تعطينا سرعة التوصل لاتفاق تجاري بين أكبر اقتصادين في العالم هما، الاقتصاد الأمريكي والاقتصاد الصيني لتجنب الانزلاق لحرب تجارية عالمية، تعطينا مجموعة نتائج حاسمة ،ويمكن لدول مجلس التعاون الخليجي البناء عليها، وتشكيل خارطة طريق واضحة لها في كيفية التعامل مع أعدائها وأصدقائها، فبعد يومين فقط من المحادثات بين بكين وواشنطن في جنيف، وبالذات يومي 10 و11 مايو الماضي ، تم التوصل لاتفاق مؤقت يقضي بخفض الرسوم الجمركية الأمريكية على الواردات الصينية والبالغة 145 % ، والرسوم الجمركية الصينية على الواردات الأمريكية و البالغة 125 % إلى 30 % و10 % على التوالي، فهل هذه كانت مفاجأة كبرى ؟
كل من يقف على حجم الاعتماد الاقتصادي " الوجودي " المتبادل بين بكين وواشنطن سيخرج منها بذلك الخيار الوحيد، إذ من خلاله – أي الحجم – لا يمكن توقع الحرب التجارية، ولا العسكرية مستقبلًا إلا في حالة طغيان الجنون، فحجم المصالح بينهما يعد ضمانة عدم اندلاع أي حرب مقبلة، قد تحدث إرهاصات لها نتيجة صراع المصالح وتضاربها، لكنها، لن تذهب إلى أبعد من ذلك، وهنا نستدل بلغة الأرقام:
- يبلغ حجم اقتصاد أمريكا والصين 50 تريليون دولار، أي ما يعادل 45 % من حجم الاقتصاد العالمي للعام 2023م.
- 582 مليار دولار حجم التبادل التجاري بينهما.
- 784 مليار دولار استثمارات الصين في الديون الأمريكية، وهي ثاني أكبر دائن لأمريكا بعد اليابان.
- 127 مليار دولار استثمارات الشركات الأمريكية في الصين 2023م، مقابل 23 مليار دولار استثمارات لشركات صينية بأمريكا 2023م.
ولغة الأرقام الفلكية تجعلنا نستبعد الحربين التجارية والعسكرية الآن ومستقبلًا ، لأن كلاهما سيتضرر كثيرًا ، فصراعهما له حدود لا يمكن تجاوزها مهما ظهرت حدة التنافسية بينهما، خاصة الآن في حقبة الرئيس ترامب الذي يوظف السياسة لصالح الاقتصاد، ويحل المشاكل السياسية لضمانته – أي الاقتصاد – فليس عنده أعداء مصنفون بالديمومة، ولديه القدرة على تحويلهم إلى أصدقاء، ويمزج في الوقت نفسه بين هذا الاتجاه، واتجاه صناعة الأزمات السياسية والاقتصادية / التجارية وسرعة إطفائها، الاتفاق التجاري مع بكين، وقبله، الاتفاق التجاري مع بريطانيا، وضمانة سلامة السفن الأمريكية في البحر الأحمر نماذج استدلالية، وهى تبين جدية ترامب في التوصل للحل من جهة، وتكشف براغماتيته الراديكالية التي لم يفرق من خلالها بين حليف وعدو، فلم يشفع للندن علاقتها السياسية التاريخية مع واشنطن التي توصف " بالعلاقات الخاصة " وهذا سيكون شأن كل الدول، بما فيها دول مجلس التعاون الخليجي، فعليها أن تلعبها مع ترامب بنفس المبدأ النفعي الراديكالي، لكن خلافًا عنه من حيث التطبيق الجماعي أي الخليجي ــ الخليجي وليس الفرداني.
والفقرة الأخيرة تحمل وعيًا سياسيًا نستهدفه لذاته، لأنه سيشكل الفارق الجوهري للوجود الجماعي الخليجي، ومنه ينبغي أن تنطلق في أحداث صيرورات إقليمية ودولية، وهى متاحة لها الآن، على عكس لو غلبت الفردانية، فلن تتمكن كل حالة فردانية أن تحدث الفارق المستدام، لأن الدول الست تشكل وحدة أمنية واقتصادية ذات اعتماد وجودي بحكم الجغرافيا والتاريخ، كما لا يمكن الرهانات على القوة الخشنة لوحدها في تأمين مستقبل الوجود الفرداني، كما أن مفهوم الأمن قد أصبح متغيرًا في ظل تطور التقنية والتكنولوجيا ، ويمكن من خلالها تفكك المجتمعات دون إطلاق رصاصة واحدة.
سنتناول هذا الملف الاستراتيجي وفق المحاور التالية:
- الرسوم الجمركية .. حالة طوارئ أمريكية مؤقتة.
- البراغماتية الراديكالية خيار الخليج في حقبة ترامب.
- تطبيقات البراغماتية الراديكالية على الصعيدين الخليجي والخارجي.
- الخيار الخليجي الثنائي / المتعدد كأسوأ الاحتمالات.
- أولًا: الرسوم الجمركية .. حالة طوارئ أمريكية مؤقتة.
بات واضحًا الآن، أن الحرب التجارية التي يفجرها الرئيس ترامب منذ استلامه فترته الرئاسية الثانية في 20 من يناير 2025م، على حلفاء بلاده وأعدائها ليست إلا حالة طوارئ أمريكية مؤقتة بسبب العجز التجاري الأمريكي الضخم مع الصين البالغ 1،2 تريليون دولار، وبسبب عجز الميزانية الفيدرالية الأمريكية البالغ 1.8 تريليون دولار، حيث تهدف الزيادة في الرسوم على الواردات السلعية الأمريكية 175 دولة في العالم الحصول على إيرادات تقلص العجز المالي، وتخفيض الواردات وتحسين الصادرات عبر فتح الأسواق الخارجية.
، فهي وسيلة لتحقيق تلكم الغايات، لذلك، فقد كانت الرسوم متفاوتة بين الدول، تبدأ من 10 % وتسري على عدد من الدول، من بينها دول مجلس التعاون الخليجي، وترتفع إلى 20 % على الواردات من الاتحاد الأوروبي إلى 26% على الاتحاد الأوروبي والهند، و28% على تونس، و39 % على العراق، حتى تبلغ 145 على الصين قبل تخفيضها الى 80% عشية محادثات جنيف، ولو لم يسارع ترامب تعليق التطبيق لمدة 90 يومًا، والإسراع في محادثات استراتيجية مع بكين، لتفاقم تقلبات سوق السندات وضغوطات كبار رجال الأعمال الذين حذروا من احتمال تفريغ رفوف المتاجر قريبًا بسبب سياسة ترامب الجمركية، مما سارع بوزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت إلى التلويح بتهدئة مرتقبة في الحرب التجارية بعد أن أبدت الصين استعدادًا متعاظمًا لمعركة طويلة، فالرسوم الأمريكية المرتفعة على الصين لها تأثير مزدوج على الصادرات الصينية والواردات الأمريكية.
والذي يستوقفنا في نتائج محادثات واشنطن وبكين أنها تؤسس لعلاقات تجارية بين البلدين ذات أجل طويل، وهذا يشير إلى أن بكين تحديدًا قد تمكنت بذكاء من نقل محادثاتها مع عدوها الاستراتيجي واشنطن من إكراهات حالة الطواري الأمريكية الخالصة إلى حالة تحقيق المكاسب الثنائية المستدامة، وذلك عبر إنشاء آلية تشاور لإجراء مزيدًا من المناقشات حول القضايا التجارية والاقتصادية، وبالتالي لا ينبغي النظر لفترة ترامب الرئاسية الثانية بأنها فترة حروب عسكرية وتجارية، وإنما فترة أطماع اقتصادية، أدواتها الابتزاز المكشوف مع التلويح بالقوتين الناعمة والخشنة، وستأخذ منحنى تصاعدي حتى تضمن تحقيق المكاسب، وستخف مع التحقيق التدريجي، ولنا في خطابات ترامب مع طهران نموذجًا للاستدلال به، فبعد التصريح بالقوة الخشنة ضدها، أصبح مع تقدم المفاوضات معه يغازلها مدحًا وثناءً وإعجابًا.
وهذا لا يعني كذلك أن التوترات بين بكين وواشنطن ستختفي، وإنما ستدور حول قضايا سياسية وأمنية وجيوسياسية، وستنجح فيها إدارة ترامب، لأن عندها كل شي بمقابل في ظل شعاره " أمريكا أولا " كما يقدم نفسه بأنه رجل السلام، بينما هو في الواقع رجل الصفقات الاقتصادية، والذي يهمنا هنا أن لا تغرق دول مجلس التعاون الخليجي في جدلية الحرب التجارية رغم تأثرها بها كغيرها بالرسوم الجمركية، وإنما صناعة الفعل ،فأمامها مجموعة فرص من الوزن التاريخي، فهي الآن مؤهلة لتحقيق كل أجنداتها الخليجية ــ الخليجية، وتؤسس علاقات إقليمية دائمة مع أصدقائها وأعدائها، وتذهب بمصالحها الاقتصادية عبر كل القارات .
ثانيًا: البراغماتية / الراديكالية خيار الخليج في حقبة ترامب.
ينبغي اعتبار فترة الرئيس ترامب الثانية من 2025 – 2029 م، انطلاقة للصيرورات الخليجية الجماعية من منظورين هما:
- تغليب البراغماتية المقترنة بالراديكالية لكي تكون أساسًا في إعادة خارطة علاقاتها الخليجية ـ الخليجية داخل محيطها الجيوسياسي، وعلاقاتها مع العالم شرقه وغربه على السواء.
- تحطيم منظومة الأعداء والأصدقاء التقليدية، وفتح الأبواب للكل لحوارات اقتصادية والتوصل معها لشراكات تجارية حرة.
والمتأمل في حقبة ترامب سيرى أن الدول الست الخليجية الآن في موقع مثالي وغير مسبوق بعد الاتفاقيات التريليونية التي وقعتها مع ترامب أثناء زيارته للمنطقة الخليجية، وطبيعة التفاهمات السياسية بين الجانبين، فالظروف مهيأة لها الآن الانفتاح على كل الجغرافيات السياسية بفكر البراغماتية والراديكالية التي هي تتماهى مع الفكر الذي يخترق بها ترامب كل الدول سواء حليفة لبلاده أو معادية، لكنها، ينبغي الحذر من تبني مسار الفردانية الترامبية في تطبيقاته للبراغماتية الراديكالية، فترامب يطبق تلكم المنهجية بمفهوم " أمريكا أولًا " على حساب شركاء بلاده الغربيين وحتى إسرائيل، وهذا نراه في محادثاته مع إيران، ورأيناه في الاتفاق مع الحوثيين على وقف إطلاق النار لدواعي حماية السفن الأمريكية في البحر الأحمر ، وتركهم يقصفون إسرائيل حتى دون تنديد، وهذا رأيناه كذلك في تطوير العلاقات الأمريكية ــ التركية، وكذلك في وضع خطة انسحاب القوات الأمريكية من سوريا، وكذلك تحسين علاقة واشنطن مع موسكو على حساب حلفائه في أوروبا وأوكرانيا.
وينبغي الحذر من دخول بعض دول المجلس الخليجي في عتمة الغرور أو الاستقواء خاصة بعد الاتفاقيات المليونيرية مع أمريكا والتي تمنح كل دولة خليجية أوهام باستفرادها المستقبلي بميزان القوة الإقليمي على الأصعدة العسكرية والتقنية والتكنولوجية، فلم تكن القوة الخشنة في يوم من الأيام ضمانة استقرار وأمن أي دولة كبيرة أو صغيرة.
كما أن الدول الست في مجموعها وحدة سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية وديموغرافية واحدة، لكنها متوزعة على ستة كيانات مستقلة، فكل المعطيات الدولية والإقليمية وآفاقها تحتم عليها الإسراع في تحقيق وحدتها السياسية والاقتصادية لا تكريس الفردانيات، كما تأهلها إلى إقامة جيوسياسية واقتصادية مع أعدائها وعابرة القارات، والإمكانيات كلها مشرعة لتأسيس حقبتها الجديدة لخمسين سنة مقبلة، والذي يقلقنا هنا من حالة الفردانية الطاغية، والشعور بميل العاملين الأمريكي والإسرائيلي تجاه البعض، وهما ليس من مميزاتهما الاستدامة، وسيظل قائمًا وفق حسابات متغيرة، لذلك، يكون شغلنا الشاغل الآن تطبيقات البراغماتية الراديكالية خليجيًا وإقليميًا وعالميًا.
- التطبيقات على الصعيد الخليجي ـ الخليجي
إذا لم تستغل دول المنظومة الخليجية حقبة ترامب في تحقيق أجنداتها الوحدوية، والتكاملية فستكون بذلك تفوت على نفسها فرصة تاريخية في ظل إنضاج الأجندات خليجيًا الآن أكثر من أي وقت منذ قيام المجلس الخليجي في مايو 1981م، لذلك فالواقعية السياسية تحتم الآن عقد قمة خليجية لإعلان تطبيق كامل بنود الاتفاقية الاقتصادية الصادرة في نوفمبر 1981م، وبالذات تحقيق السوق الخليجية المشتركة والاتحاد النقدي، والعملة الموحدة، ولنا تصور كيف ستصبح الدول الست قوة اقتصادية/ تجارية عالمية مؤثرة في كل المجالات في وقت بدأت التصدعات تظهر في بعض التحالفات الكبيرة، كالاتحاد الأوروبي بعد خروج بولندا مؤخرًا، ومجموعة بريكي بعد موقف الهند التي اختارت أن تميل كل الميل نحو ترامب عبر فرض رسوم جمركية على الصين بنسبة 12%، مما يبدو مستقبل تكتل بريكس مستهدفًا من ترامب خاصة بعد وعود استثمارية أمريكية ضخمة للهند، كنقل استثمارات آبل من الصين للهند.
وقوتها الاقتصادية تكمن الآن في وجود أكثر من 2،4 تريليون دولار إجمالي الناتج المحلي للدول الست، و3،225 تريليون دولار حجم الصناديق السيادية، و131 مليار دولار قيمة التجارة الخليجية البينية، بنمو3.3 % عام 2023م، وبلغ حجم التجارة الخارجية السلعية 5.1 تريليون دولار، وتصنف دول المجلس الخليجي على أنه ضمن أحد أقوى الاقتصاديات العالمية الآن، فكيف بوزنها بعد استكمال تطبيق الاتفاقية الاقتصادية؟ علمًا بأنها قد حققت حتى الآن نسبة كبيرة من عناصر الوحدة الاقتصادية، وهي – أي العناصر – تبدأ بتأسيس منطقة للتجارة الحرة، وتنتهي بالوحدة الاقتصادية، وما بينهما إقامة اتحاد جمركي وسوق خليجية، لذلك، فمسار وحدتها الاقتصادية وحتى طموح اتحادها تتوفر له كل النجاحات في تحقيقه خلال العام الحالي 2025م.
- التطبيقات على الصعيد الخارجي
تحتم تطبيقات البراغماتية الراديكالية على الصعيد الخارجي تحديد الدول والتكتلات التي يكون لها الأولوية في إحداث الصيرورات الراديكالية السريعة معها لكسب المزيد من الأسواق والشراكات الاقتصادية بما يعزز المركز الخليجي عالميًا، فعلى الصعيد الإقليمي تظهر إيران وتركيا والهند ودول آسيا الوسطى، وعالميًا، ألمانيا واليابان وفرنسا والبرازيل وإيطاليا وكندا، وعلى صعيد التكتلات منظمة المؤتمر الإسلامي وجامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي، والسوق المشتركة الجنوبية وهى تقع في أمريكا الجنوبية، وتتألف من خمس دول هي الأرجنتين والبرازيل وباراغواي وأوروغواي وبوليفيا، وتعد هذه السوق خامس أكبر اقتصاد في العالم، والأولوية الخليجية يرجع بعضها لأسباب سياسية واقتصادية مشتركة وأخرى اقتصادية خالصة.
وهذه استهدافات البراغماتية الراديكالية الخليجية، وقد اخترناها إما كونها أسواق بديلة أو تعزيزية برؤية سياسية بعيدة المدى، وكذلك برؤية آنية كون أن هذه المرحلة ينبغي أن تفتح حوارات اقتصادية جديدة، فكل حالة جامدة سياسيًا قد تحولت فجأة إلى مرنة، وأصبحنا نرى الصيرورات التاريخية تتوالى منذ طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023م، وحتى سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر 2024م، لذلك، ينبغي على دول مجلس التعاون أن تتماهى مع السباق الزمني السريع للصيرورات.
وهذا لن يأتي إلا بتحرير التفكير عن إشكاليات الماضي في رسم علاقاتها الجديدة داخل محيطها الجيوسياسي أو فضاءاتها الواسعة والبعيدة المدى التي يمكن أن تصلها بسهولة عبر تموقعاتها الجغرافية على بحار ومحيطات وممرات مائية تصل الشرق بالغرب، فهي في حقبة زمنية كل من يقوده وعيه المرتفع إلى الإدراك بحقبة الصيرورات سيسارع فورًا إلى تحويل العدو إلى حليف، وإلى تمتين العلاقات مع الحلفاء وغير الحلفاء، مثلما يفعل ترامب الآن مع روسيا وإيران، وهذا أفضل تطبيقات للبراغماتية في آليتها الراديكالية.
ولو أخذنا إيران مثلًا ، فهناك الكثير من المسوغات التي تشرعن للخليج الاستعجال بفتح حوارات اقتصادية ذات صبغة سياسية مع إيران، أبرزها الاحتمالات المتعاظمة للتوصل إلى اتفاق بين طهران وواشنطن بشان برنامجها النووي، ودخولهم في شراكة اقتصادية / نفعية طويلة الأجل، ويمكن لطهران أن تلعب بلغة المصالح ما تسييل لعاب ترامب الذي بدا منذ بداية المحادثات مع طهران أشد المعجبين بسلوك الإيرانيين فيها ، ويستغل لقاءاته الصحفية، بالإشادة بذكائهم وحسن تصرفاتهم على عكس فترته الرئاسية الأولى، وكذلك انحسار الجماعات المسلحة المرتبطة بإيران في لبنان وسوريا ، وحتى الحوثيين قد أصبحوا براغماتيين بعيدًا عن الصبغة الثورية التي كانت طاغية على سلوكهم وأفعالهم، وما توصلهم مع واشنطن / ترامب إلى اتفاق لوقف إطلاق النار المتبادل بوساطة عمانية إلا دليلًا على إمكانية أو استعدادهم لقبول الدخول في أي عملية سياسية مقبلة إذا انتهت أزمة غزة .
وهنا يستوجب على مجلس التعاون الخليجي المبادرة في خط مواز للمحادثات النووية بين طهران وواشنطن أن تفتح حوارًا مع إيران لإقامة منطقة تجارية حرة أولية كسابقة تقاس عليها مستقبل الجانبين ،وتبني من خلال الثقة المتبادلة، خاصة وأن المنطقة الحرة كانت فكرة إيرانية منذ عهد الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد – 2005م، 2013م، – وتم الموافقة عليها خليجيًا عام 2008م، لكن، المحادثات توقفت بسبب العقوبات على البرنامج النووي الإيراني ، رغم أنه كان ينبغي الاستمرار فيها، وتجنب القضايا المتعلقة بالعقوبات – رأي منقول - والتركيز على التجارة غير الخاضعة للعقوبات كالمواد الغذائية والأدوية والتجارة الإنسانية .. وهذا التوجه لا يزال صالحًا لدواعي التماهي مع الصيرورات وفق أسوأ احتمالاتها على الصعيد الإيراني.
وهذه البراغماتية الراديكالية مع طهران تفعل مسيرة المصالحة السعودية ـ الإيرانية التي توسطت فيها الصين عام 2023م، واستئناف العلاقات الدبلوماسية عبر فتح سفاراتهما وممثلتيهما، كما أنها تتماهى مع توقعات طهران أن تتجاوز القيمة التجارية مع الإمارات 30 مليار دولار ، وتطلعهما إلى تعزيز التعاون في 12 قطاعًا اقتصاديًا ، من هنا يظهر خيار تأسيس منطقة للتجارة الحرة بين طهران وشركائها الخليجيين حاجة سياسية واقتصادية ضرورية لبناء الثقة لمستقبل جديد في عالم يتأسس الآن على الصفقات التي هي أهم مداخل السلم والاستقرار الإقليمي والعالمي، لذلك، ففكرة اتفاقيات التجارة الحرة هي في الأساس تفكير سياسي بهدف تعزيز التعاون الإقليمي خاصة والدولي عامة، لذلك هو نهج ينبغي أن يكون خليجيًا خلال المرحلة الراهنة، وعلى مستويات متعددة الأطراف، كأن يكون بين دول مجلس التعاون الخليجي الست ككتلة واحدة وإيران وتركيا مثلًا، وهكذا يمكن القياس عليه.
وهنا تظهر لنا الاتفاقيات التجارية الحرة fTA سواء كانت ثنائية أو متعددة الأطراف أهم أداة البراغماتية الراديكالية لتشكيل مناطق تجارة حرة بهدف تسهيل حركة السلع والخدمات أو تقليل أو إلغاء الرسوم الجمركية، وفتح الأسواق، مثل اتفاقية التجارة الحرة بين دول مجلس التعاون الخليجي ورابطة التجارة الحرة الأوروبية / افتا / واتفاقية التجارة الحرة بين دول المجلس الخليجي ونيوزلندا.
رابعًا: الخيار الثنائي / الثلاثي كأسوأ الاحتمالات
لدينا هواجس طاغية على تفكيرنا من الفردانية الخليجية، وهنا نرى من الأهمية الذهاب بالأجندات الخليجية على المستويات الثنائية، أو شبه الجماعية حسب ما تتلاقى مصالح الدول معها، وهنا نقدم على سبيل المثال النموذج العماني السعودي فالحتميتان - الزمنية والسياسية - تقتضيان فورية تحطيم الآجال الزمنية للأجندات الخليجية على الأصعدة الثنائية أو مع من تتلاقي معهما، فالإرادتان السياسيتان العمانية والسعودية منذ آخر ثلاث سنوات تقريبًا تلتقيان على إقامة شراكة اقتصادية وتجارية ذات منافع متبادلة ومستدامة لاستغلال الحدود المشتركة بينهما، واستفادة من الموقع الجيوسياسي لمسقط المطل على بحار مفتوحة لكل قارات العالم.
وتطبيقًا لذلك، فقد تم إقامة منفذ بري مباشر يربط البلدين سيسهم في تسريع التبادل التجاري والاستثماري بينهما، وسيفتح المجال أمام حركة البضائع من المملكة مرورا بالطرق البرية في السلطنة ووصلًا إلى موانيها، مما ستسهل تصدير البضائع السعودية للعالم عن طريق بحر عمان وبحر العرب بعيدًا عن البحر الأحمر ، كما يمكن للبضائع العمانية كذلك الاستفادة من هذا التواصل البري للوصول إلى البحر الأحمر ، وهذا التحول نصنفه من نتاج الفكر البراغماتي/ الراديكالي، حيث يعمل البلدان على زيادة التبادل التجاري من خلال إيجاد الفرص الاستثمارية وتبادل الخبرات المشتركة من خلال دعم وتطوير المؤسسات الصغيرة والمتوسطة خاصة في التجارة الإليكترونية ، وقد شكلت فريق عمل من الجانبين لتحديد الأولويات التي من شأنها دعم هذا التبادل، لذلك نتوقع عند استكمال تطبيق آخر الاتفاقيات بين البلدين أن تنعكس نتائجها على حركة التجارة بين البلدين، وأن تعمق بنية المصالح بين البلدين الجارين.
، وقد وقع البلدان 13 اتفاقية في مختلف القطاعات الاقتصادية خلال المنتدى السعودي العماني في أبريل في الرياض 2023م، ومن بين هذه الاتفاقيات إقامة منطقة اقتصادية في محافظة الظاهرة العمانية الواقعة على الحدود السعودية ستسهم في تعزيز النمو الاقتصادي المستدام، وزيادة التبادلات التجارية، وإيجاد صناعات نوعية ، وتشجيع الشراكات الاقتصادية لتوفير السلع والمنتجات، وتقليل تكلفة الإنتاج والتصدير بين البلدين، وتبحثان تعزيز التعاون بين المناطق الاقتصادية الحرة التي ستظهر الحاجة إلى سكة قطار رابطة للمناطق والموانئ بين البلدين.
ويكشف عاملي الزمني والسياسة في تجلياتها الحديثة والمتعاظمة، الأهمية العاجلة لتحقيق مثل تلكم الأجندات لإحداث الفارق الإقليمي والدولي، وهذا ما نجده ملموسًا في الخطوات السياسية لكبار الفاعلين بين البلدين، ومن أبرزها، زيارة وزير الخارجية العماني مع نظيره السعودي في أواخر أبريل الماضي للمنفذ الحدودي في الربع الخالي ، وزيارتهما الجبل الأخضر بمحافظة الداخلية العمانية مما يشير ذلك إلى وجود إرادة سياسية تعجل بتنفيذية الأجندات، وكذلك توسيعها من الجغرافيا العمانية المنفتحة على ثلاثة مسطحات مائية هي بحر عمان وبحر العرب والمحيط الهندي مما يجعلها متلقى الشرق والمغرب التي تتدفق عبرها البضائع من صادرات وواردات مختلفة ومتنوعة إلى ملايين البشر، فالأولى بها صادرات وواردات البلدين، وبالذات السعودية التي يعد اقتصادها أكبر اقتصاد عربي، وتتطلع للعالمية، لذلك، فالتفكير بربط الموانئ والمناطق الاقتصادية والحرة بين البلدين بسكة حديد متعددة الأغراض مع الانفتاح مستقبلًا على اليمن المجاور حتمية البراغماتية في إطارها الراديكالي المعاصر .