تحتاج منطقة الخليج إلى المزيد من التدخل الدولي في شؤونها، وليس إلى قدر أقل من التدخل، فإذا استمر مجرى الأمور على المنوال الحالي مع استمرار العنف غير المكبوح جماحه في العراق والتهديد الإيراني بجـرّ المنطقة نحو شبح نووي، فسوف تشهد منطقة الخليج قريباً كارثة جديدة. وتبدو الولايات المتحدة الأمريكية غير قادرة على منع وقوع هذه الكارثة أو وضع استراتيجية لحل المعضلات الأمنية الراهنة. ولا تبدو المنطقة في الوقت ذاته جاهزة لتوفير أمنها الذاتي أو الرؤية الضرورية بهذا الشأن. وهكذا، فإن تدويلاً أكثر عمقاً لقضايا الخليج هو الذي يمكن أن يمنع مثل هذا التدهور من الحدوث عملياً.
لقد ظلت الاستراتيجية القائمة حتى الآن بخصوص الأمن في الخليج تستند إلى الاعتماد على قوة كبيرة خارجية واحدة، هي الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك بهدف الإبقاء على الوضع القائم وتنظيم العلاقات بين الدول في هذا الإقليم وتوفير أبسط قدر ممكن من الأمن. وفي ظل العلاقة العدائية في أغلب الأحيان بين العراق وإيران، فقد وجدت دول الخليج العربية أن أمن دولها وأنظمتها يزداد ارتباطاً بالحماية والقوة العسكرية للولايات المتحدة. ولم يكن سبب ذلك بالضرورة أن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تتمكن من حل جميع المشكلات الصعبة الراهنة، بل لأن واشنطن سوف تمنع على الأقل مصدري التهديد الرئيسيين للاستقرار في المنطقة، وهما إيران والعراق من تنفيذ خططهما وتحقيق تصوراتهما. وأصبحت الولايات المتحدة بذلك قوة إقليمية، وجذّرت نفسها بقوة وصلابة في الجدال الاستراتيجي في المنطقة.
غير أنه تبين أن الاعتماد واسع النطاق على الولايات المتحدة الأمريكية ليس هو الرد المطلوب لتحقيق أمن دائم في منطقة الخليج، فقد اعتمدت الولايات المتحدة في سبعينات القرن الماضي سياسة الركيزتين بخصوص موضوع الأمن الإقليمي في الخليج، واعتمدت في تلك السياسة على المملكة العربية السعودية وإيران. ثم انتقلت في عقد الثمانينات إلى سياسة توازن القوة بتعزيز قوة العراق في مواجهة التيار الثوري في إيران.
وعمدت واشنطن في عقد التسعينات إلى سياسة الاحتواء المزدوج، ووصلت أخيراً إلى قرار التدخل المباشر عبر غزوها العراق في عام 2003. لكن أياً من هذه السياسات والخطوات لم تفلح في أن تجلب إلى منطقة الخليج حتى ما يشبه مناخاً أمنياً أفضل، وقد كانت كل سياسة ببساطة تغرس بذور الأزمة التالية.
واتضحت نتائج هذه السياسات التي اتبعتها الولايات المتحدة في ظل الأحداث الراهنة في العراق، والتي أسفر عنها سوء الإدارة الأمريكية المدمر في الداخل وعلى المستوى الإقليمي في مرحلة ما بعد صدام حسين. وبهذا، فإن منطقة الخليج تجد نفسها اليوم في مواجهة صراع رئيسي آخر، قوامه الخلاف الشديد حول البرنامج النووي الإيراني، وهو وضع يجسد فقط القضية الأكثر وضوحاً، والتي تهدد التوازن غير المستقر في المنطقة في الوقت الراهن. ويُعتـبـَـر التهديد المحتمل من انتشار الصراع الطائفي خارج العراق خطراً رئيسياً آخر بالمستوى ذاته.
ينادي أحد التوجهات المطروحة من أجل التغلب على هذه الأزمة الشديدة بانسحاب القوات الأجنبية من منطقة الخليج. وينظر أصحاب هذا الرأي إليه على أنه وسيلة لإتاحة الفرصة أمام المنطقة للتعامل بصورة مستقلة مع مشكلاتها الأمنية الموروثة، حيث إن تدخل القوى الأجنبية، وخصوصاً الولايات المتحدة التي ليست وحدها في ذلك التدخل، أدى فقط إلى تعقيد العلاقات الإقليمية البيئية، وحال بذلك دون تمكين دول المنطقة من صياغة آلية محلية لمنع الصراعات وبناء الثقة بينها. وتأتي إيران والعراق (في مرحلة ما بعد صدام حسين) في مقدمة الداعين إلى هذه الفكرة، لكن دول مجلس التعاون الخليجي أوضحت أيضاً أكثر من مرة أن التوصل إلى نظام أمني خليجي دائم يمكن أن ينجح في حالة واحدة، وهي استناده إلى مبادرة إقليمية بعيداً عن التدخل الخارجي. لكن إخراج القوات الأجنبية من منطقة الخليج لن يجعل المنطقة تقترب أكثر في أي حال من أي نوع من الاستقرار، فدول الخليج لا تمارس أي نوع ولا تشترك في أي إطار من التعاون الأمني المتبادل. وهي متأثرة في ذلك بحالة الريبة القائمة بين دول الخليج الساحلية، ولا يقتصر هذا الحال على مياه الخليج، بل يشمل في الوقت ذاته الدول القائمة في شبه الجزيرة العربية (ومن الأمثلة على ذلك استمرار النـزاعات حول القضايا الحدودية). وهذا الوضع من عدم الثقة هو السبب الرئيسي الذي يبقي على جذوة التوترات الإقليمية مشتعلة، ويجعل في الوقت ذاته المنطقة غير قادرة على وضع وتأسيس رؤية خاصة بمستقبلها. وإذا أخذنا المعطيات الحالية في الاعتبار وتركنا المنطقة تبتكر أدواتها الخاصة، فسوف نجد أن إنجاز هيكل أمني دائم ينبع من داخلها لن يكون ببساطة أمراً وارداًً.
وإذا كان الحل الإقليمي أو الآتي عبر هيمنة أجنبية لا يستطيع تقديم الرد على المشكلات الخطرة التي تواجهها منطقة الخليج، فإن الإمكانية الوحيدة هي تعميق زيادة تدخل الأطراف الدولية الأخرى في شؤون المنطقة. ويكون الجواب بذلك تدخلاً أجنبياً أكثر، وليس أقل. ويجب أن يزداد التدخل والمشاركة الخارجية في قضايا الخليج من جانب منطقتين تحديداً، وهما أوروبا وآسيا.
فهاتان المنطقتان لديهما علاقة مباشرة بالوضع الأمني الإقليمي في منطقة الخليج بحكم قربهما الجغرافي منها، حيث تعتمدان عليها في التزود بموارد الطاقة (وخصوصاً آسيا التي تعتمد كثيراً على الخليج في احتياجاتها من الطاقة)، ناهيك عن أهمية هذه المنطقة في التعامل مع القضايا الأمنية الإقليمية ذات الاهتمام المشترك، مثل انتشار الجريمة والمخدرات والإرهاب. ومن شأن أي أحداث تقع في هذا الجزء من العالم أن تكون لها آثار داخلية بالنسبة لآسيا وأوروبا، وذلك بالمفهومين المباشر وغير المباشر.
وترى أوروبا بشكل خاص أن توجه العملية السياسية العراقية في ما يتعلق بالطموحات الكردية ستكون له انعكاسات على تركيا العضو في حلف شمالي الأطلسي والمرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي. وسوف يزيد استمرار التهديدات وحالة عدم الاستقرار من ظاهرة تدفق الهجرة نحو أوروبا، ويفاقم الضغوط على الاستقرار الاجتماعي في كل دولة من دول الاتحاد الأوروبي. يُضاف إلى ذلك أن برنامج الصواريخ الإيراني يزداد تقدماً وتطوراً، وهو يتمتع بالفعل بالقدرة على الوصول إلى أهداف داخل أوروبا، وهذه ليست سوى بعض الأمثلة الواضحة. وحقيقة الأمر هي أن أوروبا لا تستطيع القبول أكثر بترك الخليج تحت هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، ثم تدّعي بعد ذلك أن الأمور على ما يُرام، أو أن أمريكا سوف تجد وسيلة للتعامل مع الوضع الراهن. فالولايات المتحدة لا تستطيع إدارة المشهد الإقليمي وحدها، وهي حقيقة تجلت بوضوح في الفترات الأخيرة.
ولدى آسيا نصيب تتعامل معه وتتمسك به، وذلك في ظل حاجتها إلى تأمين خطوط الإمدادات إلى منطقة الخليج وتلبية متطلبات ازدهارها الاقتصادي المرتبط باستقرار هذه المنطقة. وهذه الحصة مستمرة في الازدياد مع نمو القوة العاملة الآسيوية في الخليج بمعدلات عالية ونمو حجم التجارة إلى الضعف. وسوف يحظى البعدان الأمني والسياسي بدرجة أعلى من الأهمية، وذلك في سبيل الإبقاء على هذه العلاقات مع الخليج. وتتوافق مع هذا السياق زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز عاهل المملكة العربية السعودية إلى الهند والصين وماليزيا وباكستان في يناير 2006.
وبالإضافة إلى التبعات الأمنية التي تواجهها كل من أوروبا وآسيا، فإن لديهما ما يمكن أن تقدماه إلى منطقة الخليج. فأوروبا قارة حافلة بالمؤسسات المتشابكة وبنظام قائم على التعاون متعدد الأطراف. والخلاصة من ذلك هي أن أوروبا يُنظَر إليها من خلال أكثر من زاوية على أنها النموذج المفضل بالنسبة لدول الخليج. ويمكن لحلف شمالي الأطلسي مثلاً أن يلعب دوراً مهماً في الترتيبات الأمنية المستقبلية، ولا سيما ضمن نطاق فهمه للمناخ الأمني المتغير.
وتُعتـبـَـر آسيا مهمة أيضاً، لأن آلياتها الأمنية مثل (الآسيان) ومنظمة اتحاد دول جنوب شرق آسيا والملتقى الإقليمي الآسيوي (ARF) أثبتت نجاعتها في تشجيع التعاون وتبديد أجواء عدم الثقة الإقليمية. وفضلاً عن ذلك، فإنه يُنظَر في أغلب الأحيان إلى السياسات الآسيوية على أنها منفصلة وأكثر استقلالاً عن سياسات الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يعطي دول آسيا درجة أعلى من المصداقية. وتنظر دول آسيوية مثل الصين والهند إلى علاقاتها الناشئة مع منطقة الخليج بمثابة فرصة للعب دور استراتيجي أكبر على الصعيد العالمي وللفوز بطريقة غير مباشرة بدرجة من الاعتراف بأهميتها من جانب الولايات المتحدة. ومن المهم في هذا الإطار اعتبار أن هذه القوى الآسيوية تتمتع بفاعلية أكبر في التعامل مع دول مثل إيران التي تعتبر أن آفاقها المستقبلية تتركز في آسيا. وبناءً على ذلك، فإن آسيا ودولاً مثل الصين والهند وروسيا يمكن أن يكون لديها مفتاح نزع فتيل الأزمة الراهنة مع إيران بشأن برنامجها النووي.
إن للأمن الإقليمي في منطقة الخليج انعكاساته على جميع أنحاء العالم نظراً لموقعها الاستراتيجي ودورها المركزي في أسواق الطاقة. وأمن هذه المنطقة ليس حكراً على قوة واحدة، كما أن دولها ليست قادرة على توفير أمنها الخاص. وسوف يكون من غير المنطقي في ضوء أهمية الخليج توقع أن تتخذ القوى الخارجية موقفاً لا مبالياً إزاء ما يجري في المنطقة. ولهذا، فإن مناطق أخرى مثل آسيا وأوروبا يجب أن يكون لها صوتها في هذا السياق وفي ما يخص المسائل الأمنية الخليجية الملحة. ويمكن أن يكون مثل هذا التدويل مهماً جداً في تقرير ما إذا كان صراع رابع في الخليج سوف يندلع أم لا؟