مثّل سقوط نظام الأسد في 8ديسمبر 2024م، نقطة تحول حاسمة في مسار سوريا، حيث دخلت البلاد مرحلة جديدة من التحولات السياسية والأمنية والاقتصادية، تتطلب إعادة بناء الدولة على أسس حديثة، بعد عقود من الحكم السلطوي والصراع الداخلي. جاءت هذه التغييرات في ظل تحديات معقدة، أبرزها: إعادة تثبيت الشرعية السياسية، ضبط الأمن، إعادة الإعمار، تعزيز الاقتصاد، وإعادة سوريا إلى موقعها الطبيعي في المحيط الإقليمي والدولي.
مع تنصيب أحمد الشرع رئيسًا لسوريا، بدأت مرحلة انتقالية تهدف إلى إعادة هيكلة مؤسسات الدولة، وصياغة دستور جديد، وإنشاء نظام سياسي أكثر شمولية واستقرارًا. وفي الوقت نفسه، تبرز الحاجة إلى معالجة آثار الحرب، وإطلاق مشاريع اقتصادية تنموية، وتحقيق مصالحة وطنية شاملة، تضمن استقراراً داخلياً وعودة آمنة وكريمة وطوعية للاجئين. لكن تحقيق هذه الأهداف يتطلب إدارة دقيقة للتحديات الداخلية، والتعامل بمرونة مع التوازنات الإقليمية والدولية، لضمان استقرار البلاد واستعادة سيادتها.
تعتمد هذه المقالة تحليلًا شاملًا للأولويات السورية الجديدة، من خلال استعراض المسارات السياسية والأمنية والاقتصادية التي ينبغي التركيز عليها، بالإضافة إلى مناقشة التحديات والعقبات التي قد تعرقل تلك المسارات، ودور القوى العربية والإقليمية والدولية في دعم المرحلة الانتقالية.
تثبيت الشرعية الداخلية: بناء نظام سياسي مستقر وشامل
يواجه النظام السياسي السوري الجديد تحدياً مزدوجاً يتمثل في إعادة بناء الدولة، وإدارة التنوع المجتمعي والسياسي بشكل يحقق التوازن بين مركز قوي يتعافى تدريجياً ومحافظات ومناطق قوية؛ لها صلاحيات تشعر عبرها بالمشاركة في شؤونها وفي شؤون المركز وتتشارك الحكم مع الدولة. فبينما تحتاج سوريا إلى حكومة مركزية قوية تضمن وحدة البلاد خلال هذه الظروف الحساسة، كذلك لا بد من تبني نموذج إداري لامركزي يسمح لكل منطقة بإدارة شؤونها، وفقًا لخصوصياتها المحلية، مع الحفاظ على سلطة الدولة المركزية.
بعد إقرار الإعلان الدستوري الذي نص على الفصل الجامد بين السلطات، واعتمد النموذج الرئاسي للحكم بدعوى احتياج البلاد لنظام يلم شتات الفوضى، تحتاج هذه المرحلة إلى بدء الاستحقاقات السياسية بصيغة أكثر توافقية وأكثر تضميناً لكافة المكونات المجتمعية والسياسية دون اعتماد محاصصة على النمط اللبناني. سيتم حسب ما تم إقراره في الإعلان الدستوري تشكيل المجلس التشريعي عبر هيئة فرعية تختار ثلثي أعضاء المجلس، ومن ثم يقوم الرئيس باختيار الثلث المتبقي لترميم النقص. كما سيتم لاحقاً تكليف لجنة أخرى لصياغة دستور دائم للبلاد، يرسي شكل الحكم وهوية الدولة والعلاقة بين الأخيرة والمجتمع وطبيعة الحقوق والحريات ويُحدد العلاقة بين الحكومة المركزية والمحافظات، ويضمن توزيعاً عادلاً للسلطة والموارد.
وخلال المسار السابق، يتلخص موقف الدولة السورية اليوم من القرار الأممي 2254 والمبعوث الدولي لسوريا، غيير بيدرسون، بالتعاون الإيجابي مع إبقاء مساحة استقلال معينة، حيث أن هناك اتفاق على أن القرار الحالي بحرفيته غير ممكن التطبيق سوى بروحه التي تستوجب استحقاقات سياسية لتأسيس "حكم غير طائفي يشمل جميع السوريين، يبدأ بكتابة دستور جديد وتأسيس هيئة حكم انتقالي وينتهي عبر انتخابات". هذا الموقف البنّاء ينبغي الحفاظ عليه دون تدخلات إقليمية أو دولية فجة، عبر تحقيق شراكة سياسية-تقنية مع الأمم المتحدة والاستفادة من الخبرات الرقابية لدى مؤسساتها في مجال التأسيس السياسي الجديد.
في هذا السياق، وخاصة ضمن مجال إعادة تأهيل وبناء قدرات المؤسسات الخدمية الحوكمية، يمكن الاستفادة أيضاً من الخبرات السورية ومنظمات المجتمع المدني، والتي ساهمت بشكل فعال خلال الأعوام الـ 14 الفائتة، واكتسبت وراكمت خبرات كبيرة ونسجت تواصلات دولية إيجابية. كما يُمكن الاستفادة من تجارب دول عربية ذات خبرة في الحوكمة والإصلاح الإداري وبناء المؤسسات، مثل السعودية والإمارات وتركيا وقطر والأردن، التي تمكنت من بناء أنظمة حوكمة فعّالة نسبياً مع الحفاظ على استقرار الدولة والمجتمع. كما يجب تطوير المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية، لتكون قادرة على استيعاب التنوع السياسي، ومنع احتكار السلطة من قبل جهة واحدة وترسيخ الاستقرار السياسي والاقتصادي والذي يتقاطع مع أهداف الخطط التنموية لدى كثير من الدول، وخاصة رؤية 2030 للسعودية التي تسعى لمنطقة خالية من الاضطرابات وتعزز من أمن طرق التجارة.
لكن تحقيق ذلك يواجه عقبات عدة، أبرزها افتقار المؤسسات السورية الحكومية والخاصة لبُنية متماسكة، عدا عن غياب الثقة بين القوى السياسية السورية ذات العلاقات الخارجية الواسعة، وتأثير بعض الجماعات المسلحة على القرار السياسي، وصعوبة دمج المؤسسات القديمة ضمن الهيكل الجديد دون حدوث صدامات. ومن أجل تجاوز هذه العقبات، ينبغي أن تستمر ديناميات الحوار الوطني الشامل، الذي انطلقت جلساته في مختلف المحافظات وانتهت قبل الإعلان الدستوري، ولكن ينبغي أن تستمر ضمن هيئة حوار وطني خلال كامل الفترة الانتقالية، بحيث تكون منصة هامة لامتصاص الاحتقان المجتمعي ورفع التوصيات وكشف الحقائق، ويضمن مشاركة جميع الأطراف، وإيجاد ضمانات قانونية لحماية التعددية السياسية.
ضبط الأمن وإعادة توحيد الجغرافيا السورية
لا يمكن تحقيق الاستقرار السياسي دون "احتكار العنف والسلاح" وفرض سيطرة الدولة على كامل أراضيها، وإنهاء أي جيوب خارجة عن سيطرة الحكومة الجديدة. وقد عملت الأخيرة لتحقيق هذا الهدف عبر عدة طرق ووسائل، حيث بدأت سلسة من الحوارات الثنائية والجماعية بين الرئيس الشرع والمجموعات والفصائل ووزارة الدفاع للاستماع إلى مخاوفهم وطمأنتهم والطلب منهم تسجيل السلاح وتوحيد المرجعية العسكرية تحت وزارة الدفاع وبدء التنظيم العسكري الجديد.
يمكن توصيف هذا المسار بأنه يهدف إلى تجميع الفصائل وتوحيد مرجعيتها وضبط السلاح وسلسلة الأوامر والقيادة تمهيداً لإعادة تشكيل البنية والهيكلية الجديدة. وتُعد هذه المرحلة مؤقتة لأنها لا تؤدي تلقائياً إلى الدمج الحقيقي الكامل، والذي يُعرف بعمليات الدمج والتسريح ونزع السلاح (DDR)، ولكن يمكن البناء عليها وهي خطوة مهمة في الوصول إلى ذلك، لكن ينبغي العمل سريعاً على بناء الهيكل الجديد قبل أن تتصلب هذه القوى ويصعب دمجها.
من جهة أخرى، سعت الحكومة في التعامل مع قوات "سوريا الديمقراطية"/"قسد" عبر سلسلة من المفاوضات برعاية أمريكية وتركية حققت اتفقاً أولياً على الاندماج مع نهاية العام الجاري، لكن هناك في التفاصيل الكثير من الغموض الذي يشكل تحدياً أمام التنفيذ في حال تغيرت الموازين أو استعصت هذه القوى ومانعت الاشتراك في عملية التشكل السياسي أو شعرت بالإقصاء.
أيضاً، تشكل الكتل العسكرية في الجنوب تحدياً، لكنه غير كبير كون المجموعات لا تشكل كتلة صماء موحدة، كما أن الرئيس الشرع أنجز الكثير من التفاهمات الجزئية التي تمنع من تشكل تهديد موحد، غير أنها وبالوقت نفسه لا تزال تخلق حالة من القلق الأمني، خصوصاً مع وجود جيوب من قوات الأسد السابقة. أما في السويداء، فقد سعت الحكومة إلى تكثيف التواصل مع كافة المكونات المجتمعية وعدم ترك الملف السياسي محتكراً لدى مشيخة العقل، على أهميتها، لكن لدى السويداء طبقة هامة من النخب السياسية والثقافية ومنظمات المجتمع المدني ذات التواصل الجيد مع باقي المحافظات، ومنهم من شارك في مؤتمر الحوار الوطني. غير أن التدخلات الإسرائيلية في الجنوب تشكل الخطر الأكبر على أمن واستقرار سوريا، وهنا الاعتماد الأكبر سيكون على تركيا والأردن والسعودية في إحداث التوازن المطلوب تجاه الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة والدفع بإعادة اتفاق 1974م، إلى التفعيل، وربما رعاية اتفاقيات جديدة.
أما في منطقة الساحل التي تحمل في طياتها إشكاليات أمنية عميقة، يبدو الأمر أكثر تعقيداً إذ لن يسهل التعامل معها بشكل سريع، خاصة وأن عناصر الجيش السابق التي ارتكبت كثيراً من المجازر تتواجد في جغرافيا صعبة. كما يخشى أن تشكل هذه الحالة، رغم ضبطها بعد وقوع الكثير من الانتهاكات، ضغطاً سياسياً خارجياً وكذلك ضغطاً أمنياً على سكان الساحل من كافة الطوائف. ويكمن الحل على المدى المتوسط من عدة خطوات أهمها وقف العنف وإطلاق مشاريع استثمارية تنموية توفر فرص عمل للسكان المحليين وتسحب الذرائع من المجموعات التابعة للنظام السابق. ناهيك أن المنطقة وأهلها بحاجة لإعادة إشراكهم في مؤسسات الدولة وفي الاستحقاقات السياسية القادمة. وتتميز المنطقة أيضاً بوجود منظمات مجتمع مدني تمرست في مواضيع السلم الأهلي وبنائه ولديها وعي وتواصل داخلي وخارجي يؤهلها أن تكون جسراً في الاستقرار. إضافة إلى أن دعم الدول العربية هنا مهم في تعزيز الاستقرار الاقتصادي والمجتمعي.
تعتمد إعادة ضبط الأمن على إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية (SSR)، وتدريب كوادر جديدة قادرة على التعامل مع التهديدات المختلفة. ويمكن تحقيق ذلك من خلال التعاون مع دول عربية ذات خبرة في مكافحة الإرهاب وإدارة الأمن، مثل مصر والإمارات والسعودية والأردن، التي تمتلك نماذج أمنية متقدمة يمكن الاستفادة منها. وهناك فرصة في هذا المجال للتعاون مع التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب الذي تقوده السعودية، وذلك لزيادة كفاءة الأجهزة الأمنية الجديدة في سوريا وضمان انخراطها الفعال في نظام المن الإقليمي والدولي.
إضافة إلى ذلك، من الضروري تعزيز التعاون الأمني بين العراق وتركيا والأردن ولبنان وسوريا لضبط الحدود، ومنع تسلل العناصر المتطرفة وتهريب الأسلحة، وتشكيل آلية إقليمية لمكافحة تنظيم الدولة وضبط السجون التي تحوي آلاف العناصر السابقين في شمال شرق سوريا. وربما تشكل الآلية الجديدة التي تم الإعلان عنها في الأردن بمشاركة سوريا وتركيا والعراق ولبنان (مركز عمليات مشترك) نوعاً من الإدارة الإقليمية لملف هام، خاصة في ظل البدء لتحضير خطط لانسحاب أمريكي محتمل.
تمكين الاستقرار: المصالحة الوطنية وعودة اللاجئين ومساهمة المغتربين
تُمثل المصالحة الوطنية أحد أبرز التحديات التي تواجه سوريا اليوم، حيث أدت سنوات الحرب والتهجير إلى تفكك النسيج الاجتماعي، وانعدام الثقة بين المكونات المختلفة. كما أن هناك مخاوف من عمليات انتقامية، أو تهميش بعض الفئات في النظام الجديد. تتطلب المصالحة الوطنية إطلاق مبادرات للحوار المجتمعي، بمشاركة شخصيات وطنية مؤثرة، وزعماء العشائر، ورجال الدين، والمجتمع المدني. يجب أن تكون هذه الحوارات مدعومة ببرامج للعدالة الانتقالية، بحيث يتم التعامل مع جرائم الحرب بطريقة تضمن تحقيق العدالة، وكشف الحقيقة ومنه تخليد الذكرى ومنع تكرارها، دون أن تتحول إلى أداة انتقامية.
ينبغي كذلك وضع خطة متكاملة لعودة اللاجئين تدريجياً، تشمل توفير ضمانات أمنية للعائدين، وتقديم حوافز اقتصادية لهم، وإعادة تأهيل المناطق المتضررة لضمان استيعابهم. يُمكن أن تلعب تركيا والدول العربية، مثل الأردن ولبنان وقطر والسعودية والإمارات دوراً في دعم هذه العملية، من خلال توفير بيانات دقيقة عن اللاجئين، وتنسيق عودتهم بشكل منظم ودعم الاستقرار تدريجياً عبر مشاريع البنية التحتية والقروض اللازمة.
بالمقابل، يمثل السوريون في المهجر رصيداً اقتصادياً وخبراتياً هاماً يمكن أن يسهم في إعادة بناء سوريا، خاصة في ظل امتلاك العديد منهم شركات ناجحة، وخبرات مهنية وتقنية، وروابط اقتصادية قوية مع الأسواق العالمية. ولذلك، ينبغي وضع آليات عملية لدمجهم في العملية الاقتصادية، عبر تقديم حوافز استثمارية، وتسهيل إجراءات العودة، ومنحهم دوراً في تطوير القطاعات الإنتاجية، مثل الصناعة والتكنولوجيا والطاقة.
يمكن أن يكون دور الجاليات السورية في الخليج وأوروبا وأمريكا محورياً في نقل المعرفة، وتسريع عملية النهضة والتعافي، مثلاً، عبر الاستثمار في مشاريع صغيرة ومتوسطة، وتعزيز المبادرات الريادية والإنتاجية. كما أن التعاون مع البنوك الخليجية والبنك الإسلامي للتنمية قد يوفر تمويلات ميسرة للمشاريع الناشئة، مما يُسهم في خلق بيئة اقتصادية أكثر استدامة، وتقليل الاعتماد على المساعدات الخارجية.
تثبيت الشرعية الخارجية: تعزيز العلاقات الإقليمية والدولية
بعد التحولات السياسية التي شهدتها سوريا في ديسمبر 2024م، أصبحت السياسة الخارجية السورية تتجه نحو إعادة التوازن وتصفير المشاكل مع دول الجوار، وهو ما يشكل ضرورة لضمان استقرار الحكم الجديد، وتأمين الاعتراف الدولي واستكمال رفع العقوبات، وجذب الاستثمارات لدعم الاقتصاد المتضرر. في هذا السياق، أعلنت الحكومة السورية أنها منفتحة على بناء علاقات قائمة على المصالح المشتركة مع جميع الدول، لكنها في الوقت ذاته أكدت أنها لن تكون خاضعة لأي مشروع إقليمي، ولن تتحول إلى ساحة نفوذ لأي طرف.
إن تحقيق هذا النوع من التوازن والاستقلالية يتطلب جهداً مضاعفاً، خاصة وأن الضغوطات أو الاملاءات المحتملة على الإدارة الجديدة، تتعلق بمسألتين، الأولى: موقع سورية ودورها المرتقب ضمن النظام الإقليمي الجديد، أما الثانية فتتعلق بطبيعة الإدارة الجديدة ذاتها بتاريخها وتحولاتها والهواجس المستقبلية منها.
وفي هذا الإطار، أكد الرئيس أحمد الشرع ووزير الخارجية السوري، في العديد من المناسبات، على أن سوريا الجديدة لن تصدر الأزمات إلى محيطها، وستلتزم بمنع تدفق الإرهاب والمخدرات عبر حدودها، مع التأكيد على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. كما أكدت الحكومة أنها قضت على المشروع الإيراني في سوريا ولبنان، دون أن تتحول إلى أداة لأي مشروع آخر في المنطقة، مما يعكس رغبة قوية في بناء سياسة خارجية أكثر استقلالية وانفتاحاً.
تُعد إعادة بناء العلاقات مع الدول العربية إحدى أهم الأولويات في السياسة الخارجية السورية، حيث تسعى الدولة إلى العودة إلى الحاضنة العربية، وبناء شراكات استراتيجية مع دول مجلس التعاون الخليجي، وخاصة المملكة العربية السعودية، ودول جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي. ويتطلب تحقيق هذا الهدف إعادة تأهيل الكوادر الدبلوماسية السورية، ليكونوا قادرين على تمثيل المصالح الوطنية بفعالية في المشهد الإقليمي والدولي. وأحياناً أيضاً تحتاج الدولة الجديدة إلى تسديد بعض الاشتراكات في الهيئات الأممية والإقليمية والتي لم تسددها عبر سنوات الثورة بسبب العقوبات وأسباب أخرى.
يمكن تحقيق هذا الهدف عبر توأمة المعهد الدبلوماسي السوري مع نظرائها في الدول العربية، حيث تمتلك دول مثل الإمارات والسعودية ومصر تجارب ناجحة في بناء قدرات الدبلوماسيين وصياغة استراتيجيات العلاقات الدولية. كما أن إعادة انخراط سوريا في المنظمات العربية والإسلامية، والتوقيع على اتفاقيات تعاون سياسي واقتصادي وأمني، سيُساعد في تسريع عملية الاعتراف الدبلوماسي، وتأمين الدعم العربي لإعادة الإعمار.
يُشكل الدعم العربي عنصراً رئيسياً في مساعدة سوريا على تجاوز أزماتها الاقتصادية، سواء من خلال ضخ الاستثمارات المباشرة، أو تقديم الدعم الفني والتقني، أو المساهمة في إعادة تأهيل البنية التحتية. على المدى القصير، يكمُن الدور العربي الأساسي في إعادة بناء المؤسسات الحكومية، وتحسين كفاءة الإدارة العامة، وضمان قدرة القطاع الخاص السوري على استيعاب التمويلات والاستثمارات المستقبلية.
من جهة أخرى، تحتاج سوريا إلى شراكات اقتصادية قوية مع دول الخليج ومصر والأردن والعراق ولبنان وتركيا، لضمان تدفق الخبرات والمعرفة الاقتصادية، وتعزيز البيئة الاستثمارية. يمكن تحقيق ذلك من خلال التعاون مع المؤسسات المالية العربية، مثل الصناديق الاستثمارية الخليجية والبنك الإسلامي للتنمية، لتأمين تمويل طويل الأمد لمشاريع البنية التحتية والطاقة. إضافة إلى ذلك، يمكن إشراك المؤسسات المالية الأوروبية، مثل البنك الألماني KFW، في تمويل بعض المشاريع التنموية.
تُعد إعادة الإعمار التحدي الأكبر في المرحلة الانتقالية، حيث تحتاج سوريا إلى مئات المليارات من الدولارات لإصلاح البنية التحتية، وإعادة تشغيل المصانع، وتوفير الخدمات الأساسية خصوصاً في واقع اقتصادي يزداد تدهوراً ومجتمع دولي خفض من مساعداته الإنسانية. وبما أن رفع العقوبات الغربية سيستغرق وقتاً طويلاً، ينبغي على الدولة السورية أن تعتمد استراتيجية إسعافية طارئة تستند إلى التعاون الأوروبي، والجاليات السورية، والشراكات العربية.
وقبل ضخ أي تمويلات ضخمة، هناك حاجة ماسة إلى إصلاح المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص والقوانين ذات الصلة، لضمان إدارة فعالة للأموال، ومنع أي سوء استخدام للمساعدات. يجب أن يكون التركيز في المرحلة الأولى على إعادة بناء شبكات الكهرباء والمياه والنقل، وتحسين الخدمات الصحية والتعليمية، باعتبارها الركائز الأساسية لجذب المستثمرين وإعادة تشغيل الاقتصاد.
بالإضافة إلى دعم إعادة الإعمار، يمثل التعاون الاقتصادي العربي-التركي فرصة لتعزيز الاستقرار في المنطقة، حيث يمكن للتجارة الإقليمية أن تسهم في تسريع تعافي الاقتصاد السوري. تُعد سوريا ممراً تجارياً استراتيجياً بين دول الخليج وتركيا وأوروبا، ويمكن أن تستفيد من هذا الموقع من خلال إبرام اتفاقيات تجارية ونفطية مع الدول المجاورة، وتطوير الموانئ والمعابر الحدودية، وتحفيز قطاع النقل والخدمات اللوجستية.
إضافة إلى ذلك، فإن التعاون الأمني بين سوريا والدول العربية وتركيا في مجال مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة وحماية الحدود سيكون عنصراً أساسياً في استعادة الاستقرار. يمكن أن يشمل ذلك تنسيق الجهود الاستخباراتية، وتبادل المعلومات الأمنية، وتعزيز الرقابة على تمويل الجماعات الإرهابية، وحماية السجون التي تضم مقاتلي تنظيم الدولة.
تواجه سوريا مرحلة إعادة بناء شاملة تتطلب سياسة خارجية متوازنة، وانفتاحاً اقتصادياً مستداماً، وتعاوناً وثيقاً مع الدول العربية والإقليمية. ويُشكل الدور العربي عاملاً أساسياً في دعم الاقتصاد السوري، سواء من خلال تأهيل البنية التحتية والمؤسساتية، أو من خلال تشجيع الاستثمارات، أو تعزيز دور السوريين في الخارج في دعم الإنتاج المحلي. وعلى المستوى الدبلوماسي، تحتاج سوريا إلى تعزيز حضورها في المنظمات الإقليمية، وتطوير علاقاتها مع الدول المؤثرة في المنطقة، لضمان الدعم السياسي والاقتصادي اللازم للمرحلة الانتقالية. وبالتزامن مع ذلك، ينبغي العمل على خلق بيئة استثمارية جذابة، وتشجيع الشراكات الاقتصادية، وإعادة تأهيل القطاعات الإنتاجية، لتحقيق نهضة اقتصادية مستدامة تؤسس لمستقبل مستقر.
على الصعيد الأمريكي، ورغم احتمال تراجع الوجود العسكري المباشر، يبقى تأثير واشنطن حاسمًا في ملف العقوبات والسياسات المالية تجاه سوريا، مما يستدعي تبني نهج أكثر تفاعلًا عبر تعيين ممثل سياسي-تقني متخصص في واشنطن تكون مهمته التعامل مع الدوائر الأمريكية المعنية بالشأن السوري، من وزارة الخزانة إلى مراكز صنع القرار الاقتصادي والسياسي، لضمان التقدم في المسارات التقنية التي قد تؤدي إلى تخفيف العقوبات تدريجيًا. أيضاً ينبغي تعزيز العمل المعلن والمنهجي في مكافحة الإرهاب والأسلحة الكيماوية وتصدير الإدارة الجديدة أنها الجهة القادرة على التعاون الدولي في هذا المجال.
بالمقابل ينبغي الإسراع في تعيين ممثل سوري فاعل في الأمم المتحدة يصبح ضروريًا لمعالجة الملفات التقنية العالقة، سواء فيما يخص المساعدات الإنسانية، أو استعادة العلاقات مع المؤسسات الدولية، أو الدفع باتجاه رفع العقوبات من خلال قنوات قانونية ودبلوماسية، خاصة أن العديد من هذه الملفات تتطلب حلولًا تفصيلية وتقنية وليس فقط مواقف سياسية. إن بناء استراتيجية تواصل فعالة مع الولايات المتحدة والأمم المتحدة في القضايا الفنية والاقتصادية يمكن أن يسهم في تحقيق اختراقات مهمة في ملف العقوبات، ويعزز فرص استعادة سوريا لدورها الطبيعي في المنظومة الدولية. أما عن الدور التركي فهو جزء من الترتيبات الأمنية لتشكيل المنظومة الأمنية الإقليمية، حيث أن استبعاد تركيا في السابق من الحلول الإقليمية لم يكن مجدياً. وهنا يأتي بنفس الأهمية موازنة هذا الدور بشكل لا يشكل قلقاً للمنظومة الأمنية والاقتصادية الإقليمية المتشكلة عبر تعزيز التعاون العربي وبناء أدوار تكاملية وتوافقية إقليمية وليست تنافسية.
ختاماً، تواجه سوريا مرحلة دقيقة من التحولات السياسية والاقتصادية والأمنية، حيث تسعى إلى إعادة بناء الدولة، وتحقيق المصالحة الوطنية، والانخراط في النظام الإقليمي والدولي. يتطلب ذلك إدارة ذكية للتحديات، وتحقيق توازن بين الاستقرار الداخلي والانفتاح الخارجي. إذا تم تنفيذ هذه الإصلاحات بفعالية، فستتمكن سوريا من استعادة سيادتها، وتحقيق مستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المدير التنفيذي ـــ مركز عمران للدراسات الاستراتيجية