array(1) { [0]=> object(stdClass)#13837 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 209

سياسة ترامب تعزز نفوذ روسيا والصين في المنطقة ويبحث العرب عن حلفاء جدد لتحقيق التوازن

الأربعاء، 30 نيسان/أبريل 2025

"العالم ما بعد ترامب مختلف عن العالم ما قبل ترامب" هذا ما يقوله بعض المحللين الذين يلاحظون أقوالا وتصرفات صادمة ومتناقضة تصدر عن ترامب والمحيطين به. وهي تعني تغييرات استراتيجية واقتصادية قد يشهدها العالم ومنه الشرق الأوسط. والصوت الأعلى هو مصلحة أمريكا وإسرائيل بلا اعتبار لحقوق الإنسان أو التوافقات الدولية. وكأن دروس الحربين العالميتين الأولى والثانية قد طالها النكران والنسيان، والأجدى هو التهيؤ لحرب ثالثة. الوجه الآخر للدمار والخراب هو مبيعات الأسلحة والذخائر، وتصريف المخزون منها، وتجربة الجديد الذي هو أشد فتكًا وأبعد مدىً وأكثر دقة. التاريخ يعيد نفسه، فهكذا نشأت أمريكا، وهكذا استحوذت الدول الكبرى على ثروات إفريقيا والشرق بزعم الإعمار. هناك إذن صدع للتوازن العالمي القائم بين الشرق والغرب، وأفول تحالفات ونشأة تحالفات، وبات لزاماً على الدول العربية أن تؤمِّن سيادتها واستقلالها، وتختار من الشراكات ما يضمن لها ذلك.

تداعيات التوازنات العسكرية والاستراتيجية في العالم

§       التقارب الأمريكي-الروسي

شهدت العاصمة السعودية الرياض في فبراير الماضي مفاوضات بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا واتفق الجانبان على استئناف عمل البعثات الدبلوماسية بشكل طبيعي. وأشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن الهدف هو إطلاق مسار استعادة الثقة بين موسكو وواشنطن ومناقشة القضايا الاقتصادية وأسواق الطاقة والفضاء وغيرها من المجالات. ويثير ذلك التقارب تساؤلات حول مسار التعددية القطبية الذي يتبناه الرئيس الروسي، وتدعو إليه الصين لعجز النظام العالمي الحالي عن تحقيق الاستقرار وحل الصراعات في العديد من المناطق. وقد أكدت مناقشات مؤتمر ميونخ للأمن 2025م، بأن النظام الحالي يشهد إرهاصات ميلاد نظام التعددية القطبية كبديل للأحادية القطبية. يرى بعض المحللين أن التقارب الأمريكي الروسي يعد خصمًا من رصيد التفاعلات الأمريكية ـ الأوروبية التي شكلت الإطار الداعم للهيمنة الأمريكية. وبعد تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رئاسته الثانية طالب الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي "الناتو" بزيادة الإنفاق الدفاعي ليصل إلى 5% من الناتج المحلي، وفرَضَ تعريفات جمركية على الواردات الأمريكية من أوروبا، واتجه إلى دعم الأحزاب اليمينية المناهضة للوحدة الأوروبية، ومعظمها يميل لتأييد روسيا والصين.

 

§       أفول الأحادية القطبية

 

كانت الولايات المتحدة تتكفل بالدفاع عن الأمن الأوروبي وحمايته ضد مصادر التهديدات المختلفة، إلا أن الصراع الروسي ـ الأوكراني جسّد الخلاف بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية منذ وصول ترامب مما دفع الدول الأوروبية لأن تتحفظ على خطة السلام الأمريكية في أوكرانيا. وعكست تصريحات فانس نائب الرئيس الأمريكي خلال فعاليات مؤتمر ميونخ للأمن 2025م، عمق التباعد بين ضفتي الأطلسي، وانتقاده للديمقراطيات الأوروبية فيما يخص حرية التعبير، وعدم سيطرتها على الهجرة غير الشرعية. ومن بين ما يعكس عمق أزمة الهيمنة الأمريكية وتراجع دورها العالمي، وأفول قوتها الناعمة قرارات ترامب بالانسحاب من منظمة الصحة العالمية، ومجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، واتفاقية باريس للمناخ، واعتزام إغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية.

 

§       الطريق نحو التعددية القطبية

 

تحتل الولايات المتحدة الأمريكية المركز الأول عالميًا كقطب اقتصادي، وتأتي الصين في المرتبة الثانية، وهما يؤثران بقوة على مسارات الاقتصاد العالمي ككل، وتعم الفائدة بتعزيز الشراكة القائمة على التنافس التعاوني بدلًا من عملية التنافس القائمة على فك الارتباط بينهما. ورغم ذلك فقد اتجه الرئيس دونالد ترامب إلى فرض تعريفات جمركية على الواردات من الصين، وهو ما أدى إلى قيام الصين بإجراء مماثل. تشكّل الشراكة الاستراتيجية بين الصين وروسيا أحد مرتكزات التحول إلى التعددية القطبية، وتؤسس ركائز الشراكة بين روسيا والصين واعتزام العمل معًا ضد الهيمنة الأمريكية، لبناء نظام دولي جديد يراعي حقوق الإنسان والديمقراطية ومنظومة القيم العالمية التي تبشر ببزوغ نظام دولي متعدد الأقطاب.

§       الضغط الأمريكي على أوكرانيا

 

بعد خلافات بين ترامب وزيلينسكي خلال لقائهما في البيت الأبيض كان إعلان الولايات المتحدة تعليق مساعداتها لأوكرانيا. وشمل هذا التعليق وقف تسليم الرادارات العسكرية والذخيرة وتبادل المعلومات الاستخباراتية، وربما تسعى الولايات المتحدة لدعم الانتخابات الرئاسية في أوكرانيا لانتخاب قيادة جديدة قادرة على قيادة مفاوضات السلام مع روسيا. وكان من نتائج محادثات جدة والعرض الأمريكي باستئناف المساعدات العسكرية والاستخباراتية قبول أوكرانيا لمقترح وقف إطلاق النار، كما أنها أدت إلى اتفاقات بشأن صفقة معادن كان الرئيس الأمريكي قد اقترحها سابقًا ستحصل واشنطن بموجبها على حصة 50% من عائدات الثروة المعدنية الهائلة لأوكرانيا مقابل المساعدات المقدمة لها منذ بداية حربها مع روسيا، كما أن كييف ستحصل على ضمانات أمنية، مما يربط فعليًا المصالح الاقتصادية الأمريكية بأمن أوكرانيا. وكشف البيان الأمريكي الأوكراني المشترك أن الرئيس الأوكراني سيوقع قريبًا اتفاقية شاملة مع الولايات المتحدة بشأن تطوير الموارد المعدنية الحيوية لكييف.

§       قدرات الضربات العميقة

أدت الحرب في أوكرانيا إلى تطور قدرات الضربات العميقة. فبعد أن بدأت روسيا الحرب بترسانة هائلة من الصواريخ التقليدية، أصبح لديها الآن عدد متزايد من المُسَيَّرات بعيدة المدى أحادية الاتجاه لتكملة وابل الصواريخ وضمان وصولها إلى هدفها. أما أوكرانيا، فقد طورت ترسانتها الخاصة من الأنظمة غير المأهولة بعيدة المدى القادرة على ضرب أهداف بالغة الأهمية في عمق الأراضي الروسية. إن احتمال نشوب صراع كبير مع روسيا، إلى جانب حالة عدم اليقين المحيطة بالتدخل الأمريكي، يدفع الجيوش الأوروبية إلى تطوير قدراتها في مجال الضربات العميقة، وخاصةً صواريخ أرض-أرض. ويدفع تحول تركيز واشنطن نحو المسرح الآسيوي القوات المسلحة الأوروبية إلى تجهيز نفسها بأصول تقليدية كافية لتنفيذ مهام الضربات العميقة دون مساعدة أمريكية. ولمواجهة التهديد الصيني، تسعى القوات البرية والبحرية الأوروبية إلى زيادة قدرتها على تنفيذ ضربات عميقة والوصول إلى مدى أبعد، مما يطرح معضلات استراتيجية من حيث الاستهداف والتحكم في التصعيد.

 

التوازن العالمي القائم بين الشرق والغرب

 

§       القوى الكبرى

شهدت التسعينيات هيمنة الولايات المتحدة وكانت تكنولوجيتها تسبق ما لدى الشرق بنحو أربعة إلى خمسة أجيال. ولا تمتلك اليوم أي تفوق كبير على الصين أو روسيا، ويبدو من المؤكد أن القوات الجوية الصينية سوف تلحق سريعًا بالقوات الجوية الغربية. وفي مقابل ما تتميز به الولايات المتحدة من تفوق تكنولوجي محدود تتمتع الصين بميزة إنتاجية ضخمة وقدرة هائلة على التعبئة. الآن، يبلغ الفارق جيلًا ونصفًا كحد أقصى في بعض المجالات مثل: الإنذار المبكر Early Warning؛ والملاحة والمراقبة عبر الأقمار الصناعية Satellite Navigation & Monitoring؛ والرادار المتقدم Advanced Radar؛ وتكنولوجيا التخفي Stealth Technology ومع ذلك، يحرز الشرق تقدمًا في بعض المجالات مثل: الرادار الأرضي Ground Radar؛ والدفاع الجوي متعدد الطبقات Layered Air Defense؛ والصواريخ فرط الصوتية Hypersonic Missiles؛ والحرب الإلكترونية Electronic Warfare؛ وتشويش الإشارات ذات النبضات الكهرومغناطيسية EMP Enabled Signals Jamming. ويتطور الصينيون بسرعة تفوق سرعة الولايات المتحدة بثلاثة أضعاف، ومثال ذلك: تدخل طائرة مقاتلة أمريكية مرحلة التصنيع التجاري إثر تعديل التصميم بعد 8 سنوات في المتوسط مقابل 3 سنوات ونصف للطائرة المقاتلة الصينية.

في الوقت نفسه، قد يسعى ترامب إلى تحقيق توازن بين بناء علاقات أفضل مع موسكو وبين الحفاظ على دعم الحلفاء التقليديين في الناتو. هذا التوازن سيكون تحديًا دقيقًا، خاصة في ظل استمرار التوترات حول تعزيز روسيا لوجودها العسكري في أوروبا الشرقية، وتصاعد القلق بشأن الأنشطة الروسية في منطقة القطب الشمالي. بوجه عام، فإن سياسة ترامب المحتملة تجاه روسيا تعكس رؤية تركز على المصالح الأمريكية المباشرة، بدلًا من الالتزام بالمواقف التقليدية المتعلقة بالقيم الديمقراطية أو النظام العالمي القائم. ورغم أنها قد تحقق بعض المكاسب قصيرة الأجل، إلا أنها على المدى الطويل تحمل مخاطر تتمثل في تقويض الثقة مع الحلفاء وإثارة المزيد من الانقسامات داخل التحالف الغربي.

 

§       مستقبل الدفاع الأوروبي

 

في مواجهة قضايا قدرات قطاع الدفاع، والقدرة التنافسية الصناعية، واحتياجات الاستثمار، وفي سبيل تعزيز قدرة الاتحاد على الاستجابة للتهديدات، والتحديات الجيوسياسية المتطورة في الجنوب، وزيادة القدرات العسكرية للجهات الفاعلة العالمية الأخرى تبرز تطلعات نحو مبادرات رئيسية مثل الدرع الجوي الأوروبي؛ وتوسيع قدرات الدفاع السيبراني؛ وتوثيق التعاون بين الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو)؛ وزيادة كفاءة الإنفاق الدفاعي؛ وتقليل الاعتماد على الخارج في مشتريات الدفاع؛ وزيادة التعاون داخل الاتحاد الأوروبي في مجالات الصناعة والابتكار والمشتريات والإنتاج.

 

§       تشكيل قوة أوروبية مستقلة

 

كشفت الحرب في أوكرانيا عن نقاط ضعف في القاعدة التكنولوجية والصناعية الدفاعية للاتحاد الأوروبي، ومنها الاعتماد المفرط على الواردات من الخارج، وتجزئة الإنتاج والتوريد، وضعف الاستثمار، ومحدودية القدرة الإنتاجية. مما دفع الاتحاد الأوروبي إلى التركيز على التعاون والاستثمار في صناعة الدفاع وإطلاق مبادرات مثل صندوق الدفاع الأوروبي لتحفيز ومشاركة البحوث لتطوير القدرات الدفاعية، وقانون تعزيز صناعة الدفاع الأوروبية لتشجيع مشتريات الدفاع المشتركة، ودعم إنتاج الذخيرة والصواريخ الدفاعية لتلبية الطلب المتزايد. وأطلقت المفوضية الأوروبية في مارس 2024م، أول استراتيجية صناعية دفاعية لتحسين إمكانات الدول الأعضاء وتشجيعها على الاستثمار لصالح جاهزية الدفاع الأوروبي. وقد عكس إعلان فرساي والبوصلة الاستراتيجية خططًا استراتيجية لزيادة الإنفاق على الدفاع ودعم صناعاته. وتمخض ذلك عن برنامج طموح يضم مفوضًا للدفاع والفضاء، ويحدد الدفاع كأولوية في التوجيهات السياسية وكقطاع رئيسي في استكمال السوق الموحدة. ويُعد بناء اتحاد دفاعي أوروبي أمرًا أساسيًا لتحقيق هذا الهدف. وقدم القادة الأوروبيون في قمة لندن في 2 مارس 2025م، دعمًا قويًا لأوكرانيا، وأعربوا عن عزمهم القيام بدور أكثر فاعلية لتأمين السلام وسط مخاوف بشأن التزام الولايات المتحدة، وأعلنت المفوضية عن مبادرة "إعادة تسليح أوروبا" لتعزيز الإنفاق الدفاعي للاتحاد الأوروبي وقدراته. وكان الاتحاد الأوروبي قد أصدر في مارس 2022م، خطة استراتيجية شاملة لتعزيز أمن ودفاع الاتحاد الأوروبي بحلول عام 2030م، تضمن الفاعلية والإنجاز؛ وتنتهج الاستثمار في الدفاع وصناعاته؛ وتتميز بالصمود والمرونة؛ وتُعزز الشراكات الدفاعية. ويتبنَّى الاتحاد الأوروبي تطوير قدرة الانتشار السريع، وهي قوة نموذجية قوامها 5000 جندي. وقد ازداد الإنفاق الدفاعي المُشترك للدول الأعضاء بشكل ملحوظ، حيث بلغ 326 مليار يورو في 2024م.

جرى تشكيل فريق عمل رفيع المستوى لتعزيز التعاون القائم بين الناتو والاتحاد الأوروبي والسعي إلى بناء شراكات أمنية. وسلّط إعلان قمة واشنطن لحلف الناتو في يوليو 2024م، الضوء على الاتحاد الأوروبي كشريك أساسي، وأشار إلى مستويات غير مسبوقة من التعاون في مجالات الفضاء، والإنترنت، والمناخ، والدفاع، والتقنيات الناشئة لخدمة العمليات، ومواجهة التهديدات الهجينة، ومنع الانتشار، ومكافحة الإرهاب والأمن البحري. وفي ٢٠٢٤م، وقّع الأوروبيون اتفاقيات الدفاع الاستراتيجي مع النرويج ومولدوفا واليابان وجمهورية كوريا وألبانيا وشمال مقدونيا؛ ومن المقرر إقامة شراكات أخرى. ومع تبني الإدارة الأمريكية الجديدة لخطة "نقل الأعباء" إلى أوروبا، أكدت بعض مراكز الأبحاث على الحاجة الملحة لبناء الركيزة الأوروبية في حلف الناتو. كما يُعتبر التعاون في مجال الدفاع مع المملكة المتحدة، لا سيما في سياق أوكرانيا، أمرًا محوريًا.

ترامب يؤسس لنظام عالمي جديد

§       الأمن الأوروبي

يواجه الأمن الغربي أخطر أزمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ويُعتبر ترامب أول رئيس أمريكي منذ هذه الحرب يتحدى الدور العالمي الذي حددته بلاده لنفسها منذ عقود عديدة، وكما يقول أحد الخبراء: "ستدوم الترامبية بعد رئاسته"، ويتساءل: أيٌّ من الدول ستبادر بالتدخل في الأزمات حين تقف الولايات المتحدة مكتوفة الأيدي؟ ومن ِشأن الطريقة التي يمارسها ترامب أن تجعل النظام العالمي القديم، يبدو وكأنه قد انتهى – ليحل نظام جديد يتشكَّل. وتهدف رسوم ترامب الجمركية إلى خلق نظام اقتصادي عالمي جديد.

أبلغ ترامب روسيا أن أوكرانيا لن تُمنح عضوية الناتو، وأنه لا ينبغي لها أن تتوقع استعادة الأراضي التي خسرتها لصالح روسيا. يعتقد البعض أن الانقسام يتجاوز مجرد آراء ترامب الشخصية، وأن المسار الحالي للولايات المتحدة سيستمر إلى ما بعد ترامب. وصرح البيت الأبيض بأنه لن يكون الضامن الرئيسي للأمن الأوروبي بعد الآن، ولن يدافع عن دول الناتو إذا لم تَفِ بالتزاماتها المالية. على مدى ما يقرب من 80 عامًا، كان حجر الزاوية للأمن الأوروبي مُضمَّنًا في المادة الخامسة من معاهدة شمال الأطلسي، التي تنص على أن أي هجوم على دولة عضو في الحلف يُعَدُّ هجومًا على جميع الدول.

إذا لم تُبادر أوروبا، بما فيها المملكة المتحدة، إلى بذل الجهود، وتُخصص استثمارات كبيرة للدفاع، وتُؤخذ على محمل الجد، فمن المُحتمل أن تكون نهاية الناتو التي نعرفها، وستكون نهاية المادة الخامسة. وتقول استطلاعات الرأي الفرنسية، يعتقد ما يقرب من ثلاثة أرباع الفرنسيين الآن أن الولايات المتحدة ليست حليفًا لفرنسا. كما أن أغلبية في بريطانيا وأغلبية كبيرة في الدنمارك، وكلاهما دولتان مؤيدتان تاريخيًّا لأمريكا، لديهما الآن آراء سلبية تجاه الولايات المتحدة أيضًا. دفع كل هذا بوتين ليقول: "إن نظام الأمن الأوروبي الأطلسي بأكمله ينهار أمام أعيننا". وبعد ثلاثة أيام من اجتماع زيلينسكي الكارثي مع ترامب وفانس في البيت الأبيض، أعلن متحدث باسم الكرملين أن "تفكك الغرب قد بدأ".

في بريطانيا أبلغ رئيس الوزراء البرلمان عن زيادة الإنفاق الدفاعي من 2.3% من الناتج المحلي الإجمالي إلى 2.5% بحلول عام 2027م. ولا يزال هناك غموض حول ما إذا كان لا يزال من الممكن الاعتماد على الولايات المتحدة، في عهد ترامب، للدفاع عن حلفائها في الناتو. ويستلزم "إضفاء الطابع الأوروبي" على حلف شمال الأطلسي بناء مجمع عسكري صناعي أوروبي محلي قادر على توفير قدرات لا تمتلكها حاليًا سوى الولايات المتحدة، ومنها ما يُسمَّى بالإمكانيات الاستراتيجية، وتشمل الأقمار الصناعية، والاستخبارات، وبطاريات الدفاع الجوي باتريوت، وهي الوحيدة القادرة على إسقاط الصواريخ الباليستية الروسية. وفي غضون ثلاث إلى خمس سنوات، ينبغي على دول أوروبا أن تسعى إلى امتلاك هذه المقومات.

يبدو ترامب أنه يشارك بوتين الرغبةَ في عالمٍ تكون فيه القوى الكبرى، غير مُقيدةٍ بقوانينَ مُتفقٍ عليها دوليًا، حرةً في فرض إرادتها على الدول الأصغر والأضعف. وهذا يعني العودة إلى نظام "مجالات المصالح" الذي ساد لمدة 40 عامًا بعد الحرب العالمية الثانية. لا يُعرف بالضبط ما سيفعله ترامب في حال تعرّضت دولةٌ عضوٌ في الناتو لهجوم. لكن النقطةَ الأساسيةَ هي أنه لم يعد من المُسلّم به ضمانُ المساعدة الأمريكية. ويبدو أن التحدي الذي يواجه الاتحاد الأوروبي يتمثل في البقاء متحداً، وتحقيق هدفه المتمثل في تمويل دفاعاته بنفسه، وتجنب الانجرار إلى "مجال نفوذ" أي من القوى الكبرى.

في الثاني من أبريل 2025م، أعلن ترامب عن فرض رسوم جمركية على أكثر من 200 دولة، بنسب تراوحت بين 10% و49%. وإحياءً لمناطق النفوذ تتجلى رؤية ترامب للعالم المُركّزة على القوة، في سعيه إلى منطقة امتيازٍ حصري للولايات المتحدة في نصف الكرة الغربي. فتصميمه على ضم جرينلاند وقناة بنما، وضم كندا إلى الولايات المتحدة لتصبح الولاية الحادية والخمسين، ونشر الجيش في المكسيك، يُحيي مبدأ مونرو. وإلى جانب تنفير الجيران والحلفاء، يُضفي موقف ترامب شرعيةً على جهودٍ مماثلة تبذلها موسكو وبكين، على التوالي، لإعادة تأكيد سيطرتهما على "الجوار القريب" لروسيا والهيمنة على بحر الصين الجنوبي.

§       مستقبل الشرق الأوسط

في ظل إدارة ترامب ذات الطابع الصهيوني وانحيازها المطلق لإسرائيل، يدخل الشرق الأوسط مرحلة من التحديات تشي بمستقبل مجهول. في سياق آخر، يُتوقع أن يسعى ترامب إلى توسيع اتفاقيات إبراهام، محاولًا إقناع مزيد من الدول العربية بتطبيع العلاقات مع إسرائيل. هذا المسار قد يعزز العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية، ويعيد تشكيل المشهد السياسي في المنطقة، لكنه في الوقت نفسه قد يفاقم عزلة الفلسطينيين، ويؤجج الانقسامات داخل العالم العربي. تواصل أمريكا دعمها لإسرائيل في توالي هجماتها على غزة والضفة وسوريا ولبنان، وما تُخلِّفُه من إبادة جماعية، ومن شأن التدخلات الأمريكية المتعاقبة في سوريا والعراق واليمن، والموقف العدائي من إيران، أن تسفر عن نزاعات إقليمية.

قد يجري تمويل مشاريع استيطانية في الضفة الغربية والقدس، ثم الاعتراف بضم الأراضي الفلسطينية لصالحَ إسرائيل. ستتزايد محاولات تقويض النفوذ الروسي والإيراني في سوريا، مع احتمال تصعيد التدخل الأمريكي في الشرق السوري بدعم مباشر للجماعات الكردية. وفي العراق، قد تسعى واشنطن إلى إضعاف الميليشيات الموالية لإيران، مع تكثيف الضغط لتحقيق مصالحها النفطية والجيوسياسية. ويستمر التعامل مع الصراعات في اليمن وليبيا دون حلول جذرية، ما يساهم في تعميق الأزمات الإنسانية. ويدلي ترامب بتصريحاته العلنية عن الرغبة في استغلال ثروات الدول العربية ومن المتوقع أن يشدد على عقود الطاقة والغاز والنفط، ويفرض شراكات اقتصادية تخدم المصالح الأمريكية مع توسيع حملات التضليل الإعلامي.

قد تؤدي سياسات ترامب التصعيدية إلى تعزيز نفوذ روسيا والصين في المنطقة، حيث ستبحث الدول العربية عن حلفاء جدد لتحقيق التوازن. بينما ستواجه تركيا وإيران تحديات جديدة من إدارة ترامب، مع احتمال زيادة الضغوط والعقوبات، ما قد يؤدي إلى تعزيز التعاون بينهما لمواجهة التحديات المشتركة. وقد تبدأ بعض الدول العربية في بناء سياساتها الاقتصادية والأمنية بعيدًا عن النفوذ الأمريكي بالتدريج، مع تعزيز العلاقات مع القوى الصاعدة والسعي بشكلٍ متزايد إلى شراكات وتحالفات بديلة مع الصين وروسيا. لقد عمّقت الصين، من خلال مبادرة الحزام والطريق، استثماراتها في البنى التحتية والتكنولوجيا والطاقة في منطقة الخليج، مما أمّن التنويع الاقتصادي الضروري دونما مطالب سياسية في المقابل، وهو نموذج يتماشى جيّداً مع الحفاظ على استقلالية وسيادة الخليج. في غضون ذلك، رسّخت روسيا مكانتها كشريكٍ حيوي لمنطقة الخليج في مجالَي الطاقة والدفاع. ويوفر نسج روابط مع روسيا فرصةً لموازنة النفوذ الأمريكي، لا سيما أنّ الحرب في أوكرانيا تبيّن حدود التحالفات التقليديّة وأهميّة الاستقلاليّة الاستراتيجيّة. وإذا استمرّت الولايات المتحدة في التركيز على المعاهدات الدفاعيّة وحدها دون معالجة الاحتياجات الاقتصاديّة والدبلوماسيّة الأوسع، قد تدفع الدول الخليجيّة أكثر إلى دائرة نفوذ بكين وموسكو، ما يغيّر تحالفات المنطقة بشكلٍ جذري ويحدّ من نفوذ واشنطن.

يُرجح أن تكثف الإدارة الأمريكية حملة الضغط الأقصى على إيران عبر تشديد العقوبات، وشن هجمات إلكترونية، وربما تنفيذ ضربات عسكرية محدودة بهدف كبح طموحاتها النووية. ولا شك أن هذا النهج قد يُسهم في تقويض النفوذ الإيراني، إلا أنه يحمل مخاطر تصعيد التوترات الإقليمية، وزيادة احتمالية الرد الانتقامي من إيران وحلفائها. ومن الحكمة استمرار العلاقات السلمية والشراكات المتبادلة بين إيران وجيرانها في الخليج، ونبذ أية خلافات تنسج خيوطها السياسة الأمريكية.


خريطة توضح كندا وجرينلاند وقناة بنما كجزء من الولايات المتحدة


 

مقالات لنفس الكاتب