منذ السابع من ديسمبر/ كانون الأول الماضي والمشهد السوري يحتل مساحة هامة من الأخبار المحلية والإقليمية وصولاً إلى الدولية، فقد شكَّل السقوط السريع لنظام الأسد مفاجأة حتى للكتائب الزاحفة باتجاه دمشق، وما تزال أحداث الساعات الأخيرة من عمر النظام يكتنفها الغموض. ومع تدحرج الأحداث وتسارعها في سوريا والجوار، صار من الصعب الإمساك بما يجري من أحداث وتحليلها، بسبب تواترها وغزارتها وتنوع مساراتها فصار أفصح ما يعبر عن واقع الحال، المقولة الشعبية السورية "الله وحده بيعرف شو عم يصير".
إذاً، سقط نظام البعث بعد أن حكم سوريا قرابة أربعٍ وخمسين عاماً بدأت مع استلامه السلطة إثر سلسلة من الانقلابات عرفتها البلاد، وأياً كانت وجهات النظر والآراء، على كثرتها وتضاربها، فإن ما يعنينا اليوم هو أن نفحص أثر الحدث السوري على البلد وأهله بداية، ثم على دول الجوار وصولاً إلى التوازنات الإقليمية والدولية. إذا كان سقوط الديكتاتورية قد جعل السوريين يتنفسون الصعداء بعد أربعة عشر عاماً من الحرب الأهلية وما رافقها من قتل ومجازر جماعية جرَّت على البلاد عقوبات وحصار اقتصادي، فإن الواقع المعيشي لم يتغير فيما يتعلق بالخدمات الأساسية وخصوصاً الكهرباء، ناهيك عن تدهور سعر صرف الليرة السورية وضعف، حتى لا نقول انعدام، القدرة الشرائية للسوريين الذين صار معظمهم يعيش تحت خط الفقر.
اليوم ومع حالة الانفتاح الحذر التي تشهدها البلاد من قِبل دول الجوار والعالم، تعكف القيادة السورية الجديدة على إعادة الصلات والاتصالات مع القوى الإقليمية والدولية بهدف البدء بعملية انتقال مستدامة في البلاد، ورغم كل إشارات الانفتاح التي تبديها القيادة الجديدة -بحسب وزارة الخارجية السورية استقبل وزير الخارجية أسعد الشيباني 45 وفداً عربياً وأجنبياً حتى بداية آذار\مارس، وزار 6 دول عربية وأجنبية- إلا أن الغرب لايزال يبدي حذراً تجاهها، فعلى الرغم من أن الحكومات الأوروبية سارعت إلى فتح قنوات الاتصال مع الإدارة الجديدة لمواكبتها في العملية الانتقالية الدقيقة والشائكة، وتشجيعها على تشكيل حكومة جامعة لكل المكونات السورية، إلا أن المحاذير الأوروبية تبقى كبيرة، فقد نقلت وكالات الأنباء عن رئيس الديبلوماسية الأمريكية ماركو ريبيو أن أمريكا تراقب ما يحدث في سوريا باهتمام وتسعى لوضع استراتيجيتها الخاصة فيما يتعلق بالوضع في سوريا. في الوقت نفسه أعرب الأوروبيون عن التزامهم بدعم الشعب السوري لإعادة بناء بلاده فتعهد الاتحاد الأوروبي وبريطانيا بتخفيف العقوبات المفروضة على سوريا، وأكدت الحكومة البريطانية أنها ستتخذ في الشهور القادمة إجراءات من أجل تكييف نظام العقوبات على سوريا بما يسمح بتكثيف المساعدات الإنسانية، أما الأوروبيون فقد أعلنوا تعليق العقوبات لعام واحد ريثما يروا أداء الحكومة الجديدة.
في الواقع، وعلى الرغم من سقوط نظام الأسد، لاتزال سوريا بالنسبة للأوروبيين وتحديداً فرنسا، برميلاً من البارود قد ينفجر في أي لحظة، مع كثرة اللاعبين على الأرض السورية بما فيهم المحليين الذين يحاولون الدفع بأعوانهم وتوسيع رقعة مصالحهم، وخصوصاً وقد طفت على السطح النزاعات والصراعات الطائفية، حتى باتت تتصدر المشهد السوري، وبدأت القوى الاستعمارية السابقة تسعى للعودة مجدداً من باب حماية الأقليات هذه المرة.
تركيا والأكراد
الأكراد مجموعة عرقية هندو-أوروبية تتوزع بين سوريا وتركيا والعراق وإيران، ويشكلون قرابة 10% من سكان سوريا غالبيتهم مسلمون سنَّة باستثناء مجموعات صغيرة جداً تدين بالمسيحية أو اليزيدية. ربما يكون من بين أهداف تركيا إقامة منطقة عازلة في الداخل السوري لإبعاد الأكراد الموجودين في شمال شرقي سوريا. عموماً، يتوزع الأكراد في مناطق مختلفة من سوريا ويتجمعون في دمشق في حي ركن الدين الذي شهد تظاهرات وأعمال عنف في بدايات الثورة السورية، كما يتجمعون في أحياء معينة من حلب أيضاً، عدا عن توزعهم في بقية المحافظات السورية. في الواقع، تماهت مطالب أكراد الداخل مع مطالب السوريين في العدالة والحرية والمساواة، أما أكراد المناطق الحدودية فمطالبهم معروفة. تاريخياً، أجري إحصاء عام 1962 م، لمعرفة عدد مكتومي القيد من الأكراد في محافظة الحسكة بهدف تجنيسهم، ولا بد من القول هنا أن هذا الإحصاء الذي جرى في يومٍ واحد ظلمهم بدل أن ينصفهم، وفي عام 2011 م، ومع بداية الاضطرابات في سوريا صدر المرسوم رقم 49 لعام 2011 م، لتجنيس الأكراد ومكتومي القيد، إلا أنه لم تُعرف الجهة المكلفة بالقيام بذلك! وبالتالي لم تستفد من المرسوم إلا قلة قليلة محظوظة.
وبالعودة إلى تركيا التي صارت لاعباً أساسياً ومهماً في المشهد السوري، خصوصاً بعد انهيار ما يسمى "محور المقاومة" وخروج إيران وروسيا، ناهيك عن الضعف الذي أصاب حزب الله نتيجة سلسلة الاغتيالات التي قامت بها إسرائيل لقياداته. يذكر تقرير صادر عن معهد واشنطن لسياسات الشرق الأوسط أن "جهاز الاستخبارات الوطنية التركي انخرط في الحرب الأهلية السورية منذ قرابة عقد" وأن أنقرة أدركت في صيف 2024م، أن الأسد غير راغب في قبول شروطها لإنهاء الحرب والتي اشتملت على إعادة قرابة 4 ملايين لاجئ سوري موجودين في تركيا، فشرعت بالعمل على "دعم هجوم هيئة تحرير الشام إما لإجبار النظام على العودة إلى طاولة المفاوضات من موقف ضعف أو للإطاحة بالأسد بشكل نهائي." هكذا، ومنذ سقوط الأسد كانت تركيا أكثر الدول انخراطاً في الشأن السوري، خصوصاً أن انزلاق سوريا إلى الفوضى سيعني عودة حالة اللاستقرار وبالتالي موجات لجوء جديدة، فلم يكتف المسؤولون الأتراك بزيارة دمشق، كما فعلت معظم البعثات، بل زاروا عدة مدن ومحافظات سورية. هذه العلاقة الناشئة بين دمشق وأنقرة ستمنح الحكومة الجديدة قوة ونفوذاً ولكن دمشق ستستمع بالمقابل إلى نصائح أنقرة المرفقة بحوافز مثل الإمداد بالكهرباء والضغط لرفع العقوبات.
الجار الأردني
لاريب أن ارتدادات الزلزال السوري طالت أول ما طالت الجار الأقرب، الأردن، وهو الأكثر تأثراً بما شهدته الجارة الشمالية إذ يستضيف نحو 1.3 مليون سوري يحمل نصفهم سمة "لاجئ". في الواقع انعكس سقوط نظام الأسد إيجاباً على العلاقات الأردنية السورية التي اتسمت قبلاً بالتوتر جراء عمليات تهريب المخدرات من سوريا باتجاه الأردن، فقد ضعف نفوذ وقوة تجار المخدرات، كما بدأت المملكة تشهد عودة اللاجئين إلى وطنهم مما سيخفف الضغط على البنى التحتية الأردنية التي لم تصمم لاستيعاب الأعداد الكبيرة من اللاجئين خصوصاً أن الأردن شهد تدفق عدة موجات من اللجوء العراقي فالليبي والسوري، بالإضافة إلى مشروع تهجير سكان غزة الذي يريد ترامب فرضه على دول الجوار الفلسطيني. إذاً أعطى التغيير في سوريا فرصة لتعزيز العلاقات السياسية وإنعاش الاقتصاد لما فيه مصلحة البلدين، خصوصاً مع البدء بإجراءات تأمين الحدود وفق بروتوكولات جرت وتجري صياغتها لهذا الهدف، وقد رأينا أول الغيث بتزويد الجانب الأردني الجانب السوري من الحدود بالكهرباء مما أدى إلى تمديد ساعات عمل المعبر حتى العاشرة ليلاً بعد أن كانت إلى السادسة مساء. إذاً، حققت عملية التغيير في سوريا مصالح وأهدافاً مشتركة للطرفين، ومن نافلة القول إن النظام السابق شكَّل على مدى 54 عاماً إشكالية أمنية للأردن، ومن المتوقع أن ينظر الأردن إلى هذا التغيير بوصفه فرصة تاريخية لاستعادة دوره الاقتصادي والسياسي ونشر الأمن على حدوده الشمالية. إن استعادة التبادل التجاري وتوسيعه بين البلدين إلى درجة التكامل والإعفاءات الجمركية والضريبية المشتركة سوف ينعش التجارة والصناعة في البلدين، كما سيفتح بوابة سوريا لتكون معبراً للتجارة التركية إلى الأردن وإلى دول الخليج عبر الأردن كمعبر للترانزيت الأمر الذي سيكون له وقعه الإيجابي على التنمية الاقتصادية والتجارة والصناعة في الأردن كما في سوريا، ويشيع حالة من الاستقرار والأمن على جانبي الحدود، وفي حال هكذا نجاح قد نرى مزيداً من الاتفاقيات التي قد تفتح الباب أمام "اتحاد الهلال الخصيب"، وبالتالي سيتمتع الأردن بمنطقة للتجارة الحرة والتكامل الاقتصادي.
إسرائيل والواقع السوري الجديد
صبيحة سقوط نظام الأسد سارعت إسرائيل إلى انتهاز حالة البلبلة التي سادت، وتفكك الجيش السوري للقيام بعمليات عسكرية فشنَّت قرابة 500 غارة لتدمير القوة الصاروخية ومنشآت الدفاع الجوي، والطيران العسكري السوري، وقامت بإغراق الأسطول السوري، وتدمير كافة مقدرات الجيش، كما احتلت جبل الشيخ والقنيطرة وتوغلت في الأراضي السورية حتى صارت قواتها على بعد 23 كم من دمشق. كان الحدث فرصة لإنهاء اتفاق فك الاشتباك من جانب واحد، واحتلال المنطقة العازلة وجبل الشيخ والقنيطرة، وتسعى إسرائيل حالياً لبسط سيطرتها على السويداء والجنوب السوري عبر استغلال النزاعات ذات الطابع الطائفي للتدخل تحت ذريعة حماية الدروز، علماً أن مبرراتها لقصف مواقع في سوريا ولاسيما الجنوب انتهت عملياً مع انسحاب القوات الإيرانية والميليشيات المسلحة التابعة لها في سوريا مع سقوط النظام.
أي سوريا اليوم؟
بالعودة إلى سوريا اليوم، ومع وصول الميليشيات المسلحة، بخلفيتها الدينية، إلى سدة الحكم فأول سؤال يتبادر إلى الذهن ماذا عن هوية الدولة؟ كيف ستكون من الآن فصاعداً بعد خمسة عقود من حكم البعث العلماني، خصوصاً بعد الإعلان عن تعطيل الدستور بانتظار كتابة دستور جديد؟
في الواقع، ورغم رغبتهم العارمة وتصميمهم على إعادة بناء بلدهم، تشعر غالبية السوريين بالقلق والخشية مما سيحدث لاحقاً، فالناشطون الذين شاركوا في الثورة تعرض بعضهم للاضطهاد من قبل هيئة تحرير الشام، كما أن سنوات الحرب أدت إلى تعزيز النزعات الطائفية والمذهبية وهذا أمر يجب أخذه في الاعتبار في بلد تسكنه غالبية سنيَّة تتوزع بين عرب وكرد، إلى جانب أقليات مسيحية وعلوية وشيعية ودرزية تشعر بالخوف على مستقبلها وحريتها العقائدية، على الرغم من رسائل التطمين والتهدئة التي وجهها الرئيس الشرع في أكثر من مناسبة إلى مختلف الطوائف.
على صعيد المسألة الكردية، من المؤكد أن أنقرة لن تقبل أن يحصل الأكراد على نوع من الحكم الذاتي كما هو الحال في العراق، وفي الواقع فقد خسر الكرد بعض مواقعهم لصالح الفصائل المدعومة من تركيا، رغم إعلان الإدارة الكردية المستقلة يوم 12 ديسمبر/ كانون الأول رفع علم الثورة.
في الواقع، تتسارع وتيرة الأحداث في سوريا الأمر الذي يجعل من الصعب الإحاطة بها في مقال أو بحث خصوصاً على الصعيد الداخلي. ففيما يتعلق برجال النظام السابق أو "الفلول"، أعلن الرئيس الشرع أنه سيصار إلى نشر قائمة بأسماء المسؤولين الذين تورطوا في الدم السوري، كما أشار إلى أن هناك عدة مستويات من المسؤولية وهذا بحد ذاته أمر مبشِّر؛ في الوقت نفسه تتوالى الحملات الأمنية في حمص ومدن الساحل، في حين شهدت السويداء تصعيداً تمثل في الإعلان عن تشكيل مجلس عسكري وامتدت الشرارة لتصل مدينة جرمانا التي تقطنها غالبية درزية. إذاً تواجه الحكومة الانتقالية جملة من التحديات أبرزها توفير إغاثة فورية للسكان عبر إلغاء العقوبات المفروضة على أجهزة الدولة في عهد الأسد؛ وإعادة إحياء هذه المؤسسات واستئناف العمل فيها؛ وتوفير الموارد الضرورية لإعادة الإعمار؛ ودعم الاعتراف الإقليمي بهذه الحكومة عبر إظهار شمولية وتنوع أكبر مما هو موجود حالياً؛ وتلبية المطالب والشروط الدولية بشأن صياغة الدستور؛ وتبني موقف واضح من الإرهاب ومنع الجهاديين من استخدام الأراضي السورية للتخطيط لهجمات إرهابية؛ ومواصلة ملاحقة فلول نظام الأسد والميليشيات الإيرانية المتورطة في تهريب الكبتاغون والأسلحة؛ وإطلاق عملية العدالة الانتقالية؛ وتحقيق التوازن بين شركاء سوريا الدوليين.
ماذا عن الاقتصاد
في عام 2011 بلغ عدد سكان سوريا 22 مليون نسمة، غادر ربعهم إلى دول اللجوء وفيهم نسبة كبيرة من حملة الشهادات، في حين اضطَّر ربع آخر إلى النزوح، داخل البلاد، من البؤر الملتهبة إلى مناطق أكثر أمناً. في الوقت نفسه، هوى إنتاج البترول المحلي فلم يعد يلبي سوى نصف احتياجات البلاد التي تقلصت إلى الحد الأدنى أساساً، وصارت تجارة الكبتاغون مورداً أساسياً للقطع الأجنبي في عهد الأسد. وبحسب البنك الدولي لا تتجاوز حصة الفرد الواحد من الناتج المحلي الداخلي 421 دولار سنوياً، أما الديون المترتبة على البلاد لصالح روسيا وإيران فتبلغ أرقاماً مهولة.
حتى الآن، المساعدات الآتية من البلدان الغنية في أوروبا الغربية، ومن أمريكا الشمالية، وشرقي آسيا والخليج متواضعة ومحصورة بالجانبين الإنساني والتقني. أما الاستثمارات الأجنبية فتتعلق بعوامل الإنتاج وهي اليوم غائبة عن المشهد؛ كما أن اليد العاملة المؤهلة قد هاجرت من البلاد، ولم يستطع النظام التعليمي المتهالك والذي يعاني من نقص الموارد تعويضها. من جانب آخر، تتعلق الاستثمارات أيضاً بتعافي القدرة الشرائية للسوريين وهو أمر لا يبدو في المنظور القريب، وهذه المعوقات ستستنفذ أرصدة النظام الجديد وتعمق الشرخ في قلبه.
الخلاصة:
يشكل سقوط بشار الأسد صفحة هامة في التاريخ السوري، إلا أنه يترك البلد أمام مستقبل غامض؛ وإذا كان هذا الانقلاب الذي قادته هيئة تحرير الشام قد أحيا الأمل بنهضة جديدة للبلاد بعد عقود من القمع والحكم الديكتاتوري إلا أن القلق لايزال هو المسيطر. لقد دمرت الحرب الأهلية التي استمرت ثلاثة عشر عاماً البلاد، وحتى تنهض سوريا من حطامها وتعيد بناء نفسها ستواجه تحديات جمَّة. لقد أضعف سقوط النظام السابق التأثير والنفوذ الإيراني في البلاد وفي المنطقة بأكملها، وأحدث تغييراً في توازنات القوى نتج عنه تغير اللاعبين على الأرض السورية، ولكن استلام هيئة تحرير الشام مقاليد الحكم يثير قلق المراقبين، وخصوصاً الأوروبيين، من أن يؤدي هذا الانتصار إلى تشجيع المجموعات الجهادية عبر العالم، وإلى تقوية الجهاد الدولي، كذلك الحال بالنسبة إلى المسيحيين الذين لطالما لعب النظام السابق دور الحامي لهم وللأقليات، والذين يجدون أنفسهم اليوم وجهاً لوجه مع الفصائل الجهادية السلفية. وليس العلويون بأفضل حالاً فهم يواجهون، جميعاً، الاتهام بالتعاون مع الديكتاتور، ويجري الحديث عن عمليات ثأر وتصفية حسابات مما يزيد من مخاوف الطائفة بأكملها، والتي وصِمت قبلاً بالتعاون مع إيران الشيعية رغم أن العلويين ليسوا من أتباع المذهب الشيعي.
رغم أنه لا يمكن اختزال سوريا بأنها موزاييك تعددي، ولكن الاعتبارات الدينية واللغوية والعائلية والقبلية أحياناً، بالإضافة إلى المصالح المادية والمعنوية حتى، كلها عوامل تحدد الولاءات الشخصية والسياسية هناك.
حتى اليوم، يخاطب المسؤولون الجدد جميع السوريين أياً كانت انتماءاتهم، ويشددون على العدالة لا الانتقام، وعلى المصالحة، واحترام الآخر، وينفون سنَّ قوانين تُعتبرُ إسلامية كفرض الحجاب على النساء، إلا أن السوريين سيحكمون عليهم من خلال أفعالهم لا أقوالهم. إذاً من الأهمية بمكان الانتباه إلى الإجراءات والآليات التي ستعتمدها الهيئة من أجل دمج أو إقصاء المجموعات أو الأشخاص الذين ساندوا النظام السابق أو استفادوا من سياساته؛ والأمر لا يتعلق هنا بالعلويين فقط والذين يتحدر منهم عدد كبير من المعارضين للأسد، وإنما أيضاً بالعسكريين والبعثيين وحتى الموظفين الحكوميين. إن عملية تطهير واسعة النطاق كتلك التي جرت في العراق عام 2003 م، ستكون لها تداعيات مباشرة؛ وربما تدفع المرأة التي كانت تحظى، حتى الآن، بتمثيل جيد في البرلمان، وبحضور في قطاع الإدارة، وفي القطاع العام ثمناً باهظاً. كما أن كل محاولة لتوسيع، أو للحد من، القاعدة المجتمعية للتحالف الذي يشكِّل قوام النظام الجديد، تحمل خطر تنفير بعض أطراف هذا التحالف بسبب إحباط مشاريعهم السياسية أو الأيديولوجية، أو حتى طموحاتهم الشخصية، وتقليل حصة كل طرف من الكعكة. من نافلة القول إن السياسات لا يمكن أن ترضي الجميع، وعندما تفرضها وتنفذها قوة غير منتخبة، وغير تمثيلية، فمن الممكن أن تبدو تعسفية، أو متمحورة حول مصالح هذه القوة، وبالتالي ستواجه مقاومة كبيرة قد تؤدي إلى انفراط عقد التحالف. أضف إلى ذلك أنه، وعلى جميع الأصعدة، لا تترك الحالة الاقتصادية والمالية الكارثية إلا مساحة صغيرة للحركة، وإذا كان رفع العقوبات مفيداً، فإنه لا يغير تغييراً كبيراً في واقع الأمر ولا في المعطيات.
التحديات كبيرة وعلى جميع الأصعدة، ولكن بالإمكان تجاوزها، طالما منح الحكام الجدد الأولوية للدمج وتمثيل كافة الأطياف وهذا ليس بالأمر اليسير في الحالة السورية، وفي الواقع فإن مستقبل الشرق الأوسط برمته يبدو غامضاً اليوم وليس مستقبل سوريا وحدها.