عقدت قمة دول مجلس التعاون الخليجي الـ 45 في دولة الكويت في ظروف استثنائية هامة. فبالنسبة للكويت جاءت كحدث مميز استعادت الكويت من خلالها دورها الفاعل في الوساطة الإقليمية لاسيما في ظل حقبة جديدة انشغلت في ترتيب البيت من الداخل، لذلك كان من الجميل أن نرى تلك العودة وتلك الحماسة مجددة بقيادة صاحب السمو أمير دولة الكويت الشيخ مشعل الأحمد الصباح وهو يرحب بإخوانه قادة دول المجلس، الذين يعلمون حجم التحديات القادمة لعام 2025م. فقد جاءت تلك القمة في ظل صلابة موقف الدول الخليجية في التعامل مع الملف الفلسطيني والإصرار في مواجهة التعنت الإسرائيلي بضرورة إقامة الدولة الفلسطينية التي تعتبر خيارًا لا حياد عنه يحفظ للفلسطينيين كرامتهم وعزتهم تكفله كل القرارات الدولية. كما أدى اشتعال غزة إلى اشتعال الجبهة اللبنانية مما يؤكد على تعقيدات القضايا العربية واشتباكاتها، والتي بدورها أثرت على سوريا بكافة جبهاتها المنقسمة حيث أفضت كافة تلك التعقيدات إلى مسرح سياسي جديد يتطلع إليه السوريون إلى بداية جديدة ومستقبل موحد يعيد سوريا الموحدة وليس النظام السياسي فحسب إلى الحضن العربي. جاءت كافة تلك الملفات أمام الملف الأبرز دوليًا وهو القادم الجديد-القديم في العاصمة الأمريكية واشنطن، فالرئيس دونالد ترامب ليس جديدًا على دول الخليج، فقد سبق أن تعاملت دول الخليج مع إدارته بحكمة وسداد حتى وإن كانت الفترة الأولى امتازت ببعض الشطحات إلا أن تاريخ العلاقات الخليجية-الأمريكية بملفاته الاقتصادية والأمنية والاستراتيجية قادر على تخطي تلك التحديات وتحويلها إلى إنجازات تضاف لرصيد تلك العلاقة الاستراتيجية الممتدة. كانت تلك القضايا، بالإضافة إلى التحديات الاقتصادية وتنويع مصادر الدخل والتغيرات المناخية الهاجس الأبرز الذي ألقى بظلاله على الرؤى المستقبلية لدول الخليج والتي تضمنها البيان الختامي.
ومن بين أبرز محاور البيان الختامي ما تضمنه محور " تأكيد القمة على قوة وتماسك مجلس التعاون ووحدة الصف بين أعضائه وتحقيق المزيد من التنسيق والتكامل والترابط في جميع الميادين بما يحقق تطلعات مواطني دول المجلس، مؤكدًا وقوفه صفًا واحدًا في مواجهة أي تهديد تتعرض له أي من دول المجلس ". يتناول التحليل التالي أهمية هذا المحور، وسياق تأكيده وارتباطه برؤية مجلس التعاون للأمن الإقليمي، والتحديات التي يسعى إلى معالجتها، وتداعياته على المنطقة والساحة العالمية الأوسع.
أهمية وتركيز المحور
يعد تأكيد مجلس التعاون الخليجي على الوحدة والتماسك محوريًا بشكل خاص نظرًا للظروف الجيوسياسية والاقتصادية في المنطقة. ويسعى هذا المحور إلى معالجة عدة أبعاد رئيسية تشمل:
الوحدة السياسية: تعزيز العمل الجماعي داخل مجلس التعاون الخليجي للتعامل مع التوترات والأزمات الإقليمية.
التكامل الاقتصادي: تعزيز التآزر في التجارة والاستثمار وإدارة الموارد لتعزيز القدرة على الصمود في مواجهة الاضطرابات الاقتصادية العالمية.
التنسيق الأمني: تعزيز آليات الدفاع التعاوني لمواجهة التهديدات المشتركة مثل الإرهاب والهجمات الإلكترونية وعدم الاستقرار الإقليمي
السياق والأهمية
في ضوء التطورات الإقليمية والدولية الحالية، أصبحت الحاجة إلى تماسك مجلس التعاون الخليجي أكثر إلحاحًا. وتشمل تلك التطورات السياسية: 1) الاضطرابات الإقليمية: تؤدي الصراعات المستمرة في البلدان المجاورة والتدخلات الخارجية إلى تفاقم عدم الاستقرار في المنطقة. 2) الضغوط الاقتصادية العالمية: تسلط أسواق الطاقة المتقلبة والتضخم وعواقب جائحة كوفيد-19 الضوء على أهمية التعاون الاقتصادي. 3) التنافسات الجيوسياسية: إن الأهمية الاستراتيجية للخليج تجعله نقطة محورية لمنافسات القوة العالمية، مما يستلزم اتباع نهج موحد في التعامل مع السياسة الخارجية. إن وحدة مجلس التعاون الخليجي تشكل جزءاً لا يتجزأ من الحفاظ على نفوذه ككتلة إقليمية جماعية، مما يمكن أعضاءه من التعامل بشكل أفضل مع هذه التحديات المتعددة الأوجه.
رؤية مجلس التعاون للأمن الإقليمي لعام 2024
يؤكد المحور على التزام مجلس التعاون الخليجي بالتضامن، وضمان مواجهة أي تهديد لدولة عضو واحدة باستجابة موحدة وحاسمة من المجلس ككل. يشكل مبدأ الأمن الجماعي هذا الأساس لفعالية المجلس في حماية سيادة أعضائه وضمان الاستقرار الإقليمي. وبذلك فقد جاء ذلك المحور ترجمة لتنفيذ رؤية مجلس التعاون للأمن الإقليمي التي أطلقت في 28 مارس 2024م، وهو يعتبر إعلان غير مسبوق، حيث لأول مرة يسعى مجلس التعاون لإطلاق رؤية أمنية شاملة عبر من خلالها عن كافة تطلعاته لمنطقة آمنة إقليميًا وعالميًا. وعلى حد وصف الأمين العام جاسم البديوي إن تلك الرؤية "ليست مجرد خطط وأهداف استراتيجية، بل عهد بيننا لبناء مستقبل مشترك." وأكد على فخر المجلس بما وصل إليه من تكامل سياسي واقتصادي واجتماعي وإعلامي" واليوم خصّصنا هذه الرؤية لنطرح أمام المجتمع الدولي ما وصلنا إليه من تكاملنا الأمني" ، كاشفاً أن "الوحدة الخليجية عنصر رئيسي ومادة واضحة في النظام الأساسي لمجلس التعاون"، وهو هدف نطمح إليه جميعاً. فقد نصت الرؤية صراحة على أن الوحدة الخليجية لا تزال تعبر عن طموح الدول الخليجية وبذلك جاءت بقية البنود لتحقيق ذلك الهدف والذي يدور حول ثلاث آليات هي:
أولًا: الجهود الدبلوماسية
1-البناء على جهود دول المجلس في حل الخلافات عبر المفاوضات وبالطرق الدبلوماسية والحوار وعدم اللجوء للقوة أو التهديد بها.
2-استمرار الدور القيادي لتجنيب المنطقة تداعيات الحروب ومعالجة الأزمات الإقليمية وبذل المساعي الحميدة ودعم جهود الوساطة، والمطالبة بتنفيذ قرارات مجلس الأمن ذات الصلة والمحافظة على سيادة ووحدة وأمن دول المنطقة، والتصدي للتدخلات الخارجية.
ثانيًا: المشاركة في تعزيز جهود السلام العالمي
1-تطرح الرؤية أمام المجتمع الدولي ما وصلت إليه دول الخليج من تكاملها الأمني.
2-تعزيز الشراكات الدولية بما يسهم في أمن المنطقة واستقرارها، وبما يحفظ الأمن والسلم الدوليين والمساهمة في حل الأزمات المزمنة، وتقوية الآليات القانونية والدولية، وتقديم منصة للتفاوض المباشر وتقريب وجهات النظر بين الأطراف المتنازعة.
3-ضمان استقرار أسواق الطاقة العالمية، بما يحقق مصالح الدول المنتجة والمستهلكة، ويُجنب العالم الآثار السلبية الناتجة عن تذبذب الأسواق واختلال سلاسل الإمداد العالمية، والمطالبة بتجنب تسييس هذه القضايا نظراً للانعكاسات السلبية لذلك على الاقتصاد العالمي.
4-مواجهة تحديات التغير المناخي بواقعية ومسؤولية ونهج متوازن، والعمل مع الشركاء الإقليميين والدوليين لتطوير استراتيجيات طويلة المدى، تساعد على التوجيه الكامل لتنفيذ التعهدات والالتزامات ضمن مبادئ اتفاقية «الأمم المتحدة» الإطارية بشأن تغير المناخ واتفاقية باريس، وذلك بعدّها الأساس للتقدم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، والاستثمار في الحلول المناخية والشراكات الإنمائية.
5-تنفيذ نهج الاقتصاد الدائري للكربون الذي يعزز تطوير وتوظيف مصادر طاقة متجددة، والاستخدام الأمثل للمواد الهيدروكربونية من خلال التقنيات النظيفة لإدارة انبعاثاتها، بما فيها تقنيات التقاط وإعادة استخدام ثاني أكسيد الكربون، وذلك لدعم وصول الدول إلى طموح الحياد الصفري للانبعاثات، كإطار متكامل وشامل لمعالجة التحديات المترتبة على انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، إضافة إلى المحافظة على البيئة الطبيعية ورفع مستوى الغطاء النباتي وزيادة الاعتماد على التقنيات النظيفة لجميع مصادر الطاقة.
6-تكثيف العمل لمواجهة التحديات المستقبلية في مجالات الأمن المائي والغذائي واحتمالية تفاقمها، على المستويين الإقليمي والدولي نتيجةً للظروف الناشئة من التغيرات البيئية واندلاع الصراعات والأزمات، والمساهمة بشكل فاعل مع الأطراف الإقليمية والدولية لإيجاد حلول مستدامة لمعالجتها، وتعزيز التنسيق والتعاون مع الشركاء الإقليميين والدوليين للحفاظ على سلاسل إمداد الغذاء العالمية واستقرار أسعارها، حتى لا يدفع ذلك الدول المستهلكة لمواجهة خطر المجاعة.
ثالثا: أركان الأمن الإقليمي (الدولة الفلسطينية، الملف النووي ـ الأمن البحري-مكافحة الإرهاب والميليشيات ـ الأمن السيبراني ـ التعاون الاقتصادي)
1-دعم جهود تفعيل مبادرة السلام العربية والجهود الدولية لإيجاد حلّ عادل للقضية الفلسطينية، وفقاً لحل الدولتين وقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية وبقية الأراضي العربية المحتلة والانسحاب لحدود 4 يونيو (حزيران) 1967م، وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، وضمان حقوق اللاجئين، والوقف الفوري لمحاولات التغيير الديموغرافي وطمس الهوية العربية وتهويد المقدسات الإسلامية والمسيحية واستمرار ممارسة الضغط على المجتمع الدولي لاتخاذ مواقف حاسمة، والتحذير من أن استمرار انسداد آفاق الحل يعد عاملاً أساسياً لزعزعة الاستقرار في المنطقة ومسوغاً لنشر التطرف والكراهية والعنف إقليميًا ودوليًا.
2-دعم الجهود الدولية والإقليمية للمحافظة على منظومة عدم الانتشار، وجعل منطقة الشرق الأوسط بما فيها منطقة الخليج خالية من أسلحة الدمار الشامل.
3-دعم ضمان حق الدول في استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية، في إطار الاتفاقيات الدولية والالتزام بمعايير الأمان النووي، والاستعداد للتعاون والتعامل بشكل جدي وفعّال مع دول الجوار الإقليمي لتعزيز الأمن والأمان النوويين.
4-دعم آليات التعاون لتعزيز مفهوم ربط المصالح الاستراتيجية في سبيل الحفاظ على الأمن البحري وأمن الممرات المائية والتصدي للأنشطة التي تهدد خطوط الملاحة البحرية والتجارة الدولية وإمدادات الطاقة، ومكافحة عمليات التهريب بأنواعها ومساراتها.
5-تعزيز جهود مكافحة الإرهاب والتطرف بجميع أشكاله ومظاهره، وحثّ بقية الأطراف الإقليمية والدولية باعتماد نهج شامل لمكافحة الإرهاب والتطرف الذي لا يرتبط بعقيده أو شعب أو عرق، واتباع النهج المبني على التعايش والاحترام المتبادل مع دول العالم.
6-العمل على تجفيف منابع الإرهاب ومحاصرة تمويله والمشاركة مع بقية الأطراف الإقليمية والدولية في تطوير المنظومات التشريعية والممارسات الدولية لمكافحة تمويل الإرهاب وغسل الأموال.
7-تجريم جميع الجماعات التي تقوم بأعمال إرهابية بغضّ النظر عن انتماءاتها الحزبية أو المذهبية أو ارتباطها بمؤسسات الدولة، والامتناع عن دعم الميليشيات الإرهابية والجماعات الطائفية، بما في ذلك تزويدها بالصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة، وتقوية الآليات القانونية الإقليمية والدولية ومحاسبة منتهكي القرارات الأممية ذات العلاقة.
8-رفع مستوى الأمن السيبراني من خلال مواجهة الجرائم الإلكترونية، وتعزيز الخطط الاستراتيجية لرفع مستوى الوعي لمواجهة التهديدات السيبرانية، وتشكيل شراكات استراتيجية مع عدد من الأطراف الإقليمية والدولية لتعزيز الأمن السيبراني.
9-تعزيز التعاون الاقتصادي بين الدول الإقليمية، بما يخدم أجندة الحوار والتواصل وبناء الجسور، وبما يعكس الارتباط الوثيق بين الأمن والاستقرار والازدهار، ومعالجة العوامل الاجتماعية والاقتصادية.
التحديات في تحقيق الوحدة
بالرغم من تلك الطموحات التي عبرت عنها الدول الخليجية إلا أنه لا يزال هناك تحديات قائمة تشمل:
الاختلافات الداخلية: يمكن أن تعيق الاختلافات في أولويات السياسة والمنظورات الاستراتيجية بين الدول الأعضاء.
الضغوط الخارجية: قد تجذب التحالفات الدولية والعلاقات الثنائية مع القوى الكبرى الدول الأعضاء في اتجاهات مختلفة.
التفاوتات الاقتصادية: تخلق الاختلافات في الهياكل الاقتصادية والاعتماد على الموارد عقبات أمام صنع السياسات الاقتصادية الموحدة.
إن الجهود الرامية إلى التغلب على هذه التحديات لن تتطلب الإرادة السياسية فحسب، بل وأيضاً إنشاء أطر مؤسسية أقوى لتعزيز الحوار والوساطة ومواءمة السياسات. وبذلك تشمل مسارات التماسك المستقبلي العمل على العديد من الجبهات واتخاذ العديد من الإجراءات الحاسمة التي تشمل:
التخطيط الاستراتيجي: وضع رؤية متماسكة طويلة الأجل لمجلس التعاون الخليجي تتماشى مع التحولات العالمية والاتجاهات الناشئة.
التعزيز المؤسسي: تعزيز قدرة وسلطة مؤسسات مجلس التعاون الخليجي على تنفيذ القرارات الجماعية بشكل فعال.
المشاركة العامة: تعزيز الشعور بالهوية المشتركة بين مواطني دول مجلس التعاون الخليجي لتعزيز التماسك الاجتماعي والثقافي.
الخلاصة
إن التركيز الذي يبديه مجلس التعاون الخليجي على الوحدة والتماسك يأتي في الوقت المناسب وهو أمر ضروري في التعامل مع التحديات المعقدة التي يفرضها المشهد الجيوسياسي والاقتصادي اليوم. ومن خلال تعزيز التضامن وتعزيز التكامل الأعمق، لا يستطيع المجلس تأمين مصالح الدول الأعضاء فحسب، بل ويضع نفسه أيضًا كقوة استقرار في الشرق الأوسط الأوسع. ويعتمد مستقبل الخليج على قدرته على التكيف مع الديناميكيات المتغيرة، وتعزيز الصفوف الداخلية، ومعالجة المخاطر والتحديات التي تلوح في الأفق بشكل استباقي. وبفضل الاستشراف الاستراتيجي والعزيمة الجماعية، يمكن لمجلس التعاون الخليجي تحقيق رؤيته لمنطقة أكثر أمنًا وازدهارًا وترابطًا.