array(1) { [0]=> object(stdClass)#13440 (3) { ["GalleryID"]=> string(1) "1" ["ImageName"]=> string(11) "Image_1.gif" ["Detail"]=> string(15) "http://grc.net/" } }
NULL
logged out

العدد 174

النظام الدولي يتجه للاختلاف عن القائم .. وملامحه تعددية وتوازن المصالح

الأربعاء، 01 حزيران/يونيو 2022

كانت أوكرانيا دوماً موضع نزاع بين روسيا والقوى المنافسة لها، فقد عاشت القبائل السلافية لقرون في روسيا، وروسيا البيضاء والمناطق التي تقع فيها أوكرانيا الحالية، ومع القرن السابع الميلادي نشأ مركزان للسلاف الشرقيين، كييف ونوفجورود، وفى عام 882 قام أوليج فيشى، أمير نوفجورود بتوحيد المركزين فيما عُرف بـ "روس كييف" أو روسيا الكييفية أو روسيا القديمة. وعقب غزو المغول أواسط القرن 13 وفي فترة من حكم المغول والتتار أصبحت أوكرانيا جزءًا من الاتحاد البولندي الليتواني، وأطلق عليها البولنديون أوكرانيا وتعنى "أطراف الأراضي" البولندية. إلا أنها عادت للسيطرة الروسية منتصف القرن 17 ليحمل القيصر اسم قيصر روسيا الكبرى والصغرى والبيضاء حيث أُطلق على أوكرانيا آنذاك "مالوروسيا" أو روسيا الصغرى. وظلت أوكرانيا جزءًا من روسيا القيصرية ثم الاتحاد السوفيتي حتى تفكك الأخير وإعلان استقلالها عام 1991م.

وقد حرص الرؤساء الأوكرانيون في فترة ما بعد الاستقلال وحتى الرئيس ليونيد كوشما (1994 -  2004) على إقامة علاقات متوازنة بين روسيا والغرب في قراءة جيواستراتيجية صائبة لمقتضيات التاريخ والجغرافيا حيث تقع أوكرانيا على خط التماس بين روسيا وحلف شمال الأطلسي. ومع الانتخابات الرئاسية عام 2004م، بدأت الأزمة بين كييف وموسكو وسلسلة من التصعيد على مدى ما يقرب من العقدين لم تتوقف حتى تاريخه، فالحرب الجارية ليست الأزمة الأولى بين البلدين حيث سبقها أزمة الثورة البرتقالية عام 2004م، ثم أزمة احتجاجات عام 2013م، وما تبعها من ضم القرم لروسيا عام 2014م، واندلاع الحرب الأهلية في شرق أوكرانيا بين كييف ومقاتلي الدونباس. وتعد الأزمة الحالية امتدادًا للأزمات السابقة وما خلفته من تراكمات وتوترات في الداخل الأوكراني، وبين موسكو وأوكرانيا، إلى جانب تصدع العلاقة بين روسيا والغرب، كما إن لها تداعيات هامة على مكانة روسيا في جوارها القريب، وكذلك على هيكل النظام الدولي ومستقبله:

 أولها، عودة حالة الاستقطاب في النظام الدولي، ليس على أساس أيديولوجي كما كان عليه الحال في فترة الحرب الباردة، ولكن على أساس مصلحي، فرغم الضغوط الأمريكية الشديدة على العديد من الدول لاتخاذ موقف إدانة واضح تجاه روسيا، وفى مقدمتهم الصين والهند، والانتقادات الأمريكية والأوروبية التي وصلت حد التهديد أحياناً، فإن الدولتين وغيرهما رفضوا الاستجابة وأكدوا الحرص على استمرار التعاون مع روسيا انطلاقاً من المصالح الحيوية التي تربط الطرفين، مما خلق حالة من الاستقطاب كانت قائمة من قبل ولكن ليس بمثل هذا الوضوح بين مجموعتين من الدول. الأولى تحافظ جاهدة على النظام الدولي ذات الوضعية الأمريكية المهيمنة وتناصب روسيا العداء المعلن والصريح، وتضم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وشركائهما. أما الثانية، فتقودها روسيا والصين، وتسعى إلى نظام متعدد القوى أكثر توازناً وعدالة، وإنهاء الغطرسة الأمريكية التي تهدد الأمن والاستقرار في العالم من وجهة نظر الدولتين. وكان هذا واضحاً خلال عملية التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرارات الإدانة لروسيا، والتي ظهر فيها الانقسام بين المجموعتين، وصحيح إن الأولى انخرط فيها عدد أكبر من الدول إلا إن الثانية تضم دولًا ذات ثقل ديموجرافي واقتصادي واستراتيجي لا يمكن إغفاله.  

ثانيها، إن ثبات روسيا على موقفها ومضيها قدماً في عملياتها العسكرية رغم العقوبات القاسية المفروضة عليها، والدعم الاستخباراتي والعسكري الضخم التي تقدمه الولايات المتحدة ودول الناتو لأوكرانيا، في تحدى صارم لواشنطن وحلفائها، له دلالته فيما يتعلق بمستقبل أوكرانيا، ومكانة روسيا الدولية، وفى الفضاء السوفيتي السابق الذي يمثل مجالها الحيوي ومنطقة نفوذها الأساسية. فمن ناحية، ورغم ما يتردد في الإعلام الغربي من إخفاق وبطء روسي، فإن روسيا تحقق تقدمًا على الأرض حيث تسيطر على الأجواء الأوكرانية بالكامل وكذلك شواطئها الممتدة على البحر الأسود لتصبح أوكرانياً فعليًا دون قوات جوية أو بحرية، كما تم تدمير حوالى 90% من البنية العسكرية الأوكرانية، وتسيطر موسكو على مساحة تزيد عن 100 ألف كم2 في الشرق والجنوب الأوكراني (منطقة الدونباس) يتضمن ذلك لوجانسك وخيرسون بالكامل وحوالى 70% من دونيتسك، وتم ربط الدونباس بشبة جزيرة القرم، إلى جانب عدة إجراءات تمثل تحولاً هاماً في الأوضاع بالمنطقة، منها تشكيل إدارات عسكرية مدنية مشتركة لتسيير وإدارة البلدات والمدن التي تم السيطرة عليها تحت إشراف روسيا، واعتماد الروبل كعملة تداول في المنطقة، والبدء في إعادة الحياة لطبيعتها واستئناف عمل الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء وإعادة تأهيل وترميم المساكن وغيرها.

في ضوء ذلك هناك سيناريوهان لمستقبل أوكرانيا ووضع منطقة دونباس. أولهما، الإبقاء على استقلال جمهوريتى دونيتسك ولوجانسك مع تبعية فعلية لروسيا على غرار أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا اللتين اعترفت موسكو باستقلالهما في أعقاب حرب الأيام الخمسة بين روسيا وجورجيا عام 2008م. وكانت جمهوريتي دونيتسك ولوجانسك قد أعلنتا الاستقلال عن أوكرانيا عام 2014م. وفى عام 2017 م، أعلن ألكسندر زاخارتشينكو، رئيس جمهورية "دونيتسك" السابق وممثلين عن 19 مقاطعة أوكرانية، قيام ما أطلق عليه دولة "مالوروسيا" الاسم الروسي التاريخي لأوكرانيا. ورأى زاخارتشينكو أنه من المفترض أن تحل "مالوروسيا" محل أوكرانيا الحالية التي "فقدت مصداقيتها" على حد تعبيره، وذلك عبر فترة انتقالية قد تصل إلى ثلاث سنوات. وتأكيداً لجدية الخطوة، أعلن ألكسندر تيموفييف، نائب رئيس حكومة دونيتسك، نص الوثيقة الدستورية للدولة الجديدة، وتم تحديد مدينة دونيتسك عاصمة لها، على أن تكون كييف عاصمة ثقافية وتاريخية. وسبق إعلان زاخارتشينكو مشاورات أجراها بهذا الشأن مع النخب السياسية ورجال الأعمال في الأقاليم الداعمة له، إلى جانب الترويج واسع النطاق لحلم "مالوروسيا" من جانب المدونون والكتاب المقربون من دونيتسك. وقد اغتيل زاخارتشينكو في العام التالي واتهمت روسيا القوميين الأوكرانيين باغتياله وتوقف الحديث عن "مالوروسيا. ورغم كل هذه التطورات فإن روسيا لم تعترف رسمياً باستقلال الجمهوريتين عن أوكرانيا إلا في 21 فبراير 2022م، قبل بدء عملياتها العسكرية بيومين. كما أعلنت روسيا يوم 6 مايو تعيين أولجا ماكييفا وروديون ميروشنيك، سفيرين لجمهوريتي دونيتسك ولوجانسك الشعبيتين على التوالي لديها.

السيناريو الثاني، وهو الأرجح على المدى الطويل، يتمثل في ضم منطقة دونباس إلى روسيا، مثلما حدث لشبه جزيرة القرم، ففي خطابه بمناسبة عيد النصر في الحرب الوطنية العظمى يوم 9 مايو أشار الرئيس بوتين إلى مشاركة "الجنود من مناطق مختلفة من وطننا بما في ذلك أولئك الذين جاؤوا من الدونباس مباشرة"، فيما اعتبر مؤشراً على اعتبار الدونباس جزء من روسيا لاسيما وأن احتفال هذا العام كان روسياً خالصاً واقتصرت المشاركة فيه على القوات الروسية فقط خلافاً لسنوات سابقة كانت تتم خلالها دعوة دول منظمة معاهدة الأمن الجماعي ومنظمة شنغهاي للمشاركة في الاحتفال.

كذلك أشارت رئيسة مجلس الاتحاد، الغرفة الأعلى للبرلمان الروسي، فالينتينا ماتفيينكو يوم 12 مايو أن روسيا "ستقبل قرار سكان مقاطعة خيرسون" الأوكرانية بشأن انضمام هذا الإقليم إلى روسيا من عدمه، وأنه بات بإمكان مقاطعة خيرسون تبني قرارات بشكل مستقل دون التخوف من سلطات كييف والكتائب القومية. جاءت تصريحات ماتفيينكو بعد يوم من إعلان نائب رئيس الإدارة العسكرية المدنية الجديدة في مقاطعة خيرسون، كيريل ستريمووسوف، عن نية سلطات الإقليم الجديدة التقدم إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بطلب ضمه إلى قوام بلاده. كما أشار سكرتير المجلس العام لحزب "روسيا الموحدة" الحاكم في روسيا، أندريه تورتشاك خلال زيارة إلى خيرسون يوم 6 مايو، إن "روسيا ستبقى هنا إلى الأبد". وقد علق المتحدث باسم الرئاسة الروسية، ديميتري بيسكوف على ذلك بقوله: "أولا، يعود القرار بشأن تقديم هذا الطلب من عدمه إلى سكان مقاطعة خيرسون، وهم الذين يتعين عليهم تقرير مصيره. وأنه ينبغي أن "تستند مثل هذه القرارات المصيرية إلى قاعدة قانونية واضحة وأن تكون شرعية تمامًا كما كان في قضية القرم".

أما باقي أوكرانيا (الجزء الغربي) فإن ما يهم روسيا هو جعلها دولة محايدة منزوعة السلاح، وستسعى إلى تحقيق ذلك عبر المفاوضات، وما لم تحققه الأخيرة ستفرضه القوة والأمر الواقع من وجهة النظر الروسية. الأمر الذي يرجح استمرار المواجهة بين روسيا والولايات المتحدة ومعها دول الناتو، فسيطرة روسيا على الدونباس لم ينه الأزمة وسيعتبر نهاية مرحلة وبداية أخرى. ورغم أن استمرار التصعيد في الأزمة قائم، وهناك تخوف من امكانية لجوء الرئيس بوتين لاستخدام السلاح النووي، إلا إن نشوب حرب عالمية ثالثة يظل مستبعداً ولا يسعى أي طرف لذلك. وقد أشارت أفريل هينز، مديرة الاستخبارات الوطنية، أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ الأمريكي يوم 10 مايو إلى إنه "من الواضح أننا في موقف ندعم فيه أوكرانيا، لكننا أيضًا لا نريد أن ينتهي بنا المطاف إلى حرب عالمية ثالثة، ولا نريد أن يكون لدينا موقف يستخدم فيه الفاعلون الأسلحة النووية"، ولا يوجد إمكانية وشيكة لبوتين لاستخدام الأسلحة النووية". ورغم أن العقيدة العسكرية الروسية تجيز استخدام السلاح النووي إلا أن ذلك شريطة تعرض روسيا لتهديد وجودي يهدد كيان الدولة الروسية أياً ما كان السلاح المستخدم، ومن غير المتصور أن تدفع واشنطن إلى هكذا سيناريو وما ينطوي عليه من تدمير للعالم بأسره.

على صعيد أخر، ورغم أن واشنطن حاولت توظيف الأزمة لعزل روسيا وتقويضها سياسياً واقتصادياً، فإن ما تقوم به روسيا في أوكرانيا، وموقفها السابق في أوسيتيا الجنوبية، عزز من مكانتها كقوة كبرى لاسيما في الفضاء السوفيتي السابق وكونها شريك وحليف يعول عليه، وهو ما تجلى في موقفها من كازاخستان ثالث أهم الجمهوريات السوفيتية السابقة بالنسبة لروسيا، بعد أوكرانيا وبلوروسيا، والعضو المؤسس في منظمة معاهدة الأمن الجماعي والاتحاد الاقتصادي الأوراسي ومنظمة شنغهاي، وحيث قاعدة بايكونور الفضائية الروسية وحوالى 20% من السكان من الروس. فقد اتهمت موسكو الغرب بالوقوف وراء الاحتجاجات التي اندلعت في كازاخستان مطلع العام الجاري، وخرجت عن السيطرة يوم 5 يناير في "ألماتي"، العاصمة الصناعية للبلاد، واعتبرت الأحداث محاولة من الغرب لتقويض أمن وسلامة كازاخستان بالقوة باستخدام تشكيلات مسلحة مدربة ومنظمة، مؤكدة إنها لن تسمح بـ"ثورات ملونة" مرة أخرى.

ويفسر هذا التحرك الروسي السريع والحاسم تحت مظلة منظمة معاهدة الأمن الجماعي حيث تم إرسال قوات لحفظ السلام، روسية بالأساس، لتأمين المنشآت الحيوية في كازاخستان خاصة في العاصمة نور سلطان. وكان للدعم الروسي دور رئيسي في سرعة تعافى كازاخستان واستعادة الأمن والاستقرار في البلاد في غضون أسبوع وبدء انسحاب قوات حفظ السلام لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي بدءًا من يوم 13 يناير. وقد أنطوى السلوك الروسي في الأزمة الكازاخية ومن قبلها الأزمة في بلوروسيا حين اندلعت الاحتجاجات في أعقاب الانتخابات الرئاسية بدعم غربي واضح، على رسالة مباشرة مفادها أن موسكو لن تسمح بزعزعة نفوذها عبر الإطاحة بالنظم الصديقة لها في دول الجوار، وأن ما حدث في أوكرانيا وجورجيا لن تسمح بتكراره تحت أي دعاوى، الأمر الذي يفاقم حالة الاحتقان مع الغرب الذي يجعل من نشر الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان شعاراً لتحقيق مصالحه.

إلا أن سعى روسيا لضمان نفوذها ومصالحها في الفضاء السوفيتي السابق وحماية الروس في الجمهوريات السوفيتية السابقة لا يعنى بالضرورة سعيها لإحياء الاتحاد السوفيتي بصيغته التقليدية، أو أن يكون التدخل العسكري نمط متكرر لحماية الروس على النحو الذي أشارت إليه بعض المصادر فيما يتعلق بجمهورية ترانسنيستريا التي تطالب بالانفصال عن مولدوفا ويمثل الروس المجموعة العرقية الأكبر فيها بنسبة 34)٪( إن روسيا تحاول تعزيز نفوذها وروابطها مع دول الفضاء السوفيتي، وتتحرك في هذا الإطار على قدمين: اقتصادية ممثلة في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وعسكرية ممثلة في منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تعتبر حلف سياسي عسكري يضم ست من الجمهوريات السوفيتية. إن موسكو تدرك أنه لا يمكن إعادة عقارب الساعة للوراء، ولا يمكن سلب الجمهوريات السوفيتية استقلالها السياسي الكامل بالصيغة السوفيتية، ولكن يمكن تطوير أطر تحقق الهدف دون انصهار سياسي كامل.  

ثالثها، التحولات في موازين القوى الاقتصادية وتأكيد التحول لنظام اقتصادي عالمي جديد، فمن ناحية، شهدت السنوات الأخيرة خطوات جادة من جانب روسيا والصين لإنهاء الهيمنة الأمريكية على الاقتصاد العالمي حيث ارتبط صعود الأخيرة مطلع القرن العشرين، الذى بات يعُرف بالقرن الأمريكي، بالنمو السريع في الاقتصاد الأمريكي، وسعيها إلى ترجمة قوتها الاقتصادية الضخمة إلى نفوذ سياسي واستراتيجي عالمي، والتراجع الحاد للاقتصادات الأوروبية المنافسة في أعقاب الدمار الذى لحق بأوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، الأمر الذى مكنها من بسط سيطرتها على الاقتصاد العالمي من خلال مجموعة من الآليات منها إنشاء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، وأهمها وأكثرها تأثيراً اعتماد الدولار في كافة المعاملات المالية والتجارية عالمياً فيما عُرف بنظام "بريتون وودز". وعلى مدى ما يزيد عن سبعة عقود سيطر الدولار على المعاملات التجارية في العالم وجرى تسعير معظم السلع بالدولار وفي مقدمتها النفط، وكذلك الأسهم، والاحتياطات المالية في مختلف دول العالم، مما جعل حركة سعر الدولار صعودًا وهبوطًا تحدث هزات اقتصادية عالمية متفاوتة الشدة والتداعيات، بل إن اتجاه الأموال حول العالم يرتبط ارتباطًا مباشرًا في الأعم الأغلب من الحالات بقيمة الدولار وسعر الفائدة التي يحددها مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وهو الأمر الذي ظهر جليًا عندما بدأ الأخير في تحريك سعر الفائدة على الدولار.

إلا أن هيمنة عملة واحدة على المعاملات الدولية يعد استثناءً لا سابق له في التاريخ، ولا شك أن حلحلة وضع الدولار كعملة عالمية مهيمنة ستؤثر حتماً على الاقتصاد الأمريكي، وتفقد واشنطن أداة هامة للتأثير الدولي، وتعد مؤشر قوى على التحول باتجاه نظام اقتصادي عالمي جديد. وقد أدت التطورات المصاحبة للحرب في أوكرانيا إلى إعطاء دفعات قوية إلى هذا التوجه، ربما استغرقت عقوداً أطول لولا العقوبات المفروضة على روسيا. فقد اعتمدت موسكو وبكين سياسة التخلي عن الدولار في التعاملات الاقتصادية الدولية، وتعزيز اعتماد الروبل واليوان وغيرها من العملات الوطنية في التداول، صحيح أن عددًا من دول العالم قد بدأ في تنمية احتياطات من اليوان باعتباره عملة المستقبل، وكان هناك تبادلات بين روسيا وعدد من الدول بالعملات الوطنية ومنها الصين والهند وتركيا ودول الاتحاد الأوراسي وغيرها، إلا إن قيام الشركات الأوروبية بالدفع بالروبل مقابل الغاز الروسي، والتوسع في استخدام العملات الوطنية مع الشركاء التجاريين لروسيا سرع من وتيرة التخلي عن الدولار، ووضع الروبل في مكانة اقتصادية غير مسبوقة كعملة تداول وتقييم دولي. وإلى جانب التحول السريع في معاملاتها التجارية نحو استخدام العملات الوطنية تتخذ روسيا خطوات جادة لإنشاء أنظمة مصرفية ومالية مستقلة عن نظام "سويفت" الدولي للخدمات المصرفية الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة، والذي تم إقصاؤها منه في إطار العقوبات المفروضة عليها.  وفي هذا الإطار أطلقت روسيا عام 2018م، منظومتها المالية FFS التي تشبه نظام "سويفت، وقامت بربطه بنظيره الصيني.

تأتى المساعي الروسية السابقة في سياق دولي مواتي، فقد كثرت الدعوات للابتعاد عن العملة الأمريكية في التجارة الخارجية والحد من هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي، نظرًا لسياسة العقوبات التي تتبعها واشنطن وحرب التعريفات الجمركية التي تنتهجها مع دول العالم، فالصين تسعى كذلك لفك ارتباطها الكبير بالدولار، وأطلقت بورصة عالمية في شنغهاي للطاقة، يتم تداول عقود النفط فيها بالعملة الصينية، في خطوة وصفت بضربة قوية للـ"بترودولار". وأعلنت تركيا عن عزمها استبدال الدولار في تعاملاتها التجارية بعملتها المحلية أو اليورو أو اليوان، ودعت دول مجلس تعاون البلدان الناطقة بالتركية إلى استخدام عملاتها الوطنية في التجارة فيما بينها. كما أعلن العراق انتقاله إلى عملات أخرى مثل اليورو في التجارة البينية خاصة في مجال صادرات النفط، وتحاول فنزويلا وباكستان وغيرهما من الدول تقليل الاعتماد على الدولار في إطار توجه أصبح شبه عالمي.

اتجه الاتحاد الأوروبي، الشريك الأساسي للولايات المتحدة، أيضاً إلى تقليص الدولار في التجارة البينية، للحد من هيمنة العملة الأمريكية على التجارة العالمية، وتعزيز دور اليورو حيث أدت الحروب التجارية التي أطلقها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى خسارة الاتحاد الأوروبي مئات الملايين من الدولارات، ودعا رئيس المفوضية الأوروبية آنذاك، جان كلود يونكر، في كلمته للبرلمان الأوروبي، إلى ضرورة تجريد العملة الأمريكية من صفة العملة العالمية الرئيسية، وأشار إلى أن أوروبا تسدد 80% من واردات الطاقة بالعملة الأمريكية، مؤكدًا أن العملة الأوروبية اليورو يجب أن تصبح "الوجه والأداة لأوروبا الجديدة ذات السيادة"، في إشارة إلى اتساع دائرة التحدي الدولي للدولار والتغير الهيكلي في النظام الاقتصادي العالمي.

من ناحية أخرى، طالت تداعيات العقوبات الغربية على روسيا فارضيها، واشنطن وحلفائها الأوروبيين، الذين لم تتعاف اقتصاداتهم من تداعيات أزمة "كوفيد -19" بعد. ولعل التأثير المباشر كان على أسعار السلع الغذائية والطاقة سواء الغاز أو البنزين، فقد ارتفعت أسعار البنزين في الولايات المتحدة إلى مستويات تاريخية ووصلت إلى حوالي 6 دولارات في المتوسط وما يرتبط بذلك من تضخم وضغوط على المواطن. وتبدو الأوضاع أكثر تعقيداً في أوروبا فهناك نقص واضح في عدد من المواد الغذائية الأساسية مثل الزيت والدقيق وغيرها، وارتفاع غير مسبوق في سعر الغاز إلى 1200 دولار لكل ألف متر مكعب، الأمر الذي سيؤثر حتماً على حجم الإنتاج ومعدلات النمو في العديد من الدول الأوروبية. وحذر تقرير صادر عن مكتب الإحصاء الاتحادي الألماني، من ارتفاع معدلات التضخم في البلاد إلى 7.3% في مارس، بينما ارتفعت الأسعار في أبريل بنسبة حوالي 7.5 %، مقارنة بمستواها خلال نفس الشهر من العام الماضي. هذا إلى جانب تأثر قطاع الإنتاج بسبب ارتفاع أسعار الطاقة وتقليل العرض والطلب تأثرًا بظروف التوتر السياسي والأمني في أوروبا بوجه عام.

إن التطورات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية التي يشهدها العالم تتفاعل معاً باتجاه نظام دولي يختلف كثيراً عن ذلك الذي كان قائماً على مدى ما يزيد عن سبعة عقود، وتتمثل أهم ملامحه في التعددية وتوازن المصالح المدعومة بتوازن القوى.

مقالات لنفس الكاتب