جاء لقاء ولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز مع الرئيس الأمريكي جورج بوش في مزرعة الأخير في كروفرت – ولاية تكساس، مؤشراً جديداً على حدوث تطور ملحوظ في العلاقات الأمريكية السعودية، فاللقاء الأول بين الزعيمين حدث عام 2002، أي قبل نحو ثلاث سنوات.
وكانت أجواء قمة كروفرت الأمريكية السعودية الأولى في حينه ملبدة بالغيوم على اثر اعتداء الحادي عشر من سبتمبر والتي كانت قد حدثت قبل أقل من سبع أشهرعلى موعد اللقاء الأول، ومن الطبيعي أن تكون مهمة التعاون في مكافحة الإرهاب الموضوع الرئيسي والأول في محادثات القيادتين. تمت المحادثات في ظل اتهامات أمريكية علنية للمملكة وقياداتها بالتقصير في مكافحة الإرهاب ومعاملة المملكة كمتهم دون وجود أي أدلة تدعم ادعاءات التقصير. فقد كانت الإدارة الأمريكية في ذلك الوقت تحاول تغطية فشل أجهزتها المخابراتية المتعددة، هائلة القدرات والكلفة، وعجزها عن الكشف عن خطة تنظيم القاعدة أو الكشف عن نوايا تسعة عشر شابًا عربياً قطعوا صلاتهم بأوطانهم وعاشوا ودرسوا وتدربوا على الأراضي الأوروبية والأمريكية لسنوات عديدة. في ذلك الحين رفضت القيادة السعودية قبول المسؤولية أو الإقرار بذنب لم يرتكب أو بتقصير لا بينة عليه، في نفس الوقت جاء الوعد بالتعاون مع واشنطن والمجتمع الدولي في مهمة مكافحة الإرهاب اعترافا بحقيقة أن الإرهاب آفة تهدد الجميع وخطرا يزعزع الأمن والاستقرار العالمي وليس تكفيرا عن الذنب أو اعترافا بخطأ. وجاءت نتائج التحقيقات القضائية الواسعة حول اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر والتي شاركت بها جميع أجهزة الدولة الأمريكية لتثبت أن المملكة لم تكن من قريب أو بعيد على صلة بهذه الاعتداءات. ورغم كل هذه القرائن والأدلة الرسمية الأمريكية بقيت المملكة قيادة ومجتمعاً متهمان بذنوب لم يقترفوها، وخاصة من قبل أجهزة الأعلام الأمريكية والعناصر المعادية للمملكة والعرب في مؤسسات صناعة القرار ومؤسسات البحوث والتفكير الأمريكية.
وجاءت رحلة القيادة السعودية الثانية الى قمة كروفرت بوجه جديد. فقد حمل ولي العهد في رحلته الى أمريكا قائمة طويلة من انتصارات المملكة على الإرهاب المحلي والدولي. فخلال الفترة الفاصلة بين القمتين خضعت المملكة وشعبها لامتحان عسير في مواجهه تجربة الإرهاب ونشاطات الجماعات الإرهابية. وخاضت الدولة حربا شعواء وقاسية سقط خلالها مئات من شبابها ضحايا لعمليات إرهابية استهدفت الوطن والمواطن وحرقت الأخضر واليابس. ولكن موقف القيادة السعودية اليوم جاء ليقول أن الموقف الأمريكي لم يكن يوماً عادلا أو منصفاً. فالتحدي الذي واجهته المملكة لم يكن يقل عن التحدي الذي واجهته الولايات المتحدة إن لم يتفوق عليه، رغم اختلاف طبيعة التهديد. فالجماعات المتطرفة كانت تهدف الى تخريب البلد بكاملها وليس مهاجمة موقع هنا أو هناك، كان هدفها تهديد أمن واستقرار الدولة والمجتمع وإلقاء البلاد في براثن الفوضى والانفلات الأمني. ولكن السعودية لم تلق باللائمة على أحد، وتحملت المسؤولية كاملة ونجحت في الامتحان.
وكانت القضية الفلسطينية تمثل القضية الاساسية الثانية المشتركة بين القمتين. وسيدرك كل مُطلع على تاريخ مسيرة التبادل الدبلوماسي بين قيادات الدولتين، أن القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني كانت دوماً من القضايا المحورية للجانب السعودي في أي حوار مع القيادات الأمريكية. وليس بالضرورة ان هذا الأمر ما كان يرغب فيه الجانب الأمريكي الذي حاول دوما تجنب السماح للقيادات السعودية بوضع الملف الفلسطيني على رأس القضايا العالقة بين الدولتين ولكن دون جدوى. فمن الحقائق التي لا يستطيع التاريخ إنكارها أن أول قمة أمريكية – سعودية جرت عام 1945 بين الملك الراحل عبد العزيز آل سعود والرئيس الأمريكي روزفلت كانت قضية الهجرة اليهودية إلى الأراضي الفلسطينية موضوعاً أساسياً قام الملك الراحل بفرضه عنوه على طاولة المفاوضات مع الرئيس الأمريكي رغم تردد الأخير ومحاولته تخفيف غضب العاهل السعودي. وهذا حدث قبل سنوات من قيام دولة إسرائيل حين استشعر العرب بالخطر القادم من وعد بلفور ومن تشجيع الهجرة اليهودية وعمليات الاستيطان في الأراضي الفلسطينية.
وجاءت الحالة العراقية كعنصر جديد في المحادثات الثنائية. فلقاء القمة الثاني مع ولي العهد السعودي جاء على أثر تبخر الحلم أو الأحلام الأمريكية في العراق. حيث جاء على خلفية فشل وإخفاق كبير تعاني منه القوة العسكرية والدبلوماسية الأمريكية في مأزقها العراقي. فالسعودية عام 2005 لم تعد (الهدف القادم) للانتصار الأمريكي في العراق.
فقيادة الولايات المتحدة اليوم تبحث عن عون وصديق يساعدها على الخروج من مأزقها العميق والمكلف في رحلة المغامرة العراقية. والقيادة الإيرانية تقف في الظل وكلها أمل وترقب انتظاراً لقطف ثمار النجاح العسكري الأمريكي في إزالة النظام العراقي، وثمار الفشل الأمريكي السياسي، والعجز في تحويل وترجمة الانتصار العسكري إلى انتصار سياسي. تحاول الولايات المتحدة اليوم البحث عن أصدقاء حاولت نبذهم في خضم سوء حساباتها وكنتيجة لهيمنه النظرة القصيرة المدى لصناع القرار فيها. يحاول صناع القرار الأمريكي اليوم إعادة الاعتراف والإقرار بأن المملكة العربية السعودية قوة إقليمية لا يمكن الاستغناء عنها. وأن التوازانات الاقليمية لا يمكن المحافظة على استمرارها دون إقرار دور المملكة المحوري في استراتيجية المنطقة.
ولم تكن الملفات الاقتصادية والنفطية بعيدة عن التداول والمناقشة. فقد جاءت القمة الثانية بتأكيد حدوث تحول جذري وإيجابي في الموقف الأمريكي اتجاه طلب المملكة الانضمام إلى عضوية منظمة التجارة الدولية، وهي قضية استمرت تحت البحث والمداولة لسنوات طويلة. أخيراً تم الاتفاق على جدول زمني محدد لا تتجاوز مدته نهاية عام 2005 يؤهل المملكة لتكون عضواً كاملاً في المنظمة. وجاء هذا التطور نتيجة اتفاق سعودي – أمريكي قاد إلى التوصل لاتفاق تجاري بين الدولتين حسم من خلاله القضايا العالقة والتي كانت تعطل حصول المملكة على الدعم الأمريكي لطلب عضويتها في المنظمة. والقضية الثانية والمحورية في الملف الاقتصادي كانت قضية مستقبل أسعار النفط وضمان التوريد النفطي للأسواق العالمية. وهنا قام الجانب السعودي بالتأكيد على حرص المملكة على إيجاد الوسائل والآليات المطلوبة للسيطرة على التصاعد الكبير في أسعار النفط، والتعهد بمحاولة زيادة إنتاج المملكة النفطي من أجل تلبية ظاهرة الطلب العالمي المتزايد على هذه المادة الاستراتيجية. وعبر هذا التعهد التزام المملكة وحرصها على استقرار الاقتصاد العالمي.
لذا فمن الممكن القول أنه وخلال الفترة الفاصلة بين القمتين حدثت تطورات جذرية في الوضع السعودي الداخلي وفي الوضع الإقليمي، وفي الوضع الدولي، مما سيكون له التأثير الكبير على سير وتطور العلاقات الأمريكية السعودية. وهذه التغيرات والتطورات قادت إلى إحداث تغيرات أساسية في موضع ومكانه المملكة الاستراتيجية خاصة في بعد علاقاتها مع الولايات المتحدة. فالتطورات الجذرية التي حدثت في الملف العراقي والملف النووي الإيراني، وملف سوق النفط، وملف مكافحة الإرهاب، قد غيرت موازين القوى في العلاقات الأمريكية السعودية أمست واشنطن أحوج من أي وقت مضى لعلاقات جيدة ومتينة مع المملكة، بل من ممكن القول أن الولايات المتحدة اليوم بحاجة ماسة لعلاقات جيدة مع المملكة العربية السعودية أكثر بكثير من حاجة المملكة لعلاقات جيدة مع واشنطن. دون شك أن هناك مصلحة مشتركة لإعادة بناء حالة من التحالف القائم على المصالح المشتركة وعلى الاحترام المتبادل، ولكن في موازين الحاجات والأولويات تبدو حاجة الولايات المتحدة لأصدقاء أقوياء ومتنفذون في منطقة الخليج والعالم العربي كالمملكة العربية السعودية أمر طارئ لا مناص منه إن رغب صناع القرار في واشنطن المحافظة على مصالح الدولة الاستراتيجية.