لقد انبرت المملكة العربية السعودية في جهد دبلوماسي حظي بتأييد من فرنسا لتشاركها في تقديم مبادرة لعقد مؤتمر دولي تحت رعاية الأمم المتحدة في يونيو للتباحث في القضية الفلسطينية ويدعو إلى تبني خيار حل الدولتين لتسوية النزاع العربي-الإسرائيلي. وقد أرجأ المؤتمر بسبب الهجمات الإسرائيلية / الأمريكية على إيران. وعقد في 28-29يوليو الماضي. وتزامن الإعداد للمؤتمر مع قرار الرئيس ماكرون عزم فرنسا الاعتراف بالدولة الفلسطينية في سبتمبر أثناء اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وسعى ماكرون كسب بريطانيا لتأييد القرار الجريء والمباغت. واستجابت لندن بحذر شديد، ووضعت شروطًا لإقدامها على مثل هذه الخطوة الاستراتيجية، ولكنها تركت الباب مواربًا أمام احتمال الإقدام عليه.
وتعود جذور حل الدولتين إلى مطلع القضية الفلسطينية في حرب 1947م، وصدر قرار الأمم المتحدة في تقسيم فلسطين لتكون حصة فلسطين 45% من الأراضي. ومع حرب 1967 و197م، تقلصت المساحة إلى 22%.
وكان حل الدولتين من جوهر اتفاقية أوسلو 1993م، وحددت له مدة 5 سنوات لتنفيذه. وتمادت إسرائيل في الالتزام بتعهداتها ووضعت العراقيل في سبيل إخراجه إلى الواقع على الأرض في بيئة إقليمية ودولية ملائمة. وتتابعت مبادرات إحياء حل الدولتين عربيًا وأمريكيًا. ففي 1981م، روج لها الملك فهد بن عبد العزيز ـ يرحمه الله ـ في مبادرة خطوة تبنتها الجامعة العربية. وطرحت إدارات كلنتون وبوش الابن وأوباما صيغًا لحل الدولتين لوضع نهاية للصراع العربي-الإسرائيلي. وفي 2002م، عاودت المملكة العربية السعودية بتقديم مبادرة الملك عبد الله" ـ يرحمه الله ـ الأرض مقابل السلام" كصيغة لجامعة الدول العربية تضع النهايات للصراع. وقد أخفقت جميع المبادرات ليس لقصور في صيغها وآلياتها والضامنين لها بل لسبب رئيسي وما يزال قائماً إلى يومنا هذا. وهو رفض إسرائيل لها ودعم الولايات المتحدة والغرب للرفض الإسرائيلي.
وهنا يأتي السؤال المركزي: ما هي حظوظ المبادرة السعودية-الفرنسية في التنفيذ؟ وما هي التحديات؟ وما هي إمكانيات التغلب عليها؟ وكيف؟
لقد جاءت المبادرة السعودية-الفرنسية استجابة للوضع المأساوي والشنيع من القتل للسكان المدنيين العزل الأبرياء من الغزيين من نساء وأطفال بأعداد تتصاعد بالآلاف يوميًا. وتلحق الهجمات الإسرائيلية الدمار للبنى التحتية والمساكن عن قصد لمحو مقومات الحياة التقليدية، وخلق أوضاع تدفع إلى التهجير القسري بطرائق الإبادة الجماعية والتي تعترف بها التقارير الدولية والمنظمات بأنها تنفذ في إطار سياسة واستراتيجية إسرائيلية تسندها سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا الولايات المتحدة وتقف معها دول غربية لزمت الصمت.
تنطوي المبادرة السعودية – الفرنسية على مضامين جاءت عليها المبادرات السابقة التي آلت إلى الفشل، ومع ذلك فإن فيها ما يرشحها ألا يصيبها ما أصاب السابقات لها. ويراهن المتفائلون على جملة أمور تعفيها من مخاض الإخفاق ومنها:
أنها ليست مبادرة قوة كبرى كالولايات المتحدة، بل هي مشروع أممي تبنته دولتان في الأساس ولهما مناصرون. ولم تختمر أفكار المشروع في كواليس دبلوماسية سرية بل بالتشاور الدبلوماسي بين أطراف كثيرة. ولا يضمر أصحابه أطماعًا أو طموحات ذات آفاق مصلحة وطنية ضيقة.
ويختلف البيان عن غيره من البيانات ذات الصلة بأنه قلب افتراض القضية الفلسطينية بجعل تسوية النزاع محصلة لاحقة لتأسيس الدولة الفلسطينية من جعل تسوية النزاع شرط أساسي لحل الدولتين. وبذلك يبطل النهج الأمريكي-الإسرائيلي بجعل حل الدولتين تابعاً للتسوية وهو الأمر الذي كان يضع العصا في العجلة كلما اقترح حل الدولتين.
لقد حشد للمؤتمر 160 دولة من أصل 193 دولة عضوًا في الأمم المتحدة. ولم يحدث مثل هذا الوفاق الدولي من قبل في قضية إقليمية تاريخياً. وأرسلت 40-50 دولة وزراء خارجيتها ممثلين لها وفي ذلك دلالة على إدراكها بأن القضية من الخطورة بمكان على الأمن والاستقرار والسلام الإقليمي والعالمي.
إن منصة المؤتمر لم تكن محض مناسبة للتشكي والامتعاض والشجب لما يجري على الأرض في غزة جراء الأفعال الإجرامية الإسرائيلية. وإن بيان نيويورك للمؤتمر هو موقف ويقظة وصوت وليس خطاباً سياسيًا، بل دعوة إلى نظام عالمي جديد صار مصلحة المجتمع الدولي وليس الدولة المهيمنة أو وكلائها. وإن القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة والأعراف الدولية بقيمها الإنسانية والأخلاقية هي "المصلحة والسلعة العامة".
لقد حرص البيان على التوازن بين طرفي النزاع. فجاء على كل صغيرة وكبيرة في أجندة إسرائيل الرافضة لحل الدولتين واستجابة لحجج وأعذار الأجنحة المتطرفة، وأكد البيان عليها بوضوح صريح وبأنها من أولويات المقترح. دولة فلسطينية منزوعة السلاح. ترتبط هياكلها الأمنية والحدودية بنظام ترضى به إسرائيل لتطمئن على أمنها. تعديلات في النظام التعليمي يدعو إلى تغيير الثقافة السياسية وانخراط اقتصادي.
ويطالب البيان السلطة الفلسطينية باتخاذ إجراءات بناءة كانت تتردد في اتخاذها حتى الآن. كأن تعيد هيكلة السلطة وتجري الانتخابات. ويلزم حماس بنزع سلاحها ونبذ المقاومة وتسليم السلطة في غزة إلى السلطة الفلسطينية. وقد واففت الدول العربية على هذه الصيغة.
التحديات الكامنة والمتوقعة
يزدحم البيان بتحديات منها أنه ينطلق من رؤية تفاؤلية مردها أن الصراع العربي –الإسرائيلي قد حان وقت حله. فقد تجسدت في حرب غزة فظائع الغزو الإسرائيلي ومآلاته الإقليمية والدولية، وعجز السياسة الإسرائيلية-الأمريكية عن الاتيان بحل نهائي للصراع. وأن الهيمنة الأمريكية لم تعد بيدها عصا موسى، ولا يتوقع المجتمع الدولي من واشنطن أن تقوم بدور الوسيط النزيه بل برهنت على أنها الداعم لأجندة إسرائيل، بل وفي كثير من القضايا شريك معها.
إن الرأي العالمي بات يضغط بشكل إيجابي على صناع القرار، كما يتضح من مواقف دول مثل فرنسا، بريطانيا، كندا، أستراليا، إسبانيا، أيرلندا، والنرويج، وبأن آخرين سوف ينضمون. وإن الإجراءات التي يأتي عليها البيان في تنفيذ حل الدولتين تبطل الاحتجاج الأمريكي-الإسرائيلي بأن التغييرات التي جرت على الأرض منذ عقود لا يمكن معالجتها عملياً. وأن السلطة الفلسطينية قادرة على إدارة الدولة الفلسطينية القابلة للبقاء. وفي البيان إشارات إلى الدعم الدولي سياسيًا واقتصاديًا للنهوض بالدولة الفلسطينية. وثمة بيئة دولية موائمة لخلق ائتلاف دولي.
والتحدي هو هل هذه القراءة تهول التوقعات؟ وماذا أعد المتبنون للبيان من بدائل لإخراج حل الدولتين إلى حقيقة على الأرض؟ أم أنه ردة فعل لكارثة إنسانية لم تشهدها السياسة الدولية منذ الحرب العالمية الثانية؟
الرفض الإسرائيلي لحل الدولتين
لقد رفضت إسرائيل حل الدولتين مبدئيًا كفكرة ومقاربة وسياسة لإدارة الصراع العربي / الإسرائيلي وكانت الموافقة على إدراجه في اتفاقية أوسلو حركة تكتيكية وبضغط من واشنطن كيما تتيسر لإسرائيل أوضاع جديدة في الأراضي المحتلة من خلال إجراءات الاستيطان وتقييد سلطات السلطة الفلسطينية. وهذا ما يجري منذ أسلو وعلى نطاق واسع مما يجعل مسألة الأراضي التي تطالب بها السلطة الفلسطينية عائقًا يتطلب التغلب عليه.
إن الخطاب السياسي الإسرائيلي الراهن لا يؤمن بحل الدولتين. وكما صرح نتنياهو بأن أي ترتيب في المستقبل تحتاج فيه إسرائيل أن يكون لها السيطرة الأمنية على جميع الأراضي غرب نهر الأردن، وليس غزة وحسب. وإنه حق حصري غير قابل للانتزاع.
وتمثل هذه الحقيقة العقبة الكؤود التي تعترض بيان حل الدولتين. ويدعم اليمين المتطرف وشرائح من الرأي العام الإسرائيلي مثل هذه السياسة. فقد أعربت شرائح الرأي العام بنسبة 65% رفضها حل الدولتين. وأن نسبة أكبر ترفض إنشاء دولة فلسطينية مستقلة. ويرجح عند المتطرفين خيار إسرائيل التاريخية كما تعرضها التوراة على حد زعمهم. وكما يبدو من قرارات الكنيست والتصريحات الرسمية أن إسرائيل تعمل على اغتنام الحرب على غزة لإنهاء عملية السلام بكل صيغها التي عرفتها منذ بدء الصراع العربي / الإسرائيلي. فالاستيطان يتوسع في الجليل والنقب والضفة الغربية. وتفرض إسرائيل قيودًا على السياسة المالية للسلطة الفلسطينية. وقد نقلت السلطات من السلطة المدنية إلى الجيش الإسرائيلي. وتقيد العمالة الفلسطينية وتعوضها بأخرى من الهند ودول آسيوية. وتعمل على تجميد أعمال الوكالات الدولية مثل الإنروا لتلغي الوجه القانوني للسلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي وقضية اللاجئين الفلسطينيين. ويروج الإعلام الإسرائيلي إلى أن عملية التفاوض لا يعثر فيها على طرف للتفاوض معه.
ولا يبدو أن هناك من فرص موائمة ووسائل فاعلة لثني إسرائيل عن تعطيل خيار حل الدولتين وحثها للتفاوض لبلوغ صيغة ترتضيها لا في السياسة المحلية الإسرائيلية ولا في المواقف العربية أو الإقليمية أو الدولية، على الرغم من أن بيان نيويورك قد حدد هوية الدولة الفلسطينية حسب المطالب المقبولة من إسرائيل أكثر مما هي في معايير صيغة الدولة القومية التقليدية في حق السيادة والاستقلالية. وإن السلطة الفلسطينية والجامعة العربية لا تعارض ذلك. وقد أكد محمود عباس التزام السلطة الفلسطينية بهذا التعهد في رسالة إلى الرئيس الفرنسي ماكرون.
ولا يلوح في الأفق أن إسرائيل سوف تحيد عن موقفها الرافض. ولا بوادر على أن الولايات المتحدة سوف تمارس الضغط عليها، بل إنها تمهد لها السبيل لبلوغ أهدافها. وبذا فإن موقف أمريكا من حل الدولتين هو التحدي العنيد والعصي على التخطي بدون ثمن.
السياسة الأمريكية في الترهيب والترغيب
لقد دأبت الإدارات الأمريكية الجمهورية والديمقراطية المتعاقبة على الإشارة في خطابها السياسي في الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية على تمسكها بحل الدولتين. وقدمت هذه الإدارات صيغًا مختلفة كلما مرت علاقاتها في الشرق الأوسط بأزمة. ومع ذلك، لم تفلح في ترجمة واحدة من مقاربتاها إلى واقع.
ونشطت الدبلوماسية الأمريكية "بالطريقة الترامبية" من الترهيب والترغيب لثني الدول الحليفة والشريكة الغربية والضعيفة في عالم الجنوب عن الإسهام في مؤتمر نيويورك. ولم تستجب أغلبها. وتحاجج واشنطن بأعذار واهية منها أن مبادرة السعودية-الفرنسية تعيق عملية تدبير السلام. دون تعليل كيف يتم ذلك. وتطالب بأن تكون العملية عبر التفاوض بين الطرفين. وتعلم واشنطن أن التفاوض لا يقع بين طرفين في حالة توازن. وأن الطريقة الوحيدة لضمان أمن إسرائيل هي اتفاقية ثنائية. وأن التباحث هو السبيل إلى التسوية. وترفض واشنطن صيغة التعددية لحل قضية فلسطين دون أن يكون لها فيها الثقل المركزي. وتهدد بوقف دعمها الاقتصادي.
ما العمل؟
- تمسك الرياض بموقفها المبدئي "لا تطبيع أو اعتراف بإسرائيل قبل حل الدولتين" الرزمة الواحدة. السعودية هي الثقل العربي المتبقي في ميزان التطبيع مع إسرائيل وثمنه حل الدولتين.
- إن تنشط الدبلوماسية السعودية بشكل فردي أو ثنائي مع فرنسا، كونها الشريك في المبادرة، ومع الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي ومنظمة التعاون الإسلامي في دفع المبادرة إلى الأمام.
- توظيف علاقات المملكة العربية السعودية الثنائية مع الولايات المتحدة ذات الخصوصية مع إدارة ترامب للضغط على واشنطن.
- دفع القوى الكبرى الغربية المتلكئة على تبني الاعتراف بالدولة الفلسطينية وحل الدولتين.
- التحذير من توسع النزاع إقليميًا وما قد يستدعي تكرار حالة 1973م، في الحظر النفطي.
- التأكيد على أن لا حل غير حل الدولتين لتسوية الصراع العربي / الإسرائيلي لبناء الأمن والاستقرار والسلام والتنمية الجماعية إقليميًا.
- اصطفاف دول الخليج التي قامت بالتطبيع مع الموقف السعودي في الضغط على واشنطن وعلى إسرائيل بتوظيف ما لديها من روافع التطبيع واحتمال تعليقه.
- الإبقاء على زخم المبادرة دوليًا في المحافل الدولية والإقليمية ولدى الرأي العام الدولي.
- استخدام أدوات القوة الناعمة السعودية والخليجية والعربية والإسلامية.
- مواجهة اللوبي الإسرائيلي في أمريكا والعالم الغربي وعالم الجنوب الرافض لحل الدولتين بلوبي لصالح المبادرة.






