- يوم الثلاثاء الثالث من سبتمبر الماضي صدر إعلان قيام الدولة الفلسطينية في مؤتمر عُقد بجهدٍ دوليٍ، بقيادة المملكة العربية السعودية وفرنسا. جهدٌ أممي، ما فتئ يتكرر في أروقة مؤسسات الأمم المتحدة، بين أعضاء دول محبة للسلام، منذ نكبة الشعب الفلسطيني بقيام دولة إسرائيل بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم ١٨١ الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة (٢٩ نوفمبر ١٩٤٧م). من حينها موضوع قيام الدولة الفلسطينية، الذي جاء في قرار التقسيم، يراوح مكانه، بالنسبة لشقه الخاص بالدولة الفلسطينية، بينما حظيت إسرائيل باعتراف فوري بقيامها، وأصبحت عضواً في الأمم المتحدة، وكأن قرار التقسيم الأممي لا يعني إلا إسرائيل وحدها!؟
الدولة كيان عضوي
الدولة كيان عضوي، مثل أي كائن عضوي آخر، يولد ويشب ويشيخ ويضمحل ويموت. يجادل أصحاب نظرية الكينونة العضوية للدولة، أن هناك ثلاثة عناصر أساسية، إذا ما توفرت، نشأت الدولة، هي (الشعب، الإقليم، والحكومة الوطنية)، إذا ما توفرت تلك العناصر المادية، التي يمكن قياسها كمياً، تصدر للدولة القومية الحديثة شهادة ميلادها الدولية (الاعتراف الدولي). أي مولود طبيعي يوجد من العدم، لابد أن يثبت وجوده بتوافر عناصر كينونته العضوية، باكتمال عناصر وجوده، قبل الاعتراف بوجوده، من قبل من يحتاج أن يؤكد وجوده الطبيعي (المادي)، ليتمتع بكينونته الاجتماعية، ويمارس حقوقه الطبيعية والمكتسبة في الوجود عن طريق الكفاح من أجل الحياة، إما في حالة الصراع مع الآخرين أو التكامل معهم، هذا بالنسبة للفرد، ما بالك بالدولة.
كما أنه لا يمكن إثبات شيٍ من العدم، بدون اكتمال عناصر كينونته العضوية (المادية)، لا يمكن إصدار شهادة ميلاد الفرد، قبل ثبوت حالة وجوده المادي وإثبات قدرته الطبيعية في البقاء حياً، وتنهي علاقته بهذه الدنيا بإصدار شهادة وفاته. الدول كذلك: لا يمكن إثبات وجودها بشهادة (الاعتراف الدولي)، قبل توفر عناصرها. لذا هناك من علماء السياسة وفقهاء القانون الدولي، لا يرون في الاعتراف الدولي، عنصراً أساسياً من عناصر الدولة. الاعتراف الدولي، إذن لا ينشئ الدول، حتى أنه ليس ضرورياً لإثبات وجود الدول، طالما أن الدولة أعلنت عن وجودها فعلياً، بتوفر عناصر وجودها، دون ما حاجة للاعتراف الدولي بها.
الصين الشعبية أعلنت عن وجودها السياسي والقانوني والسيادي على البر الصيني (١ أكتوبر ١٩٤٩م)، ولم يكن هناك أي اعتراف دولي بها من الأمم المتحدة والكثير من دول العالم، حتى أن مقعدها الدائم في مجلس الأمن أعطي لحكومة الصين الوطنية، بقيادة تشاي كأي شك، الذي هرب إلى جزيرة فورموزة، التي يطلق عليها اليوم تايوان. الاعتراف الدولي لم ينفع حكومة الصين الوطنية، آن ذاك، ولم يكن يعني شيئًا، بالنسبة للصين الشعبية، حين اعترف الغرب بالصين الشعبية أواسط سبعينيات القرن الماضي، زالت الصفة الدولية لحكومة فورموزا، وثبتت الهوية الدولية لحكومة الصين الشعبية، بقيادة الزعيم الصيني الشيوعي ما وتسي تونغ (١٨٩٣-١٩٧٦م).
هناك أمثلة كثيرة. في عهد الحرب الباردة، مثل الاعتراف الثنائي بالألمانيتين والكوريتين. لماذا نذهب بعيداً: إسرائيل اكتفت باعتراف الأمم المتحدة، وكثيراً من الدول، منها في فترة ما جميع الدول العربية، بعض دول غرب أوروبا مثل إسبانيا واليونان والفاتيكان، وجميع دول أو الكثير من دول أمريكا الجنوبية، لم تعترف بالدولة العبرية، واستمر ذلك حتى اعترفت بها بعض الدول العربية في النصف الأول من العقد الثامن، بداية بمصر بموجب معاهدة السلام، وأنهت بذلك حالة الحرب بين مصر وإسرائيل عام ١٩٧٨م.
الدول كقاعدة عامة، لا تحتاج الاعتراف الدولي، إن هي توفرت لديها عناصر الدولة المادية الثلاث، سوى إضفاء الشرعية الدولية على وجودها، سواء جاء فور الإعلان عن استقلالها، أو بعد ذلك، لكن الاعتراف الدولي، بصورة عامة، ليس سبباً في قيام الدول.
مأساة الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية
قد يكون رفض العرب لقرار التقسيم.. وهزيمة العرب في الحروب المتتالية مع إسرائيل (١٩٤٨، ١٩٥٦، ١٩٦٧، وحتى حرب ١٩٧٣م، التي يظن بعض العرب أنهم انتصروا فيها، لكنه في حقيقة الأمر كانت نتيجتها أسوأ مما نتج عن كل حروب العرب مع إسرائيل، بالذات بالنسبة للقضية الفلسطينية. كذلك قد يكون تطور نظرة العرب (الرسمية) لوجود إسرائيل، نفسها مع الوقت، من مقررات مؤتمر الخرطوم عقب حرب الأيام الستة (٥-١١ يونيو ١٩٦٧م) الذي عرف باللآت الثلاث (لا اعتراف، ولا صلح، ولا سلام) مع إسرائيل، وحتى توقيع بعض الدول العربية لاتفاقات إبراهام، التي طرحت ما فوق الاعتراف بالدولة: التطبيع معها، نهاية ولاية الرئيس الأمريكي ترامب الأولى (٢٠ يناير ٢٠٢١م)، يكون من أسباب عرقلة قيام الدولة الفلسطينية.
الاعتراف بالدولة الفلسطينية، إذن: ليس جديداً على مستوى حركة السياسة الدولية، حتى يعتبر إعلان نيويورك اختراقاً استراتيجياً، لمسيرة قيام الدولة الفلسطينية، المستقلة ذات السيادة والقابلة للحياة. بل إن مشروع الدولتين، الذي اقترحته إدارة الرئيس بوش الابن، لأول مرة عام ٢٠٠٢م، عقب مؤتمر القمة العربي، بيروت (مارس ٢٠٠٢م)، وكان أهم قراراته المبادرة العربية للسلام، التي صدرت عن المؤتمر وقدمت معادلة جديدة للسلام، تقتضي عرض التطبيع، وليس فقط الاعتراف بإسرائيل، الذي جاء بالاعتراف الأحادي (المنفرد) بالدولة العبرية من قبل بعض الدول العربية، في مرحلة سابقة، من مراحل الصراع بين العرب والدولة العبرية، بل مقايضة التطبيع الشامل للنظام العربي الرسمي، بإسرائيل، مقابل استرجاع كافة الأراضي العربية، التي احتلتها إسرائيل، بما يتضمن قيام الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية، التي احتلتها إسرائيل في حرب الأيام الستة يونيو ١٩٦٧م، الحرب التي نجم عنها احتلال كامل أرض فلسطين التاريخية، مع أرضٍ لأربع دول عربية (مصر، وسوريا، الأردن ولبنان).
الدولة الفلسطينية بين الخطاب العربي والرفض الإسرائيلي
تاريخياً: يمكن الجدل بأن مصير الدولة الفلسطينية، منذ بداية تنامي الأطماع الصهيونية، بدعم غربي، لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين منذ وعد بلفور (٢ نوفمبر ١٩١٧م)، بل حتى قبل ذلك عندما تبلورت الحركة الصهيونية بقيادة تيودور هرتزل (١٨٧٦- ١٩٠٩م) في مؤتمر الصهيونية الأول، الذي عقد في مدينة بازل السويسرية (٢٩-٣١ أغسطس ١٨٩٧م)، وجاء فيه مشروع قيام وطن قومي لليهود، وكانت فلسطين هي الخيار الأول، من بين ثلاثة مواقع مرشحة لإقامة الدولة اليهودية فيها (فلسطين، أوغندا، والأرجنتين). ربما كان لإصرار السلطان عبد الحميد الثاني (في الحكم: ١٨٧٦-١٩٠٩م) عدم التنازل عن فلسطين، لوجود القدس بها، وراء إضافة أوغندا والأرجنتين، كمرشحين بديلين عن فلسطين، لو فشلت مساعي هرتزل (المغرية) في إقناع السلطان عبد الحميد بفتح بوابة فلسطين تمهيداً لهجرة اليهود إليها، ومن ثَمّ، إقامة الدولة اليهودية بها، بوصفها أرض الميعاد، كما تزعم كتب اليهود التلمودية.
العرب، من البداية، يمكن القول: أنهم كانوا يولون اهتماماً بأمن دولهم الصاعدة، على التعاطف مع الفلسطينيين، في مواجهة الأطماع الصهيونية في فلسطين. لم تجد المقاومة الفلسطينية دعماً حقيقياً من العرب، كما كان الحال في ثورة ١٩٣٦م، حتى أن الدول العربية، التي شاركت في حرب ١٩٤٨م، كان لدى كلٍ منها أجندات محلية، تتفوق على استراتيجية الأمن القومي العربي الجماعي، التي تأتي قضية الشعب الفلسطيني، كواسطة العقد، في نظرية الأمن القومي العربي. حتى عندما أنشئ مشروع الجامعة العربية، استشعاراً بخطر احتمال قيام دولة يهودية في فلسطين، إلا أن العرب، اكتفوا بإنشاء كيان إقليمي هش أسموه جامعة الدول العربية، لتطوير حد أدنى من التكامل بين دولهم، بعيداً عن أي التزام حقيقي بمقاومة أي مشروع غربي بإقامة دولة يهودية في فلسطين، هذا تجلى واضحاً في خوضهم لحرب فلسطين الأولى (١٥ مايو ١٩٤٨-١٠ مارس ١٩٤٩م)، وما قادت إليه من هزيمة جيوشهم في ذلك الوقت، واتساع رقعة الدولة العبرية، حتى على حساب أراضي بعض الدول العربية المتطرفة جغرافياً، مثل احتلال إسرائيل لقرية أم الرشراش المصرية (٥–١٠ مارس ١٩٤٩م)، رغم الخطورة الاستراتيجية لذلك السلوك، الذي ترتب عليه فتح إطلالة إسرائيلية على خليج العقبة، ومنها إلى أعالي البحار، عن طريق البحر الأحمر، الأمر الذي يهدد الأمن القومي للدول العربية المطلة على البحر الأحمر، ومنهم مصر، ذاتها.
العرب حتى قبل هزيمتهم في حرب الأيام الستة (1967م)، لم يستشعروا خطر وجود إسرائيل على أمنهم القومي. في مؤتمر باندونغ (١٨-٢٤ أبريل ١٩٥٥م)، الذي أوجد منظمة عدم الانحياز، كان رفض العرب، مشاركة إسرائيل في المؤتمر، ليس على جدل عدم مشروعية وجود إسرائيل واغتصابها لأراضٍ فلسطينية، بل لرفض إسرائيل الالتزام بقرار التقسيم، والحؤول دون قيام الدولة الفلسطينية. كان شرط العرب لمشاركة إسرائيل ودعوتها لحضور المؤتمر، هو اعتراف إسرائيل بالدولة الفلسطينية، وتمكينها من الأراضي التي احتلتها، وفقاً لقرار التقسيم. في حقيقة هذا الشرط فيه اعتراف ضمني بوجود إسرائيل، رغم الخطاب السياسي الحاد، في ذلك الوقت، ضد وجود إسرائيل نفسها في المنطقة، بوصفها قوة احتلال أجنبي أُقيمت على أرضٍ عربية، وتشكل خطراً استراتيجياً حالاً وناجزاً على أمن المنطقة، والأمن القومي العربي، بصفة خاصة.
الأمن القومي العربي بعيداً عن القضية الفلسطينية
منذ البداية العرب لم ينظروا إلى المسألة الفلسطينية، من منظور استراتيجي محدد يهدد أمنهم القومي. لم تكن، لديهم، نظرة استراتيجية تدرك أو تستوعب، الخطر الناجز على أمنهم القوي بوجود إسرائيل في قلب الوطن العربي، يفصل استراتيجياً مشرق الوطن العربي عن غربه، رغم الخطاب السياسي الرسمي الحاد، الذي لا يخفي عداءه للدولة العبرية، بالذات ذلك الخطاب القومي، الذي ساد الوطن العربي، حتى منتصف سبعينيات القرن الماضي. كانت فكرة القومية فكرة توسعية لبعض الدول العربية رفعت شعار القضية الفلسطينية، لاستخدامه في مهاجمة ما أسموه حينها، بالقوى الرجعية في العالم العربي، مساومةً على القضية المركزية في النظام العربي (القضية الفلسطينية).
العرب بهذه النظرة الأنانية، لفكرة الدولة القومية الحديثة، لم يكن قبل إنشاء النظام الرسمي العربي، بتلك الحصافة الأمنية والسياسية، التي تدفعهم إلى النظر للقضية الفلسطينية، كأهم مرتكزات الأمن القومي العربي الجماعي، كما كان الحال في عهد الدولة العثمانية أثناء انحدارها لأسفل درك و أفول نجمها، أيام آخر سلاطينها (الوطنيين)، إن صح هذا التعبير، مثل؛ السلطان عبد الحميد الثاني.
رغم الاستراتيجية الواضحة للعيان، للدولة العبرية، ضد الأمن القومي العربي، الذي يهدد استقرار أعضاء النظام الرسمي العربي، من الخليج إلى المحيط.. ورغم الخلفية العنصرية البغيضة للحركة الصهيونية، ضد العرب والمسلمين، التي تذكي العداء للعرب والطمع في ثرواتهم وأرضهم.. ورغم أطماع إسرائيل في الهيمنة الإقليمية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وشرق الفرات حتى مناطق ما وراء النهر في وسط آسيا. رغم كل تلك المخاطر الناجزة على الأمن القومي العربي، لم يجتمع العرب يوماً على تقدير الخطر الاستراتيجي، الذي يحيق بأمن كل دولة عربية، جراء وجود إسرائيل، دعك من إحاطته بمرتكزات الأمن القومي العربي الجماعي.
لقد استهلك العرب جزءاً من تاريخهم الحديث في إذكاء الصراع بينهم، على حساب تقدم شعوبهم ورفع كفاءة وفاعلية أنظمتهم السياسية لتحفيز طفرة تكاملية، تجمعهم على مصالحهم البينية، بعيداً عن تطور استقطاب عدائي بين أنظمتهم، كان يصل أحياناً لخطورة القطيعة بينهم، بل إلى نشوب الحروب بين دولهم، بسبب مشاكل الحدود بين دولهم، طمعاً في ثروات أرضهم (الواحدة)! الدول العربية كانت مصابة بحساسية مفرطة تجاه بعضهم البعض، تحت تأثير سيطرة واقع الدولة القومية، بأنانية فكرة السيادة الوطنية وتعقيداتها، أكثر من استشعارهم بخطر وجود إسرائيل واستراتيجية القضية الفلسطينية، بالنسبة لأمنهم القومي الجماعي.
الاعتراف بالدولة الفلسطينية المسببات والنتائج
. الاعتراف بالدولة الفلسطينية، يعود لزمن قرار التقسيم، حيث لم يقتصر قيام دولة إسرائيل على الاعتراف بقيام الدولة العبرية، بل على تقاسم أرض فلسطين التاريخية بين دولة يهودية (إسرائيل) ودولة عربية (فلسطين). وإن كانت القسمة ليست عادلة لا في بعدها التضاريسي، ولا جانبها الديمغرافي. قرار التقسيم أعطى ٤٢.٣٪ من أرض فلسطين التاريخية للفلسطينيين الذين كانوا يشكلون ثلثي سكان فلسطين حينها حوالي ٢ مليون نسمة.. ويمتلكون ٩٣٪ من مساحة فلسطين التاريخية، بينما أعطي اليهود ٥٧.٧ من مساحة فلسطين، ولم يكن يتجاوز عدد السكان اليهود بها (معظمهم من المهاجرين) ثلث سكان فلسطين التاريخية، يمتلكون فقط ٧٪ من الأراضي الفلسطينية، فقط!
المشكلة، التي تطورت عقب الإعلان عن قرار التقسيم أن إسرائيل وحلفاءها في المنظمة الأممية الناشئة حديثاً، رحبوا وهللوا بالقرار.. والعرب، ومن تعاطفوا معهم، رفضوا القرار. لكن هناك من الناحية السياسية، متغير مادي فرض أمر واقع رسخ لقيام واستمرار وفرض واقع الدولة العبرية، يقابله موقف (خطابي)، أقل كفاءة وواقعية، حال دون تفعيل الجانب الخاص بالدولة الفلسطينية. الدولة اليهودية كانت تتوفر لها القوة الذاتية القادرة على فرض واقع وجودها.. أما الدولة الفلسطينية، فكانت لا تملك من إمكانات قيامها، إلا ذلك الجزء الخاص بها في قرار التقسيم، دون إمكانات تفعيل ذلك القرار، الخاص بذلك الجزء من قرار التقسيم، لا ذاتياً، ولا حتى بمساعدة الدول العربية، التي رفضت القرار.
إسرائيل، حينها كانت تملك إمكانات واقع قيامها واستمرارها، بل حتى توسعها، في المقابل الدولة الفلسطينية، لا تملك من إمكانات قيامها واستمرارها وقابليتها للحياة أي عنصر من عناصر قيام الدول المادية الأساسية، الذي ليس منها الاعتراف الدولي.
عناصر قيام الدولة القومية الحديثة، كما سبق ذكره، ثلاثة (الشعب، الإقليم والحكومة الوطنية). إسرائيل كانت، حين صدور قرار التقسيم، تمتلك تلك العناصر الثلاثة، مع القدرة والإرادة اللازمة، لتدشين تتويجها دولة كاملة السيادة، ليأتي بعد ذلك قرار التقسيم ليكمل شكليات الاعتراف الدولي بها. أما الدولة الفلسطينية، لم يكن لها من الأمر، سوى وثيقة أممية، لا تنشئ دولة، ولا هي عنصر أساسي لأي كيان سياسي، يخوّله بإقامة دولة مستقلة وذات سيادة، قابلة للحياة والاستمرار. قرار الاعتراف بالدولة الفلسطينية، جاء، إذن: كنتيجة متقدمة، لسبب غير موجود. تماماً، كمن يضع العربة، قبل الحصان.
الخاتمة
إعلان عدد من الدول الاعتراف بالدولة الفلسطينية يواجه عقبة الإلزام السياسي والقانوني.
ولعلّ بريطانيا كانت أكثر وضوحاً وصراحة من الموقف الفرنسي، بأن ربطت اعترافها بالدولة الفلسطينية، بوقف حرب إسرائيل على غَزّةَ، بمعنى: لو أوقفت تل أبيب الحرب على غَزّةَ، فإن مشروع لندن الاعتراف بالدولة الفلسطينية سيُعلّق، ربما إلى مالا نهاية.
ثم أن قرار بعض الدول الاعتراف بالدولة الفلسطينية، جاء بسبب ضغوط الشارع، لا بسبب القناعة بحق الفلسطينيين، إقامة دولتهم الوطنية.
واشنطن، هي من قدمت اقتراح حل الدولتين، وأعلنت صراحة، أن حل الدولتين يقتضي إقامة دولة فلسطينية مستقلة، ذات سيادة وقابلة للحياة. قدم ذلك الوعد بإقامة الدولة الفلسطينية، من الرئيس الأمريكي بوش الابن في خطابه (٢٤ يوليو ٢٠٠٢م) استجابة لمبادرة السلام العربية في قمة بيروت (٢٧ مارس ٢٠٠٢م)، بالإضافة إلى أن الرئيس بوش الابن كان حينها يحضر لغزو العراق (١٩ مارس ٢٠٠٣م).
ربع قرن مضى على العرض الأمريكي لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة والقابلة للحياة، دون أن تفعل الإدارات الأمريكية اللاحقة حل الدولتين، حتى جاءت إدارة جو بايدن (٢٠ يناير ٢٠٢١- ٢٠يناير ٢٠٢٥)، بعد ما يقرب من ربع قرن من تقديم مشروع حل الدولتين، ليتحدث الرئيس بايدن عن صعوبة تطبيق حل الدولتين، للتخلي عنه تماماً ونهائياً.
كما أن الدول التي دعت للاعتراف بالدولة الفلسطينية، وأوضحت رغبتها في ذلك، هم أول من يعترف باستحالة قيام الدولة الفلسطينية، بسبب الاحتلال، بما فيهم أصحاب القضية نفسها ممثلة في السلطة الفلسطينية في رام الله، حيث جاء عن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أن سلطته تحترم التنسيق الأمني مع إسرائيل، بل أنه جاء عنه ما يشير إلى استحالة قيام الدولة الفلسطينية، حتى نزول السيد المسيح من السماء إلى الأرض!
صحيح: أن القضية الفلسطينية، بعد السابع من أكتوبر ٢٠٢٣م، حظيت بدعم دولي كبير، خاصةً لدى الشباب في دول الديمقراطيات الغربية، لكن الصحيح أيضاً أن الجميع يعرف أن تبني مشروع إقامة الدولة الفلسطينية، لن يراوح مجال حركته، إلى فعاليات حقيقية، تجعله قابل للتطبيق والتفعيل. ثم لو حدث والتزمت الدول بإقامة الدولة الفلسطينية، والسؤال هنا عن عاصمة هذه الدولة، التي يُتبادل التمثيل الدبلوماسي معها.. والحكومة والتي تحكم الدولة الفلسطينية ويخضع في حقيقة الأمر للاحتلال الإسرائيلي البغيض، الذي تخلى بعد السابع من أكتوبر ٢٠٢٣م، عن اعترافه بالسلطة الفلسطينية في رام الله، ورفض التعامل معها، بموجب اتفاقات أوسلو، بزعم ضعف أدائها، رغم تمسكها بالتنسيق الأمني مع تل أبيب، حيث في نظر حكومة بنيامين نتنياهو الحالية لا يرقَ أداؤها إلى مستوى رضاء إسرائيل والثقة فيها.
ثم أن السلطة الفلسطينية نفسها، لم تعد شرعية، لانتهاء صلاحية بقائها في الحكم، منذ مدة طويلة.. وتعيش في غرفة الإنعاش، كالمريض الميت "إكلينيكياً" في حالة موت دماغي. بالإضافة، إلى أن السلطة الفلسطينية في رام الله، تعاني من عدم تمتعها بثقة الفلسطينيين.
باختصار: مالم تتوفر عناصر الدولة الفلسطينية المادية الحقيقية، شأنها شأن بقية دول العالم، لن ينفع قضية الشعب الفلسطيني، في صراعها الاعتراف الدولي وحده لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وذات السيادة القابلة للحياة والدفاع عن أمنها ومصالحها، شأنها شأن أي دولة في العالم. الاعتراف الدولي، حالة لا حقة، لتوفر عناصر الدولة الرئيسية الثلاثة (الشعب، الإقليم والحكومة الوطنية)، لتحويل أي كيان سياسي، إلى مستوى الدولة القومية الحديثة.






