ونحن نحتفل في هذا العدد من مجلة (آراء حول الخليج ) بمرور 20 عامًا على تأسيس مركز الخليج للأبحاث بعد إشهاره كمؤسسة بحثية غير ربحية، إنما نتذكر ونستعرض مسيرة مهمة من العطاء يقف خلف جهد كبير وعمل دؤوب ومتواصل لخدمة منطقة الخليج، وهذه المسيرة التي حملت في طياتها الكثير من الانجازات التي تتجاوز المدة الزمنية على تأسيس المركز (20 عامًا)، فقد جاء العطاء متعدد الأوجه والمسارات ومن ثم جاء متنوعًا وغزيرًا للمركز الذي تأسس لخدمة هذه المنطقة والذي كان سباقًا من حيث النشأة أو من حيث الاهتمامات المتعلقة بمنطقة الخليج بمعناها الواسع والذي يشمل دول مجلس التعاون الخليجي الست إضافة إلى العراق وإيران واليمن باعتبار أن هذه الدول من دول الجوار الجغرافي لدول مجلس التعاون وتتأثر بها وتؤثر فيها، حيث امتدت اهتمامات المركز إلى معظم إن لم يكن جميع القضايا المحلية الخليجية والإقليمية والدولية التي تهم المنطقة باعتبار أن العلاقات الدولية وقضايا السياسة والاقتصاد والأمن والدفاع والاستراتيجيات متشابكة ومتداخلة بين ما هو محلي، و إقليمي، ودولي.
تأسس مركز الخليج للأبحاث مع انطلاقة الالفية الثالثة بدافع شخصي مني، وبرغبة شخصية في خوض غمار البحث العلمي الذي تحتاجه المنطقة، وبطموح يمتزج فيه الواقع مع نظرة مستقبلية متحفزة للاستشراف واستخدام أدوات العصر للتعامل مع القضايا التي تواجه دول مجلس التعاون الخليجي كما تفعل دول العالم المتقدمة التي تعتمد على الحقائق والمعلومات في صناعة حاضرها ومستقبلها، كما ارتبط ذلك بحلم مازال مستمرًا وهو الشعار الرئيسي للمركز والذي نضعه في صدر مطبوعات المركز وأوراقه ومواقعه الالكترونية وهو (المعرفة للجميع) هذا الشعار يلخص رؤية وأهداف المركز وكل انشطته في داخل منطقة الخليج وخارجها وتحقيق هذا الشعار جعلني اتحمل كل التبعات ومنها التبعات المالية الضخمة التي انفقتها على المركز ونشاطاته المختلفة، بل وبإصرار على المضي في قدمًا ودون تردد في استكمال مسيرة المركز رغم الصعوبات والمعوقات، ولو عاد الزمن إلى الوراء أي إلى بداية الألفية الثالثة لسوف أتخذ الخطوات نفسها دون تردد حيث أنظر حاليا بكل فخر لما حققه مركز الخليج للأبحاث من انجازات متنوعة وضعته على خريطة مراكز الأبحاث العالمية بكل جدارة، وهذا ما تترجمه وتبرهن عليه انجازاته واصداراته والمنتديات والمؤتمرات التي نظمها في الداخل والخارج وهي موثقة و تتحدث عن نفسها، وفي الدعوات التي يتلقاها المركز من مراكز مشهود لها ومرموقة، ومن مؤسسات صناعة القرار في الدول المتقدمة والاتحادات والتكتلات الدولية المعروفة، ومن منظمات أممية ودولية وإقليمية مرموقة وذلك بصفته مؤسسة بحثية مستقلة في منطقة الخليج ومنطقة الشرق الأوسط، إضافة إلى كون المركز له صفة مراقب في الأمم المتحدة.
وقد تنبه المركز مبكرا لإبرام الشراكات وتوقيع بروتوكولات التعاون مع العديد من مراكز الأبحاث المرموقة حول العالم، وكذلك الكليات والجامعات المهتمة بالأنشطة البحثية والعلاقات الدولية، وذلك بقصد تبادل الخبرات والتنسيق والتعاون في الدراسات والأبحاث والمنتديات، وقد اسفرت جهود المركز عن إصدار المئات من الكتب لكبار المؤلفين العرب والأجانب في مختلف صنوف المعرفة، وكذلك ترجم مئات الكتب والموسوعات والمعاجم الأجنبية وهي متاحة للجميع في مكتبة المركز وعلى الموقع الالكتروني ومنها ما هو موجود في اعرق المكتبات العالمية ومنها مكتبة الكونجرس العريقة في الولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال لا الحصر ، كما دشن المركز عدة كراسي علمية في العديد من الجامعات العالمية ونظم منتديات كبرى في المملكة العربية السعودية ومنطقة الخليج وفي دول العالم الأخرى ولديه العديد من البرامج التي تهتم بقضايا بعينها أو مناطق حول العالم ويشارك في هذه البرامج كبار الأكاديميين والباحثين من مختلف قارات العالم ونظمت هذه البرامج مؤتمرات بمشاركة رؤساء دول وبحضور صناع القرار على مستوى رفيع ولعلنا نذكر على سبيل المثال لا الحصر البرنامج الإفريقي وما تمخض عنه من مؤتمرات أحداها في جنوب إفريقيا والآخر في الرياض بالمملكة العربية السعودية لبحث فرص التعاون بين دول الخليج ودول إفريقيا جنوب الصحراء قد وحضره 35 رئيس دولة ونائب رئيس ووزير و خبراء وباحثين من مختلف دول العالم، كما نظم عدد من ورش عمل خارجية في كل من (واشنطن، لندن، بروكسل، برلين، جنيف، وباريس) لتوضيح موقف المملكة العربية السعودية من الأزمة اليمنية، ومن الحرب المفروضة عليها للدفاع عن أمنها، وتوضيح حقائق جرائم جماعة الحوثي، والرد على الادعاءات المغلوطة.
ونظم المركز العديد من الفعاليات العامة والمتخصصة بمفرده أو بالشراكة مع جهات أخرى ومنها وزارات وجهات حكومية مختلفة وجامعات أو مع القطاع الخاص والغرف التجارية، كما قدم دراسات مسحية واقتصادية وغيرها وهو لا يتوانى في تقديم هذه الدراسات والاستشارات لدعم القطاع الخاص في المجالات الاستثمارية والمتعلقة بتوضيح الفرص المتاحة أو الممكنة في المملكة العربية السعودية ودول الخليج وكذلك لتوضيح المزايا النسبية للمناطق أو الدول، وكذلك دراسات متخصصة ومتنوعة حول قضايا توسيع القاعدة الاقتصادية وتنويع مصادر الدخل في دول مجلس التعاون الخليجي حتى لا يكون النفط هو مصدر الدخل الرئيسي لهذه الدول وهو ما أكدته خطط التنمية 2030 وما تسعى إلى تحقيقه المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي ضمن خطط الأمم المتحدة للتنمية ووفقًا لاحتياجات هذه الدول إضافة إلى قضايا الاقتصاد الرقمي وقضايا الطاقة بأبعادها المختلفة سواء النفط والغاز، أو الطاقة الجديدة والمتجددة، أو الطاقة النووية للأغراض السلمية والنفط الصخري، وقضايا أمن الطاقة وغير ذلك.
ويفخر المركز بتنظيم ملتقى الخليج للأبحاث سنوياً منذ العام 2010م، في جامعة كامبريدج العريقة بالمملكة المتحدة ويشارك فيه سنويًا أكثر من 400 باحث من جميع قارات العالم وتمخض عنه الكثير من الكتب التي تشمل الأبحاث المشاركة في هذا المنتدى وهي ابحاث تتسم بالموضوعية والحياد بأقلام باحثين من مختلف دول العالم تحمل دراساتهم حول منطقة الخليج ما يجعلها مراجع ثرية جدًا وموضوعية عن منطقة الخليج وفي شتى الموضوعات والقضايا.
وتأتي مجلة (آراء حول الخليج) الشهرية التي تصدر عن المركز كمجلة رائدة في الشأن الخليجي معنية بشؤون المنطقة وتستكتب أكثر من 600 أكاديمي وباحث من مختلف دول العالم ونشرت أكثر من 500 دراسة وآلاف من المقالات الرصينة لأكاديميين وباحثين في ملفات المجلة المتنوعة وهي متاحة للجميع على موقعها الالكتروني، أو في طبعتها الورقية، وقد حصلت في عام 2018م، على جائزة الإبداع الإعلامي من مؤسسة الفكر العربي العريقة التي يرأسها مؤسسها صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بن عبد العزيز مستشار خادم الحرمين الشريفين وأمير منطقة مكة المكرمة، كأفضل مطبوعة أو مجلة عربية ونعتز بهذا التكريم من هذه المؤسسة المرموقة والمستقلة ولديها لجنة تحكيم مشهود لها.
ويهتم مركز الخليج للأبحاث بالتعامل مع التكنولوجيا ومعطيات العصر ولذلك وضع كل ما لديه على المواقع الالكترونية لتسهيل حصول القارئ أو المتصفح على المعلومة التي يبحث عنها، ويقوم حاليا بإدارة وتنظيم ندوات وورش عمل مع أطراف دولية متعددة عبر الدوائر المغلقة لمواكبة كل جديد يتعلق بالشأن الخليجي والعالم، خاصة في ظل أزمة جائحة كورونا التي ضربت جميع دول العالم.
والمركز يفخر بالكفاءات الخليجية والدولية التي تدربت أو التي عملت لديه، ومن بينهم كفاءات معروفة ويُشار ‘ليها بالبنان في المنطقة والعالم، كما يفخر بكل من زاره وأطلع على برامجه المختلفة وما يقدمه المركز من انتاج متعدد ومتنوع.
أما عن التحديات التي يواجهها مركز الخليج للأبحاث وكل المراكز البحثية المستقلة فهي تتشابه تقريبا ومن أهمه غياب الهيكل القانوني للمراكز البحثية غير الربحية وغير الحكومية، والتمويل المالي لهذه المراكز حيث يعد التمويل العقبة الكبرى التي تحول دون نمو المراكز الخاصة وزيادة عددها في منطقة الشرق الأوسط بصفة عامة نظرًا لكونها مراكز غير ربحية، وكذلك معضلة قلة عدد الباحثين من الكفاءات الوطنية الذين يعملون في هذه المراكز وهذا يعود لأسباب كثيرة منها عدم رغبة شباب الباحثين للتفرغ في المراكز الخاصة، وعدم الإقبال على هذه المهنية المرهقة والتي تتطلب الدأب والتفرغ والمتابعة والتخصص، في ظل ضعف المخصصات المالية التي يحصل عليها نظراؤهم في وظائف أخرى في مؤسسات ربحية، إضافة إلى عدم اهتمام أو اعتماد الجهات الحكومية في المنطقة الخليج والمنطقة العربية عامة على مخرجات هذه المراكز التي تجد منافسة شرسة من المراكز العالمية الكبرى في تقديم الدراسات والاستشارات، ولكن الحمد لله أمر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ـ يحفظه الله ـ بضرورة الاستعانة بالمراكز الوطنية وإشراكها في الأعمال التي تتطلب مشاركتها ما اتاح للمراكز الوطنية أن تشارك في خدمة الوطن، وهذا هدف رئيسي للمراكز الوطنية.
كذلك تعمل المراكز الوطنية بشكل فردي دون وجود وعاء أو مظلة تجمع شتات هذه المراكز ما يحقق التعاون أو التنسيق فيما بينها للقيام بمشروعات بحثية كبرى سواء على مستوى الدراسات الاستراتيجية، أو الدراسات التطبيقية العلمية وهذا ما أظهرت الحاجة إليه جائحة كورونا التي تضرب العالم حاليًا وضرورة مواجهتها بالأبحاث العلمية سواء لإيجاد العلاج الناجع لها أو لتصنيع اللقاحات وهذا ما تقوم به مراكز الأبحاث العالمية الكبرى في الغرب والشرق بدون مشاركة فاعلة من مراكز أبحاث عربية أو خليجية، وهذا ما ينطبق على العديد من قضايا الانتاج والتصنيع والزراعة والبيئة وغير ذلك، ولذلك تبنى مركز الخليج للأبحاث ضرورة انشاء رابطة أو تجمع لمراكز الأبحاث العربية. إضافة إلى معضلة قلة عدد مراكز الأبحاث في المنطقة ليس مقارنة بالدول الكبرى، بل مقارنة بالدول الإقليم مثل تركيا وإيران وإسرائيل، ناهيك عن ضعف مخصصات البحث العلمي في موازنات الدول العربية من إجمالي الناتج المحلي المخصصة للبحث العلمي بصفة عامة إسوة بالدول المتقدمة أو حتي الشركات الصناعية الكبرى التي تعتمد على الأبحاث في تطوير صناعاتها.
لذلك نتمنى نظرة جديدة من المسؤولين في دول المنطقة تجاه البحث العلمي ومراكز الأبحاث ، كما نتمنى من القطاع الخاص الخليجي والعربي يتبنى دعم هذه المراكز واحتضان شباب الباحثين الذين يعتبروا ثروة للدول لا تقل قيمة عن القطاعات الانتاجية أو الثروات الطبيعية كالنفط والغاز وغير ذلك، خاصة في ظل تنامي دور الاقتصادات الرقمية واقتصادات المعرفة والتي تسعى دول المنطقة إلى توطينها.
وبخصوص رؤيتنا المستقبلية للبحث العلمي ومراكز الأبحاث، فعلي صعيد مركز الخليج للأبحاث، سوف نستمر بإذن الله ونسعى جاهدين في تحقيق أهداف المركز في الداخل والخارج عبر باحثيه وطواقمه وزيادتها من الكفاءات الوطنية حسب التخصصات التي يحتاجها المركز ، ومن خلال الأفرع الخارجية للمركز وكذلك تفعيل الشراكات العربية والدولية، والتعاون مع المراكز المماثلة واستكمال مشروعاته وخططه، حيث يضع المركز لنفسه خطة سنوية ويعمل على تحقيقها بكفاءة لتحقيق أهدافه المرحلية أو بعيدة المدى.
وعلى مستوى المنطقة الخليجية والعربية نأمل أن تهتم الدول والحكومات بمراكز الفكر والبحث العلمي سواء الحكومية أو الخاصة، وأن تدعم المراكز الخاصة بتكليفها بمشروعات بحثية ودراسات وتعتمد عليها أكثر في الدراسات والأبحاث لكونها وثيقة الصلة بمجتمعاتها وقادرة على المساهمة بفاعلية في تقديم الحلول لقضايا مجتمعها واستشراف المخاطر والتحديات بموضوعية، وأن تزيد مخصصات البحث العلمي لأن المستقبل للمعلومات، فتحقيق النمو الاقتصادية والتنمية المستدامة في جميع المجالات مرهونة بالبحث والاعتماد على الدراسات العلمية، كما أن استشراف التحديات والمخاطر وترتيب أولوياتها والتعامل معها يتطلب الاعتماد على مراكز الأبحاث الوطنية الامينة على دولها ومنطقتها كما أنها أكثر دراية بغيرها من المراكز الأجنبية حتى الكبيرة منها.
وفي الختام، اتمنى أن يكون ما يقدمه المركز يصل إلى كل المهتمين والباحثين وسيظل المركز مستمر في تقديم رسالته ويفتح أبوابه ومواقعه ومكتبته لكل من يرغب في الاطلاع والاستزادة من العلم والمعرفة وسنظل نرفع شعار "المعرفة للجميع".