حتى الآن ، يدير الرئيس السوري أحمد الشرع المرحلة الانتقالية في سوريا الجديدة بنجاحات سياسية وأمنية تتماهى مع انتصار زعامته لهيئة تحرير الشام وإسقاطها نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر الماضي، وهذا لا يعني أنه سيمضي قدمًا دون تحديات، بل أمامه مجموعة تحديات كبرى داخلية وخارجية تبقي مخاطر تقسيم سوريا وعودة العنف مجددًا قائمة، فهناك قوى داخلية وخارجية وتنظيمات إرهابية وعلى رأسها داعش لم تظهر فوق السطح ،ربما أنها في مرحلة الترقب ودراسة الوضع، لكن نجاح الشرع في الانتصار مؤخرًا على مسلحين موالين للحكم السابق بشار الأسد في محافظة اللاذقية سيجعلها تعيد حساباتها التكتيكية، وحتى الإنجازات التي حققها الرئيس الشرع مؤخرًا أبرزها إقرار الإعلان الدستوري للمرحلة الانتقالية التي مدتها خمس سنوات، والاتفاق على دمج قوات سوريا الديموقراطية / قسد / في مؤسسات الدولة السورية الجديدة تكتنفها التحديات عند التطبيق، لذلك يحتاج لدعم إقليمي ودولي لتمكينه من الاستمرارية في النجاح، ونخص بالذكر دول مجلس التعاون الخليجي لأهمية سوريا الجيواستراتيجية والأمنية لها .
وعلى دول المنظومة الخليجية أن تخرج برؤية مشتركة عن مستقبل سوريا الجديدة وعلاقتها الاستراتيجية معها، ومن ثم تحدد خطواتها اللاحقة ، وهنا يستوجب أن نستشرف مستقبل سوريا الجديدة من مراحل بروز ظاهرة هيئة تحرير الشام بزعامة أبو محمد الجولاني وحتى إسقاط نظام بشار، والكشف عن الاسم الحقيقي للجولاني وهو أحمد الشرع وتعينه رئيسًا لسوريا حتى عام 2031م، وبصلاحيات تمركز السلطة التنفيذية في يده، وهذه الهندسة الدستورية ستمكنه من تنفيذ برنامجه السياسي والاقتصادي بصورة مطلقة، والتعمق في هذا الاستشراف سيوضح لنا علاقة تركيا بهيئة تحرير الشام وزعيمها الجولاني / الرئيس السوري حاليًا ، وأيضًا سر انتصارات هيئة تحرير الشام، ودلالات المتغير الأيديولوجي الدراماتيكي للجواني / الشرع ، وتأثيره على فكره السياسي كرئيس لسوريا الجديدة ، والتحديات الأمنية والأيديولوجية والاقتصادية التي ستواجهه، وهى مداخل لدور خليجي استراتيجي في سوريا الجديدة .
سنحلل القضايا المطروحة في هذه المقدمة في المحاور التالية:
- أسباب سقوط نظام بشار الأسد. الدروس العابرة للحدود.
- تركيا وصناعة انتصار الثامن من ديسمبر.
- هوية سوريا الجديدة. بعد إقرار الإعلان الدستوري.
- الدور الخليجي في حقبة تأسيس سوريا الجديدة.
أولاً: أسباب سقوط نظام الأسد ــ الدروس العابرة للحدود
يشكل الانهيار السريع والمفاجئ للجيش السوري لنظام بشار الأسد أمام قوات المعارضة مفاجأة كبرى، فهذا الجيش الذي تم بناؤه من عقود ، انهار في "11 " يومًا فقط وبسهولة، وتعمقنا في أسباب الانهيار يجعلنا تتصدر اهتماماتنا التحليلية لدروسها الكثيرة التي ينبغي لدول المنطقة الاستفادة منها لدخولها في ظروف معقدة جدًا نتيجة خياراتها الجديدة، كتغير عقيدتها العسكرية لاعتبارات جيواستراتيجية وتحولات مالية واقتصادية مؤلمة على مجتمعاتها وسن قوانين سحب الجنسية وقضايا الباحثين والمسرحين وزيادة المعارضين في الخارج، ومن هذه الدواعي نفتح ملف السقوط باختصار ، لربما تكون ملهمة لاستدراك بعض المسارات، وإبرازها
- اعتماد الجيش السوري على قوات حليفة أجنبية لتسيير شؤونه وعملياته العسكرية القتالية، وعندما واجهت هذه القوات الدخيلة تحديات وجودية في بلدانها تركت سوريا تواجه مشاكلها الداخلية والإقليمية المصيرية، كمغادرة المستشارين الإيرانيين سوريا بسبب ما أصاب طهران من انتكاسات جيوستراتيجية، ورحيل عناصر حزب الله اللبناني بعد خسائر بنيوية من جراء عمليات استهداف إسرائيلية في عمقه الرأسي والأفقي، وتراجع الدعم الروسي الجوي مع انتصاراته النوعية والكمية في أوكرانيا.
- تغلغل الإحباط وضعف السيكولوجيات في صفوف الضباط والجنود بسبب المعاملة التمييزية مقارنة بنظرائهم الأجانب، وبسبب أجورهم المنخفضة مما أدى إلى امتناع وهروب القوات من ثكناتهم العسكرية.
- بيروقراطية عسكرية فاشلة، وقيادات عاجزة، وأوامر لا تصل إلى المأمورين، كما لم يكن هناك تواصل بين الخطوط الأمامية ومستودعات التخزين، مما جعل الجيش السوري عاجزًا عن مواجهة الحرب الخاطفة التي تشنها قوات هيئة تحرير الشام، مثلًا: سقوط حلب على أيدي 250 مقاتل من هيئة تحرير الشام.
- الخصخصة الوحشية والنهب على نطاق واسع وتقوية الميليشيات على حساب الجيش، وجعل الاقتصاد قائمًا على الاتجار بالمخدرات.
- توحيد صفوف المعارضة وإعادة تسليح بعضها من قبل تركيا.
ثانيًا: تركيا وصناعة انتصار الثامن من ديسمبر
لا يمكن أن نقف على مستقبل علاقة تركيا مع سوريا الجديدة إلا إذا عرفنا دور أنقرة في انتصارات هيئة تحرير الشام واستلام زعيمها " الجهادي السلفي "الحكم في سوريا في الثامن عشر من ديسمبر الماضي ، وبحثنا العميق في هذه الجزئية يذهب بنا إلى دور تركي " فكري لوجستي " في صناعة الثامن من ديسمبر في سوريا ، ويمكن القول هنا إن أي باحث في الأهميتين الجيوسياسي والجيواستراتيجي لسوريا ، وما عانته أنقرة من إرهاب الجماعات الإرهابية والمسلحة وعلى رأسها حزب العمال الكردستاني وداعش سيرى أن التدخل التركي في أحداث سوريا الجديدة والمستقبلية من البديهيات المتوقعة أصلًا ، وقد اشتغل عليه أردوغان بخطة ممنهجة وبكل هدوء .
حيث تمثل سوريا لتركيا معبرها السياسي والاقتصادي إلى العراق والجزيرة العربية واليمن، وهي منطقة المصالح الكبرى لأنقرة، كما ترتبط الدولتان بحدود مشتركة تصل إلى 900 كيلومتر، وهذه منطقة أمنية حساسة لأنقرة، وقد تحولت إبان الفوضى في سوريا خاصة بعد بروز حزب العمال الكردستاني ودعم الأسد الأب والابن له إلى تهديد للأمن القومي التركي وإلى إرهاق أنقرة باللاجئين واستنزافها المالي، وزاد مخاوفها طموحات الأكراد في إقامة دولة أو على الأقل حكم ذاتي بتأييد من واشنطن.
لذلك خرجت تركيا عن صندوق تفكيرها الاعتيادي، وراهنت على هيئة تحرير الشام بزعامة أبو محمد الجولاني ، وقد جعلت أنقرة من حكم الجولاني لإدلب أربع سنوات فترة اختبار سياسية لما بعد إدلب ، وقد لعبها الجولاني / الشرع بصورة مثالية من خلال تشكيل حكومة إنقاذ عام 2017م، عملت تدريجيًا على الإطاحة بالهيئات المحلية، ومعها بدأت ملامح زعامة الجولاني الوطنية ، أي منذ 2017 م، وذلك من خلال تواصله مع المواطنين واسترضاءاته للطوائف المحلية المسيحية والشيعية، ورفضه القتال ضد الأكراد في معاقلهم الحلبية بالشيخ مقصود والأشرفية، ومنعه عمليات النهب والسلب على نطاق واسع، وقدمت إدلب في عهد الجولاني تجربة نموذجية من العيش المشترك لكل مكونات التعدد الأيديولوجي .
وهذا يعني أن فترة الأربع سنوات كانت مرحلة مراجعة للأيديولوجية الجهادية / السلفية لهيئة تحرير الشام وزعامة الجولاني، وتقديم صورة جذرية عن الصورة التي وصفت بها الهيئة ورئيسها بالإرهاب والعنف ، ففيها – أي فترة الأربع سنوات - نأت الهيئة بنفسها عن الأيديولوجية الجهادية والتطرف، والتصالح مع المختلفين معها، وهذه رسالة ليست لتركيا فحسب، بل لكل الفاعلين الإقليميين والدوليين كالخليج وإسرائيل وواشنطن ودول الاتحاد الأوروبي، فمن إدلب حصلت هيئة تحرير الشام وزعيمها بمحمد الجولاني على شهادة شرعيتها السياسية لسوريا الجديدة، ولما وصلت الهيئة إلى دمشق نسخت تجربتها في إدلب بصورة أوسع ومثالية جدًا ، وكأن مشروع إدارة سوريا الجديدة جاهزًا بكل تفاصيله، بدليل الخطوات المتخذة منذ الثامن من ديسمبر وحتى آخر ثلاثة أحداث كبيرة هي، القضاء على المسلحين الموالين للنظام السابق في اللاذقية، والاتفاق على دمج قوات / قسد / في المؤسسات المدنية والعسكرية للدولة السورية الجديدة، وإقرار الإعلان الدستوري في أجله الزمني المحدد ، وتنصيب الشرع رئيسًا بأفق زمني متوسط ومفتوح .
وفي إدلب تعاطت الحكومة التركية بواقعية سياسية منفتحة على المستقبل مع هيئة تحرير الشام، وذلك بتعاونها الوثيق معها، وقد سعى أبو محمد الجولاني إلى أن تصبح إدلب منطقة عازلة تحت الحماية التركية مع إمكانية ازدهارها، وكان يعتبرها " إمارته الإسلامية " نموذجًا جاذبًا لكل الجغرافيا والديموغرافيا السورية ، وربما كان هذا خافيًا على بعض دول المنطقة، وتقع إدلب على البوابة الشمالية لسوريا التي تطل منها على تركيا وأوروبا، وتحتل المرتبة الثامنة من حيث المساحة قد تصل إلى 6،097كم ، والمرتبة الخامسة من حيث عدد السكان البالغ أكثر من مليوني نسمة .
وقد كانت هذه الفترة الزمنية كافية لتركيا لتأسيس علاقة مستقبلية مع حكام سوريا الجدد ، لذلك لا نستغرب من سماحها – أي تركيا - للجيش الوطني السوري المدعوم منها في المشاركة إلى جانب هيئة تحرير الشام في قيادة الهجوم الواسع الذي شنته قوات المعارضة للإطاحة بنظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر 2024 م، وهو يعكس خلفية العلاقة بين أنقرة والجولاني، ليس لإسقاط النظام فحسب ، وإنما لمرحلة ما بعد السقوط، وعلى وجه الخصوص حول مستقبل سوريا بعد الأسد، ومستقيل الأكراد فيها، ومن وجهة نظر تركيا فإن الميليشيات الكردية المعروفة باسم قوات سوريا الديموقراطية وكذلك المجموعة المعروفة باسم وحدات حماية الشعب، وهى كلها امتدادات جماعية وتنظيمية لحزب العمال الكردستاني هي جماعات إرهابية، ولا تتفق واشنطن مع هذا الرأي، وتستخدمهم لتحقيق أهدافها، وهى إحدى الخلافات السياسية والأمنية بين أنقرة وواشنطن.
والجيش الوطني السوري والذي يعرف كذلك بالجيش السوري الحر هو قوة عسكرية أعادت تركيا تنظيم بعضها منذ 30 مايو 2017 م، ومكونة من الثوار العرب السوريين وتركمان سوريا في شمال سوريا، يتمثل الهدف العام للقوة في مساعدة تركيا في إنشاء منطقة آمنة في سوريا، وهم معارضون لقوات سوريا الديموقراطية " قسد " التي تدعمها واشنطن، ولتنظيم داعش والجيش العربي السوري التابع لنظام بشار الأسد المنحل ، وتتهم تركيا قوات سوريا الديموقراطية / قسد / بأنها امتداد لحزب العمال الكردستاني المحظور لديها ، وهو ما تنفيه قسد باستمرار .
ثالثًا: هوية سوريا الجديدة بعد إقرار الإعلان الدستوري
المتأمل في التحولات الأيديولوجية لأبو محمد الجولاني / احمد الشرع بدءًا من تلبسه الاسم المستعار الأول ، ومن ثم الكشف عن أسمه الحقيقي الثاني ، و مسيرته / الجهادية / وكذلك تخليه عن ارتباطه بالجهاد العالمي، وقطع علاقته مع منظريه أمثال أبو محمد المقدسي، وكذلك علاقته التنظيمية مع القاعدة، حتى وصوله أخيرًا إلى رئاسة الجمهورية العربية السورية، سيخرج أننا أمام شخصية برغماتية وراديكالية ذات طموحات سياسية ورئاسية مستدامة، وقد مكنه الإعلان الدستوري من تحويل شرعيته الثورية إلى الشرعية الدستورية، والمتابع لأفكاره سيلاحظ أنها كانت متأرجحة بين المتشدد إلى المتسامح ومن ثم العودة للتشدد ومن ثم العكس حتى أصبح الآن له رؤية أيديولوجية واضحة للدولة السورية والإسلامي السياسي.
ولو نجح فيه، وقدم من خلاله نموذجًا حضاريًا جديدًا، استطاع به تحقيق التنمية للسوريين والوحدة الوطنية رغم التعدد والتنوع الديني والعرقي، فإنه سيكون نموذجًا عابرًا لحدود سوريا إلى دول المنطقة مثلما سيكون نجاح هيئة تحرير الشام ملهمة للجماعات الإسلامية الأيديولوجية السلمية والمتطرفة التي تراقب بانبهار نجاح وصول الجماعات الأيديولوجية المسلحة ليس في سوريا فحسب ، وإنما كذلك في أفغانستان واليمن وحركة حماس التي أجبرت المحتلين الإسرائيليين على وقف إطلاق النار بعد حرب شرسة معهم، وتفاوض إدارة ترامب معها الآن ، ومن بين كبرى المعضلات التي تواجه الشرع هوية الدولة السورية الجديدة في ظل خلافات داخلية كبيرة بين القوى السياسية التي يرى بعضها دولة دينية وأخرى علمانية ، وقد اعتمد الإعلان الدستوري للمرحلة الانتقالية معيار دين الرئيس وهو الإسلام ، وكان الرئيس الشرع قد شكل هذه اللجنة من سبعة كبار فقهاء القانون الدستور .
وقد تلقت اللجنة أفكار مكتوبة مسبقة منه للاسترشاد بها ، أي أنه لم يترك للجنة الحرية كاملة لصياغة مسودة الإعلان الدستوري ، وهذه مسالة هامة ، لأنها تؤكد على ما ذهبنا إليه من مركزية الشرع في سوريا الجديدة في محاولة منا لتتبع مسارات التحولات الأيديولوجية والسياسية للشرع من الحقبة الجهادية إلى رئيس سوريا خلال الفترة الانتقالية ثم ما بعدها ، وبتقديمه أفكار سياسية للجنة الصياغة ينصب الشرع نفسه كمرجعية دستورية عليا إلى جانب كونه رئيسًا لسوريا ، وبعد الانتهاء من عملها سلمت المسودة للشرع نفسه التي اعتمدها فورًا .
ولا نتوقع هوية الدولة السورية الجديدة إسلامية خالصة وراديكالية، وإنما دولة مدنية بقيم وأخلاق إسلامية توازن بين الهوية الوطنية والقيم الدينية وأساسيات الدولة العصرية، نتوقعها إذا ما تمكن الشرع من تجاوز التحديات الأمنية والسياسية والتنموية أن تخترق الصيغ التقليدية للإسلام السياسي عبر تحقيق العدالة والمساواة واحترام التعدد والتنوع وتعزيزه.
رابعًا: الدور الخليجي في حقبة تأسيس سوريا الجديدة
إن أي موقف خليجي تجاه الرئيس الشرع وإدارته الانتقالية لابد أن يكون وراءه وعيًا بدور سوريا في التحولات الجيواستراتيجية الجديدة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط بعد انحسار دور إيران الإقليمي واحتمالية انفتاحها على حقبة إقليمية ودولية جديدة وبالذات مع واشنطن/ ترامب، وما سينجم عن التفاهمات الاستراتيجية بين أمريكا / ترامب وروسيا / بوتين، والطموحات التركية الإقليمية الجديدة، وهنا لا ينبغي أن يشكل وصول جماعة أيديولوجية مسلحة لحكم سوريا هاجسًا خليجيًا ،أو يجعلها تختلف على الملف السوري، فهذا الهاجس قد أصبح محكومًا الآن بالخطوات الخليجية ، أما الهاجس الاستراتيجي العاجل يدور حول عدم ترك تركيا تستفرد بصناعة سوريا الجديدة وفق الخلفيات التي أوضحناها سابقًا، كما لا يمكن لأنقرة لوحدها إقليميا أن تساعد الرئيس الشرع على بسط شرعيته على كامل سوريا رغم نجاحها في دعمه عسكريًا وأمنيًا، فتحقيق الوحدة الترابية والديموغرافية لن تكون عن طريق القوة العسكرية والقبضة الأمنية فحسب، وإنما كذلك عن طريق الاقتصاد والتنمية والمساعدات الإنسانية.
وهنا لا يمكن التقليل من الثقل التركي وتأثيره على صناعة مستقبل سوريا خاصة اذا ما نجحت في حل ملف أكراد تركيا بعد إطلاق عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني المعتقل في سجونها مبادرته حل الحزب وإلقاء السلاح، وتجاوب الحزب والقوى الكردية الأخرى معه ، وترحيب أمريكي وأوروبي به، وهذا له تفسيران : أما أن هناك صفقة للحكم الذاتي للأكراد في إطار الدولة التركية، أو قراءة استشرافية من الأكراد للمآلات المقبلة في سوريا في ظل الدعم التركي العسكري والأمني المفتوح للشرع، وكذلك حقبة ترامب التي يسعى عدم الزج بقوات بلاده في حروب نيابة عن الغير، فهناك قراءة راديكالية من الدولة التركية ومعارضيها المسلحين لاستيعاب التغييرات الدراماتيكية في المنطقة ، وهذا سيبرز تركيا كجبهة داخلية قوية ومتماسكة، مما سيقلل من فاتورة استنزافها المالي وتفرغها للملف السوري ، وأنقرة الدوجان جادًا في الذهاب بدعمه العسكري والأمني لصالح الشرع بعيدًا .
والرهانات الآن على دول منظومة التعاون الخليجي، فيستوجب عليها القيام بمبادرات راديكالية حتى تحدث وزنًا ثقيلًا في المسار السوري الجديد لا يقل تأثيرًا أو على الأقل متماهيا مع الدور التركي في ثنائية متقابلة ومؤثرة ، تركيا واستفرادها بالدعم العسكري، والخليج السبق في الدعم الاقتصادي والتنموي والإنساني لترسيخ أقدام الدولة السورية الجديدة، فعن طريق الدور الخليجي الاقتصادي والتنموي والإنساني سيكون له تأثير في إنجاح التحولات الداخلية مثل اتفاق الشرع ومظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديموقراطية / قسد / المدعومة من واشنطن بدمج كافة المؤسسات المدنية والعسكرية التابعة للإدارة الذاتية الكردية في إطار الدولة السورية الجديدة ، ذلك أن نجاح الرئيس الشرع في الأبعاد الاجتماعية تعد هي المداخل الأساسية لقبول شرعيته الديموغرافية، ونجاح مساره السياسي الجديد، فثمار التغيير ينبغي أن يشعر بها السوريون سريعًا وتنتشلهم من الفقر والبطالة سريعًا ، وهى كبرى ضمانات نجاح سوريا الجديدة ، فالسوريون قد تعبوا وارهقوا من الحروب والقتل، فأي يد تنموية وإنسانية ممددة لهم سيتمسكون بها كحالة الغريق.
وحتى بقية التحديات الأمنية، كتحدي علوية الساحل الذين يشكلون 9% من سكان سوريا ذات الأغلبية السنية، يمكن استيعابهم ضمن منظومة التنمية والاقتصاد وليس القوة العسكرية إذا ما أرادت الدولة السورية بناء ذاتها مستقبلًا دون ثارات أو خصومات مستقبلية ، فمعظم العلويين من المزارعين الفقراء ، ما عدا الذين قربهم الرئيس الراحل حافظ الأسد والده منذ عام 1970م ، فانحيازهم للمستقبل التنموي والاقتصادي سيكون خيارًا دون تردد، فلن يتمسكوا بالفقر والتخلف بديلًا عن التنمية والتقدم ، وكذلك الحال للأكراد والدروز والمسيحيين ، وهذا يعني أن التنمية والتقدم البديلين للفقر والتخلف ينبغي أن تكون رهانات الرئيس الشرع لوحدة الديموغرافيا السورية في إطار دولة المستقبل ، ونراهن كثيرًا على التنمية لفصل الديموغرافيا عن التنظيمات المسلحة حيث ستكون خالية من قاعدتها الاجتماعية ، مما سيكون خيار الاندماج في الدولة السورية الجديدة خيار المصير الاستراتيجي .
وهنا ندعوا إلى عقد قمة خليجية عاجلة لرسم استراتيجية خليجية جماعية تؤسس من خلالها دورها الاستراتيجي في سوريا الجديدة من جهة ، وتمكن الرئيس الشرع من بسط سلطة سوريا الجديدة على كامل الديموغرافيا السورية وليس فقط الجغرافيا التي تشكل الشغل الشاغل لتركيا، ودون الديموغرافيا لا يمكن للقوة العسكرية أن تنجح في تحقيق الوحدة الجغرافية، ومن المعلوم تعقيدات الديموغرافيا السورية لذلك، فالقمة المقترحة مهمتها الأساسية والعاجلة مساعدة الشرع والإدارة الانتقالية أولًا على تأمين الاحتياجات الأساسية للسوريين القابع منهم 90 % في الفقر والبطالة حتى تدرك هذه الديموغرافيا قيمة وجدية التغيير الجديد في سوريا .
ثانيًا: تشكيل صندوق استثماري خليجي للاستثمار في قطاعات الطاقة والصناعة والبنية التحتية في سوريا، فهذا البلد يمتلك ثروات ضخمة من النفط والغاز والفوسفات ومقومات سياحية وزراعية هائلة، كالقمح والقطن والزيوت والمواشي. وممكن أن تتحول إلى سلة غذاء الخليج، وهناك تقارير عالمية تتحدث عن إمكانيات نفطية وغازية هائلة.
ثالثًا: قيادة دول مجلس التعاون الخليجي مبادرة سياسية لدعم الرئيس الشرع إقليميًا ودوليًا بما فيهم إيران والعراق والرئيس الأمريكي دونالد ترامب ودول الاتحاد الأوروبي ، وبهذا سيكون للخليج تأثير إيجابي على مستقبل سوريا السياسي والاقتصادي والأيديولوجي ، وسيصنع الخليج التوازن مع الدور التركي في سوريا ، والطريق الخليجي لسوريا الجديدة من خلال تلكم المسارات مفتوحة الآن ـ فكل الدول الخليجية قد باركت التحولات الجديدة في سوريا ، وأرسلت وفودها المختلفة لدمشق لاكتشافات فرص التعاون والدعم ، كما يبدي الرئيس الشرع ووزير خارجيته أسعد الشيباني عواطف استثنائية للرياض ليس بحكم كونها مكان ولادتهما وإنما لإعجابهما للحالة التنموية المتقدمة في الخليج ، وإعرابهما عن تطلعاتهما بنسخها في سوريا الجديدة .
ولن نبالغ اذا ما قلنا أن الملفات الاقتصادية والتنموية والإنسانية للدولة السورية الجديدة ينبغي أن تتحقق في موازاة مع الملف الأمني أحيانًا، وفي حالات قبلها، وذلك حتى يشعر المواطن السوري بالجديد في حياته ، فقينا / نكرر/ أنه لن يختار الفقر والتخلف والقتل بديلًا عن التنمية الشاملة والدولة العادلة التي يشاهدها تتحقق في مناطق اختار أهلها المستقبل على الماضي، وهذه الثنائية المتلازمة / الأمن والتنمية / هي كبرى رهانات نجاح الدولة السورية الجديدة التي لا يزال أمامها تحديات وجودية كبرى رغم مسيرة نجاحها حتى الآن، فقضية الأمن قد تشتعل في أي لحظة كما حدث يوم السابع من مارس من قبل المواليين للنظام السابق والمخاوف ومن التنظيمات الإرهابية الأخرى كالقاعدة وداعش ، وشياطين الانس والجن لن يتركوا بسهولة تطبيق اتفاق دمج قوات قسد في مؤسسات الدولة السورية المدنية والعسكرية .
وكل ما يمكن قوله بعد الإعلان الدستوري أن الصراعات لم تنته في سوريا، بل بدأت مرحلة جديدة من التنافس على السلطة، فهناك خياران: إما التوجه نحو توافق سياسي يعيد بناء الدولة، أو الغرق في صراعات جديدة تعيد رسم خريطة النفوذ المحلية والأجنبية، وهنا لابد من المنظومة الخليجية أن يكون لها دور راديكالي وجماعي في سوريا لأهميتها الخليجية الجيوستراتيجية والأمنية والاقتصادية، وقد فصلناه فيما تقدم.