تمر العلاقات التركية / الإيرانية اليوم بتحديات غير مسبوقة تقود البلدين نحو منعطف مفصلي في ظلّ تطوّرات متسارعة وبالغة الخطورة يتقدمها المشهد السوري.
دعمت تركيا المعارضة السورية منذ اندلاع حراكها في مواجهة نظام بشار الأسد قبل 14 عامًا فيما اختارت إيران الوقوف إلى جانب هذا النظام حتى لحظة إزاحته عن الحكم في الثامن من ديسمبر / كانون الأول الماضي.
نجح الطرفان في الإمساك بالخيط الرفيع في علاقاتهما السورية من خلال منصة استانة بالتنسيق مع الجانب الروسي، لكن طهران خرجت بين الخاسرين هناك، بالمقارنة مع تركيا التي حققت الكثير من الأهداف التي كانت تتطلع إليها في سوريا بعد وصول السلطة السياسية الجديدة للحكم. حاولت القيادة الإيرانية استرداد بعض ما فقدته من خلال لعب ورقة " قوات سوريا الديمقراطية " في شرق الفرات وبناء تكتل كردي سوري عراقي، ثم تأليب فلول النظام السوري السابق في المناطق الساحلية لسوريا، لكن التنسيق التركي الإقليمي والإرادة الدولية بدعم التغيير في سوريا قطعا الطريق باكرًا على مثل هذه المحاولات.
كثيرة هي ملفات الخلاف الإقليمي بين الطرفين، كما أنها تعرض العلاقة بينهما للمزيد من التباعد والتدهور، خصوصًا في مسائل خطوط نقل الغاز القطري الذي سيقود إلى تراجع حاجة تركيا للغاز الإيراني، وخط التنمية العراقي الاستراتيجي الذي ما زال يستبعد طهران حتى الآن، وقبلها قطع الطريق على حلم إيران بالتمدد في جنوب القوقاز عبر تحريك الورقة الأرمينية، أو عرقلة طموحها بالوصول إلى سواحل شرق المتوسط أو الاقتراب من مناطق البحر الأسود. هذا إلى جانب الملف النووي الإيراني حيث ترفض أنقرة وجود جارة نووية مثل إيران إلى جانبها حتى ولو رفضت أن تكون جزءًا من العقوبات الغربية.
ما هي أبرز تداعيات التحول في المشهد السوري على إيران وانحسار نفوذها في سوريا؟ وهل من الممكن أن تسترد ما فقدته هناك؟ وكيف سيكون شكل العلاقة التركية الإيرانية في التعامل مع الملف السوري؟ وما هي ارتدادات السياسة الإسرائيلية والأمريكية في سوريا على علاقات البلدين؟ وهل سنرى تفاهمات إقليمية ودولية عاجلة تمهد لانسحابات عسكرية أجنبية من سوريا على طريق دعم بناء الدولة الجديدة؟ وهل سيكون بمقدور طهران لعب ورقة الملف النووي مجددًا لصناعة تفاهمات جديدة مع أمريكا تخدم مصالحها في سوريا والمنطقة؟ أم هي ستختار سيناريو التمسك بخططها النووية وتسريع برنامجها رغم كل الضربات التي تلقتها على أكثر من جبهة؟
تداعيات المشهد السوري على مصالح إيران الإقليمية
بنت إيران سياستها الإقليمية على أساس محاولة تحويل العديد من دول المنطقة إلى خطوط دفاعية أو هجومية بحسب احتياجاتها ومتطلبات مصالحها السياسية والأمنية والاقتصادية. استفادت من الفرص التي قدمت لها باتجاه دمجها في النظام الإقليمي الجديد، لكنها اختارت تغيير ذلك إلى خطط ومشاريع تمدد وهيمنة في المساحات الجغرافية المحيطة بها والبعيدة عنها." الفوضى الخلاقة " في الإقليم بالمقياس الإيراني تستدعي ضعف دول الجوار وعدم استقرار أمنها، وقطع الطريق على احتمال توحدها في مواجهة السياسات الإيرانية التي تقوم على التدخل المباشر أو من خلال حلفاء وشركاء محليين ينشطون بطابع عسكري أو سياسي أو مذهبي.
فرطت طهران بفرص تحرك العديد من دول المنطقة باتجاه مراجعة أسباب الخلافات والتباعد معها في محاولة لفتح أبواب حوار وتنسيق حقيقيين. فشل مثل هذه المحاولات أدى إلى تضييق الخناق على التوغل الإيراني وإيقاف محاولات الزحف والتمدد في العديد من الدول أولًا، وإجبار طهران على الانحسار والتراجع في أماكن أخرى بينها لبنان وسوريا ثانيًا.
نجاح الشعب السوري في إزاحة نظام بشار الأسد حليف إيران خلط أوراق وحسابات طهران السورية والتي تصلبت أكثر في مواجهة المتغيرات المحلية والإقليمية ورفض الواقع السوري الجديد محملة أنقرة وبعض العواصم مسؤولية المشاركة في عملية إضعافها وإخراجها من سوريا.
شكل العلاقة التركية الإيرانية المستقبلية في سوريا
أدى سقوط نظام بشار الأسد بهذا الشكل السريع والمفاجئ والذي جاء بعد الضربات الموجعة التي تلقاها " حزب الله " حليف إيران في لبنان إلى خيبة أمل إيرانية على أكثر من جبهة. خرجت تركيا أكثر قوة في المشهد السوري بسبب وقوفها إلى جانب هدف إزاحة نظام الحكم السابق في سوريا، بعدما سقطت الخطط والمشاريع الإيرانية الاستراتيجية بطابع سياسي واقتصادي وعسكري وفتحها الأبواب أمام إنهيار أحجار الدومينو الإيرانية في العديد من الدول التي راهنت عليها. إيران التي ترفض اليوم مراجعة سياستها السورية تراهن على ما تبقى لها من نفوذ في لبنان والعراق واليمن لعقد الصفقات الإقليمية، مستبعدة سيناريو حصول أي تحرك شعبي داخلي يحمل القيادات الحالية مسؤولية إيصال الأوضاع إلى ما هي عليه اليوم، وما قد يواكبه من تحوّل إقليمي في ميزان القوى على حساب مصالحها ونفوذها في سوريا لصالح لاعبين آخرين بينهم تركيا.
فأمام متغيرات المشهد السوري تكون طهران قد خسرت الرهان على بشار الأسد وأجبرت على التراجع لصالح قوى عربية وتركيا تدعم استقرار ووحدة سوريا، وباتت أمام احتمال إنهيار كل مشروعها الإقليمي بعد التحولات السياسية في لبنان والعراق والتصعيد العسكري ضد حليفها الحوثي في اليمن.
النتيجة الأولى لكل هذه المتغيرات كانت تراجع النفوذ الإيراني في سوريا وصعود الدور التركي هناك، والمزيد من تداعي العلاقات التركية الإيرانية المتدهورة أساسًا نتيجة الكثير من الملفات الثنائية والإقليمية. نجحت أنقرة من خلال دعم مخطط إزاحة نظام الأسد، في قلب الكثير من حسابات وأهداف إيران في سوريا رأسا على عقب، مستفيدة أيضًا من التوتر الإيراني الإسرائيلي في الإقليم.
محاولة الفصل بين الملفات في علاقات البلدين ازدادت صعوبة في الأعوام الأخيرة ليس نتيجة تضارب حساباتهما ومصالحهما فقط، بل بسبب التحولات والصفاقات الجديدة التي فرضت عليهما المزيد من التباعد في ملفات يتقدمها ما يجري في غزة ولبنان وسوريا والعراق والخليج.
أبرز مؤشرات التدهور في العلاقات برز إلى العلن في الفترة الأخيرة من خلال:
- انتقاد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان سياسة إيران الخارجية المرتبطة بأذرعها المسلحة والتي وصفها بأنها " تنطوي على “مخاطر كبيرة رغم بعض المكاسب التي حققتها ".
- تحذيرات الوزير فيدان لإيران من دعم مجموعات مناوئة لتركيا، قائلًا " إذا كنت تسعى إلى إثارة بلد ما من خلال دعم مجموعة معينة هناك، فقد تواجه موقفًا مشابهًا حيث يمكن للبلد المذكور أن يزعجك من خلال دعم مجموعة أخرى في بلدك ".
- التوتر الدبلوماسي الذي واكب هذا التصعيد من خلال استدعاء السفراء للتعبير عن الاستياء المتبادل.
- ارتفاع منسوب الاحتقان بعد اتهامات وجهها الإعلام التركي لإيران بوقوفها وراء انفجار الأحداث في مدن الساحل السوري حيث الأكثرية العلوية وأماكن هروب كبار ضباط وقيادات النظام السابق.
- ثم تسريب خبر كشف السلطات التركية عن خلية محلية تعمل لحساب المخابرات الإيرانية، وتنشط بهدف التجسس على المواقع ومراكز تصنيع السلاح ورصد تحركات المعارضة الإيرانية في المدن التركية، مؤشر جديد على أن سياسة التساهل والتراخي لم تعد مقبولة.
من الصعب أن نرى على المدى القريب أو المتوسط، أي تفاهمات تركية إيرانية في سوريا خصوصًا بعد تبدل توازنات الداخل السوري والمؤشرات السياسية والدبلوماسية التصعيدية الأخيرة بين البلدين، وخيارات التموضع التركي الإقليمي الجديد. فرص عودة إيران إلى المشهد السوري تستدعي تغيير جذري في سياستها السورية والتركية والعربية وقراءتها للواقع الإقليمي وتوازناته الجديدة بطريقة مغايرة وهي غير مستعدة بعد لفعل ذلك.
ارتدادات السياسات الإقليمية على العلاقات التركية/ الإيرانية
قد لا يصل التوتّر الحاصل في العلاقات التركية الإيرانية إلى مستوى الصدام، لكنه يعرقل حتمًا اللغة المعتمدة حتى الأمس وخيار التهدئة والتمسك بحبال الواقعية وحماية المصالح المشتركة. تصر طهران على صوابية سياستها السورية وقدرتها على تحريك العديد من الأحجار الثنائية والإقليمية ضد تركيا، مثل الورقة الكردية وعرقلة علاقات تركيا مع مجموعة " شنغهاي "، أو الاستقواء بعلاقاتها الاستراتيجية مع روسيا والصين. لكن هناك بالمقابل في الداخل التركي من يدعو لتسريع التنسيق الاستراتيجي مع العواصم العربية والاستفادة من سياسة أمريكا وإسرائيل الإيرانية.
صيغة خماسية “أستانا”، باجتماع سوريا و4 دول مجاورة، هي تركيا والأردن والعراق ولبنان، يعني أنه بات هناك تنسيق خماسي متعدد الجوانب يعطي أنقرة المزيد من الفرص الإقليمية الاستراتيجية البعد الواجب عدم التفريط بها.
أطاحت عملية خلط الأوراق في سوريا بمخطّطات طهران وحساباتها السورية. لكن أنقرة تحتاج إلى الدور العربي والغربي والروسي في سوريا، إذا ما كانت تريد مواجهة النفوذ الإيراني في الإقليم، وتقليص مخاطر التمدد الإسرائيلي في لبنان وسوريا وشرق المتوسط. هي بحاجة إلى تفادي أيّ تصعيد قد يؤدّي إلى زعزعة منظومة العلاقات الجديدة التي بنتها في العامين الأخيرين، ومكّنتها من الوجود بين كبار اللاعبين الجدد في الملفّ السوري مثل الرياض والدوحة وأبو ظبي. تدرك أنقرة أن ارتدادات أي انفتاح سياسي – عسكري يقربها من إيران سيعرض خياراتها الاستراتيجية مع العديد من دول المنطقة والغرب للخطر.
العقبة الإسرائيلية
تعتبر إيران اليوم المتضرر الأكبر من تغيرات المشهد الإقليمي منذ مطلع تشرين الأول 2023م. بحثت عن فرصة عقد صفقة مع أمريكا بشروطها فواجهتها العقبة الإسرائيلية. راهنت على قلاع حصينة متقدمة بنتها على جبهات القتال في لبنان وسوريا والعراق واليمن، فخذلتها اختراقات أفقية وعامودية لجغرافيا تمددها مدمرة كل ما شيدته من تحصينات في العقود الأربعة الأخيرة.
العقبة الأكبر هي إصرار تل أبيب وواشنطن على المضي حتى النهاية مع طهران هذه المرة. فهل سيكتفيان بعروض التغيير داخل إيران؟ أم أن عجلة التغيير لا بد أن تشمل وتطال المتبقي من المحور أيضًا؟ أم أنه ما زال بمقدور طهران زعزعة استقرار الدول التي فقدت نفوذها فيها؟ أم أن ما تعول عليه هو على أن يكرر ترامب ما فعله أوباما عام 2009م، ويسهل بقاءها في قلب المشهد الإقليمي على حساب شركاء وحلفاء أمريكا في المنطقة؟
من المستبعد أمام المتغيرات الإقليمية الجديدة ودخول اللاعب الإسرائيلي بشكل أوسع على ملفات المنطقة وتحديدًا في الملف السوري بعد انحسار النفوذ الإيراني، أن يختار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لغة التهدئة والحوار مع القيادة الإيرانية والبحث عن صفقة قد تخرج طهران من ورطتها في الإقليم.
أعلنت إيران أكثر من مرّة عن جهوزيّتها لمواجهة إسرائيل في لبنان وسوريا والعراق واليمن عبر حلفائها، لكنّ هناك ما يقلق طهران اليوم بعد تراجع فرص مخطّطها الإقليمي المرتبط بصناعة شرق أوسط جديد بمعايير إيرانية. وصل القلق الإيراني إلى درجة كيف سيكون شكل الردّ الإسرائيلي على أي تصعيد عسكري بين الطرفين؟ هل يبقى محدودًا أم سيطال بنية النظام السياسي نفسه؟ وهذا بين ما يقلق تركيا اليوم لناحية اتّساع رقعة المعارك بين إسرائيل وإيران على الجبهتين اللبنانية والسورية، واحتمال تمددها باتجاه العراق والعمق الإيراني وما ستحمله معها من سيناريوهات بعيدة المدى، تصل إلى إسقاط أنظمة وتغيير خرائط وحدوث تنقّلات ديمغرافية تجري على حساب تركيا ومصالحها في الإقليم. قد تقبل أنقرة بإضعاف إيران إقليميًا لكنها لا تريد أن يصب ذلك في مصلحة إسرائيل وإطلاق يد واشنطن في المنطقة.
لا أحد يتحدث عن تنسيق إيراني-إسرائيلي مباشر طبعًا، بل يدور الحديث عن تخادم متبادل بينهما بسبب مقتضيات المصالح ووجودهما في خندق واحد منذ الثامن من كانون الأول المنصرم، مع سقوط نظام بشار الأسد، حليف طهران وفرصة تل أبيب في المنطقة.
حظوظ الورقة النووية الإيرانية
قال مستشار الأمن القومي الأمريكي، مايك والتز "حان الوقت لإيران للتخلي تماماً عن رغبتها في امتلاك سلاح نووي، ولن يُسمح لهم ولا يمكن السماح لهم بامتلاك برنامج أسلحة نووية ".
تنفي طهران من ناحيتها رغبتها في امتلاك أسلحة نووية، وهي تدرس فحوى رسالة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، والتي يعرض فيها إبرام اتفاق نووي جديد معها على غرار الاتفاق المبرم في عام 2015م، والذي انسحبت منه واشنطن.
تدرك إيران اليوم أنها وفي أي عملية تفاوض مع واشنطن، عليها أن تستعد لسماع ما تقوله وتريده الإدارة الأمريكية الجديدة، وهو أبعد من شرط رفض امتلاك إيران للسلاح النووي، بل مراجعة طهران لبرنامج التسلح الذي تعتمده، خصوصاً ما يتّصل منه بتصنيع المسيّرات والصواريخ الباليستية. ما زال ترامب يرجح خيار استخدام سلاح العقوبات الاقتصادية وأدوات القوة الناعمة لدفع طهران باتجاه قبول ما يريد، حتى ولو كانت تل أبيب تتطلع لما هو أبعد من ذلك وهو استخدام القوة العسكرية المباشرة ضد العمق الإيراني. انسحب ترامب في ولايته الأولى، من الاتفاق النووي الذي تفاوض عليه سلفه. هذه المرة، يمكن لترامب أن يتواصل مع طهران بينما يضيق الخناق على نفوذها في أكثر من مكان.
تحاول إيران الاحتماء بالمحور الروسي – الصيني في مواجهة السياسة الأمريكية. هدف ترامب هنا هو تحسين العلاقة مع بوتين لعزل إيران أكثر فأكثر وتهديد الصين بضرورة مراجعة سياستها الشرق أوسطية التي تريد الاستفادة من النفوذ الإيراني. فهل تدفع الضغوطات الأمريكية الإسرائيلية الجانب الإيراني للتخلي عن الأسلوب الحالي في التعاطي مع الملف النووي؟ أم أن طهران ستراهن على عدم وجود رغبة أمريكية ـ إسرائيلية في الدخول بمواجهة عسكرية مباشرة ضدها خصوصًا وأنها تجنبت حتى اليوم الرد على الهجمات الإسرائيلية الأخيرة في العمق الإيراني؟
يقول المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، إسماعيل بقائي إن تصريحات المسؤولين الأمريكيين بشأن التفاوض مع طهران في الملف النووي "مليئة بالتناقضات ولا يمكن أخذها على محمل الجد". هو كان يعقب على حديث مستشار الأمن القومي الأمريكي نايك والتز، الذي قال إن الرئيس دونالد ترامب جادّ للغاية، بشأن منع إيران من حيازة أسلحة نووية، وأن جميع الخيارات مطروحة على الطاولة ". سيناريو تبني واشنطن لما تقوله تل أبيب في مسار الملف النووي الإيراني لم يحسم نهائيًا بعد، واحتمال توجيه ضربات مباشرة للداخل الإيراني بالتعاون مع إسرائيل تستهدف مناطق للتخصيب النوويّ، مع استمرار زيادة حجم العقوبات الاقتصادية التي يمكن أن تصل إلى تجريد إيران من أيّة مداخيل لبيع النفط والغاز والحاصلات الرئيسية ما زال مطروحًا.
تقدمت روسيا خلال الأسابيع الأخيرة بمقترح وساطة لتحريك المياه الراكدة بين إيران والولايات المتحدة. وعرضت موسكو تصورها الأولي لكيفية فض الخلاف بشأن الملف النووي الإيراني الذي بات يشكل بؤرة قلق ساخنة. وساطة روسية بين طهران وواشنطن، ستكون بلا شك موضع اهتمام مختلف الأطراف. ليس فقط لأن روسيا قوة عالمية كبرى، وإنما كونها أيضًا، أحد أطراف الاتفاق النووي، لكن أولويات واشنطن وموسكو تذهب باتجاه آخر نحو القرم والجبهات الأوروبية وخطوط التجارة العابرة للقارات وسوريا.
تسعى إيران لفرض ما تقوله وتريده على الإقليم وفي أكثر من مكان. هي قوة إقليمية لا يمكن تجاهلها، لكن محاولة بناء ذلك انطلاقًا من تمسكها بمشروعها النووي، وأنها لن تتراجع عن طموحاتها الاستراتيجية في التواجد أمام طاولة تقاسم المصالح والنفوذ وهي تلوح بهذا السلاح، لم تعد ممكنة بعد المتغيرات الإقليمية المتلاحقة على حسابها.
خاتمة
شكلت سوريا العمق الاستراتيجي الأهم لإيران، وفقدان السيطرة عليها يُشكل ضربة قوية لأهدافها الإقليمية. الأحجار التي تحرّكها في العراق واليمن لم تعد مؤثّرة على رقعة الشطرنج الإقليمية الجديدة. واضح أن إيران بين خيارين اليوم: عدم التخلي عن سياسة حافة الهاوية الإقليمية لأنّ خياراتها الأخرى تعني تعريض كلّ ما شيّدته منذ عام 1980م، حتّى اليوم للسقوط والانهيار. أو مراجعة سياستها الإقليمية لأنّ مصالحها ونفوذها المتراجع على أكثر من جبهة. لكن لا مؤشّرات حقيقية بعد حول أن طهران جاهزة لفعل ذلك. أكثر ما يقلق إيران اليوم وبعد وصول سياستها السورية إلى طريق مسدود هو احتمال ولادة تفاهمات إقليمية جديدة على حسابها برعاية أمريكية تقرب بين تل أبيب وأنقرة وتفتح الطريق أمام اتفاقيات سلام إسرائيلية مع بيروت ودمشق. وأن تصبح مسألة التلويح بالملف النووي بلا قيمة استراتيجية تدفع إدارة دونالد ترامب لتكرار ما فعله الرئيس باراك أوباما في العام 2015م، وهو إطلاق يد إيران في الإقليم مقابل الحصول على تنازلات في الملف النووي.
تسعى إيران منذ عقود لفرض نفسها على المشهد الإقليمي وتحدي قوى كبرى أو أطراف مؤثرة في منطقة مليئة بالصراعات والمخاطر. أرادت خلط الأوراق السياسية والعسكرية ملوحة بقدرتها على إثارة الفوضى، فوجدت نفسها وسط ساحة من الصدام المفتوح الذي يحتم عليها بعد الآن تحمل رسائل الإنذارات بدلًا من التحذيرات.
ما يقلقها الآن هو الصعود التركي والإسرائيلي في المنطقة، وشكل خارطة الطريق التي ستعتمدها لوقف زحف القوّتين على حساب دورها ونفوذها. ما يهمها الآن هو تحقيق سيناريو المواجهة العسكرية المباشرة بين تركيا وإسرائيل حيث تواصل إسرائيل عسكريًا استهداف الداخل السوري لتمرير أكثر من رسالة للقيادات السورية الجديدة وحليفها التركي، خصوصًا بعد التسريبات الإعلامية التي تتحدث عن تفاهمات تركية سورية بطابع عسكري وأمني تشمل إمكانية تخصيص قاعدة عسكرية في منطقة تدمر لصالح الجيش التركي، في إطار دعم اقتصادي وعسكري وسياسي متبادل.
ما يعزز رهان طهران على هذا السيناريو هو قلق تل أبيب بسبب تزايد النفوذ التركي في سوريا والذي يقطع الطريق على أهداف إسرائيل الجديدة هناك بعد سقوط نظام بشار الأسد. فهل تصل الأمور إلى نقطة المواجهة العسكرية المباشرة بين أنقرة وتل أبيب فوق الأجواء السورية؟ وهل تسمح العواصم الغربية الحليفة للدولتين بوقوع انفجار إقليمي من هذا النوع يضعفهما معًا في المنطقة لصالح المستفيد الأول إيران التي خسرت الكثير من النفوذ في سوريا ولبنان في الأشهر الأخيرة؟