يوم الثامن من ديسمبر 2025م، لم يكن مجرد تحوّل نجحت قوة عسكرية قادمة من شمال غربي سوريا عبره بإسقاط النظام السوري السابق، بعد 12 يومًا من انطلاق عملية تحت مسمى "ردع العدوان" بدأت في حلب 27 نوفمبر 2024م، وامتدت إلى دمشق، فالمسافة بين ما حصل وما سبق طويلة ووعرة وموحشة وباهظة الثمن.
ما حصل في سوريا، يعيد إلى الأذهان دراسة تحليلية وضعها مجموعة من الخبراء، نشرتها مؤسسة "RAND" للأبحاث والتطوير الأمريكية، في أكتوبر 2014م، وتحدثت عن أربعة سيناريوهات يمكن أن تنتهي إليها الأوضاع في سوريا:
الأول: الصراع المطّول.
الثاني: انتصار النظام.
الثالث: انهيار النظام.
الرابع: التسوية المُتفاوَض عليها.
سلوك النظام خلال 14 عامًا من الحرب، يظهر إصراره على سيناريو (الانتصار)، ويقرأ الخبراء آثار هذا الاحتمال بأن إيران ستشعر بأنها أكثر أمنًا، مع حصولها على سوريا كـ "جائزة ثمينة"، وفوز حزب الله في لبنان.
لكن سوريا وفق هذا السيناريو ستخرج باقتصاد محطم، ونظام ضعيف، وإقليميًا سيكون محور الاعتدال العربي وعلى رأسه دول الخليج أكبر الخاسرين.
ما الذي حصل إذن؟ لقد تحقق السيناريو الثالث (انهيار النظام)، وهذا يعني خسارة إيران لنفوذها، وإضعاف "حزب الله" اللبناني، ويقول هذا الاحتمال بأن أمريكا ستعمل مع الإسلاميين السوريين المعتدلين لاحتواء الجهاديين، مع احتمالات نزاع عابرة للحدود تقودها تلك الجماعات.
لم يستبعد الخبراء معارك مع المتمردين على الحدود السورية مع الجوار، كما لا تستبعد عمليات تطهير عرقي للعلويين، وهو ما حصل دون أن يخرج عن السيطرة.
السيناريو الأول (الصراع المطّول)، عززته حالة "الستاتيكو" خلال 14 عامًا، وعززه التدخل الروسي بعد الإيراني، وهو يفترض تحوّل سوريا إلى دويلات، وانتشار العنف المذهبي، وتمكين المتطرفين، وهو ما يفسر محاولة الدول الغربية وأمريكا، وحتى الدول العربية، فتح قنوات مع النظام، والانفتاح المحدود وفق سياسية "خطوة مقابل خطوة"، والتي انتهت بالفشل لأن احتمالات نجاحها تشكل "نكسة لإيران"، وهذا يفسر عجز النظام السوري عن الالتزام بتعهداته وفق "المبادرة العربية" أو "المبادرة الأردنية" التي نشطت في 2021م، بعد زلزال 6 فبراير، الذي ضرب جنوب تركيا و شمال غرب سوريا، حملت مسمى "لا ورقة".
نصت الـ"لا الورقة" على قضايا ثلاث هي مكافحة المخدرات، وعودة اللاجئين، والحل السياسي ومسار اللجنة الدستورية، لكن النظام السوري لم يكن قادرًا على الاستجابة بفعل عوامل أولها إيران التي تريد أن يبقى الملف السوري على طاولة "أستانة" و"سوتشي"، وهذا الخيار يحقق وجود إيران الدائم كضلع ثالث في مثلث الإمساك بالملف وهما روسيا وتركيا بعد سحب البساط من مفاوضات "جنيف".
دون الخوض في التفاصيل الكثيرة، بات في حكم الثابت أن ما جرى يطابق إلى حدّ كبير توقعات سيناريو "انهيار النظام"، وهو ما يفسر وجود تعاون غير معلن أو على مبدأ "الباب الموارب" بين واشنطن ودول غربية مع الحكم الجديد في دمشق.
لا يمكن توقع استسلام إيران لسيناريو خسارتها الكاملة، وهذا ما تفسره تصريحاتها المتكررة بأن الأمور لن تنتهي في سوريا، والكشف عن خيوط تربط بين الهجوم الذي شنّه متمردون من أتباع النظام السابق والمرتبطين بإيران وأدواتها في لبنان أو العراق، وهو ما عبرت عنه مخاوف القوى الغربية وعلى رأسها الإدارة الأمريكية أكثر من مرة.
بدايات الانهيار ونهاياته
منذ انطلاق حراك الثورة في مارس 2011م، وخلال 14 عامًا، كلّفت حرب النظام السوري على الشعب مئات الآلاف من القتلى، وخسائر بقيمة 800 مليار دولار، و
تقرير المنظمة الدولية، في فبراير 2025، أشار إلى أن الاقتصاد السوري، مع المعدلات الحالية للنمو، يحتاج 55 عامًا لاستعادة مستوى الناتج المحلي الإجمالي قبل 2011م.
كان سقوط بشار الأسد متوقعًا بعد أقل من عامين من الحرب، لكن إيران بخبرائها العسكريين وأذرعها، وبإمدادات السلاح، قررت عام 2013 م، الدخول علنًا في الحرب إلى جانب النظام السوري، ما ضاعف فاتورة القتل والدمار، وجاء التدخل الروسي عام 2015م، وسمح لجيش النظام والميليشيات الرديفة المدعومة من إيران باستعادة مساحات واسعة من الأرض، وزادت الكلفة أكثر فأكثر.
لسنوات الحرب الـ 14 امتدادات أكثر تعقيدًا، تعود إلى محطتين أساسيتين ترتبطان بمرحلة حكم حافظ الأسد وابنه بشار الأسد والتي انتهت بهروب الأخير، على متن طائرة شحن روسية من مطار حميميم حيث القاعدة العسكرية الروسية إلى موسكو، فجر الثامن من ديسمبر.
المحطة الثانية بدأت عام 2000م، عندما تسلّم بشار الأسد الحكم من والده، إذ ترافقت تلك المحطة بتغييرات في بنية الاقتصاد تسببت في إفقار الشعب لمصلحة "كومبرادور" يقوده الرئيس وشقيقه ماهر الأسد وخالهما محمد مخلوف وابنه رامي، مع مجموعة من أبناء ضباط الحرس القديم، مع الإخلال بوعود الإصلاح، وعمليات تعقيم سياسي، بدأت بالزج بنشطاء "ربيع دمشق" الموعود في السجون أو المنافي.
المحطة الأولى بدأت عام 1970م، حين انقلب حافظ الأسد على أصدقائه في الجيش والحزب، وسيطر على الحياة السياسية، مرتكبًا مع شقيقه رفعت مجازر مروعة، حملت آثارها إلى المحطة الثانية وما بعدها، ومنها مجزرة حماة في فبراير 1982م، والتي راح ضحيتها ما يتراوح بين 20 و40 ألف مدني.
تبعات ستة عقود من الخراب
خلال 54 عامًا، حكم بشار الأسد ووالده سوريا بالحديد والنار، وتسخير مقدرات البلاد لحماية الحكم، وكان يمكن لسوريا أن تكون نموذجًا للدولة المتطورة، لبلد يمتلك ثروات هائلة ومتنوعة من القطن والقمح إلى الفوسفات والنفط إلى الطبيعة المميزة والموقع الاستراتيجي، وإمكانات بشرية.
ما حصل هو أن النظام خنق الهوية الوطنية لصالح هويات أقلية والتخويف وكما يقول باتريك سيل في كتابه "حافظ الأسد.. الصراع على السلطة"، فإن حافظ الأسد منذ البداية "احتفظ لنفسه بالعناصر الجوهرية للسلطة، وكان حريصًا على إعطاء دولته مؤسسات رسمية، ولو كانت ذات طبيعة احتفالية شعائرية فقط".
جرى ترسيخ سلطة "حزب البعث" في مفاصل الدولة على مدى ستة عقود، بدأت قبل حكم الأسد كرئيس بل كشخصية فاعلة في تركيبة "البعث" مع مجموعة من رفاقه العسكريين، في انقلابي 1963 و1966م.
عاد حافظ الأسد وانقلب على رفاقه عام 1970م، ليستفرد بالسلطة بشكل مطلق.
وسمي البعث في المادة الثامنة من دستور عام 1973م، على أنه (الحزب) "القائد للدولة والمجتمع"، لكن هناك مؤسسة أخرى كان يديرها ويعيد هيكلتها الأسد الأب شخصيًا، وهي المؤسسة العسكرية واستخدمت لاحقًا في القمع والقتل والتنكيل، ثم تبخرت مرة واحدة ليلة هروب الأسد، وكانت قياداتها بغالبيتهم ينتمون إلى لون واحد.
عرف عن حافظ الأسد، على الرغم من ميل نظامه نحو إيران، احتفاظه بعلاقات جيدة مع الدول العربية الفاعلة، وعلى رأسها السعودية ومصر، لكن استراتيجية التحالف مع إيران مكّنت الأخيرة من التغلغل في المنطقة، عبر "حزب الله" اللبناني، بتنسيق مع دمشق التي كانت قواتها موجودة على الأراضي اللبنانية في إطار "قوات الردع العربية" منذ عام 1976م، لكن النظام السوري استفرد بالساحة اللبنانية بعد ثلاث سنوات، عام 1979م، وهو نفس العام الذي سيطرت فيه قوى المعارضة الإسلامية الإيرانية على الحكم في إيران.
الابن "الممانع" في الحضن الإيراني
انتهى حكم حافظ الأسد بوفاته عام 2000م، لكن دولة الأسد استمرت بحكم وريثه بشار، والذي قضى على التوازن الذي حافظ عليه والده، لعقدين ونصف بتبعيته لولاية الفقيه، بسط "حزب الله" بعد عام 2000م، سيطرته الأمنية والسياسية على لبنان، واستخدمت الأراضي السورية ممرًا لتهريب السلاح، وقاعدة للتخطيط وبناء القدرات.
ذهبت سوريا نحو منعطف خطير بعد أحداث 11 سبتمبر وحرب العراق 2003م، إذ جرى تصدير العناصر الإرهابية للعراق، بإشراف المخابرات السورية، لإغراق الأمريكيين في فيتنام جديدة بالتنسيق مع إيران، بعد سقوط صدام حسين، وكان الدافع هو القلق من تحرك الدبابات الأمريكية إلى سوريا، وظهرت ذروة التوتر في لقاء وزير الخارجية الأمريكي ، كولن باول، مع بشار الأسد، في 3 من مايو 2003م، مع قائمة من المطالب منها ما يتعلق بتصفية عمل المنظمات الفلسطينية في سوريا وخروج الجيش السوري من لبنان، إذ ماطل الأسد بدفع من طهران المتوجسة، هي الأخرى، من الوجود الأمريكي.
ما هي إلا سنتان، بعد حرب العراق، حتى أخلّ الأسد بالتوازنات على الخاصرة الغربية في لبنان، وانتهى الأمر باغتيال رفيق الحريري، وتوجيه أصابع الاتهام للنظام و"حزب الله" اللبناني بالجريمة، لتخرج القوات السورية من لبنان في 26 من أبريل 2005م، بعد 22 يومًا من حادثة الاغتيال.
حاول العرب استعادة دمشق ومنع غرقها بشكل كامل في الحضن الإيراني، وكان ذلك أشبه بتجرع المرّ مع انحراف الأسد نحو ما أسمته طهران "محور المقاومة" الذي أغرق المنطقة في حروب دمرت لبنان وغزة وسوريا واليمن وأغرقت العراق في فوضى طائفية، وستبقى آثارها في الفترة اللاحقة، وهي مستمرة حتى اليوم.
أبرز محاولات استعادة سوريا جاءت من السعودية، عبر مساع من الملك الراحل، عبد الله بن عبد العزيز، بإتاحة زيارة بشار الأسد إلى بيروت تحت العباءة العربية، وعقد قمة سعودية -سورية -لبنانية، في 30 من يوليو 2010م، بهدف نزع فتائل التأزيم في المنطقة، وتشجيع سوريا على الانخراط في محور الاعتدال، لكن إيران وحزبها داخل القصر الجمهوري بدمشق (ضغط لإبقاء النظام السوري في محور تقوده إيران.
على المستوى الداخلي، جنح بشار الأسد إلى تدمير ما تبقى من اقتصاد البلد المحاصر، إذ تسببت سياسات "السوق الاجتماعي"، في محاولة للجمع بين قوانين الاقتصاد الحرّ ومبادئ مرتبطة بالجانب الاجتماعي في الاشتراكية إلى تركيز الثروة بيد مجموعة محيطة بالأسد، وبلغ الفقر حدودًا استثنائية هيأت الظروف لحراك الشارع المحتقن أساسًا من سياسات القمع والتضييق، وباتت البلاد أشبه بحقل يابس ينتظر عود ثقاب.
استقالة الدولة السورية بعد 2011
مدفوعة بما تشهده أكثر من دولة عربية من حراك شعبي، جراء سياسات الإفقار والقمع، شهدت سوريا تحركات شعبية مطالبة بتحقيق العدالة الاجتماعية والحفاظ على الكرامة، وكان يمكن أن تنتهي هذه التحركات بفائدة تعزز التماسك في سوريا مع إصلاحات في الاقتصاد، وتوسيع هامش المشاركة السياسية، لكن حصل العكس.
بعد بضعة أشهر من الحراك السلمي، الذي بدأ في مارس 2011، اختار النظام السوري الذهاب بالاتجاه المعاكس، إذ اعتمد مقاربة أمنية عنيفة، ابتداء من 18 مارس، عندما قتلت قوات الأمن متظاهرين سلميين في محافظة درعا، خلال مظاهرة طالبت بإطلاق سراح 19 طفلًا جرى اعتقالهم بسبب كتابات على جدران مدرستهم.
تجاهل النظام نصائح الدول العربية، وكان واضحًا أن إيران موجودة في مركز صنع القرار بدمشق، وأنها تدير العمليات على الأرض وتوجه الخطاب الإعلامي والسياسي. حاولت الدول العربية مجددًا التوسط لمنع التدهور واتساع التدويل، ومنها المبادرة العربية لتسوية الأزمة، التي اعتمدها المجلس الوزاري للجامعة العربية، في 28 من أغسطس 2011م، لكن الأسد لم يستجب ومارست قواته مزيدًا من العنف.
يوم 15 من نوفمبر 2011م، قرر وزراء الخارجية العرب تعليق عضوية سوريا في الجامعة، اعتبارًا من 16 من الشهر نفسه، وفرض عقوبات اقتصادية وسياسية، لحين التزام الحكومة السورية بتنفيذ بنود المبادرة العربية المكونة من 13 بندًا تتعلق بوقف العنف وإجراءات إصلاحات سياسية. بعدها قررت دول مجلس التعاون الخليجي سحب سفرائها لدى سوريا، وطلبت من جميع سفراء النظام السوري مغادرة أراضيها.
كانت إيران تحتفظ، قبل مارس 2011م، بنحو 2000 إلى 3000 ضابط ومستشار من الحرس الثوري الإيراني على الأراضي السورية، يتولون مهمات تدريب حماية وإدارة طرق إمداد الأسلحة والأموال إلى حزب الله في لبنان، وتشير الدراسات إلى انخراط إيران منذ الأشهر الأولى لاندلاع الثورة في سوريا، وأنها كانت تطور هذا التدخل وادواته وتزيد في الأعداد، وفق المعطيات على الأرض.
مع اشتداد المواجهات وخشية إيران من سيطرة "الجيش الحر" والفصائل المسلحة على مناطق استراتيجية لنقل السلاح ونشاط "الحرس الثوري"، على الحدود السورية اللبنانية، عززت إيران انخراطها العسكري، ونشرت عشرات آلاف من مقاتلي "حزب الله" اللبناني، والميليشيات الشيعية القادمة من العراق وأفغانستان وباكستان، ووصل عددهم إلى أكثر من 100 ألف عنصر، ينضوون في 70 ميليشيا، وفق تصريح لقائد الحرس الثوري الإيراني، حسين سلامي، في أغسطس 2020م.
من جنيف "1" إلى 2254.. مراوغة النظام وداعميه
بعد عام على الحرب، ووصول عدد الضحايا المدنيين إلى ما يزيد على 10 آلاف شخص، بحسب إحصائية الشبكة السورية لحقوق الإنسان بسوريا، عينت الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، كوفي عنان، مبعوثًا مشتركًا، إذ وضع "خطة النقاط الست"، وتبناها بيان اتفاق جنيف "1"، في 30 من يونيو 2012م، والذي جمع دول "مجموعة العمل من أجل سوريا".
بعد صبر طويل، اتضح مسار تدويل الملف السوري بصدور قراري مجلس الأمن الدولي 2042 و2043، في أبريل 2012م، واللذين ينصان على إرسال بعثة أممية إلى سوريا، انتهت مهمتها بالفشل في أغسطس من نفس العام، وانتهت معها مهمة المبعوث كوفي عنان.
خلال فترتي عمل كوفي عنان والمبعوث الذي خلفه، الأخضر الإبراهيمي، نفذت القوات السورية مجزرة الهجوم الكيماوي، في 21 أغسطس 2013م، راح ضحيته 1400 قتيل مدني بالغوطة الشرقية بريف دمشق.
وبدا أن النظام السوري، بعد صفقة تدمير السلاح الكيماوي التي أعقبت المجزرة، قد اطمأن إلى أن الهدف في سوريا لم يعد إزاحة النظام، إذ غيرت واشنطن من استراتيجيتها بعد تصريحات سابقة للرئيس الأمريكي باراك أوباما، في أغسطس آب 2011م، طالب فيها الأسد بالتنحي.
بعد انتهاء مهمة كوفي عنان، جرى تعيين مبعوث آخر هو الدبلوماسي الجزائري، الأخضر الإبراهيمي، ليعقد جنيف "2" في يناير 2014م، أعقبته محادثات بين ممثلي حكومة دمشق وقوات المعارضة، ولم يتوصل الجانبان إلى اتفاق، ليوقف الإبراهيمي المفاوضات وتنتهي فترة عمله في مايو 2014م.
في 30 من أكتوبر، أصدرت 17 دولة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، بعد اجتماع وزاري جرى في العاصمة النمساوية، فيينا، بيانًا نصّ على 9 نقاط، تشكل خريطة حلّ سياسي لإنهاء الحرب السورية. ويوم 18 ديسمبر 2015م، أصدر مجلس الأمن الدولي القرار 2254، بناء على مشروع قرار أمريكي اعتمد بيان اتفاق جنيف "1"، وأيد بيانات فيينا الخاصة بسوريا.
القرار نص على وقف إطلاق النار وبدء محادثات السلام في يناير 2016م، وتشكيل حكومة انتقالية، وإجراء انتخابات برعاية أممية، وإصلاح دستوري، وإيصال المساعدات الإنسانية إلى جميع المناطق السورية دون عوائق، ودعا الأطراف إلى تسهيل العودة الآمنة للنازحين واللاجئين، مطالبًا بوقف أي هجمات ضد المدنيين فوراً.
لم تنفذ بنود القرار بسبب تعنت النظام السوري وحلفائه، وانحصرت العملية بمفاوضات "اللجنة الدستورية" التي امتدت على 8 جولات بين أكتوبر تشرين الأول 2019 ويونيو 2022م، وانتهت الجولة التاسعة بالتأجيل بسبب مطالبة روسيا تغيير مكان الاجتماعات (استجاب وفد النظام لرغبة روسيا)، ورفضها أن تجري الاجتماعات في جنيف بسويسرا بحجّة أن سويسرا غير حيادية، على الرغم من أن روسيا ليست من أطراف الاجتماعات.
تحالف دولي لمحاربة "داعش".. روسيا تنقذ الأسد مجددًا
أصبحت المعركة في مكان آخر، وفي 10 من سبتمبر 2014م، تشكل التحالف الدولي لمحاربة تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) من خلال عمليات عسكرية تشارك فيها 88 دولة بقيادة الولايات المتحدة، وآخر المعارك التي خاضها التحالف كانت في مارس 2019، وانتهت بسقوط آخر معقل لتنظيم داعش في "الباغوز" شمال شرقي سوريا، لكن خطر التنظيم لم ينته حتى اليوم، إذ لاتزال جيوبه موجودة في مناطق ممتدة بين شرقي سوريا وغربي العراق، ولا تزال عقيدته تجذب المتطرفين من مختلف أنحاء العالم، وتهدد بزعزعة استقرار دول المنطقة والعالم.
مع الحرب على تنظيم "داعش"، تشكلت منطقة جديدة خارج إطار سيطرة دمشق، وهي شمال شرقي سوريا التي تحكمها "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، الذراع العسكري للإدارة الذاتية لشمال وشرقي سوريا، وهي تتحكم بما يزيد عن 28٪ من مساحة البلاد، وشكل وجود عناصر من حزب العمال الكردستاني (PKK) المتمركز في جبل قنديل، عاملًا موضوعيًا لتدخل تركيا ودعمها جماعات مسلحة منضوية تحت راية "الجيش الوطني" في شمال غرب سوريا، وهي جماعة تختلف عن جماعة "هيئة تحرير الشام" التي ضمّت فصائل إسلامية.
لم تكن قوات الأسد خلال تلك الفترة على أحسن حال، فقد تراجعت في أكثر من جبهة، وتقلصت المساحات التي تسيطر عليها إلى 22% فقط من أراضي البلاد، فجاء التدخل الروسي بعد عام على تشكيل التحالف الدولي لمحاربة التنظيم، وشن سلاح الجوّ الروسي أول ضرباته الجوية داخل الأراضي السورية في 30 من سبتمبر 2015م.
مكاسب روسيا تجسدت في السيطرة على قاعدتي "حميميم" العسكرية الجوية وطرطوس البحرية، ووضع اليد على الفوسفات السوري وبعض حقول النفط، لكن موسكو كانت تدفع فاتورة اقتصادية أكبر مقابل المكتسبات الاستراتيجية والأمنية بالوصل إلى مياه المتوسط واستخدام "حميميم" كنقطة اتصال وشحن تساعد في تأمين مصالحها في القارة الإفريقية. رعت روسيا سلسلة اتفاقات "تسوية" ضمنت سيطرة شكلية للنظام في الجنوب السوري، ابتداء من عام 2018م، وقبل دخولها في الحرب على أوكرانيا، مكنت روسيا نظام الأسد عام 2021م، من السيطرة على نحو 70٪ من مساحة سوريا لأول مرة منذ 10 سنوات، وبلغت حصيلة الخسائر البشرية على يد القوات الروسية، وفق توثيق المرصد السوري لحقوق الإنسان نحو 21 ألف قتيل خلال الفترة بين 30 سبتمبر 2015 وحتى 30 من سبتمبر 2021 م.
سوريا المحتلة .. خمسة جيوش و514 قاعدة أجنبية
منتصف عام 2021م، أحصت الدراسات العسكرية وجود 514 قاعدة ونقطة عسكرية أجنبية في سوريا، لأوّل مرّة في تاريخ البلاد.
واستحوذت إيران على حصة الأسد بـ 277 قاعدة ونقطة، وبعدها تركيا بـ 110، ثم روسيا بـ 90، بينما سيطرت قوات التحالف 28 قاعدة ونقطة.
وتوزعت تلك المواقع بين 108 قاعدة عسكرية، و25 قاعدة عمليات، وقاعدتين أمنيتين، و313 نقطة عسكرية، و22 نقطة لوجستية 22، و18 نقطة مراقبة.
وكان المبعوث الدولي إلى سوريا غير بيدرسون قال في إحاطة أمام مجلس الأمن عام 2019م، إن هناك خمسة جيوش في سوريا هي أمريكا، روسيا، إيران، تركيا، وإسرائيل.
إرهاصات ما قبل السقوط.. روسيا تضعف و"حزب الله" يخسر
الحرب على أوكرانيا الممتدة منذ 24 من فبراير 2022م، تسببت في استنزاف القدرات الروسية وسحب طائراتها وجنودها، لكنها حافظت على بعض التوازن بتسيير دوريات، ورعاية التفاهمات ومنها "اتفاق خفض التصعيد"، مع تركيا وإيران، لكن علامات الوهن بدأت تظهر على النظام السوري، الذي بات يعاني ضعفًا في تمويل عملياته العسكرية وقدرات الجيش.
جاءت عملية "طوفان الأقصى"، في 7 أكتوبر 2023م، لتشكل اختبارًا صعبًا للأسد، وأصبح نظامه أمام مثلث ضغط، بين إسرائيل وإيران والتزاماتها مقابل الانفتاح العربي الغربي المشروط.
ومنذ بدء الحرب على غزة استهدفت إسرائيل القدرات العسكرية للجيش السوري والقواعد الإيرانية في سوريا، وكان الحزب قد سحب معظم عناصره من سوريا، بينما بدأت إيران سحب ميليشياتها بالتتابع، ابتداء من يناير، وأخلت معظم مواقعها في الجنوب السوري في أبريل 2024م، لتجنب استهدافها من قبل إسرائيل. أصبح النظام السوري مكشوفًا أمام انحسار دعم إيران وأدواتها، وكان الجوّ مهيأً لتحرك عسكري داخلي سيغير التاريخ، بقبول دولي بدا مترددًا لكنه تعزز بدعم عربي وغربي.
سوريا الجديدة .. الفرص والمخاطر
يوم 8 من ديسمبر 2024م، استطاعت عملية "ردع العدوان" التي بدأتها "هيئة تحرير الشام" من حلب الوصول إلى دمشق، وبدأت مرحلة جديدة، تشكلت معها فرصة نادرة لإعادة ما دمرته الحرب خلال 14 عامًا، وبناء سوريا من جديد وأخذ دورها كدولة طبيعية في المنطقة.
يوم 29 من يناير 2025م، أعلن أحمد الشرع حل "هيئة تحرير الشام"، في كلمة (مؤتمر النصر) بعد اجتماع ضم قادة 18 فصيلًا عسكرياً أعلنت جميعها حلّ نفسها واندماجها في الدولة السورية الجديدة، وتولية أحمد الشرع رئاسة سوريا في المرحلة الانتقالية، وتفويضه بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت، وحلّ حزب البعث وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية وحظر إعادة تشكيلها، وحلّ الأجهزة الأمنية والجيش، وتقرر تشكيل مؤسسة أمنية جديدة وبناء جيش جديد على أسس وطنية، وحلّ مجلس الشعب، وإلغاء العمل بدستور سنة 2012، وحلّ جميع الفصائل العسكرية.
عمد الشرع إلى تشكيل لجنة دستورية خرجت ببيان دستوري موسع من 53 مادة، وجوهرها -رغم التحفظات من أطراف داخلية -الحفاظ على سوريا دولة مستقلة وذات سيادة على كامل أراضيها، والمشاركة السياسية للجميع، والحفاظ على الحريات العامة، والالتزام بالمعاهدات الدولية التي وقعتها سوريا، كما نص على صلاحيات واسعة للرئيس الشرع في تشكيل مجلس تشريعي تنبثق عنه باقي السلطات، على أن تمتد المرحلة الانتقالية لخمس سنوات، وهو ما أثار تساؤلات حول التعهدات التي قدمتها الإدارة الجديدة على المستوى الداخلي والدولي.
المخاطر.. إيران و"الفلول" وإسرائيل
تجرّعت إيران هزيمة كبرى في سوريا، بعد هزيمتها في لبنان، وهو ما أثار سجالاً دبلوماسياً بين دمشق وطهران، بسبب تصريحات تشير إلى نيتها التسبب بمتاعب واستغلال نفوذها التقليدي وتحالفاتها مع بقايا النظام وامتداداتها في لبنان والعراق.
مساء 6 من مارس 2025م، شنت مجموعات موالية للنظام (فلول النظام) هجمات واسعة على امتداد محافظتي اللاذقية وطرطوس، انتهت بسيطرة "الفلول" على معظم المواقع العسكرية والاستراتيجية بمنطقة الساحل السوري، ومنها مطار اسطامو والكلية البحرية واللواء 107، بالإضافة للجسور والمداخل والمخارج المؤدية إلى مدن الساحل، وانتشرت العناصر المتمردة على طريق "M4" الاستراتيجي لقطع طريق الإمداد أمام الجيش. كما أعلنت المجموعات عن تشكيل "المجلس العسكري لتحرير سوريا" بقيادة اللواء السابق، غياث دلا، قائد أركان الفرقة الرابعة التي كان يقودها ماهر الأسد.
تسببت العملية بمقتل نحو 200 من عناصر الأمن العام التابع للحكومة السورية، وقوبل هذا الهجوم المنسّق بإرسال قوات من الجيش أنهت التمرد بعد أربعة أيام، لكن مخاطر العملية العسكرية للجيش شابتها شبهات بقيام مجموعات غير منضبطة دخلت الساحل من مناطق مختلفة إثر انتشار حالة غليان في الشارع السوري، ونتج عن الصدامات سقوط مدنيين، قدر عددهم بالمئات، واتهمت تلك المجموعات بارتكاب عملية تطهير، بينما تشير معلومات إلى أن مجموعات "فلول" النظام نفذت بدورها عمليات إعدام بحق مدنيين.
أعلن الرئيس أحمد الشرع عن تشكيل لجنة تحقيق للكشف عن طبيعة الانتهاكات ومن يقف وراءها، وأخرى للمصالحة لتجنب استغلال أي صدام طائفي والمساهمة في سحب الاحتقان.
شكلت هجمات الساحل أول اختبار عملي لقدرة الإدارة السورية الجديدة على الإمساك بالوضع الأمني في البلاد، وفي حين كشفت عن هشاشة الوضع إلا أنها شكلت فرصة لدفع الإدارة والرئيس الشرع نحو معالجة مكامن الخطر القادم من الداخل والمدعوم من أطراف خارجية على رأسها إيران.
وجاء توقيع اتفاق الشرع مع رئيس قوات سوريا الديمقراطية "قسد" مظلوم عبدي، كخطوة مطمئنة تشير إلى نية حلّ الخلافات الداخلية، وعزز هذا الشعور تسهيل الولايات المتحدة لهذا الاتفاق، ما يعني أن إدارة الرئيس دونالد ترامب ترغب في تعزيز تفاهمات داخلية تتماشى مع خطة منع التقسيم.
في الجنوب، أثار التوغل الإسرائيلي في قرى حدودية بمحافظتي القنيطرة ودرعا، قلق الإدارة الجديدة، وعزز من هذا القلق تصريحات من الحكومة الإسرائيلية بنيتها حماية الدروز، وترافقت التصريحات بمواقف ملتبسة لأحد شيوخ الطائفة الدرزية، حكمت الهجري، ترافقت مع تشكيل فصيل جديد تحت مسمى "المجلس العسكري في السويداء".
على الرغم من المواقف التي أبداها الهجري، ومحاولة الفصيل المسلح الجديد توسيع مسافة الخلاف داخل المحافظة ورفض قرارات الإدارة الجديدة، إلا أن أطرافًا أخرى من المرجعيات الروحية، بينها الشيح حمود الحناوي، والشيخ سليمان عبد الباقي، وقوى وطنية، وفصل من بينها "حركة شيخ الكرامة" و"تجمع أحرار الجبل" أبدت موقفًا مختفًا تجاه الإدارة الجديدة، وأبدت تمسكها بالدولة ورفضها لأي نزعة انفصالية أو الانجرار وراء إسرائيل.
تواجه سوريا اليوم تحديات كبيرة نحو التعافي، واستعادة وضعها الطبيعي، ومع نجاحها في الانخراط الدبلوماسي مع الغرب ودول الجوار بدعم عربي وغربي، إلا أن هذا الدعم يواجه أخطارًا على المستوى السياسي والأمني في علاقاتها الخارجية.
الخطر الأول، إعادة تصحيح الصورة المرتبطة بالهوية السابقة لأبرز القيادات، وهي "تحرير الشام"، ومحاربة الإرهاب.
الخطر الثاني، هو احتمالات الانتقال من مرحلة الصراع في سوريا إلى مرحلة الصراع على سوريا، إذ تبدي قوى دولية مخاوف من وقوع دمشق تحت السيطرة التركية، على الرغم من تصريحات أنقرة التي تشير إلى رغبتها التعاون مع دول المنطقة والدول الفاعلة في استعادة وحدة سوريا وسيادتها دون تدخلات.
الخطر الثالث، يتمثل بتحركات إسرائيل على الأراضي السورية، والتي ينبغي أخذها بمحمل الجد في إطار نوايا التوسع التقليدية، وهو ما يعزز رغبتها في الإبقاء على سوريا ضعيفة، وهذا يتطلب دبلوماسية نشطة تنخرط في عملية سلام تحقق مصالح سوريا ومطالب "المبادرة العربية"، وهو ما يشكل "وسادة حامية" لدمشق في هذه المرحلة الحرجة.
على المستوى الداخلي، هناك مشكلات يستعصي حلّها دون دوران عجلة الاقتصاد التي تعطّلها العقوبات الغربية، فسوريا اليوم بلد منهك بملايين العاطلين عن العمل، ولا يمكن تحقيق استقرار اقتصادي دون استقرار أمني، وإلا فإن السنوات القادمة يمكن ان تشهد هزّات كبيرة تعيد البلاد إلى نقطة الصفر، ومن أجل حلّ معضلة الاقتصاد والأمن، لا بد للرئيس الشرع من الانخراط في عملية سياسية تشارك فيها جميع الأطراف، لكي تتقدم الدول الداعمة في إعادة الإعمار والإسهام في دعم بناء الدولة خطوة بخطوة.