هناك فرص هائلة لبناء أساس للسلام والاستقرار الدائمين في سوريا. لكن الخطوات الخاطئة أو الفرص الضائعة قد تُشكل مخاطر على مستقبل سوريا وتزرع بذور عدم الاستقرار. أعتقد أنه يمكن تطوير أرضية مشتركة حول هذه القضايا بسهولة من خلال الحوار مع سلطات تصريف الأعمال".. غير بيدرسون المبعوث الأممي الخاص لسوريا
تقول أدبيات علم إدارة الأزمات إن كل أزمة تحمل في طياتها تهديدًا وفرصة، فإذا أُديرت بحكمة وفاعلية فيمكن أن يتحول التهديد الذي تنطوي عليه إلى فرصة لتحقيق نتائج أكثر إيجابية، وهذا الأمر ينطبق تمامًا على الأزمة السورية التي تعقدت خيوطها منذ سنوات وصولًا إلى النقطة الحالية حيث يتشكل نظام أو إدارة سورية جديدة بعد أن أُطيح ببشار الأسد في ديسمبر 2024م.
ومنذ وصول الإدارة الجديدة إلى السلطة ساد تفاؤل ممزوج بتخوفات وحذر حول مستقبل سوريا السياسي في ظل الفواعل المتداخلة في المشهد السوري سواء كانوا دولًا أو فواعل من غير الدول، فالبلاد المحملة بإرث التجربة الثقيلة لنظام بشار الأسد لا تحتمل المزيد من المغامرات غير المحسوبة في وقت تبرز أمامها تحديات سياسية واقتصادية وأمنية شديدة التعقيد، وفي ضوء هذه المتغيرات يُطرح سؤال رئيس تشكل إجاباته جزءًا من صياغة مستقبل سوريا الضبابي وهو من يرسم خريطة هذا المستقبل: أبو محمد الجولاني أم أحمد الشرع؟
والتساؤل هنا ليس عن كنه الشخص نفسه فمن المعروف أن الجولاني هو ذاته الشرع، لكنه عن السياسات والتوجهات التي سيتبعها وهي بلا شك ستؤثر في بنية السلطة وتفاعلاتها الداخلية والخارجية، وهو ما يقوله علم السياسة، فدراسة النظام السياسي وتوجهاته تقتضي إدراك طبيعة النخبة القيادية بما في ذلك قناعاتها الخاصة التي تتداخل في عملية رسم السياسات وصنع القرار، مع عدم إغفال السياقات المحلية والإقليمية والدولية والتفاعل بين الفواعل المتعددين في هذه السياقات.
"الجولاني" القديم والمخاوف الحالية
وليس ببعيد عما سبق تشير الدراسات النفسية إلى أن التحولات الجذرية في الشخصية البشرية لا تتم إلا تحت ظروف استثنائية للغاية، وهو أمر لا يمكن الجزم بأن الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع الذي كان يومًا أبو محمد الجولاني قد تعرض له، يبقى التخوف من أن يكون الماضي مؤثرًا على الحاضر ، أو بلغة أخرى أن تؤثر اللحظة الماضية لأبي محمد الجولاني على اللحظة الحالية لأحمد الشرع، فالأول انتمى لتنظيم إرهابي يكفر بفكرة الدولة الوطنية الحديثة بل والنظام العالمي ككل ويسعى لتقويض كليهما عن طريق التمرد المسلح، كما يُسمى من منظور مكافحة الإرهاب، أما الثاني فيتبنى خطابًا أكثر اعتدالًا يميل لفكرة الدولة الوطنية وينبذ الحالة الفصائلية بتجسيداتها القديمة.
وفي النسخة الأولى، طمح أبو محمد الجولاني إلى تأسيس إمارة جهادية قُطرية على نهج تنظيم القاعدة الإرهابي أي أن هدفه النهائي تمثل في السيطرة على سوريا وإقامة دولته/ إمارته المتخيلة على ترابها، وبتحليل خطابه في لقاءٍ سابق أجراه مع فضائية شهيرة، في مايو 2015م، يتبين أن "الجولاني" رفض القبول بالنظام العالمي الحالي ومؤسساته الدولية كالأمم المتحدة، وتبنى موقفًا سلبيًا من الديمقراطية والانتخابات والبرلمانات، وكذلك كانت لديه رؤية خاصة لجماعات الإسلام السياسي الأخرى بما في ذلك جماعة الإخوان التي رأى أن عليها العودة لحمل السلاح بعد الإطاحة بها من حكم مصر عام 2013م، وعلى أساس هذه النسخة أو النموذج فستصاغ العلاقات بين "الجولاني" وخصومه على أساس صراعي فالتنظيمات الإرهابية ترى العالم وفق ثنائية إما أن تكون معها أو تكون ضدها وفي هذه الحالة تستحق القتال والقتل.
وتعكس تلك اللغة الخطابية قناعات أبو محمد الجولاني، حينئذ، وهي قناعات تقليدية لجهادي/ إرهابي التحق بتنظيم القاعدة في العراق بعد الغزو الأمريكي عام 2003م، إبان قيادة أبو مصعب الزرقاوي الأردني له، وسجن في العراق وتنقل بين أبو غريب وبوكا وسجون أخرى قبل أن يخرج بالتزامن مع اندلاع الثورة السورية، ليزكيه رفيق سجنه السابق أبو علي الأنباري لأمير تنظيم دولة العراق الإسلامية أبو بكر البغدادي كي يقود الفرع الجديد للتنظيم في سوريا "جبهة النصرة".
وفي سوريا كانت تحولت أبو محمد الجولاني براجماتية للغاية، فتحالف مع تنظيم القاعدة، عام 2014م، ليتخلص من تبعيته وبيعته السابقة لأبي بكر البغدادي وتنظيمه "داعش"، ثم انقلب على الظواهري وفك الارتباط بين "جبهة النصرة" التي تحولت لجبهة فتح الشام، عام 2016م، ثم هيئة تحرير الشام فيما بعد حتى سيطرتها على دمشق، عام 2024م.
وقد يبدو الحديث السابق نوعًا من اجترار اللحظات والنسخ الماضوية لشخصية "الجولاني" للحكم على الواقع الحالي، بيد أن إمعان النظر في هذا الواقع يبين أن هذا الماضي ما زال يحكم الحاضر أو على الأقل جزء منه، فكل مفردات الخطاب الجديد للرئيس السوري الجديد أحمد الشرع وإدارته السياسية لم تخفِ أن الحالة القديمة بقيت لها جذورها وتأثيرها على المشهد السوري وهو ما ظهر في الاستجابة لحالة التمرد التي قادها فلول النظام السوري السابق في الساحل السوري وخصوصًا في مناطق جبلة واللاذقية، أوائل مارس/ آذار الجاري، إذ كانت الاستجابة انتقامية ثأرية تنتمي للحظة ماضوية هي لحظة الفصائل المسلحة والفواعل من غير الدولة على الرغم من أنها جاءت تحت غطاء وزارتي الدفاع والداخلية السورية الجديدتين.
وتبعث الانتهاكات وعمليات القتل التي حدثت في مناطق الساحل السوري- والتي لم تكن منضبطة باعتراف الرئيس السوري المؤقت نفسه الذي أكد في خطابه في 7 مارس الجاري على رفض الانتهاكات ومحاسبة المتورطين فيها- مخاوف من أن تسيطر الحالة الفصائلية، الأقرب للحظة الماضوية بما تتضمنه من شخصية "الجولاني"، على المشهد السوري الجديد، ويضاف للمخاوف عمليات التجنيس التي تمت لمقاتلين أجانب ومنحهم رتبًا متوسطة ورفيعة في الجيش السوري الجديد وهو ما قد يضفي على المؤسسة الأمنية الجديدة في البلاد طابعًا مغايرًا لحالة الاصطفاف الوطني التي يُراد الوصول لها، علاوةً على أن تجربة الحكم السابقة لهيئة تحرير الشام التي تشكل نواة الإدارة السورية الجديدة اتسمت بالاستبداد السياسي والسيطرة الاقتصادية وعدم وجود مؤسسات شورية أو رقابية حقيقية وهو ما يخل بمبدأ الفصل بين السلطات ويقوض إمكانية الوصول لتداول وانتقال سلمي وسلس للسلطة.
الانسلاخ من الثوب القديم والانطلاق للأفق الجديد
وبالطبع، يمكن لكل من لديه وعي سياسي، حتى وإن كان محدودًا، أن يدرك أن الحالة القديمة أو "حالة الجولاني" ليست هي ما يطمح له الشعب السوري الذي دفع أثمانًا باهظة لاستبداد نظام الأسد قبل الخلاص منه، فطموح السوريين ليس استبدال ديكتاتورية طائفية بديكتاتورية دينية بل يبقى طموحهم لصياغة واقع جديد يُعلي من قيم الدولة الوطنية وينهض على قاعدة المواطنة والتعددية الدينية والعرقية وتصون حقوق جميع مكونات الشعب السوري وفق صيغ الشراكة والتعاون والتعايش والمصير المشترك، وهذه الحالة أقرب لنموذج معدل من أحمد الشرع وأبعد من نموذج أبو محمد الجولاني، وهذا النموذج يتوافق أيضًا مع طموحات الدول الإقليمية الراغبة في الحفاظ على وحدة التراب السوري في ظل تنافس جيوسياسي شرس بين فواعل متعددين في الوقت الحالي.
ولعل الوصول إلى نموذج معتدل أقرب لنموذج الحكم الرشيد أو يسعى له على الأقل يقتضي أن تخوض الإدارة السورية الجديدة المفازة نحو مصالحة وطنية شاملة، وقد خطت الإدارة الجديدة خطوة نحو إدراك هذا الهدف عبر عقد جلسات الحوار الوطني الذي افتتحه الرئيس المؤقت أحمد الشرع بمشاركة واسعة من مكونات الشعب السوري، مع غياب ممثلين للإدارة الذاتية الكردية (سوريا الديمقراطية) التي تسيطر على مناطق شمال وشرق سوريا، وربما يعكس غياب "سوريا الديمقراطية" عن جلسات المؤتمر الوطني وجود فجوة بينها وبين الإدارة الجديدة وهذه الفجوة يساهم في اتساعها الصراع على سوريا الجديدة بين دول إقليمية منها تركيا وإسرائيل.
وركز الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع، في خطابه لافتتاح المؤتمر الوطني السوري، على ضرورة الحفاظ على وحدة سوريا ورفض تقسيمها والحفاظ على مكتسبات الثورة السورية وضبط فوضى السلاح واحتكاره في قبضة الدولة فقط من أجل بناء سوريا على أساس دولة القانون واحترام السلم الأهلي وضرورة تحقيق العدالة الانتقالية بملاحقة مرتكبي جرائم الحرب ضد السوريين. وألمح "الشرع" إلى أنه سيتم إصدار إعلان دستوري مؤقت لتنظيم المرحلة الانتقالية وتحديد ملامحها، بحيث يتضمن مواد تنص على عدم تكرار جرائم النظام وتحقق العدالة الانتقالية، وضمان حقوق المكونات الدينية والقومية، وتكريس سيادة القانون والحريات العامة والمواطنة كأساس لعقد اجتماعي جديد، وكذلك البرلمان ودوره وانتخابه، وتحديث هوية الدولة السياسية والاقتصادية، وشكل نظام الحكم والعلاقة بين السلطات.
وبتحليل خطاب أحمد الشرع وكذلك ما تمخض عن المؤتمر الوطني السوري يتضح أنهما ركزا على قضايا الحفاظ على وحدة التراب السوري وعدم السماح بصعود الولاءات الأولية سواء الطائفية منها أو المناطقية أو غيرها، بالإضافة لقضايا العدالة الانتقالية، والبناء الدستوري، والإصلاح، والحريات، والاقتصاد، والمجتمع المدني، وكان هناك تركيز خاص على اعتبار أن كيان "سوريا الديمقراطية" خارج عن سلطة الدولة، وهذا الخطاب أقرب لحالة الدولة الوطنية وأبعد ما يكون عن حالة الإمارة الجهادية التي طمح لها "أبو محمد الجولاني" كما أسلفنا.
بيد أن الوصول إلى حالة توافق وطني لضمان الحفاظ على وحدة التراب السوري تقتضي الوصول إلى تفاهم واتفاقات بين الإدارة السورية الجديدة وإدارة سوريا الديمقراطية في شمال وشرق البلاد، فالأخيرة انخرطت في مسار مواز للإدارة الجديدة ونظمت مؤتمرًا خاصًا بها تحت شعار "نحو بناء سوريا تعددية ديمقراطية" بمشاركة شخصيات من حلب واللاذقية والسويداء وممثلون وممثلات عن الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا ومجلس سوريا الديمقراطية، وحزب الاتحاد الديمقراطي وحزب سوريا المستقبل، وأعضاء تحالف تنظيمات المجتمع الديمقراطي في شمال وشرق سوريا وممثلون عن قوات سوريا الديمقراطية، وأعلنت رفضها مخرجات عملية الحوار الوطني السوري واعتبرت هدفها إقصاء أحد المكونات السورية (الأكراد) من العملية السياسية، ولذا تطالب "سوريا الديمقراطية بأن يكون لها دور خاص في الترتيبات المستقبلية وعدم إقصاء مؤسسات الإدارة الذاتية، غير أن هذا المطلب يعني وجود ازدواج إداري ووجود مناطق تدار خارج سلطة الحكومة المركزية في دمشق وهو أمر قد لا تقبل به الإدارة السورية الجديدة.
ولم يكن انتقاد مخرجات الحوار الوطني قاصرًا على المكون الكردي فهناك انتقادات عديدة وجهت للحوار وللإدارة السورية الجديدة وكلها تعكس في جوهرها المخاوف القديمة من أن يتم إقصاء أي مكون سوري أو التأسيس لعملية سياسية غير بعيدة عن دائرة الأيديولوجيا القديمة بصورة تتحول معها الدولة الجديدة إلى حالة استبدادية دينية أو نسخة من ولاية الفقيه لكن بالطريقة السنية، وبالطبع لهذه المخاوف ما يبررها بمنطق التاريخ والجغرافيا المنقسمة والديموغرافيا أيضًا بالرغم من أن الإدارة الجديدة تنفي أن يكون لديها مثل هذا التوجه.
بناء المؤسسة الأمنية
وعلى صعيد متصل، يظل تحدي إعادة بناء المؤسسة الأمنية السورية بمفهومها الواسع الذي يشمل الجيش وأجهزة الأمن والاستخبارات الداخلية والخارجية أحد التحديات الملحة في الوقت الراهن مع إلغاء التجنيد الإجباري ومنح قيادات أجنبية قاتلت من قبل في صفوف هيئة تحرير الشام رتبًا عسكرية ومكانة في الجيش والأجهزة الأمنية الجديدة، وهنا يُثار سؤال حول عقيدة الجيش الجديد بالمعنى الأشمل الذي يشمل قيمه ومبادئه وولاءاته وحتى أداءه العسكري، فالجيش القديم وإن لم يكن طائفيًا ككل من حيث المكونات المنضوية فيه إلا أنه سُخر لخدمة المصالح الطائفية من قبل نظام الأسد وجُعل الانتماء للطائفة العلوية والولاء لها من الطوائف الأخرى أحد المحددات الخاصة بالترقي داخله، ولذا فإن الضمانة الحقيقية للحفاظ على المؤسسة الأمنية ككل في المستقبل ألا يتم تأسيسها على أسس طائفية أو أيديولوجية أو أي من الولاءات الأولية الأخرى وأن يكون الولاء منحصرًا في الدولة الوطنية بمفهومها الأشمل فيصبح الجيش والأجهزة الأخرى جيشًا وملكًا للدولة فقط.
ويرى مراقبون أن أي تحول سياسي أو اقتصادي في سوريا سيكون صعبًا من دون إعادة هيكلة حقيقية للمؤسسة العسكرية والأمنية لذلك فإن عملية بناء الجيش الوطني السوري تعد أولوية أساسية لنجاح العملية الانتقالية، ويجب أن تتجاوز المؤسسة في طورها الجديد الولاءات الفصائلية والمناطقية والطائفية حتى تنجح خاصةً أنها تتشكل الآن من مقاتلين ينتمون لهيئة تحرير الشام، وأحرار الشام وجيش العزة وقوات شباب السنة وجيش الكرامة في السويداء وغيرها، ولا ينبغي إغفال احتمالية دمج القوات الكردية "سوريا الديمقراطية- قسد" في المؤسسة الأمنية حال جرى التوصل لاتفاق بينها وبين الإدارة السورية الجديدة وهو أمر غير مستبعد على أي حال، فضلًا عن وجود مجموعات مسلحة أجنبية متحالفة مع هيئة تحرير الشام وهذه المجموعات تتبنى أيديولوجيا متشددة وتكفر طوائف من الشعب السوري كالعلويين والشيعة ولذا فإن مخاوف وقوع اقتتالات جانبية تظل قائمة وينبغي أن يُبذل جهد كاف للحيلولة دون وقوعها.
ويجب أن يتم ضبط فوضى السلاح المنتشر في عموم سوريا حتى لا تواجه البلاد مزيدًا من الفوضى والانقسامات، كما ينبغي حسم الخيارات الخاصة بإعادة تسليح وتدريب الجيش السوري والدول التي سيتم الاعتماد عليها في هذا الأمر، وهذا تحد سيستغرق وقتًا ويتطلب موارد هائلة بالنظر إلى أن الجيش السوري الجديد تنقصه الاحترافية والمعدات فأسلحة الطيران، والدفاع الجوي، والقوات البحرية، كلها دُمرت بفعل حملة القصف الإسرائيلي المركزة ضد مقرات الجيش السوري في الأيام التالية لرحيل بشار الأسد.
وبالفعل، أبرمت الإدارة السورية الجديدة اتفاقية مع تركيا من أجل تدريب الجيش السوري الجديد، لكن مهمة إعادة بناء وتأهيل الجيش السوري أكبر من أن تضطلع بها دولة واحدة، وسيشكل الدعم الدولي والعربي دورًا محوريًا في هذا الصدد، كما سيكون هذا الدعم ضروريًا من أجل مواصلة عمليات مكافحة الإرهاب ومنع إعادة انبعاث تنظيم داعش أو إعادة تشكيل فرع جديد لتنظيم القاعدة بعد أن حل تنظيم حراس الدين نفسه ومنع تشكيل ميليشيات طائفية أو مناطقية. إلخ.
إعادة الإعمار وبناء الجهاز البيروقراطي
وعطفًا على ما سبق، تجدر الإشارة إلى أهمية إعادة بناء الجهاز البيروقراطي للدولة السورية ويشمل ذلك كل القطاعات المدنية الأخرى (غير العسكرية)، بما في ذلك القطاعات الاقتصادية والخدمية حتى تتمكن الدولة من أداء الوظائف المنوطة بها، لتنطلق إلى التعامل مع ملف ملح وعاجل وهو ملف إعادة الإعمار الذي يتسم بالتعقيد والإلحاح فهو ليس عملية إعادة بناء مجردة لما تهدم من بنى تحتية في عموم البلاد بل عملية إعادة بناء للنسيج الاجتماعي والاقتصادي السوري بالكامل.
وتحتاج عملية إعادة الإعمار إلى مئات مليارات الدولارات، وهذا تحدٍ معقد في ذاته يتكون من أكثر من شق أولها توفر الرغبة الإقليمية والدولية في دعم هذه العملية وتوفير الموارد لها، وثانيها في ضمان تدفق هذه الموارد والأموال لداخل سوريا وهذا لن يتم طالما بقيت العقوبات الحالية على وضعها، وهذه العقوبات لن ترفع طالما بقيت هناك مخاوف للولايات المتحدة والدول الغربية ودول المنطقة بشأن العملية السياسية الجارية.
كما يجب العمل على طمأنة سوريي المهجر واللاجئين، ولا سيما أصحاب الكفاءات والتخصصات الملحة، من أجل العودة الطوعية لبلدهم للمشاركة في عملية إعادة الإعمار، والواقع أن الآلاف من السوريين اكتسبوا خلال سنوات التهجير الاضطراري خبرات قيمة في شتى المجالات، طوال سنوات اللجوء والنزوح، ويمكن البناء على هذه الخبرات في المرحلة المقبلة.
السياسة الخارجية
على أن طمأنة القوى الإقليمية والدولية بشأن العملية السياسية الحالية ومستقبل الدولة السورية سيظل مرتبطًا بالسياسة الخارجية التي تنتهجها الإدارة الجديدة ويجب أن تكون تلك السياسة فاعلة ونشطة حتى تتمكن من تحقيق اختراقات في الملفات المعقدة واستعادة المكانة الإقليمية والدولية لسوريا بعد سنوات من القطيعة.
وحتى الآن، حظيت الإدارة السورية الجديدة بدعم إقليمي لافت في ظل رغبة الفواعل الإقليميين في الحفاظ على كينونة الدولة السورية وعدم السماح بعودة عقارب الساعة للوراء حيث النفوذ الإيراني المتغلغل في سوريا بما حمله من زعزعة للأمن الإقليمي وتحدٍ لدول المنطقة. وبدورها أبدت دول الخليج العربي تفاعلًا سريعًا وإيجابيًا في الانفتاح على نظام الحكم الجديد وبناء الثقة معه في سياق السعي لاستعادة الجمهورية العربية السورية والانعتاق من إرث الهيمنة الإيرانية، ولعل حرص الرئيس السوري المؤقت على زيارة المملكة العربية السعودية في أول زياراته الخارجية، واستقباله لأمير دولة قطر الذي قام بأول زيارة لرئيس عربي لسوريا، أواخر يناير الماضي، تعكس بوصلة السياسة الخارجية السورية وقناعة النخبة الحاكمة في دمشق أن الدعم العربي والخليجي أحد ضمانات الانتقال لسوريا المستقبل، وهذا الدعم مرتبط بكل تأكيد بالرغبة في الانتقال إلى حكم ودولة مستقرة والتغلب على التحديات التي تواجه البلاد في المرحلة الحالية.
خاتمة
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن صياغة مستقبل سوريا يرتبط بشكل وثيق بصراع بين شخصيتين هما في الواقع جزء من فرد واحد وهو الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع الذي كان من ذي قبل "أبو محمد الجولاني"، فالصراع بين هاتين الشخصيتين لن يصوغ فقط طبيعة الرئيس السوري الجديد بل سيصوغ معها الواقع والمستقبل السوري، فإذا قرر الانحياز للجانب المعتدل فسيكون ذلك انحيازًا لسياسات وآليات الدولة الوطنية بما تتضمنه من تغليب المصلحة العليا للدولة على الولاءات الأولية والعمل على إعادة بنائها ومعالجة التحديات الملحة التي تواجهها في الملفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية وغيرها، أما إذا انحاز للجانب المتشدد أو لنسخته الماضوية كما يمكن أن نطلق عليها فسيعني ذلك نكوصًا وعودة لوضع سابق ملبد بالغيوم والعزلة الإقليمية والدولية ومليء بالألغام المزروعة في الطريق.
ولعل استقراء التاريخ والمعرفة والتجربة السابقة في التعامل مع الحالة السورية ومع أحمد الشرع يضيء شعلة المعرفة بالمستقبل، وفي ضوء هذه الخبرة يمكن القول إن الرئيس السوري المؤقت سينحاز للخيارات الأضمن بعد أن أيقن أن التشدد وانتهاج أيديولوجية راديكالية لن يؤدي إلا إلى الموت والدمار، لكن هذا الانحياز سيتطلب عملًا دؤوبًا من أجل منع الانزلاق إلى فوضى التشدد والاستبداد في سوريا وتجنب سيناريوهات قاتمة لا تزال محتملة في ظل التوترات الحالية في سوريا والإقليم ككل