شكل انعقاد مؤتمر حل الدولتين في مقر الأمم المتحدة نهاية شهر يوليو الماضي، محطة مهمة في تاريخ القضية الفلسطينية، وقد يدون المؤرخون في المستقبل هذه المحطة كنقطة تحول، خصوصًا إذا استمرت هذه الاندفاعة الدولية الإيجابية، التي خلقتها المبادرة السعودية-الفرنسية بالأساس، وتطورت كقوة ضاغطة كبيرة تزيل كافة العقبات والتحديات عن طريق هذا الحل، الذي توافق المجتمع الدولي منذ زمن أنه الحل العملي الوحيد الذي يحقق للشعب الفلسطيني وطن حرم منه طوال عقود. ويضمن أمن واستقرار جميع شعوب ودول الشرق الأوسط. الأهمية الحقيقية لمؤتمر حل الدولتين هو في توقيته الحاسم، في وقت كان الحديث يدور عن خطر تصفية القضية الفلسطينية. وتراجع الأمل واقعيًا في الدوائر الدولية بحل الدولتين.
خلق المؤتمر بيئة دولية لم نشهدها ربما منذ انعقاد مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط في خريف العام 1991م، ومن دون شك أن مشاهد حرب الإبادة الجماعية المروعة التي لا يزال جيش الاحتلال الإسرائيلي يرتكبها في القطاع، وتمادي إسرائيل، الذي لم يعد يحتمل، والإصرار على ارتكاب الجرائم بحق الإنسانية، هذه المشاهد. التي لم يعد الصمت ممكن إزاء وحشيتها. هي التي قادت إلى عقد مؤتمر حل الدولتين. ولكن واحد من أهم دروس الصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي، والقضية الفلسطينية، هو أهمية استغلال الأحداث في اللحظة المناسبة لاستثمارها سياسيًا بالشكل المناسب، والذي يراكم بما يخدم الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، ومن هنا تأتي أهمية مبادرة المملكة العربية السعودية، بالتعاون مع فرنسا. والتفاف الدول العربية وعشرات الدول الأخرى من حولها.
الواقعية تقول، والطبيعة المعقدة للصراع، وحجم المتدخلين والمؤثرين به، بالإضافة إلى مفاجآت لها علاقة بالمصالح الدولية والإقليمية في المنطقة، تجعلنا نقول إن مؤتمر حل الدولتين يمكن أن يشكل بداية لطريق طويل مليء بالتحديات. ولكن وبسبب الظروف الملحة المحيطة بعقده، وبشاعة حرب الإبادة والتجويع الممنهج، وبسبب المخاطر التي تهدد إمكانية إقامة دولة فلسطينية، هذه المخاطر ليس فقط في قطاع غزة بل أيضًا في الضفة الغربية، المهددة أكثر من أي وقت مضى بالضم والاستيطان. عقد المؤتمر جاء تعبير عن استشعار الغالبية العظمى من دول العام بان إهدار الفرصة. أو الانتظار لوقت أطول قد ينهي إلى الأبد حل الدولتين. وبالتالي الوصول للسلام العادل والدائم والشامل في المنطقة، فالمؤتمر بهذا المعنى، هو تعبير عن إرادة دولية لتحمل المسؤولية التاريخية لإحلال السلام والاستقرار في المنطقة.
ومما يوحي بالأمل هو طبيعة الحشد الدولي نادر الحصول. الذي تجسد في المؤتمر، وهو حشد لا تكمن أهميته بعدد الدول المشاركة، وإنما في طبيعة الحضور واتساع دائرة التمثيل فيه، بحيث شمل دولًا من القارات الخمس، كما كان لحضور فرنسا وبريطانيا والمواقف التي عبرت عنها أهمية خاصة. وما يوحي بالأمل التزام العديد من الدول الهامة المشاركة بالاعتراف بالدولة الفلسطينية في دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة في الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر الجاري.
إن كان كل ما تم تناوله يتعلق بأهمية عقد مؤتمر حل الدولتين. إلا أن الأكثر أهمية هو مخرجات المؤتمر، ومضمون بيانه الختامي. الذي يمثل خارطة طريق عملية وتنفيذية. خارطة تعيد الحياة لحل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية. بين يدي المجتمع الدولي اليوم آلية تتضمن كل العناصر الرئيسية. عناصر تستند إلى مبدأ الأرض مقابل السلام، وقرارات الشرعية الدولية، والمبادرة العربية، التي تقدم صيغة حقيقة للسلام الشامل في الشرق الأوسط، صيغة تصر عليها المملكة العربية السعودية تتضمن دولة فلسطينية مقابل تطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل.
* التحديات وإمكانيات التغلب عليها
أبرز وأخطر التحديات، التي تواجه حل الدولتين. والتي كانت باستمرار ليس فقط لإحباط حل الدولتين، وإنما لكل محاولات التوصل تاريخيًا إلى سلام عادل، وهذا التحدي يتعلق بطبيعة المشروع الصهيوني، الذي تم تركيبه على إنكار وجود الشعب الفلسطيني، وبالتالي إنكار أي حق له في أرض وطنه التاريخي، ومن هذا الأساس المكون للرواية الصهيونية. لا تزال إسرائيل الرسمية ترفض تمامًا وجود دولة فلسطينية مستقلة إلى جانبها في المنطقة من البحر إلى النهر. تقدمت إسرائيل خطوة مهمة عام 1993م، عندما وقعت مع منظمة التحرير الفلسطينية اتفاق اعلان المبادئ، والذي شكل فرصة حقيقية لإحلال السلام، إلا أن اليمين المتطرف الإسرائيلي سيطر عمليًا على القرار في إسرائيل بعد اغتيال رئيس الوزراء إسحاق رابين، وتنكر لاحقاً للاتفاقات، وأعاد الوضع إلى مربعه الأول في التنكر للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة.
لقد شهدنا، وشهد العالم التدمير الممنهج الذي قام به هذا اليمين لعملية السلام، سواء في المواقف السياسية، عبر إقرار قانون يهودية الدولة، وحصر حق تقرير المصير مرة أخرى على " أرض إسرائيل بالشعب اليهودي "، أو عمليًا عبر تغير الواقع على الأرض، من خلال التهويد والضم والاستيطان، بما ينهي تمامًا حل الدولتين واحتمال إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، الدولة الفلسطينية في نظر اليمين المتطرف الإسرائيلي هي نهاية لمشروعه التوسعي، وربما من وجهة نظره للمشروع الصهيوني برمته.
ومما يجعل هذا التحدي أكثر خطورة هو ضعف وهشاشة معسكر السلام في إسرائيل، وتراجع الحديث في الدولة العبرية عن السلام مع الشعب الفلسطيني.
كما ويأتي الموقف الأمريكي المتذبذب، وغير الواضح من حل الدولتين كتحدي جدي. ففي العقدين الأخيرين تحدثت إدارات أمريكية عدة عن تمسكها بهذا الحل كأساس للسلام الدائم، ولكن لم تترجم هذه المواقف إلى سياسة عملية تقود فعلا لحل الدولتين. والأكثر خطورة أن الإدارة الأمريكية الحالية تظهر رفضًا أكثر لفكرة إقامة الدولة الفلسطينية، ويعد موقف الولايات المتحدة امرًا حاسمًا بالنسبة لحل الدولتين فهي من يتحكم اليوم أكثر من أي طرف أخر بملفات المنطقة.
وعند الحديث عن التحديات لا يمكن إغفال الواقع الإقليمي، خصوصًا تأثير المشروع الإيراني التوسعي في المنطقة العربية، وهو المشروع الذي جعل من ورقة القضية الفلسطينية مبررًا لتمدده. وخلال ذلك نجحت طهران باستقطاب حركات وفصائل وجماعات عربية وفلسطينية، واستخدمتها للتدخل بالشؤون العربية الداخلية، وعلى وجه الخصوص في الشأن الفلسطيني، مما عمق الانقسام الداخلي، وقدم لإسرائيل المبررات لتعطيل حل الدولتين. وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى الواقع العربي كتحدي، خصوصًا تفكك عدد من الدول العربية، مما ترك أثره على وجود تضامن عربي أشمل وأكثر تأثيرًا في السياسة الإقليمية والدولية.
* تحدي الانقسام الفلسطيني
إن الانقسام الراهن هو الأخطر، فالانقسامات التي سبقت نكبة العام 1948م، كانت ذات طابع عائلي وعشائري، أما الانقسام الحالي فهو منهجي عميق، فحركة حماس، والتي تقول عن نفسها أنها امتداد للتنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين، تأسست عام 1988م، ونمت خارج إطار منظمة التحرير الفلسطينية الذي اعترف العالم بأنها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، ورفضت حماس كل محاولات الانضمام للمنظمة.
حماس باعتبارها جزءًا من جماعة الاخوان، تنظر لمنظمة التحرير والتي تمثل الوطنية الفلسطينية، كحالة متناقضة تمامًا معها لأنها لا تعترف بالهويات الوطنية، والدولة الوطنية، وهذا هو جوهر الانقسام الراهن
جانب أخر بات ملموسًا للجميع. وهو أن حماس تعتبر نفسها من استراتيجية التنظيم الدولي للجماعة. لذلك أقامت تحالفات وانخرطت بأجندات ورهنت نفسها لها، انطلاقًا من هذا الجذر للانقسام فشلت كل محاولات التغلب عليه، وتحقيق الوحدة الوطنية.
لقد استغلت إسرائيل، وبالتحديد حكومات اليمين الإسرائيلي المتطرف حالة الانقسام هذه وعملت على تعميقها بكل السبل المرئية وغير المرئية، وبالتحديد إبقاء فصل قطاع غزة عن الضفة. فهذا الفصل هو الرهان والورقة الأهم لإسرائيل للتملص من أي التزام بحل الدولتين. ولمواصلة هذا الفصل لم يتردد رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو من إرسال الأموال لحركة حماس وعلى امتداد سنوات طويلة، لدعم نزعة الانفصال لديها.
الانقسامات الفلسطينية القديمة والراهنة، غالبًا ما وجدت أطراف إقليمية تعمقها، ومنها أنظمة عربية في مراحل سابقة، وكان الهدف هو إما السيطرة على القرار الوطني الفلسطيني أو لاستخدام ورقة القضية الفلسطينية كوسيلة لتقوية دور هذه الأنظمة الإقليمي، وكان للأنظمة في سوريا والعراق وليبيا الدور الأبرز في تعميق الانقسامات الفلسطينية في مرحلة السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، أما اليوم فإن النظام في إيران هو من أكثر القوى الإقليمية تدخلًا في الشأن الداخلي الفلسطيني عبر حركتي حماس والجهاد الإسلامي. فقد استخدمت إيران هذه الحركات كأداة إما للتمدد داخل الجغرافيا العربية. أو لتحسين شروط تفاوضها مع واشنطن حول ملفها النووي.
التحدي المتمثل بالانقسام الفلسطيني هو الأخطر في سياق تحقيق هدف حل الدولتين، والمشكلة أن هذا الانقسام خارج نطاق السيطرة الوطنية الفلسطينية، بسب امتداداته الإقليمية، والمتمثلة أيضًا بالاستراتيجية الإسرائيلية التاريخية التي تعمل على دوام انقسام الشعب الفلسطيني. من هنا فإن التغلب على الانقسام هو هدف مركزي للجهد الفلسطيني والعربي، من أجل تحقيق هدف حل الدولتين وهذا ما تقوم به القيادة الفلسطينية.
هذا يقودنا إلى ملاحظة أن دعم دولة فلسطين، وتقويتها وتصليب عودها. باعتبارها الكيان الوطني السياسي المعترف به دوليًا هو مهمة مركزية، فهذا الدعم وحده يسهم لا في محاصرة الانقسام الفلسطيني وإنهائه فقط، وإنما لان جوهر هدف حل الدولتين هو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. والذي بدون قيامها لن يتحقق السلام العادل والشامل والاستقرار في المنطقة.
* علاقة السعودية مع فلسطين والقضية الفلسطينية: تصلح نموذجًا
على ضوء حجم التدخلات الضارة في الشؤون الداخلية الفلسطينية، وحجم الاستخدام المزمن للقضية الفلسطينية واستغلالها كورقة، واتخاذها كمبرر لإدارة مصالح ومشاريع دول إقليمية. فإن علاقة المملكة العربية السعودية مع فلسطين يمكن أن تشكل نموذجًا يستند إلى مواقف تاريخية مبدأيه. لقد وقفت المملكة العربية السعودية في كل المراحل والظروف مع فلسطين وشعبها. وفهمت القضية الفلسطينية، أنها قضية سعودية، وساندت الشرعية الوطنية الفلسطينية كل الوقت. حتى في أحلك المراحل، وفي نظرة للبيان الذي أصدره مؤتمر حل الدولتين نلاحظ أن أحد العناصر الأساسية فيه هو دعم الشرعية الفلسطينية، دعم دولة فلسطين وتمكينها.
اتصفت علاقة السعودية مع فلسطين بالنزاهة، وهي علاقة حدد أسسها الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود، فخلال لقائه التاريخي مع الرئيس الأمريكي روزفلت، على ظهر مدمرة أمريكية في قناة السويس عام 1945م، في اللقاء رفض الملك عبد العزيز بشكل قاطع حل موضوع اليهود في أوروبا على حساب فلسطين والشعب الفلسطيني، لقد حاول روزفلت بشتى السبل انتزاع موقف من الملك عبد العزيز إلا أنه قوبل بالرفض، بالرغم من العلاقة الإستراتيجية التي كانت تنمو بشكل سريع في حينه. وعندما حان وقت السلام العادل والشامل، بادرت السعودية لطرح مبادرتها في القمة العربية في بيروت عام 2002م، والتي تبناها العرب والعالم، وأصبحت أساسًا لسلام عربي شامل مع إسرائيل.
* هل التغلب على التحديات والعقبات امر ممكن؟
تاريخ الصراع حافل بالمحاولات التي وصلت إلى طريق مسدود، وكانت التحديات سابقة الذكر مجتمعة هي السبب الرئيس للفشل. كما اتفاقات السلام التي وقعها الجانبان الفلسطيني والإسرائيلي، تم إحباطها وإفراغها من مضمونها، فغالبًا ما تقاطعت مصالح المتطرفين في أوساط الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي، وكانت النتيجة مزيدًا من العنف والكراهية. للمرة الأولى في تاريخ القضية الفلسطينية، نشهد مثل هذا الزخم الدولي لصالح حل الدولتين. لقد نجحت المبادرة السعودية / الفرنسية في خلق زخم يمكن، إذا حافظنا على قوته واستمراره أن نتغلب من خلاله على التحديات المزمنة والمعقدة. صراع بهذا التشعب من الصعب وضع حد له بخطوات جزئية محدودة نجح المتطرفون في إجهاضها، مثل هكذا صراع بحاجة إلى زخم كبير يستطيع إزالة معظم العقبات.
هناك ظرف موضعي في منطقة الشرق الأوسط يمكن أن يسمح بالاختراق، ولكن من دون التقليل من التحديات، لذلك لابد من الدفع باتجاه مواصلة زخم الضغط، وهو أمر لا يمكن الحصول عليه إلا ضمن العناصر التالية:
أولًا: الحفاظ على نواة تضامن عربي قوية، تضم السعودية ومصر والأردن ودول الخليج. مثل هذه النواة يمكن أن تشكل رافعة للزخم الدولي.
ثانيًا: تمكين القيادة الفلسطينية الشرعية المعترف بها دوليًا. والمتمثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية، والمحافظة والتنسيق معها سواء بما يتعلق بالقرارات والتحركات، أو عبر دعم خطوات الإصلاح والحوكمة التي بدأت القيام بها، ومنع أي محاولة للقفز عنها، عبر ثلاثية سلطة شرعية فلسطينية واحدة. وقانون واحد وسلاح واحد بيد هذه السلطة، ولا نغفل أبدًا أن هناك اتفاق سلام وقعته المنظمة وإسرائيل.
ثالثًا: تعزيز وتعميق المواقف والشبكة الدولية التي أفرزها مؤتمر حل الدولتين ليشمل الولايات المتحدة الأمريكية.
رابعًا: المحافظة على قنوات اتصال مع الأوساط الإسرائيلية المؤمنة بالسلام، أو تلك المترددة وحتى القوى المعارضة. على أن نواصل تمسكنا بحل الدولتين
إبقاء الزخم المتصاعد هو الكفيل بتفكيك التحديات والعقبات. ومن ضمنها الانقسام الفلسطيني، فعندما تشعر حماس أن العرب والعالم يلتفون حول الشرعية الوطنية الفلسطينية، قد يدفعا لإعادة التفكير بمواقفها وهذا ما نأمله جميعًا.






