على مدى العقدين الماضيين شهد الحضور الروسي في المنطقة العربية تصاعدًا ملحوظًا وازداد قوة وتأثيرًا بعد تراجع حاد خلال حقبة التسعينات، وقد كان التدخل الروسي في سوريا في 30 سبتمبر 2015م، إيذانًا بتغير نوعي في الدور الروسي في المنطقة، وانتقاله من مجرد التأثير على التطورات والأحداث التي تقودها قوى دولية أخرى، أو عرقلة مخططات هذه القوى، إلى الأخذ بزمام المبادرة والقيادة لاسيما في الملف السوري. فقد استطاعت موسكو إحداث تغير جذري في المعادلة السورية كان له تأثير واسع النطاق على سوريا والمنطقة بأسرها، وجاءت التطورات الأخيرة في الملف الليبي لتؤكد هذا التوجه، فقد فرضت روسيا نفسها كفاعل رئيسي لا يمكن تجاوزه ليس فقط في الملف السوري وإنما في الترتيبات الخاصة بالمنطقة عامة، وبدت موسكو وكأنها تقود التطورات وتعيد توجيه دفتها وليس فقط تتفاعل معها. وكشف تطور الأحداث وتلاحقها عن توجه روسي واضح نحو التأسيس لحضور قوى وفاعل في المنطقة يتخذ من سوريا منطلقًا له ويتسع تدريجيًا في اتجاهات عدة بالمحيط العربي.
ويمكن تفسير هذا التأثير الروسي المتزايد في شؤون المنطقة في ضوء مجموعة من العوامل أولها يتعلق بالرؤية والمصالح الروسية حيث دفعت التطورات الدولية والإقليمية روسيا إلى بلورة رؤية لتطوير دورها في المنطقة، وتأكيد مكانتها كقوة كبرى قادرة على حماية مصالحها، وكسر حلقة التطويق والضغوط الأمريكية عليها، في محاولة منها لفتح آفاق وأسواق وبناء شراكات تعوضها ولو جزئيًا عن الاستنزاف الحادث نتيجة العقوبات الغربية. فعقب التوتر الشديد بين روسيا والغرب على خلفية الأزمة الأوكرانية، بدأت روسيا في توجيه سياستها الخارجية لفضاءات أرحب، وبرزت دوائر أخرى كمحور ارتكاز للحركة الروسية وشمل ذلك الفضاء السوفيتي السابق، والعمق الآسيوي، والتخوم الشرق أوسطية إلى جانب أمريكا اللاتينية وإفريقيا، وفى كل هذه الدوائر تقود المصالح بشقيها الاقتصادي والاستراتيجي التوجهات الروسية. في هذا السياق تشهد المنطقة العربية من الخليج للمحيط اهتمامًا متزايدًا من جانب موسكو.
يدعم هذا التوجه نحو تعزيز التواجد الروسي في البحر المتوسط كممر وحيد للبحر الأسود حيث أهم الأساطيل الروسية في شبه جزيرة القرم، وهو ما تضمنته العقيدة العسكرية البحرية الجديدة التي صدق عليها الرئيس بوتين في 26 يوليو 2015م، والتي نصت على ضمان وجود عسكري بحري "دائم" لروسيا في البحر المتوسط، وتعزيز المواقع الاستراتيجية الروسية في البحر الأسود، ردًا على تحركات الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في البحر الأسود على خلفية الأزمة الأوكرانية. وإلى جانب قاعدة حميميم الجوية، تم في 18 يناير 2017م، توقيع اتفاقية بين موسكو ودمشق تقضي بتحويل طرطوس من محطة لتموين السفن الروسية إلى قاعدة عسكرية بحرية متكاملة يمكنها استقبال 11 سفينة حربية، بما في ذلك سفن نووية، وذلك لمدة 49 سنة قادمة قابلة للتمديد تلقائيا. ويسمح الاتفاق لروسيا بنشر نقاط تمركز متنقلة خارج الأراضي التابعة للقاعدة البحرية، بهدف حراسة ميناء طرطوس، ونشر منظومات صاروخية جديدة حولها، إضافة إلى نشر منظومات صاروخية في البحر من طراز "بال" أو "باستيون"، علمًا بأن موسكو نشرت صواريخ "أس 300" في محيط قاعدة طرطوس، و "إس 400" في محيط قاعدة حميميم الجوية.
ثانيها، أن ارتباط الأمن القومي الروسي بمفهومه الشامل وجناحيه الاقتصادي والأمني بالمنطقة أعطى للأخيرة ثقل استراتيجي متزايد في الأولويات الروسية، فموسكو ترى إن الأمن القومي الروسي يرتبط عضويًا بأمن واستقرار المنطقة، وأن القضاء على الإرهاب داخلها يبدأ بالمنطقة العربية التي تمثل حزام روسيا الجنوبي الغربي، ومنها يأتي الدعم للإرهاب في الداخل الروسي. وقد أشار الرئيس بوتين صراحة إلى الخطر الذي يشكله الإرهابيون العائدون إلى روسيا بعد مشاركتهم في القتال إلى جانب التنظيمات المتطرفة في سوريا، وأن مهمة العسكريين الروس في سوريا ليس مساعدة الشعب السوري فحسب، وإنما حماية المصالح الروسية والمواطنين الروس من خلال عدم السماح بعودة الإرهاب إلى روسيا، قائلاً: "لن ننتظر وصولهم إلينا".
كما أن ضمان أسعار مرضية للنفط الذي تمثل عوائده عصب الاقتصاد الروسي، والأمن القومي الروسي في بعده الاقتصادي، يظل رهنًا بصياغة تفاهمات مع المملكة العربية السعودية باعتبار الدولتين أكبر مصدري النفط في العالم. وقد ازداد هذا التنسيق إلحاحًا وضرورة مع انهيار أسعار النفط نتيجة تداعيات أزمة كورونا، وتحول الولايات المتحدة لمصدر للطاقة مع الطفرة التي شهدها الإنتاج الأمريكي من النفط والغاز الصخري.
ثالثها، أن حالة الارتباك في السياسة الأمريكية تجاه المنطقة منذ وصول ترامب إلى السلطة، أتاحت مساحة للتحرك الروسي بقوة في المنطقة، خاصة وإنها تزامنت مع ارتباك أشد في الدوائر الأوروبية نتيجة البريكست البريطاني والخلافات الأوروبية حول سياسات الهجرة واللاجئين وغيرها، وهو الارتباك الذي عمقته تداعيات أزمة كورونا على المستويين الأمريكي والأوروبي. الأمر الذي أوجد فراغًا نسبيًا نتيجة انشغال القوى صاحبة النفوذ التقليدي في المنطقة سمح لموسكو بالتقاط زمام المبادرة في عدد من الملفات الحيوية بها. ولا يعني هذا أن روسيا تسعى لمزاحمة الولايات المتحدة أو أي قوة أخرى، لكنها فقط تقتنص الفرص المتاحة لحماية وتحقيق مصالحها برؤية ووفق أجندة وطنية روسية مع الأخذ في الاعتبار مصالح دول المنطقة.
تزامن هذا مع قبول أوسع من جانب دول المنطقة للعودة الروسية، فقد أكسبت المواقف الروسية من أزمات المنطقة منذ الثورات العربية وما تلاها من تطورات لاحقة الدور الروسي قبولاً من جانب دول المنطقة باعتباره يحقق التوازن الدولي المنشود الذي يحد من التداعيات السلبية للسياسات الأمريكية، ولكونه يدعم استقرار وأمن المنطقة ويسعى إلى تسوية الصراعات وليس تأجيجها، كما إنه الأقرب والأكثر دعمًا للمواقف العربية بشأن القضية الفلسطينية، رغم العلاقات الجيدة التي تربط بين روسيا وإسرائيل. واستحضرت العديد من الدول العربية الخبرة التاريخية الإيجابية للدور الروسي خلال الحقبة السوفيتية، وكيف كانت موسكو حجر زاوية في التوازن الدولي وتلجيم الاندفاع الأمريكي لدعم المصالح الإسرائيلية على حساب الحقوق العربية.
ويختلف الدور الروسي في جوهره وأبعاده وأولوياته عن غيرها من القوى الكبرى، وقد أشارت عقيدة السياسة الخارجية لروسيا الاتحادية التي صدق عليها الرئيس بوتين في 30 نوفمبر 2016م، إلى مجموعة من الأهداف التي تسعى السياسة الروسية إلى تحقيقها، أبرزها: تعزيز دور روسيا في إطار عالم متعدد القوى، والحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي، وتنمية علاقات الشراكة ذات المنفعة المتبادلة وبناء أكبر عدد ممكن من الشراكات مع مختلف دول العالم. وفيما يتعلق بالمنطقة العربية والشرق الأوسط فقد أكدت العقيدة الروسية الجديدة أن موسكو ستواصل نهج التسوية الدبلوماسية للنزاعات في الشرق الأوسط دون تدخل خارجي ووفق الشرعية الدولية. وكعضو دائم في مجلس الأمن ورباعية الشرق الأوسط سوف تسعى لتحقيق تسوية عادلة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وستعمل على تحقيق التسوية في سوريا ووحدة أراضيها واستقلالها، وإنشاء تحالف دولي واسع لمحاربة الإرهاب. كما أنها تدعم إنشاء مناطق خالية من الأسلحة النووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل خصوصًا في الشرق الأوسط. ووفقًا للعقيدة الجديدة فإنه لا بديل عن الأمم المتحدة كمركز لتنظيم العلاقات الدولية، ولا تعترف روسيا بتعميم واشنطن لتشريعاتها متجاوزة القانون الدولي، وترى أن نهج الولايات المتحدة وحلفائها الهادف إلى ردع روسيا وممارسة الضغوط عليها يقوض الاستقرار الإقليمي والدولي.
في هذا السياق، يمكن إيجاز الملامح الرئيسية للدور الروسي في المنطقة العربية في عدة أبعاد. أولها، أن اهتمام روسيا بالمنطقة طبيعي وتاريخي، فلم تكن روسيا بعيدة أبدًا عن المنطقة العربية التي تمثل جوار شبه مباشر لها. وقد أنطلق تقاربها من المنطقة دومًا، منذ العهد القيصري وعلى مدى قرون، من منظور تعاوني وليس استعماري مهيمن كحال قوى كبرى أخرى. وهناك انفتاح روسي على كل دول المنطقة، وتسعى موسكو إلى تطوير شراكات استراتيجية بعيدًا عن المحاور والاستقطابات بها ودون خلط الأوراق ببعضها. فهناك شراكة استراتيجية بين روسيا وكل من المملكة العربية السعودية وإيران، وأكدت زيارة الرئيس الروسي بوتين للمملكة والإمارات، يومي 14 و15 أكتوبر 2019م، على التوالي، واتفاق "أوبك +" التاريخي الانطلاقة الجديدة للعلاقات الروسية الخليجية، وكونها توجه ثابت وخيار استراتيجي في السياسة الروسية. كما تحتفظ موسكو بشراكات متنامية مع كل من مصر وتركيا، والجزائر والمغرب، وهي تؤكد على احترام الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وحل الدولتين مع الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع إسرائيل، ولا ترى موسكو في ذلك تعارضًا باعتبارها تنطلق من التوازن في علاقاتها بالأطراف المختلفة وضرورة تسوية الخلافات الإقليمية ودعم التفاهمات والاستقرار الإقليمي.
ثانيها، ستظل سوريا هي محور الارتكاز الاستراتيجي الروسي في المنطقة حيث القواعد الروسية الوحيدة خارج الفضاء السوفيتي، قاعدتي حميميم الجوية وطرطوس البحرية، وما تتيحه من وجود دائم وقوى لروسيا في البحر المتوسط ذو الأهمية الاستراتيجية لروسيا منذ العهد القيصري. ويعد الدور الروسي هو الأبرز في قيادة مسار التسوية السلمية في سوريا، بعد أن نجحت الضربات العسكرية الروسية في تغيير توازنات القوى على الأرض السورية، إلى جانب التوافقات التي تمت مع أنقره وما مثلته من تغيير جوهري في معادلة القوى الخاصة بالقضية السورية.
ورغم ما تداولته بعض الصحف ووسائل الإعلام من أنباء حول التوتر في العلاقات الروسية السورية، فإن هذا لم يكن سوى إعادة ترتيب وصياغة لأطر هذه العلاقة في فترة ما بعد المعارك الكبرى والاستعداد لإعادة الإعمار، ويتضمن ذلك ليس فقط العلاقة بين البلدين ولكن حدود الأدوار الأخرى للشركاء والمنافسين الدوليين والإقليميين. وقد أكدت قمة الثلاثي الضامن في سوريا، روسيا وإيران وتركيا، في الأول من يوليو استمرار تفاهمات أستانا بين الدول الثلاث والتي تعطي لروسيا اليد الطولى في الملف السوري مع اعترافها بمصالح الدول الأخرى في حدود معينة، كما كانت رسالة واضحة بأن روسيا لن تسمح للدول الغربية بعرقلة الحصاد الروسي في سوريا من خلال عقوبات قانون "قيصر" أو غيره، أو القفز على مكتسبات إعادة الإعمار في سوريا، ولم يكن مصادفة عقد قمة الثلاثي الضامن في اليوم التالي لمؤتمر بروكسل للدول المانحة لسوريا. لقد تراجعت المعارك العسكرية لتبدأ المعارك الاقتصادية، وتسعى روسيا لتأكيد كونها البوابة لمن يرغب في الحصول على حصة ما في ثمار إعادة الإعمار، وكما قادت المعارك العسكرية ستقود إعادة البناء وتطبيع وضع سوريا الدولي والإقليمي على الصعيدين الاقتصادي والسياسي.
ثالثها، إن ليبيا تقدمت كثيرًا في أولويات روسيا في المنطقة وأصبح الحضور الروسي في ليبيا أقوى وأوضح من ذي قبل، ورغم التباعد الجغرافي فإن الملفين السوري والليبي مرتبطين، من وجهة النظر الروسية، فالوجود العسكري الروسي في سوريا يحتاج إلى حاضنة آمنة في البحر المتوسط تعزز من السيطرة والحضور الروسي فيه، وتعد ليبيا نقطة ارتكاز مثالية في هذا الصدد خاصة وأن اتفاق نوفمبر 2017م، بشأن الاستخدام المتبادل للمجال الجوي والبنية التحتية الخاصة بالمطارات بين مصر وروسيا لمكافحة الإرهاب لا يحقق الأهداف الروسية بالكامل والتي تتجاوز الأهداف الأمنية والاستراتيجية المباشرة إلى تلك المتعلقة بأسواق الطاقة.
إن روسيا قد لا تريد الهيمنة على النفط الليبي، فهي ثاني أكبر مصدر للنفط والسابع للغاز، وتقوم سياسة الطاقة الروسية على الشراكة وليس فرض السيطرة، أي أن تكون روسيا شريك في أي مشروعات لنقل الطاقة إلى أوروبا على النحو الذي يضمن ألا تكون هذه الإمدادات منافسة ومؤثرة على حصة روسيا الحالية والمستقبلية في السوق الأوروبية الذي يعتبر أكبر وأهم الأسواق لتصريف الطاقة الروسية، وتأمل موسكو في زيادة حصتها به مع افتتاح "السيل الشمالي 2" لشمال أوروبا والسيل التركي لجنوبها. يزيد من أهمية ذلك الصعوبات التي تواجه سوق النفط حيث يتوجب على روسيا بموجب اتفاق "أوبك+" خفض إنتاجها حتى شهر يوليو بمقدار 2.5 مليون برميل يوميًا، وهو أمر موجع اقتصاديًا لها خاصة مع التدهور الحادث في أسعار النفط، وقد يتم مد الخفض لنهاية العام إذا لم يستعيد الطلب على النفط قوته. في هذا السياق فإن روسيا مهتمة بالهلال النفطي في ليبيا وأن يكون تحت سيطرة قوة صديقة، والحيلولة دون استنزاف تركيا للنفط الليبي والإضرار بالأسعار والأسواق كما فعلت بالنفط السوري من قبل، مع الأخذ في الاعتبار ضخامة الثروات النفطية الليبية مقارنة بنظيرتها السورية وكون ليبيا عضو مؤثر في منظمة أوبك والأقرب من الأسواق الأوروبية. وكان هناك العديد من المشروعات الواعدة بين البلدين في مجال الطاقة تم الاتفاق عليها زمن القذافي أبرزها مشروع أنبوب الغاز بين ليبيا وإيطاليا بمشاركة الشركات الروسية. هذا إلى جانب مدى آخر واسع من مشروعات البنية الأساسية، وكون ليبيا سوق رئيسي للسلاح الروسي منذ العهد السوفيتي، ومثلت الأسلحة الروسية الصنع 90% من إجمالي معدات القوات المسلحة الليبية.
كما إن نقل الإرهابيين من سوريا إلى ليبيا لا ينهي التهديد الذي تمثله هذه العناصر على أمن روسيا والمنطقة من وجهة النظر الروسية ولكن يعيد تموضعه، كما أنه يجعل المكتسبات التي تحققت في سوريا مهددة بانتكاسة، وقد حذرت القيادة الروسية في أكثر من مناسبة من الخطر الذي يمثله نقل أعداد متزايدة من الإرهابيين من سوريا إلى ليبيا، ودعت إلى التعاون الدولي للقضاء التام على الإرهاب.
يضاف إلى ما تقدم إن كسر شوكة تركيا في ليبيا يساعد كثيرًا في توجيه الضربة القاضية لها في سوريا والتخلص نهائيًا من معضلة إدلب، "الجرح المتقيح"، على حد تعبير وزير الخارجية الروسي سيرجى لافروف، فرغم التفاهمات الروسية التركية إلا أن التحركات التركية مازالت تمثل تهديدًا للمصالح والأمن الروسي في أكثر من موضع، فهي تفاهمات تكتيكية لتجنب صدامات كبرى مباشرة بين الطرفين وليست توافقات استراتيجية بينهما.
ولكن يظل التعامل الروسي مع الملف الليبي حذرًا نظرًا لتعقد خريطة القوى الداخلية والإقليمية والدولية بها، فخريطة القوى الفاعلة في ليبيا معقدة للغاية والتورط بها يمكن أن يعيد شبح المأساة الأفغانية خاصة مع رفض المجتمع القبلي الليبي التدخل الأجنبي بكل صوره، وتربص الغرب بروسيا ورغبته في إنهاكها عسكريًا واقتصاديًا. يضاف إلى هذا بعد قانوني وهو أن روسيا لا تتدخل عسكريًا إلا في إطار مظلة شرعية، وهو الأمر الذي يتحقق في حال طلبت الحكومة الليبية من روسيا التدخل، وهذا أمر غير وارد باعتبار الأخيرة مدعومة وموالية للغرب بالأساس، أو باستصدار قرار أممي من مجلس الأمن يخول روسيا هذا الحق، وهو أيضًا أمر غير وارد ولا يمكن تصور أن تسمح به الدول الغربية. كما أن موسكو حريصة على عدم الإضرار بعلاقتها الاستراتيجية مع إيطاليا التي تمثل شريكًا أوروبيًا هامًا لروسيا، وحليفًا أساسيًا لحكومة السراج.
وتتركز الحركة الروسية في دعم المشير حفتر، عسكريًا وسياسيًا، باعتباره القوة التي تحارب الإرهاب على الأرض، وتضمن تأمين استمرار السيطرة على الهلال النفطي. ويعتبر تشكيل جبهة دولية إقليمية داعمة للمشير حفتر في المحافل الدولية وفى مقدمتها مجلس الأمن الدولي تضم إلى جانب روسيا كل من فرنسا ومصر والإمارات وغيرها من القوى المعنية بالملف الليبي حجر زاوية في السياسة الروسية لموازنة الضغوطات التي تمارسها تركيا ومن ورائها واشنطن. كما إنه من الملاحظ طرح الملفين الليبي والسوري معًا في أي تفاهمات روسية تركية حتى تنتبه الأخيرة لمصالح روسيا وكونها حاضرة بقوة في ليبيا.
إن ليبيا ليست سوريا، ولن تغامر موسكو بالتورط العسكري المباشر في ليبيا على غرار سوريا، حيث أن ذلك سيكون على حساب قدرتها على التركيز في سوريا، خاصة وأنها لم تصل بعد إلى حسم نهائي للمعارك بها، ولم تقضِ تمامًا على التنظيمات والعناصر الإرهابية فيها، والذي يظل الأولوية الحاكمة لحركة روسيا في المنطقة العربية، ولما سيمثله ذلك من ضغط وعبء على الاقتصاد الروسي الذي يمر بصعوبات واضحة نتيجة التراجع الحاد في أسعار النفط.
في ضوء كل هذه المعطيات، ربما لن ترسل موسكو قوات نظامية أو تقوم بضربات جوية مباشرة كما فعلت في سوريا، لأنها تدرك أن الجيش الوطني الليبي قادر على إدارة المعارك مع بعض الدعم الضروري سياسيًا وعسكريًا وهو ما تقوم به روسيا بشكل مباشر أو عبر قنوات غير مباشرة، في سيناريو يختلف في آلياته عن سوريا ولكنه يقترب من ذات الأهداف من حيث الحفاظ على وحدة ليبيا والقضاء التام على الإرهاب بها والاحتفاظ بنفوذ قوي لموسكو قد يصل لقواعد عسكرية ضامنة لمصالح الطرفين.
لقد التقطت روسيا زمام المبادرة في عدد من قضايا المنطقة، ولكنها تتحرك بحسابات دقيقة جدًا، ووفق رؤية حاكمة لمصالحها وأولوياتها، وفي حدود ما تسمح به قدراتها والتوازنات المختلفة في المنطقة.