يُعد حل الدولتين أحد أقدم الحلول المطروحة لإنهاء الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، ويظل من أبرز المقترحات لتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة. ومع انعقاد الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة (9-23 سبتمبر 2025م)، يتوقع إعلان المزيد من الدول الاعتراف بالدولة الفلسطينية، استنادًا إلى مؤتمر نيويورك (28-30 يوليو 2025م)، الذي دعت إليه السعودية وفرنسا بمشاركة 17 دولة، لدعم تنفيذ حل الدولتين.
تتناول هذه الورقة تطور فكرة حل الدولتين منذ طرحها عبر ما عرف بـ (لجنة بل) عام 1937م، حتى إعادة طرحها ضمن خطة شاملة للسلام في يوليو 2025م، مع التركيز على الدور السعودي المحوري، وتحديات الاستيطان، الانقسام الفلسطيني، والتحولات الإقليمية.
لجنة بيل ونشأة حل الدولتين
في عام 1936م، اندلعت في فلسطين ثورة شعبية ضد التمدد الصهيوني المدعوم بوعد بلفور (1917م)؛ فأرسلت بريطانيا لجنة للتحقيق في الأحداث، ترأسها اللورد بيل. وخلصت اللجنة في يوليو 1937م، إلى صعوبة تنفيذ الانتداب البريطاني بسبب النزاع بين شعبين في أرض واحدة، واقترحت (تقسيم فلسطين إلى دولتين: عربية ويهودية)، مع بقاء القدس تحت الوصاية البريطانية؛ وكانت هذه أول وثيقة رسمية تطرح حل الدولتين.
قرار تقسيم فلسطين (1947م)
في 29 نوفمبر 1947م، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار 181، الذي دعا لإنشاء دولتين: يهودية على مساحة نسبتها (55% من الأراضي) وعربية على (43%)، مع إدارة دولية للقدس (2%). رفض الفلسطينيون والعرب القرار لظلمه، حيث منح إسرائيل أراضٍ تشمل مدنًا فلسطينية رئيسة. وبعد إعلان إسرائيل عن قيامها في 14 مايو 1948م، اندلعت الحرب العربية- الإسرائيلية الأولى، التي انتهت بهزيمة العرب، وسيطرة إسرائيل على 77% من فلسطين، بينما سيطرت الأردن على الضفة الغربية، وسيطرت مصر على غزة.
قرار الأمم المتحدة 242 (1967م)
بعد حرب يونيو 1967م، التي احتلت فيها إسرائيل المزيد من الأراضي العربية (الضفة الغربية، وغزة، وسيناء، والجولان)، أصدر مجلس الأمن القرار 242، الذي دعا إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة مقابل السلام. لكن القرار لم يشر صراحة إلى دولة فلسطينية، واكتفى بذكر "تسوية عادلة" لقضية اللاجئين، مما دفع الفلسطينيين لرفضه لتجاهله حقهم في دولة مستقلة.
اتفاقية كامب ديفيد (1979)
في مارس 1979م، وقّعت مصر وإسرائيل اتفاقية كامب ديفيد، التي نصت على حكم ذاتي فلسطيني مؤقت في الضفة وغزة لخمس سنوات، تليها مفاوضات للوضع النهائي؛ رفضت منظمة التحرير الفلسطينية الاتفاقية لعدم إشراكها، وغموضها حول القدس، ولإعطائها الاحتلال شرعية مؤقتة. كما أدانت القمة العربية (بغداد 1978م) الاتفاقية، واعتبرتها حل مصري منفرد لقضية العرب الأولى، ونقلت مقر جامعة الدول العربية إلى تونس، مما عمّق الانقسام العربي وعقد الحل السلمي للقضية الفلسطينية.
خطة فهد (1981م)
في نوفمبر 1981م، قدم ولي العهد السعودي آنذاك الأمير فهد بن عبد العزيز، ملك المملكة العربية السعودية لاحقًا، خطة سلام إلى مؤتمر القمة العربية المنعقد في مدينة فاس بالمغرب؛ ودعت الخطة إلى: انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة؛ وتفكيك المستوطنات؛ وقيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس؛ وعودة اللاجئين.
كانت خطة فهد هي أول خطة عربية تنص على إقامة دولة فلسطينية، ومع ذلك رُفضت عند طرحها من قبل سوريا لعدم إشارتها لمنظمة التحرير الفلسطينية، لكنها صودق عليها عام 1982م، بعد إضافة إشارة إلى منظمة التحرير. وعلى الرغم من رفض إسرائيل للخطة عند طرحها، إلا أنها شكلت أساسًا لمبادرات لاحقة، مثل أوسلو (1993م) والمبادرة العربية (2002م).
قبول الفلسطينيين لحل الدولتين (1988م)
بعد فشل المقاومة المسلحة، اقتنعت منظمة التحرير الفلسطينية بقبول حل الدولتين؛ وتم تأكيد ذلك في الخطاب الذي ألقاه ياسر عرفات أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر 1988م؛ حيث أعلن في ذلك الخطاب استعداد المنظمة لقبول قيام دولة فلسطينية في الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967م، مع الاعتراف بحق إسرائيل في الأمن، والاعتراف بها كدولة؛ وقال عرفات حينها: "إن الإدارات الأمريكية المتعاقبة تعرف أن شهادة الميلاد الوحيدة لقيام دولة إسرائيل هي القرار 181، الصادر عن الجمعية العامة في 29 نوفمبر 1947م، والذي وافقت عليه في حينه الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وهو ينص على قيام دولتين في فلسطين واحدة عربية فلسطينية والثانية يهودية".
وأكد عرفات آنذاك القبول بالدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة والقدس على حدود الرابع من يونيو 1976م، والتنازل عن أراضي العام 1948م، مقابل الاعتراف بدولة فلسطين. وكان عرفات قد استبق هذا الخطاب بالإعلان من الجزائر عن قيام دولة فلسطين، وذلك في 15 نوفمبر 1988م. وعلى الرغم من اعتراف 78 دولة بالدولة الفلسطينية آنذاك، لكن ذلك لم يغير الواقع شيئًا، بسبب سيطرة إسرائيل على جميع الأراضي الفلسطينية؛ وخروج مصر من الصراع؛ ومعارضة بعض المنظمات الفلسطينية، وخصوصًا حماس، لحل الدولتين والاعتراف بإسرائيل، ولكنها أبدت لاحقًا (2017م) قبولًا مشروطًا بدولة على حدود 1967م دون الاعتراف بإسرائيل.
مؤتمر مدريد (1991م)
عُقِد مؤتمر مدريد في أكتوبر 1991م، برعاية أمريكية وسوفيتية، لدفع السلام العربي-الإسرائيلي. واشترطت إسرائيل حينها ألا يمثل الفلسطينيون منظمة التحرير، فتم تشكيل وفد أردني- فلسطيني مشترك. لم يحقق المؤتمر تقدمًا جوهريًا بسبب الخلافات حول القدس، والمستوطنات، واللاجئين، مما دفع فصائل فلسطينية لرفض المفاوضات.
اتفاق أوسلو (1993م)
في سبتمبر 1993م، وقّع كل من رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين "إعلان المبادئ" في واشنطن، وقد نص الإعلان على حكم ذاتي فلسطيني مؤقت لخمس سنوات، تليها مفاوضات نهائية استنادًا إلى القرارين 242 و338. كما نص على تأجيل التفاوض حول قضايا: والقدس، واللاجئين، والمستوطنات. وعلى الرغم من أن الاتفاق لم ينص صراحة على دولة فلسطينية، لكنه أوحى بإمكانيتها. ولم يحظ الاتفاق بقبول كثير من الفلسطينيين، لعدم إلزامه إسرائيل بوقف الاستيطان، مما سمح لها بتوسيع الاحتلال.
قمة كامب ديفيد الثانية (2000)
في يوليو 2000م، عُقدت قمة كامب ديفيد برعاية الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، بحضور عرفات وباراك؛ وتناولت القمة القضايا المؤجلة من أوسلو: القدس، واللاجئين، والحدود، لكنها فشلت بسبب الخلافات، وبخاصة حول سيادة القدس؛ ما جعل القضية الفلسطينية تعود إلى ما كانت عليه من الجمود.
تبني الرئيس بوش لحل الدولتين (2002)
بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م، روّج الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن لحل الدولتين كحل وسط؛ وقبلته حينها بعض الأطراف العربية، لكن إسرائيل بقيادة شارون قاومته عبر تصعيد الاستيطان وتهويد القدس، مما أعاق تطبيقه.
مؤتمر أنابوليس (2007)
في نوفمبر 2007م، عقد بوش مؤتمر أنابوليس بحضور 50 دولة، بهدف استئناف المفاوضات. اتفق عرفات وأولمرت على محادثات لتوقيع معاهدة سلام عام 2008م، لكن المفاوضات لم تحقق تقدمًا بسبب استمرار الاستيطان والخلافات.
إعلان نتنياهو (2009)
في يونيو 2009م، أعلن نتنياهو قبول حل الدولتين، لكنه اشترط نزع سلاح الدولة الفلسطينية، وطالب بتعهد المجتمع الدولي بضمانات أمنية لإسرائيل، مع الاعتراف بها كدولة يهودية؛ ولكن ذلك لم يترجم إلى تقدم عملي.
تجميد المستوطنات ومحادثات واشنطن (2010-2014)
في 2010م، فرض نتنياهو تجميدًا جزئيًا للاستيطان تحت ضغط أوباما، لكنه انهار بعد أسابيع. في 2013 - 2014م، استؤنفت محادثات واشنطن بوساطة جون كيري، لكنها فشلت بسبب شروط إسرائيل، مثل: السيطرة على الحدود والأجواء، ورفض عودة اللاجئين.
صفقة القرن (2020م)
في يناير 2020م، طرح ترامب "صفقة القرن"، التي دعمت السيطرة الإسرائيلية على الضفة الغربية والقدس، وضم المستوطنات، ورفض عودة اللاجئين. ورُفضت الخطة من الفلسطينيين والدول العربية لانحيازها لإسرائيل وإلغائها لحقوق الفلسطينيين.
الدور السعودي في إحياء حل الدولتين
عقب نجاح الرئيس الأمريكي ترامب في تنفيذ اتفاقية إبراهام (2020م)، التي أسفرت عن التطبيع بين بعض دول الخليج العربية وغيرها من الدول العربية (الإمارات والبحرين والمغرب والسودان)، تطلع الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء الإسرائيلي إلى انضمام المملكة العربية السعودية ــ بما تمثله من ثقل عربي وإسلامي ودولي ــ إلى الاتفاق.
ووجدتها القيادة السعودية فرصة لإحياء حل الدولتين الذي كانت أمريكا وإسرائيل تحاولان إلغائه من المواثيق الدولية وتصفية القضية الفلسطينية عبر التطبيع مع الدول العربية والإسلامية، دون إقامة دولة فلسطينية. فأعلنت المملكة عبر تصريحات واضحة وحاسمة من سمو ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ووزير الخارجية، أن أحد شروطها للتطبيع مع إسرائيل، هو إقامة دولة فلسطينية على حدود 67 وعاصمتها القدس الشرقية، كما تنص على ذلك المواثيق الدولية.
ولم تكتف المملكة باشتراط حل الدولتين من أجل التطبيع، بل قامت بجهود حثيثة لإقناع دول العالم بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، واستطاعت بالاشتراك مع الجمهورية الفرنسية أن تدعو لمؤتمر دولي انعقد في مقر الأمم المتحدة في نيويورك من 28 إلى 30 يوليو 2025م، وأسفر عن (إعلان نيويورك) التاريخي، أعاد القضية الفلسطينية برمتها إلى بؤرة الاهتمام السياسي الدولي؛ واستقطب اعتراف المزيد من دول العالم الكبرى (فرنسا، بريطانيا، كندا، ألمانيا) بالدولة الفلسطينية، الذي سيعلن عنه في الجلسة الثمانين للأمم المتحدة يوم 22 سبتمبر 2025م.
الخلاصة
يُظهر المسار التاريخي لحلّ الدولتين أنّ القضية الفلسطينية لم تكن يوماً مجرد نزاع إقليمي محدود، بل مسألة دولية متشابكة تتقاطع فيها المصالح الاستراتيجية للقوى الكبرى مع تطلعات الشعوب وحقوقها المشروعة. فمنذ لجنة بيل عام 1937م وقرار التقسيم 1947م، مروراً بالحروب العربية ــ الإسرائيلية، وقرارات الأمم المتحدة (242 و338)، ومفاوضات مدريد وأوسلو وأنابوليس، وصولاً إلى "صفقة القرن" وما تبعها من تطورات، ظلّ حل الدولتين يتأرجح بين الطرح والتجميد، بين التبني الشكلي والتعطيل الواقعي.
وفي هذا السياق، برزت المملكة العربية السعودية كلاعب محوري يسعى لإعادة التوازن إلى مسار التسوية، بدءاً من "خطة فهد" (1981م) إلى "المبادرة العربية للسلام" (2002م)، وصولاً إلى مؤتمر نيويورك (2025م) الذي أعاد إحياء النقاش الدولي حول إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 1967م وعاصمتها القدس الشرقية. إنّ هذا الدور لم يكن مجرد مبادرة دبلوماسية ظرفية، بل امتداداً لرؤية استراتيجية تستند إلى إدراك المملكة أنّ استقرار الإقليم لا يمكن أن يتحقق إلا بإنصاف الشعب الفلسطيني ومنحه حقوقه الوطنية الكاملة.
ومع ذلك، تبقى التحديات أمام تطبيق حلّ الدولتين هائلة، ومنها: تعنت القيادات الإسرائيلية اليمينية المتطرفة، ورفضها لإقامة دولة فلسطينية؛ واستمرار الاستيطان الإسرائيلي على ما تبقى من أراض بعد إخلاء أهلها من بيوتهم وهدمها على نحو ما يتم في العديد من أحياء القدس والضفة الغربية، فضلًا عن محاولات التهجير القسري لسكان قطاع غزة وتقاسم أرضه كـ(غنيمة عقارية) بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وفقًا لتصريح وزير المالية الصهيوني سموتريتش؛ وانحياز الرئيس الأمريكي وتواطؤه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي؛ والانقسام الفلسطيني الداخلي، وتنامي البدائل الإقليمية والدولية التي قد تقف عائقاً أمام التوافق الدولي.
وبالرغم من كل هذه التحديات، فإنّ اللحظة الراهنة تتيح فرصة تاريخية نادرة؛ إذ يلتقي الحراك العربي بقيادة السعودية مع تحولات دولية متزايدة باتجاه الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
الخاتمة
ونختم بالقول: إنّ مستقبل القضية الفلسطينية مرهون بقدرة الفاعلين العرب على توظيف هذا الزخم السياسي والدبلوماسي لبناء جبهة موحدة، وبقدرة الفلسطينيين على تجاوز انقساماتهم، وباستعداد المجتمع الدولي للانتقال من الاعتراف الرمزي إلى الضغط العملي على إسرائيل للامتثال للشرعية الدولية. بذلك فقط يمكن أن يتحول حلّ الدولتين من مشروع مؤجل إلى واقع سياسي يعيد للشعب الفلسطيني حقوقه، ويضمن للمنطقة سلاماً عادلاً ودائماً.






