في الفترة من 28-30 يوليو 2025م، انعقد مؤتمر دولي رفيع المستوى في مقر الأمم المتحدة بنيويورك، برعاية مشتركة من المملكة العربية السعودية وفرنسا، وأفضى إلى ما صار يُعرف في الأوساط الدبلوماسية والإعلامية بـ "إعلان نيويورك" بمشاركة 17 دولة، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية. هذا الإعلان طرح خارطة طريق مرحلية تمتد في مراحلها الأولى نحو خمسة عشر شهراً، وهدفه إعادة إطلاق مسار حل الدولتين على الساحة مرة أخرى، حماية المدنيين، إنهاء العدوان، إعادة إعمار قطاع غزة، وتهيئة شروط إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية على حدود 1967م. هذا الإطار الزمني والعملي يجعل إعلان نيويورك خطوة محورية - إن صحَّت النوايا والتزمت كافة الأطراف المعنية - لكنه بنفس الوقت يطرح موجة من التحديات الحقيقية التي قد تُفرغ الإعلان من مضمونه إن لم تُعالج بطريقة استراتيجية ومنهجية.
قبل التطرق إلى أبرز التحديات المحتملة التي قد يواجهها تنفيذ هذا الإعلان، سيتم الإشارة بإيجاز إلى مضمونه وما الذي يقترحه الإعلان عملياً.
الورقة الأساسية لإعلان نيويورك تتضمن تسلسلاً مرحليًا يشمل: وقف فوري لإطلاق النار، وضع آليات وصول إنساني محمية، تشكيل حكومة وحدة وطنية أو آلية انتقالية فلسطينية تستعيد الإدارة المدنية على قطاع غزة، خطة تفكيك أو إخراج السلاح خارج هيكل السلطة (نزع سلاح حماس أو دمجها في أجهزة أمنية موحّدة)، ونشر بعثة دولية مؤقتة لمرحلة تثبيت الأمن والإشراف على جوانب إعادة الإعمار والانتقال الإداري. موازاةً لذلك، فتح الإعلان بابًا لاعترافات دولية مشروطة بدولة فلسطينية بسقف زمني، وتشكيل مجموعات عمل فنية متخصصة في (الأمن، الاقتصاد، إعادة إعمار، اللاجئين) لمتابعة التنفيذ.
هذا الطرح يضع على الطاولة مزيجًا من الأدوات السياسية والدولية - من الحوافز الاقتصادية والدبلوماسية إلى التدخل الأمني الدولي المؤقت - لكنه يعتمد في نجاحه على مزيج نادر من توافق إقليمي ودولي وشرعية فلسطينية موحدة، وهو ما قد يمثل جوهر التحديات لاحقًا.
هذا المضمون حمل عددًا من المؤشرات الإيجابية منها:
* انضمام كتلة وازنة من الدول الأوروبية والحلفاء التقليديين الداعمين للاحتلال الإسرائيلي لأول مرة للاعتراف بدولة فلسطين، بما في ذلك فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، وكندا، وأستراليا…؛ وهو ما يفرض مزيدًا من العزلة الدولية والضغوط على الكيان الصهيوني الذي تجاوز الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة، وأخذ في المضي قدمًا لضم ما تبقى من فلسطين المحتلة وتهويدها بالقوة.
* المطالبة بالوقف الفوري للحرب، رفض العدوان الإسرائيلي على غزة، إدانة الاعتداء على المدنيين، وإدخال المساعدات، ورفض التهجير القسري، ورفع التجويع، والمطالبة بإعادة الإعمار واستئناف تقديم الخدمات الأساسية كالكهرباء والماء والوقود، والتأكيد على دور الأونروا؛ وهو ما يعني إفشال جزء كبير من المخطط الصهيوني في القطاع.
* إبداء نوع من الجدية في إنفاذ حل الدولتين، من خلال تشكيل لجان عمل تعالج التفصيلات السياسية والاقتصادية والأمنية والمالية، ومن خلال السعي لوضع جدول زمني محدد وصولاً لاتفاق نهائي إسرائيلي- فلسطيني، وعدم المساس بوضع القدس، والتأكيد على الوصاية الهاشمية، وأن قطاع غزة جزء أساسي من الدولة الفلسطينية، وتعزيز الاقتصاد الفلسطيني، ومطالبة الاحتلال بالإفراج عن عائدات الضرائب.
هذه المؤشرات الإيجابية وعلى الرغم من أنها لم تحمل جديدًا في الموقف الذي تُعبر عنه معظم دول العالم تجاه القضية الفلسطينية منذ عشرات السنوات؛ إلا أنها لخصت بشكل عام مئات القرارات التي صدرت عن الأمم المتحدة بأغلبية ساحقة على مدار الـ 55 سنة الماضية؛ في محاولة لاسترداد روح المبادرة في وجه الأمر الواقع الذي يفرضه الإسرائيليون.
تحديات مُحتملة:
إعلان نيويورك حول مسار التسوية السلمية للقضية الفلسطينية وتنفيذ حل الدولتين، بقدر ما حاول استعادة الزخم العالمي لهذا المسار والوقف الفوري للحرب على قطاع غزة، بقدر ما أثار شكوكاً حول إمكانية التنفيذ العملي على الأرض، وتجاوُز العقبات والتحديات التي وُجدت على مدار 32 سنة من اتفاق أوسلو، لاسيما هذه المرة مع تعجرف حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية وقفزها على كافة المواثيق والأعراف الدولية، فضلاً عن بعض محاور الإعلان التي قد يراها معظم الفلسطينيين أنها تقديم تنازلات بحق الشعب وبحق المقاومة ودورها في الشراكة في صناعة القرار الفلسطيني دون إملاءات خارجية، ما قد يخلق تحديات عدة قد تعرقل تنفيذ هذا الاتفاق، ومنها ما يلي:
* يُعد الموقف الإسرائيلي الرسمي هو التحدي الأول والأخطر، حيث إن حكومة اليمين القومي في إسرائيل رفضت الإعلان واعتبرته خطوة أحادية الجانب تُعرّض أمنها للخطر، وهو موقف قد يمنع أي تنفيذ فعلي فوق الأرض إذا لم يكن هناك نوع من ضمانات أمنية قابلة للقياس تُقام في المقابل.
* الواقع الفلسطيني الداخلي وما يعانيه من حالة انقسام سياسي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وكذلك شرعية متآكلة للسلطة، وهذا لا يتوافق مع مخرجات الإعلان التي تشترط (حكومة واحدة، قانون واحد، سلاح واحد) وقد تواجه مقاومات عملية في حال لم تُقدم حلول مقبولة لأُطر الحماية السياسية والاقتصادية للسكان الذين عايشوا صراعات متعددة.
* التحدي المتعلق بالوضع الإنساني والقدرة على إعادة الإعمار في قطاع غزة تحت ظروف أمنية متقلبة، حيث أن البنية التحتية مدمرة بدرجة تستلزم موارد هائلة وترتيبات لوجستية وسياسية معقدة لمنع استغلال المساعدات من قبل أية أطراف قد تستهدفها.
* التحدي الأهم، هو أن هذا الإعلان لا يحتوي على أدوات إنفاذ قانونية مُلزمة تلقائية، حيث لا يوفر أية آليات جادة ولا أية ضمانات لفرض إرادة المجتمع الدولي وقراراته التي زادت عن 950 قراراً على الكيان الإسرائيلي. أي أنه وثيقة سياسية ستحتاج إلى آليات ضغط دولية وإقليمية ومتابعة مستمرة لتتحول من نص إلى واقع ملموس.
* التخوف من أن يتخذ هذا الإعلان مسار اتفاقات أوسلو، من حيث التعطيل من قبل الجانب الإسرائيلي، واتخاذ ذلك غطاءً للمزيد من عمليات الاستيطان وبرامج التهويد، مستفيداً من المظلة الأمريكية أمنياً وسياسياً.
* غياب الولايات المتحدة في مسار التنفيذ أو مشاركة محورية قد يُضعف قدرة الزخم حول الإعلان، على فرض أية التزامات على إسرائيل، خصوصًا إذا ظلت واشنطن تراعي مصالح التحالف الأمني مع تل أبيب.
* وجود حالة من الجمود والتحول الرمزي، أي أن الإعلان يبقى بيانًا سياسياً دولياً مشهودًا لكنه يتعثر على الأرض بسبب ضعف أدوات الإنفاذ وغياب التعاون الإسرائيلي والاعتراض الأمريكي، فتتبخّر المهل الزمنية، وتتحول المبادرة إلى ورقة دبلوماسية تستخدم للضغط السياسي والاعترافات الرمزية دون تغير ملموس على الواقع.
* مطالبة المقاومة بنزع أسلحتها وتسليمها للسلطة الفلسطينية، وهو إجراء يتم من طرف واحد، حيث لا توجد أية بنود حول أسلحة الاحتلال أو فرض حظر دولي عليه، لاسيما بعدما ثبت استخدامه لأسلحة محرمة دولياً في عدوانه الغاشم على غزة، وهذا بطبيعة الحال يوفر الحرية الكاملة له في متابعة عمليات الاستيطان والتوحش ضد الفلسطينيين دونما مقاومة، مثلما يحدث في الضفة الغربية.
* لم يتضمن الإعلان بنداً يتعلق بمحاسبة إسرائيل على الجرائم التي كانت وما زالت ترتكبها في فلسطين، وكذلك عدوانها على سوريا ولبنان واليمن، ومحاولة بسط هيمنتها على المنطقة من خلال عدوانها على إيران.
ولمحاولة تجاوز بعض هذه التحديات، يجب اعتماد مبدأ "التسلسل المتوازن" في التنفيذ، والذي يبدأ بوقف إطلاق نار موسَّع وغير مشروط، وفتح ممرات إنسانية تحت حماية دولية، ثم لابد من مشروع لتعزيز الشرعية الفلسطينية، مثل دعم عملية إصلاح داخلي تشمل انتخابات، أو اتفاقًا داخليًا يضم أطرافًا فاعلة في غزة والضفة، وضمان مشاركة المجتمع المدني في صياغة برنامج إعادة الإعمار، وكذلك تمويل مشروط وموثوق عبر صندوق دولي لإعادة إعمار غزة تُشرف عليه الأمم المتحدة والجامعة العربية والاتحاد الأوروبي، يُربط كل جزء منه بمؤشرات شفافة قابلة للقياس.
وكذلك المأمول وجود آليات ضغط وبدائل سياسية أثناء التنفيذ، كاستخدام أدوات دبلوماسية واقتصادية متدرجة ضد الجهات المعطلة للإعلان - ليس بالضرورة عقوبات شاملة فورًا - لكن آليات متنوعة من التقييد والاستثناء والحوافز الموقوتة التي تُستخدم كأداة تفاوض. وأيضاً تفعيل دور وسطاء إقليميين.
وفي حال فشل مراحل التنفيذ الميداني، يمكن التدويل القانوني والتحول نحو اعتراف أوسع، عبر استخدام الإعلان كمنصة لدفع تحركات اعترافية واسعة بدولة فلسطين، ومحاولة خلق ضغط سياسي وقانوني وإعلامي على إسرائيل عبر مؤسسات وتكتلات دولية، ما قد يفتح مسارات جديدة لتفاوض مبني على وقائع دولية مغايرة.
أهمية المبادرة السعودية – الفرنسية:
المبادرة السعودية – الفرنسية التي قُدمت كجزء من "إعلان نيويورك" تمثل خطوة دبلوماسية تاريخية تهدف إلى التأكيد على مسار حل الدولتين وإنعاشه مرة أخرى بعد كل محاولات الاحتلال تعطيله، بل وطمسه. فهذه المبادرة تجمع بين ثقلين متكاملين، المملكة العربية السعودية تمثل الشرعية العربية والقدرة على حشد التمويل الإقليمي والضغط العربي التقليدي، بينما فرنسا تمثل الجناح الأوروبي القادر على تحريك شركاء غربيين وإضفاء شرعية سياسية أوروبية على الخطة، بل وحتى دفع خطوات اعترافية مشروطة. فهما معًا يستطيعان توفير "سقف سياسي" يضع الإعلان في إطار عملي قابل للمتابعة، ويقدمان حوافز مالية وسياسية متكاملة تدفع نحو إنجازات جزئية قابلة للعرض كمكاسب تدريجية. كما أن القيادة المشتركة تقلل من الانطباع بأن المسار "مُعاد صياغته" من قبل قوى غربية بعيدة عن مصالح العرب، وتمنح مساحات تفاوض للحكومات العربية للاشتراك الفاعل دون الخضوع لضغوط أحادية.
فالمبادرة تمثل تعبيراً عن توافق واسع بين السعودية وفرنسا وعدداً من الدول العربية والأوروبية لتوجيه المجتمع الدولي نحو خطوات ملموسة لمنع استمرار الصراع ودعم تسوية سياسية عادلة، كما تمثل أيضاً تحولاً نوعيًا في مسار السلام، إذ تعزز الآلية السياسية نحو حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، عبر خطوات واضحة ومحددة زمنياً، وتجعل الخيار الدبلوماسي والاعتراف الدولي بفلسطين محوراً مركزياً لتحقيق السلام الدائم والعادل.
كما تُعد هذه المبادرة حالة تحالف غير مسبوقة بين العالم العربي وأوروبا، فقد كسرت وضع الجمود بين الجانبين، ولاقت دعماً دولياً ملموساً، حيث تعهّد نحو 140 دولة للاعتراف بدولة فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2025م، وهو ما يمثل ضغطاً دبلوماسياً غير مسبوق على إسرائيل. لذا يمكن وصف المبادرة بأنها أصبحت إطاراً دولياً جامعاً التفت حوله عشرات الدول للتحرك الجماعي للاعتراف بالدولة الفلسطينية، ما يعكس حجم التوافق الدولي الذي لم يتحقق منذ "مبادرة مدريد" و "مبادرة السلام العربية".
وختاماً، فإن نجاح إعلان نيويورك مرهون بقرار دولي مستمر وليس لحظة تصديق فقط، فهو يحتاج إلى صندوق مالي مخصص وشفاف، قوة مراقبة دولية محددة الأدوار، خطة أمنية فعالة هدفها الأول حماية المواطنين، واتفاق داخلي فلسطيني يُعطى الأولوية للشرعية والقدرة الإجرائية. وكذلك المبادرة السعودية – الفرنسية قد تكون المحرك الذي يجمع هذه العناصر إذا ما رُبطت بمبادرات تنفيذية حقيقية ومؤشرات مراقبة محكمة. من دون ذلك، سيبقى الإعلان حبرًا على ورق، وهو ما لا تحتمله المنطقة بعد مستوى الدمار الإنساني والأمني الهائل الذي شهدته في الفترة الأخيرة.






