين الاقتصاديين أن تقود لتحديات مجتمعية في الدول المستضيفة خاصة أن المشكلة ذاتها ترتبط باللاجئين البيئيين فأي من المصطلحين لم يرد ضمن اتفاقية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لعام 1951م، وبروتوكول 1967م، المكمل لها.

انعدام الأمن الغذائي لا يقود لظاهرة اللاجئين والنازحين الاقتصاديين فحسب، بل يوفر أرضية مناسبة للجماعات الإرهابية لسهولة تجنيد الأفراد. ومثال ذلك سوريا خلال المدة ما بين 2006، و2010م، فقد أدى التصحر إلى التأثير على حجم المحاصيل المزروعة ومن ثم فقد 800 ألف شخص دخلهم، خاصة مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية. وقد اضطر 1.5 مليون عامل ريفي إلى الانتقال للمدن بحثُا عن فرص عمل، وهؤلاء كانوا هدفًا سهلًا للتجنيد من جانب تنظيم الدولة الإسلامية لاحقًا.

كما تبرز إشكالية الحدود الجغرافية، والحديث عن الحدود لا يقتصر على الحدود الجغرافية، فالترابط بين المشكلات الأمنية يجعل المشكلات أكثر تعقيدًا وترابطًا، بحيث تغيب الحدود الفاصلة فالتغيرات المناخية وإن كان من شأنها التأثير على الأمن الغذائي، فالتغيرات المناخية ذاتها من شأنها خلق حالة من عدم الاستقرار السياسي والأمني والذي قد يصل للصراعات على الموارد مما يزيد من وضع الأمن الغذائي للأفراد تعقيدَا.

هذا التعقيد والترابط يأخذ أكثر من بعد، فوفقًا للبنك الدولي، فإن جزء من المشكلة يرتبط بالطريقة التي يتم بها إنتاج الطعام في الوقت الراهن، والتي تُعد مسؤولة عن ثلث انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، حيث تأتي في المرتبة الثانية عالميًا بعد قطاع الطاقة. أي أن طريقة إنتاج الطعام ذاتها تُعد مسؤولة على نحوٍ غير مباشر عن أزمة الجوع الراهنة.

كما تجدر الإشارة إلى أن بعض السياسات التي اتبعت للتقليل من حدة التغيرات المناخية، أثرت سلبًا على الأمن الغذائي للأفراد. ومن ذلك فالتحول من الوقود الأحفوري إلى الوقود الحيوي تسبب في أزمات غذاء. حيث تدخل بعض المحاصيل الزراعية ومن بينها الذرة وقصب السكر في إنتاج الإيثانول. وفي عام 2008م، شهد العالم أزمة غذاء، حيث إن 963 مليون شخص تعرضوا لخطر الجوع وقلة الغذاء نتيجة للتوسع في إنتاج الطاقة الحيوية في الولايات المتحدة وأوروبا والبرازيل.

أما عن التوقعات بشأن وضع الأمن الغذائي عالميًا في الأمد المنظور، وفي ظل استمرار الأوضاع دون تحسن، فمن المتوقع ألا تتحسن أوضاع الأمن الغذائي بشكل كبير، خاصة في ظل التوقعات غير المتفائلة بشأن مستويات النمو عالميًا. حيث تُشير التوقعات إلى تراجع حاد في معدل نمو الاقتصاد العالمي، وذلك بمتوسطات للنمو تتراوح ما بين 1.7% وفقا لتقديرات البنك الدولي وصولا في أعلى التقديرات (2.9%) وهي تقديرات صندوق الدولي.  وفي عام 2024م، فمن المتوقع أن يتعافى معدل النمو الاقتصادي العالمي بحيث تتراوح التقديرات ما بين 2.7% (تقديرات الأمم المتحدة والبنك الدولي) و3.1% (تقديرات صندوق النقد الدولي). وهي المعدلات الأقل مما حققه الاقتصاد العالمي خلال عام 2022م، فوفقًا لصندوق النقد الدولي بلغ معدل نمو الاقتصاد العالمي 3.4%ـ أما تقديرات البنك الدولي فقد أشارت إلى 2.9%.

مع توقعات بتباطؤ في حركة التجارة العالمية، فوفقًا لمنظمة التجارة العالمية فمن المتوقع أن تشهد حركة التجارة السلعية في العالم تباطؤًا خلال العام الجاري فهو العام الرابع في الجائحة والعام الثاني من الحرب الأوكرانية خاصة في ظل ما يشهده من ارتفاع في أسعار الطاقة وزيادة معدلات التضخم والتشديد النقدي الأمريكي. حيث توقعت المنظمة انخفاضًا حادًا في معدلات النمو لحركة التجارة العالمية بالغة 1%.

ورغم وجود توقعات بانخفاض مستويات التضخم عالميًا خلال عامي 2023، و2024م؛ فوفقًا لتقرير مستجدات آفاق الاقتصاد العالمي الصادر عن صندوق النقد الدولي تُشير التوقعات إلى انخفاض التضخم العالمي من 8.8% عام 2022 إلى 6.6% عام 2023م، ثم 4.3% عام 2024م. ورغم التراجع تظل تلك النسبة أعلى مقارنة بما كان عليه الوضع في سنوات ما قبل الجائحة حيث سجل معدل التضخم العالمي في المتوسط 3.5% وذلك خلال الفترة من 2017 إلى 2019م، حيث تُشير التوقعات إلى احتمالية تراجع التضخم في 84% من دول العالم في عام 2023 مقارنة بعام 2022م. مع وجود تفاوتت وفقًا لمستوى النمو الاقتصادي، ففي الاقتصادات المتقدمة، فمن المتوقع انخفاض مستوى التضخم إلى 4.6% في عام 2023 مقارنة بـ 7.3% في عام 2022 قبل أن يصبح 2.6% في عام 2024م، وفي الاقتصادات الناشئة والاقتصادات النامية فمن المتوقع أن يكون التضخم 8.1% و5.5% عامي 2023 و2024م، مقارنة بـ 9.9% عام 2022م، أما في البلدان منخفضة الدخل والتي بلغ فيها معدل التضخم 14.2% عام 2022 فمن المتوقع أن يصل إلى 8.6% عام 2024م، يُضاف لذلك توقعات باستمرار ارتفاع أسعار الطاقة، فوفقًا لتقرير المخاطر العالمية 2023م، الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، فمن المتوقع أن تظل أسعار الطاقة خلال عام 2023 مرتفعة بنسبة 46% أعلى من المتوسط مقارنة بشهر يناير 2022م.

وختامًا، في ضوء ما تم عرضه، فمن المتوقع أن تستمر مشكلة الأمن الغذائي كواحدة من بين أبرز المخاطر التي تهدد المجتمعات في الأمد المنظور والتي تتطلب تحركات دولية بشكل متكامل وبما يراعي الأبعاد المختلفة ذات التأثير على الأمن الغذائي وحدود التداخل فيما بينها، مع أهمية أن تكون سياسات شاملة لكافة الأبعاد الخاصة بالأمن الإنساني على نحو ما أوضحنا، بما يتطلبه ذلك من درجة أعلى من التنسيق الدولي وتكييف الأطر القانونية القائمة لما تفرزه التطورات المتلاحقة من تحديات تتطلب أطر قانونية لمواجهتها. خاصة في ظل المخاوف من صدمات غير متوقعة قد يكون تأثيرها أكثر خطورة على الأمن الغذائي.

مجلة آراء حول الخليج