كان سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر 2024م، مدويا وسريعا، فقد نجحت المعارضة في تنظيم صفوفها وبدأت عملية ردع العدوان في نهاية نوفمبر 2024 م، وتمكنت خلال 11 يوما من إسقاط نظام الأسد بعد مسار طويل للثورة السورية استمر لأكثر من 13 عاما هو عمر الثورة السورية، مرت خلالها الثورة بمراحل كثيرة من الضعف والقوة، ومراحل طويلة من الصراع العسكري والمفاوضات السياسية، لكن كل ذلك فشل في تحقيق أهداف الثورة السورية في إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد. لكن بنفس الوقت كان مفاجئا انهيار النظام بسرع خيالية مع بدء عملية ردع العدوان التي أعلنتها المعارضة السورية، فكيف تطورت الأمور. وما هي المعارضة المسلحة التي بدأت عملية ردع العدوان؟
تشاركت عدة فصائل سورية معارضة في معركة "ردع العدوان"، التي تُعدّ أوسع هجوم للمعارضة منذ عام 2020م، أو ما يسمى الاتفاق على اتفاقيات خفض التصعيد التي اتفق عليها ضمن مسار أستانا الذي تقوده روسيا وإيران وتركيا، شكلت هذه الفصائل ما يسمى غرفة إدارة العمليات العسكرية أي غرفة مركزية للعمليات بقيادة موحدة من أجل تنسيق الجهود، وللمعارضة المسلحة خبرة طويلة في مثل هذا النوع من الغرف المركزية لكنها كانت جميعها مؤقتة وتفشل كليا مع انتهاء المعركة أو حين بدايتها.
تقود هذه الفصائل هيئة تحرير الشام وهي جماعة إسلامية مسلحة تشكلت في يناير 2017م، وكانت تتبع لتنظيم القاعدة قبل أن تعلن عن فك الارتباط بها في يوليو 2016م، وتضعها الولايات المتحدة على لائحة المنظمات الإرهابية، فقد كانت الفصيل الأكبر والأكثر تنظيما من بين الفصائل وربما تكون هي صاحبة الفضل في إدارة العملية العسكرية "ردع العدوان برمتها، إذ كشف أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) أنه بدأ بالتحضير لهذه المعركة قبل عام تقريبا. وبحكم سيطرتها على مساحات واسعة في إدلب منذ عام 2017م، فقد وضعت كل جهودها العسكرية للتحضير لهذه المعركة وربما كان الاستثمار العسكري وخاصة المسيرات (شاهين) وفرقة العصابات الحمراء أي فرقة النخبة الخاصة الذي قامت به الحركة لعب دورا رئيسيا في إسقاط نظام الأسد.
الفصيل الآخر الذي شارك في عملية ردع العدوان كان الجيش الوطني السوري والذي يحصل على تدريبه وتمويله من تركيا، وهو عبارة عن مقاتلي الجيش السوري الحر الذين ذهبوا إلى تركيا وقامت تركيا عبر الحكومة السورية المؤقتة بدمجهم في تشكيلات مقاتلة مدربة بشكل جيد أطلق عليها الجيش الوطني.
كما شاركت حركة أحرار الشام وهي حركة نشأت إثر اندماج أربع فصائل إسلامية سورية وهي "كتائب أحرار الشام" و"حركة الفجر الإسلامية" و"جماعة الطليعة الإسلامية" و"كتائب الإيمان المقاتلة". وكانت سابقا من أقوى الفصائل المسلحة في مناطق مختلفة في سورية مثل إدلب وريفي حلب وحماة قبل أن تتعرض قياداتها العسكرية لسلسلة اغتيالات أثرت كثيرا على بنيتها القتالية، لكنها شاركت بفعالية في عملية ردع العدوان وخاصة السيطرة على حلب.
ثم هناك فصائل عسكرية أقل عددا من مثل الجبهة الوطنية للتحرير و "جيش العزة" وكتائب "نور الدين الزنكي" وجيش الإسلام ومعظمهم كان لهم دور مختلف في قتال نظام الأسد من عام 2013 وحتى عام 2020م، لكنهم جميعا انخرطوا في إطار قيادة عسكرية موحدة أطلق عليها إدارة العمليات العسكرية.
التطور العسكري لعملية ردع العدوان:
تمكنت الفصائل العسكرية المشاركة في عملية ردع العدوان من إسقاط نظام الأسد في دمشق في أقل من 11 يوماً، عندما بدأت بعملية مباغتة وسريعة في حلب بدأت في 28 نوفمبر 2024م، حيث سيطرت إدارة العمليات العسكرية وبشكل مفاجئ على مساحات واسعة من ريف إدلب الشرقي وريف إدلب الغربي لكن سبقها بيوم تقريبا عملية نوعية قامت بها فرقة العصابات الحمراء باستهداف اجتماع عالي المستوى للقيادات الأمنية لنظام الأسد في حلب مع قادة الميليشيات الإيرانية التي تدعم نظام الأسد على الأرض وقتل في هذا الاستهداف العميد القيادي في الحرس الثوري الإيراني كيومرث بور هاشمي وهو ما أدى إلى تفكك سلسلة القيادة وإعطاء الأوامر لدى نظام الأسد والميليشيات الإيرانية المتحالفة معه وهو ما عجل بشكل كبير في انهيار النظام في حلب وانسحاب قواته بشكل شبه كامل تقريبا. وفي يوم الجمعة 29 نوفمبر، سيطرت قوات المعارضة على أحياء عدة في مدينة حلب ووصلت إلى حي الحمدانية لأول مرة في تاريخ الثورة السورية، وبدأت الفيديوهات تظهر سيطرة المعارضة على كامل المدينة وانسحاب النظام كليا من الفروع الأمنية والعسكرية في مناطق حلب المختلف.
هذا كان له وقع الصدمة كليا على مؤيدي الأسد ومقاتليه، فالكل شعر أنه لا وجود للميليشات الإيرانية التي كان لها الدور الأبرز في الدفاع عن حلب لحساب الأسد في أعوام 2014م، وحتى عام 2018م، عندما سيطر النظام عليها كليا من المعارضة بعد دعم جوي روسي كامل.
في اليوم التالي وسعت المعارضة سيطرتها على ريف حلب بحيث بسطت سيطرتها على كامل المحافظة بما فيها المطارات العسكرية الرئيسية في المحافظة والتي كان الأسد يستخدمها لقصف المدنيين بالبراميل المتفجرة.
وفي يوم السبت 30 نوفمبر، أعلن الجيش السوري التابع للنظام أنه أمر قواته "الانسحاب الآمن" و"إعادة الإنتشار" في بيان أصبح مكررا في كل مدينة تدخلها المعارضة السورية من حماة إلى حمص. وكان هذا الانسحاب مؤشرا على الخلل العسكري الكبير الذي يعانيه نظام الأسد حيث فقد دعم حلفاءه على الأرض وخاصة الميليشيات الإيرانية التي كانت تدعم قوات الأسد على مدى سنوات في المدن السورية المختلفة، وفي اليوم التالي 1 ديسمبر، بدأ زحف قوات المعارضة نحو حماة التي يمكن القول إنها المدينة الوحيدة التي خاضت فيها المعارضة المسلحة صراعا مسلحا حيث سيطرت على حلب من قبل ودمشق فيما بعد دون اي قتال يذكر.
كثّف الطيران الحربي السوري / الروسي المشترك ضرباته ضد المعارضة التي أحاطت حماة من ثلاث محاور وادعى جيش النظام أنه جلب تعزيزات عسكرية بهدف صد المعارصة، لكن القوة النارية للمعارضة هنا كانت تتفوق على القدرة النارية للنظام بشكل كبير إضافة إلى القدرة النوعية لاستخدام المسيرات والتي لعبت دورا رئيسيا ٌفي خلخلة صفوف قوات النظام حيث تمكنت من قتل رئيس فرع الأمن السياسي في حماة بفضل هذه المسيرات التي تبدو فعالة في هذه المعركة وأجبرت الفرقة الخامسة والعشرين وهي الفرقة التي يقودها الجنرال سهيل الحسن الذي اعتمدت قوات الأسد عليه كثيرا في السابق كما أنه أصبح مفضلا لدى روسيا التي أنشأت له الفرقة بشكل خاص، لكن الحسن نفسه أصيب في إحدى مسيرات شاهين هذه مما أضعف معنويات مقاتلي جيش النظام بشكل كبير.
استمرت معركة حماة أربعة خمسة أيام تقريبا وحتى 4 ديسمبر، حيث سيطرت المعارضة المسلحة على بلدة قلعة المضيق في منطقة سهل الغاب غرب حماة بالتزامن مع سيطرتها على مدن صوران وطيبة الإمام شمال حماة.
ثم سيطرت على رحبة خطاب الاستراتيجية المجاورة لمطار حماة والتي يقع فيها مركز قيادة الفرقة 25 وبدأت قاب قوسين أو أدنى من دخول المدينة، وفعلا في اليوم التالي تمكن المعارضة من السيطرة على كامل المدينة. يوم الخميس 5 ديسمبر. وأقر الجيش السوري بخسارته مدينة حماة الاستراتيجية معلنا في بيان "قامت الوحدات العسكرية المرابطة فيها بإعادة الانتشار والتموضع خارج المدينة".
فورا وبعد السيطرة حماة بدأ توجه قوات المعارضة نحو مدينة حمص المهمة استراتيجيا فهي تقع في الوسط وتشكل مركز عقدة المواصلات في سوريا كلها.حاولت روسيا مع طيران الأسد قصف جسر الرستن من أجل إبطاء تقدم المعارضو نحو حمص، لكن المعارضة تمكنت من حصار المدينة يوم الجمعة 6 ديسمبر.
في اليوم التالي تسارعت الأحداث بشكل كبير جداً، حيث سيطر الثوار في مدينة السويداء على الفروع الأمنية بالكامل وباتوا يسيطرون على المدينة بشكل كامل وهذا ما شجع المقاتلين السوريين في ردعا والذي أقاموا مصالحات مع نظام الأسد بعد عام 2018 م، على الانشقاق على الأسد مجدداً، وتشكيل ما يسمة غرفة عمليات فرع الجنوب التي تمكنت من السيطرة خلال يومين على كل الفروع الأمنية في المحافظة بما فيها المقرات العسكرية المحصنة في المدينة درعا.
وبينما كانت قوات إدارة العمليات العسكرية ما زالت تخوض معارك محدودة في حمض وتقضم منطقة تلو الأخرى بدأت الأخبار تتسلل من انسحاب الجيش والأمن من مقراتهما الرئيسية في دمشق وعمليا كانت دمشق في طريقها للتحرر كليا من قبضة الأسد في لاأقل من 24 ساعة وبدون أية معارك عسكرية.
إلى الآن لم يتضح بعد من ومتى تم إعطاء الأوامر بانسحاب الجيش والأمن من مقراته في العاصمة دمشق ومتى قرر الرئيس السابق بشار الأسد بالهرب ـ لكن رئيس الوزراء الأخير في عهد الأسد تحدث في مقابلة معه على قناة العربية أنه تحدث مع بشار الأسد في حدود العاشرة مساء يوم السبت وأخبره بالفوضى وحركة النزوح الكبيرة باتجاه الساحل. فأجابه "إلى أين يذهبون، وهل هناك بيوت تؤويهم؟"
بعدها حاول الاتصال معه مجددا فجر يوم الأحد 8 ديسمبر لكن دون جدوى فتأكد أن الرئيس السوري بشار الأسد قرر الهروب سيما أن وزيري الدفاع والداخلية أيضا لم يردا على أية اتصالات وفعلا سيطر فصيل أتى من مدينة دوما على التلفزيون الرسمي في ساحة الأمويين في دمشق ليبث أول بيان للمعارضة السورية بعد دخولها العاصمة السورية، وهروب الرئيس السوري بشار الأسد من دمشق.
انتصار المعارضة العسكري في 8 ديسمبر 2025:
أربعة عوامل رئيسية لعبت دورا رئيسيا في انهيار جيش الأسد وانتصار المعارضة بهذه السرعة:
أولا: التفوق النوعي لسلاح للمعارضة: أشار الشرع أنهم بدؤوا بالإعداد لهذه المعركة منذ أكثر من عام حيث جر تطوير القدرات العسكرية لهيئة تحرير الشام بما فيها فرق النخبة الخاصة مثل العصابات الحمراء والصواريخ محلية الصنع مع تطوير المسيرات (شاهين) التي لعبت دورا حاسما في معركة ردع العدوان. فيما يتعلق باستهداف القادة العسكريين والأمنيين لنظام الأسد وبنفس الوقت استهداف السيارات والمدرعات على بعد 30 كيلومتر تقريبا وقد تم استخدامها بكثرة في مدينة حماة التي كان لانتصار المعارضة العسكرية فيها دور حاسم في انهيار قوات الأسد كلياً.
العامل الثاني: كان في ارتفاع معنويات القتالية للمعارضة السورية مقابل انهيار المعنويات القتالية تماما لمقاتلي الأسد، وقد نقل وزير الخارجية الإيراني الذي كان آخر مسؤول يجتمع مع الأسد عن الأسد اشتكاؤه من الجيش الذي لا يرغب أن يقاتل وهذا ما أكدته شهادات الكثيرين من مقاتلي جيش الأسد الذين رفضوا القتال في حلب.
العامل الثالث: التغيرات الإقليمية والدولية وعلى رأسها هزيمة حزب الله ضد إسرائيل والضربات الإسرائيلية والأمريكية المستمرة ضد قادة الميليشيات الإيرانية في سورية لعبت دورا خاصة بعد توقف القتال على الجبهات عام 2020م، في سحب هذه الميليشات لقادتها من سوريا وهم من كانوا يقودون كل العمليات القتالية ضد المعارضة في الشمال السوري.
ومع انسحاب هؤلاء القادة من سوريا فقد جيش الأسد قدرته القيادية تماما على مستوى إعطاء الأوامر والتحركات الاستراتيجية، وقد كشفت بعض الوثائق بعد انهيار الأسد كيف أن المخابرات الجوية السورية حذرت من خطورة ذلك، لكن هذا الانهيار كان تراكميا على مدى 13 عاما ولم يتم بين ليلة وضحاها.
العامل الرابع : كان غياب التأثير الحاسم للقوة الجوية الروسية بسبب انشغال روسيا في أوكرانيا، فبد أن تدخلت روسيا في سوريا في سبتمبر 2015م، وظفت كل قدراتها الجوية لصالح نظام الأسد عبر القصف الدائم لمواقع المعارضة السورية في الشمال السوري، لكن مع بدء التدخل الروسي في أوكرانيا سحبت روسيا الكثير من قواتها العسكرية من سوريا لذلك مع بدء عملية ردع العدوان كان لدى روسيا أربع طائرات مقاتلة فقط، ورغم قصفها لمواقع المعارضة في حماة تحديدا ومن ثم حمص لكن كان واضحا أنها لن تتمكن من صنع أي تغيير يذكر على الأرض في ظل التقدم السريع لقوات المعارضة وانسحاب الجيش النظامي وعدم رغبته بالقتال.
بالنهاية كان العامل المحفز لهذه العملية العسكرية هو داخليا بكل تأكيد لكن المعارضة استفادت بشكل ذكي من التبدلات الإقليمية والدولية بما حقق لها في النهاية النجاح في حلم رواد السوريين على مدى 13 عاما وهو إسقاط نظام عائلة الأسد التي حكمت سورية بالحديد والنار على مدى 54 عاماً.
الانتقال السياسي في سورية:
مع اللحظة الأولى لسقوط نظام الطاغية الأسد، والتفكير كان ينصب على الخيار الذي ستسلكه الإدارة السورية الجديدة فيما يتعلق بالغطاء القانوني والدستوري للمرحلة الانتقالية، خرجت الكثير من الأفكار على السطح من مثل الدعوة إلى مؤتمر للحوار و جرى تداول فكرة المؤتمر الوطني على غرار فكرة المؤتمر السوري العام في يونيو ١٩١٩م، لكن اعضاء ذلك المؤتمر التسعين كانو اعضاء في مجلس المبعوثان العثماني ممثلين عن مناطق بلاد الشام المختلفة من مثل سورية ولبنان، صحيح أن التمثيل كان حقيقيًا على المستوى المذهبي والديني والثقافي، فتحدّر أعضاء المؤتمر من مختلف عناصر الهيكل الديني والمذهبي السوري، سنّة علويين ودروزًا ومسيحيين ويهودًا وأعيان ريف ومثقفين ووجهاء مدن يتمتعون بالقوة الاجتماعية والسياسية في مجموعاتهم، وقد ترأس دورات المؤتمر محمد فوزي العظم وهاشم الأتاسي والشيخ رشيد رضا لكن التمثيل كان حصيلة الانتخاب على درجتين، ولذلك فإعادة تطبيق الفكرة صعبة للغاية اليوم. إذ ليس هناك إمكانية للقيام بأية عملية انتخاب تمثيلي في الوقت الحالي.
لذلك بدى امام الادارة السورية الجديدة خيارين فقط، إما العمل بدستور ٢٠١٢ م، وهو ما يعني ان يصبح نائب رئيس الجمهورية فيصل المقداد رئيسا انتقاليا، لكن هذا الخيار لم يكن مقبولا أبدا من قبل الشعب السوري وخاصة القوى الثورية، كما أنه لم يطرح أبدا من قبل المجتمع الدولي الذي بدى مرحبا بساكن قصر الشعب الجديد أحمد الشرع.
الخيار الآخر هو المضي قدما في خيار الشرعية الثورية، وهو مفهوم مؤقت واستثنائي، ينتهي بانتهاء الحالة الثورية أو الفترة الانتقالية. ومختلف عن مفهوم الشرعية كما عرفها عالم الإجتماع الألماني ماكس فيبر وذلك لأن هذا المفهوم يعبّرعن درجة غير عادية واستثنائية من الوحدة الشعبية.
لم يكن هناك اي شك أن إدارة العمليات العسكرية التي قادت عملية ردع العدوان تمتلك هذه الشرعية الثورية ولذلك قام الناطق باسمها العقيد حسن عبد الغني بقراءة خطاب النصر وتفويض السيد الشرع بتشكيل هذه الهيئة، يعني رمزيا نقل الشرعية الثورية من ادراة العمليات العسكرية التي حررت سوريا وانتهت في الثامن ديسمبر الماضي إلى السيد الشرع للبدء بالعملية السياسية التي انطلقت البارحة.
لقد تضمن إعلان النصر مجموعة من القرارات الثورية العامة من مثل حلُّ مجلسِ الشّعبِ، واللجانِ المنبثقةِ عنه. وحلُّ الجيشِ بهدف "إعادةُ بناءِ الجيشِ السوريِّ على أُسُسٍ وطنيةٍ". و "حلُّ جميعِ الأجهزةِ الأمنيةِ بفروعِها وتسمياتِها المختلفةِ، وجميعِ الميليشياتِ التي أَنشَأَهَا، وتشكيلُ مؤسسةٍ أمنيةٍ جديدة تحفظُ أمنَ المواطنين".
كما تم حلُّ حزبِ البعثِ العربيِّ الاشتراكيِّ، وأحزابِ الجبهةِ الوطنيّةِ التقدُّميّةِ، وتم حظر إعادةُ تشكيلِها تحتَ أيِّ اسمٍ آخرَ، كما تم إلغاءُ العملِ بدستورِ سنةِ 2012م، وإيقافُ العملِ بجميعِ القوانينِ الاستثنائيّةِ. وتم تكليف السيد الشرع رئيسا انتقاليا للجمهورية العربية السورية.
وقد تمكن قائد الإدارة السورية الجديدة الشرع من خلال عقد هذا المؤتمر بوقت مبكر من انتصار الثورة من ضبط إيقاع العلاقة بين المدنيين والعسكريين ممثلين في الفصائل المسلحة بوقت مبكر في المرحلة الانتقالية، لأننا ندرك أن هذه العلاقة غالبا ما كنت متوترة وقادت دوما إلى فشل المراحل الانتقالية بعد انهيار النظم السياسية في كل من ليبيا واليمن والسودان.
أما بالنسبة للمرحلة الانتقالية في سوريا فيجب دوما تذكر ما كتبه ستيفن ليفتسكي صاحب الكتاب الشهير عن الأنظمة المختلطة فقد ميز في كتابه الشهير " الأنظمة الهجينة" بين أنواع مختلفة من الأنظمة التسلطية التي تحكم حول العالم، ودرس نماذج الانتقال السياسي في عدد كبير من دول العالم، فله مقولة مشهورة "مدخلات العملية الانتقالية تحدد مخرجاتها" بمعنى ان سوريا التي حكمتها مؤسسات طائفية كالجيش والأمن على مدى اكثر من ٦٠ عاما في ظل حكم نظام حزبي واحد تسلطي وغياب للجهاز البيروقراطي وانعدام فكرة القانون والمساءلة ، كما النظام الشمولي الذي حكم سوريا يعد النموذج الأكثر إنغلاقا وشمولية في المنطقة العربية وربما العالم باستثناء كوريا الشمالية ، كما أنه امتد لعقودا طويلة وبالتالي كان متجها باتجاه تحلل مؤسسات الدولة وأخذها طابعا زبائنيا وعائليا وهو بالتالي يفتح الباب باتجاه إضعاف المؤسسات وتقوية الشبكات ذات المصالح الخاصة داخل الدولة وخارجها التي تجعل من وظيفتها استمرار النظام الحاكم بأي شكل من الأشكال ولو على حساب المصالح الوطنية العليا التي غالبا ما تختفي أو بالأصح تصبح محل وجهات نظر متباينة حولها، وتسود وجهة نظر العائلة الحاكمة في تحديدها لمعنى المصالح القومية العليا
مؤتمر الحوار الوطني:
مباشرة وبعد مؤتمر النصر الذي نصب السيد أحمد الشرع رئيسا، أعلن في خطاب له تصوره للمرحلة الانتقالية عبر تشكيل لجنة تحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني كي تقوم بالتحضير للإعلان الدستوري وتشكيل حكومة جديدة تخلف حكومة تصريف الأعمال التي سيرت أمور الحكومة الانتقالية بعد انتصار الثورة السورية في الثامن من ديسمبر 2024م، وفعلا جرى تشكيل اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني التي قوبلت بارتياح سياسي ومجتمعي كبير.
ولذلك يلعب الحوار كآلية سياسية – اجتماعية دورا محوريا في نزع فتيل هذه الصراعات الخامدة ويمنعها من التحول إلى صراعات علنية سواء أكانت مسلحة أم تهديد سياسي عبر المظاهرات في الشارع، مع خطورة هذا الشكل من الاحتجاجات التي من شأنها أن تقود إلى انقسامات اجتماعية أكثر حدة ثم تأخذ أشكالا أكثر عنفا وراديكالية من مثل حمل السلاح ضد الحكومة الشرعية التي يجب أن تحتكر العنف ولكن بنفس الوقت يجب أن يكون لها القدرة على استيعاب المكونات السياسية والاجتماعية المختلفة كي لا تدخل البلد في اضطرابات تعيق عملية الاستقرار وتؤخر عملية البناء السياسي والديمقراطي والتنموي.
انتقلت اللجنة وعقدت جلسات للحوار في مختلف المدن السورية وقد كان الحوار حرا ومفتوحا شارك به كل السوريين على اختلاف طوائفهم وعرقياتهم وميولهم السياسية والاجتماعية وهو ما حقق الهدف السياسي المنوط من الحوار وهو تخفيف ونزع فتيل الصراعات السياسية الخامدة خلال المرحلة الانتقالية وإشعار السوريين أن الإدارة السياسية الجديدة ترغب بالاستماع منهم جميعا، وقد أظهرت اللجنة أن الإدارة السورية الجديدة للسوريين عبر تشكيل لجنة الحوار أنها تهتم بآرائهم ويهمها مشاركتهم جميعا في المرحلة الانتقالية بهدف المشاركة جميعا في تحقيق الاستقرار والتنمية.
فكان من الضروري إعطاء عملية الحوار وقتها الضروري والكافي من أجل تحقيق أهدافها السياسية المتمثلة في الرسالة التي تريد الإدارة الجديدة أن ترسلها للشعب السوري، وهي أن فترة التجاهل والإهمال التي سادت خلال عقود الأسد انتهت، والان وظيفة الإدارة الجديدة هي الاستماع والمشاركة وبذلك يتحقق الهدف المنوط من إطلاق عملية الحوار كلها.
وبنفس الوقت تساعد عملية الحوار في تقريب وجهات النظر السياسية المختلفة بين السوريين مما يسهل التوافق حول القضايا السياسية الخلافية التي ستظهر فيما بعد خاصة في مرحلة كتابة الدستور الدائم، والانتخابات القادمة وهوية الدولة وغيرها من ترتيبات المرحلة الانتقالية، فالحوار المبكر في هذه القضايا يسهل عملية بناء التوافق السياسي ويخفف من الاستقطاب الذي من شأنه أن يقود إلى نزاع سياسي وانقاسامات مجتمعية تفتت العملية الانتقالية ويدمرها.
صدور الإعلان الدستوري المؤقت:
أعلن رئيس الجمهورية أحمد الشرع في خطابه الثاني بعد خطاب النصر، والذي أعلن عن تشكيل لجنتين تحضيريتيين واحدة للتحضير لمؤتمر الحوار الوطني والثانية لتشكيل الهيئة التشريعية.
ثم أعلن الرئيس الشرع في الثاني من مارس 2025م، تشكيل لجنة لصياغة الإعلان الدستوري، مكونة من 7 قانونيين، وسلمت المسودة في 12 مارس، ووقع الرئيس السوري على الإعلان الدستوري في اليوم التالي.
وأوضحت لجنة الخبراء المكلفة بصياغة الإعلان الدستوري، في مؤتمر صحفي عُقد عقب تسليمه للرئيس الشرع، أنها استندت في إعداد الوثيقة إلى مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الذي عُقد في فبراير/شباط 2025م.
لقد صيغت الوثيقة بالاعتماد على ثلاث وثائق تأسيسية رئيسية وهي دستور عام 1950م، ومؤتمر خطاب النصر والبيان الختامي لمؤتمر الحوار الوطني حيث اعتبرا وثيقتان تأسيسيتان وهو ما أشارت له ديباجة الإعلان الدستوري عندما تحدث أنه "واستنادا إلى القيم العريقة والأصيلة التي يتميز بها المجتمع السوري بتنوعه وتراثه الحضاري، وإلى المبادئ الوطنية والإنسانية الراسخة، وحرصا على إرساء قواعد الحكم الدستوري السليم المستوحى من روح الدساتير السورية السابقة، ولا سيما دستور عام 1950 -دستور الاستقلال-، وإعمالا لما نص عليه إعلان انتصار الثورة السورية الصادر بتاريخ 29 (ديسمبر) كانون الأول 2025، الذي يُعد أساسا متينا لهذا الإعلان".
وبذلك تكون سورية قد خطت الخطوات الأولى باتجاه تحقيق الانتقال السياسي الذي حدد الإعلان الدستوري بأنه سيمتد على مدى خمسة أعوام حتى تتمكن سورية من عقد أول انتخابات تشريعية ورئاسية.