عادت قضية "حل الدولتين" لتَعتلي قلب الخطاب العالمي في ظل اجتماع أعضاء المجتمع الدولي بمدينة نيويورك من أجل التوصل إلى تسوية للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. حيث شدد زعماء العالم، خلال مؤتمر الأمم المتحدة لدعم حل الدولتين الذي عُقد في يوليو والقمة التي تبعته في سبتمبر - على أنه لا سبيل لسلام مستدام بدون الاعتراف بدولة فلسطينية ذات سيادة على أراضيها، تعيش جنبًا إلى جنب مع الكيان الإسرائيلي. وفي هذا السياق، تتبنى الهند، بوصفها قوة عالمية صاعدة ومؤثرة، مقاربة شاملة للقضية تعتمد على مرجعيات متعددة مثل السلطة الأخلاقية، والخبرات التنموية، والمكانة الدبلوماسية الاستراتيجية.
يُسلط هذا المقال التحليلي الضوء على موقف الهند السابق والحالي بشأن حل الدولتين، ومدى استعدادها وقدرتها على دعم إعلان نيويورك. كما يتناول الدور الأوسع للجنوب العالمي-لاسيما في ضوء المقترح السعودي-الفرنسي المشترك الذي حظي بدعم دولي واسع النطاق.
موقف الهند التاريخي والراهن
يعود الدعم الهندي إلى فلسطين منذ فجر استقلالها، حيث عارضت نيودلهي خطة الأمم المتحدة بشأن تقسيم فلسطين باعتبارها مُجحفة وغير منصفة للشعب العربي. كما كانت من أوائل الدول غير العربية التي تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية، وتمنحها اعترافًا دبلوماسيًا كاملًا في عام 1980م. فضلًا عن، دعمها المتواصل لحق تقرير المصير الفلسطيني. ولعل الدافع وراء الدعم الهندي للقضية الفلسطينية خلال السنوات الأولى من الاحتلال يكمن في مشاعر التكاتف والتآزر ضد الاستعمار والالتزام بسياسة عدم الانحياز. مع ذلك، بدأت هذه السياسات تتطور إبان تسعينيات القرن الماضي تزامنًا مع تأسيس علاقات دبلوماسية كاملة مع الجانب الإسرائيلي عام 1992م. ومنذ حينها، سعت نيودلهي لانتهاج سياسة متوازنة، وتوطيد روابطها الاستراتيجية، والتقنية، والدفاعية مع تل أبيب، مع الحفاظ في الوقت ذاته على التزامها الأخلاقي والتنموي حيال القضية الفلسطينية.
شهدت العلاقات الهندية -الإسرائيلية نموًا واضحًا في عهد رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي. وهو ما انعكس عبر الزيارات رفيعة المستوى المتبادلة (الأولى من قبل رئيس وزراء هندي)، والتعاون الدفاعي المشترك، والتعاون في مشروعات الابتكار. مع ذلك، لم تتردد الهند، التي يبلغ تعداد سكانها من المسلمين نحو 200 مليون نسمة وتمتلك دستورًا "علمانيًا"، في دعمها قط لحل الدولتين على مدار العقود الماضية. ورغم اعتلاء حكومة يمينية السلطة في البلاد، واصلت نيودلهي التأكيد على رؤيتها "لدولة فلسطينية تنعم بالسيادة والاستقلال ومقومات الحياة تعيش في سلام بجوار إسرائيل ضمن حدود آمنة ومعترف بها، تقوم على أساس حدود 1967م، وعاصمتها القدس الشرقية".
ومؤخرًا، شددت الهند، خلال انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة لحل الدولتين في يوليو 2025م، على أنه لا سبيل لتحقيق السلام عبر اعتماد الأدوات العسكرية، والتحركات الأحادية، أو الإرهاب. على النقيض، رأت أنه ينبغي أن تكون الدبلوماسية، والتنمية، والحوار هي المسارات المستقبلية المنشودة". فيما سلط وزير الشؤون الخارجية الهندي سوبرامانيام جايشَانكار الضوء على أهمية استئناف المفاوضات المباشرة وضمان احترام القانون الدولي والأعراف الإنسانية". كما جدد الممثل الهندي الدائم لدى الأمم المتحدة التأكيد، خلال انعقاد مؤتمر نيويورك، على أن" المعاناة الإنسانية في قطاع غزة مستمرة دون هوادة، مشددًا على ضرورة السماح بتدفق المساعدات الإنسانية دون أية عوائق، وأن يحصل الفلسطينيون على الغذاء، والوقود، والمواد الأساسية دون مواجهة عراقيل".
وأوضح المسؤول الهندي أن" الدعم الإنساني يعد جوهريًا من أجل استدامة الحياة بقطاع غزة، ويجب أن يظل بمنأى عن المعطيات السياسية أو دائرة الصراع. كما أكد أنه لا بديل لمثل هذه الإجراءات وأهمية عدم الاكتفاء بالحلول النظرية، بل السعي الدؤوب من أجل تطبيق حلول عملية. مضيفًا:" تعرب الهند على استعدادها التام للمساهمة في تنفيذ هذا المسعى النبيل". وعلى نحو مماثل، جدد وزير الشؤون الخارجية الهندي التأكيد أمام البرلمان، في شهر يوليو، على دعم بلاده لحل الدولتين عن طريق التفاوض.
الانتقال من الدعم المبدئي إلى الممارسة الفعلية
يتجاوز دعم الهند مجرد التصريحات. فقد تعهدت نيودلهي بتخصيص أكثر من 160 مليون دولار في شكل مساعدات إنمائية موجهة لدعم فلسطين. وتشمل تمويل مشروعات البنية التحتية (المدارس، والمستشفيات، والمتنزهات التكنولوجية)، وبناء القدرات، ودعم الحوكمة، وتقديم مئات المنح الدراسية للطلاب الفلسطينيين سنويًا. كما ظلت الهند مانحًا منتظمًا لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، حيث تٌقدر إسهاماتها المالية بنحو 5 ملايين دولار سنويًا، كما قدمت أكثر من 70 طنًا من المساعدات الإنسانية إلى غزة خلال حرب 2023-2024م، بما يعكس استعدادها لأن تذهب لما هو أبعد من الخطابات إلى التطبيق الفعلي. كذلك، فإن سجل الهند الحافل كشريك تنموي في جنوب الكرة الأرضية يمنحها مصداقية، ذلك بالإضافة إلى النموذج الذي ترعاه في التعاون غير المشروط والقائم على الشراكة، والذي ينعكس صداه داخل فلسطين وكافة ربوع الوطن العربي.
التأثير على إعلان نيويورك
تتمتع الهند بمكانة دولية بارزة، مما يمنحها قدرة فريدة على التأثير في حل الدولتين. فبصفتها عضوًا في مجموعة العشرين ومؤسسًا لتكتل بريكس، وزعيمًا صاعدًا لدول الجنوب العالمي، تحظى الهند بمصداقية دبلوماسية واسعة لدى العديد من الأطراف الدولية. وقد دعت الهند، خلال المؤتمر الأممي لحل الدولتين، المشاركين لعدم الاكتفاء بإصدار البيانات والانتقال إلى الآليات العملية - بما في ذلك دعم بناء المؤسسات، والتنمية الاقتصادية، ودعم قدرات دولة فلسطينية مستقبلية. ولعبت هذه الموضوعات الرئيسية دورًا في تشكيل أجندة مؤتمر نيويورك، حيث من المتوقع أن تضطلع الهند بدور أكثر زخمًا في صياغة أطر التنفيذ.
كذلك، تساعد سياسة التوازن الدبلوماسي التي تنتهجها الهند، والتي تحافظ من خلالها على علاقات قوية مع كل من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي ومع أطراف فاعلة أخرى كالمملكة العربية السعودية وفرنسا، على أن تصبح جسرًا للتفاهم في مساعي بناء توافق حول خطوات السلام المستقبلية.
دور القوى الصاعدة
لطالما ظل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي تحت هيمنة الدبلوماسية الغربية. مع ذلك، فإن النظام العالمي المتغير يصعد بالقوى الناشئة إلى دائرة الضوء-لاسيما دول الجنوب العالمي. وبخلاف دول الخليج، فإن دولا مثل الهند، والبرازيل، وجنوب إفريقيا، وإندونيسيا، وتركيا، غدت تلعب دورًا أكثر حسمًا في تشكيل السرديات العالمية بشأن السلام، والعدل، والتنمية العادلة. فإن مشاركة هذه الدول تجلب العديد من المزايا: أولًا، تحقيق الحياد الدبلوماسي، في ظل الانطباع الراسخ بأن دول الجنوب العالمي، مثل الهند، تنأى بنفسها عن الانحياز، وبالتالي، فإنها تنعم بالثقة بين الدوائر الانتخابية الفلسطينية والإسرائيلية. ثانيًا، الخبرة التنموية، حيث تستوعب هذه البلدان جيدًا تحديات بناء دولة خلال مرحلة ما بعد الاستعمار، وبإمكانها تقديم خبراتها في هذا الصدد. ثالثًا، الشرعية، تنعم هذه القوى الصاعدة بثقل أخلاقي كونها تمثل جزءًا كبيرًا من سكان العالم وتتشارك في تاريخ ومسيرة النضال ضد الإمبريالية.
بيد أن هذه الدول تواجه عددًا من المعوقات بما في ذلك: نفوذها المحدود على الأطراف الفاعلة الرئيسية مثل إسرائيل والولايات المتحدة، اللتين تحتكران التأثير على مجريات الصراع ومحاولات تسويته؛ والقيود التي تواجه مواردها مقارنة بنظيرتها الغربية، فضلًا عن التحديات الخاصة بتنسيق الجهود الجماعية. ومع ذلك، من خلال انضمام دول الجنوب العالمي إلى منصات وتكتلات إقليمية مثل مجموعة بريكس، ومجموعة السبع، وقمة صوت الجنوب العالمي، فإنها تبني لنفسها تدريجيًا مساحة لتشكيل معالم نظام ما بعد الصراع.
وقد أظهرت الهند، على وجه التحديد، استعدادًا للتحرك -بوصفها مُعبِرًا عن صوت العقل ومَزودًا للموارد وخلال اجتماع وزراء خارجية بريكس في البرازيل في يوليو 2025م، شددت الهند على أن الحل العادل والدائم للقضية الفلسطينية يقتضي احترام القانون الدولي، وإعلاء الرخاء للمدنيين، وتلبية التطلعات المشروعة للشعبين.
الجنوب العالمي والمقترح السعودي-الفرنسي
يُمثل المقترح السعودي-الفرنسي أحد أهم تطورات مؤتمر نيويورك لحل الدولتين. ويتضمن، الاعتراف بدولة فلسطينية على أساس حدود عام 1967م، وهيكل حكم انتقالي بقيادة السلطة الفلسطينية، وبعثة لتعزيز الاستقرار مدعومة من قبل الأمم المتحدة، إلى جانب تقديم مساعدات دولية هائلة لدعم جهود إعادة الإعمار. وقد حظي المقترح بإشادة واسعة بفضل موازنته بين الشرعية الإقليمية (المملكة العربية السعودية) والمصداقية الدولية (فرنسا) واقتراحه مسارًا متعدد الأطراف لإقامة دولة فلسطينية.
بالنسبة لدول الجنوب العالمي، وبالأخص الهند، فإنها تتمتع بنفوذ واسع من أجل تفعيل هذه الرؤية. كما بإمكانها المساعدة في حشد دبلوماسي أوسع ومتعدد الأطراف، لاسيما بين بلدان عدم الانحياز داخل قارتي آسيا وإفريقيا. كذلك بإمكانها تقديم المساعدات الإنمائية من خلال خبرتها في مجالات التعليم، والرعاية الصحية، والحوكمة الرقمية، والبنية التحتية، التي يمكن أن تساعد في بناء العمود الفقري الإداري لدولة فلسطينية مستقبلية. ويتمثل أحد أكبر الإسهامات الممكنة لهذه الدول في الانضمام إلى قوات حفظ السلام الأممية. كذلك بإمكانها توفير الخبراء الفنيين، والمراقبين، والدعم اللوجيستي في حال تم تشكيل بعثة تحت إشراف أممي. وبالنظر إلى روابطها الاستراتيجية مع فرنسا والمملكة العربية السعودية، بإمكان الهند أن تكون شريكًا في تنفيذ العناصر الانتقالية لعملية السلام مع تجنب العبء والحمولة السياسية التي قد تعرقل عمل اللاعبين الآخرين.
الختام:
ركيزة التوافق الدولي الجديد
تمتلك الهند، بفضل سجلها الحافل في دعم فلسطين ودبلوماسيتها المتوازنة، ومقاصدها التنموية، مكانة فريدة تؤهلها للمساعدة في تطبيق مخرجات مؤتمر نيويورك. إن اتساق معاييرها الأخلاقية، والتزاماتها المالية، ونفوذها العالمي المتزايد، كلها عوامل تمكّنها من المساهمة الفعالة في الجوانب السياسية والعملية لحل الدولتين.
وفي ظل التحولات التي يشهدها النظام العالمي وصعود قوى جديدة، يكتسب دور الهند والجنوب العالمي أهمية حيوية في ضمان أن تعكس عملية السلام قيم العدالة والشمولية والسيادة، لا مجرد التوافقات الاستراتيجية. وتُعد القمة الأممية التي عُقدت في سبتمبر بشأن حل الدولتين اختبارًا حاسمًا، ليس فقط لجدوى المقترح السعودي الفرنسي، بل أيضًا لمدى استعداد المجتمع الدولي لاعتناق نهج متعدد الأقطاب وموجه نحو التنمية في مساعيه لتحقيق السلام. وفي ظل هذه الحقبة العالمية الجديدة، تعد الهند أكثر من مجرد داعم للقضية الفلسطينية، بل مهندسًا محتملًا لعملية السلام، وداعمًا في تحويل التطلعات التي طال انتظارها إلى حقائق دائمة وعادلة.






