الصراعات العالمية وتغير موازين القوى ألقت بظلالها على المنطقة العربية منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، وبدت واضحة وجلية بعد ذلك عبر أحداث كثيرة، وإن كان الإعداد لذلك قد بدأ منذ التخطيط لقيام إسرائيل الذي كان بالتوازي مع العمل على تفكيك المنطقة العربية، ولعل ما رشح عن اتفاقية سايكس ـ بيكو، ووعد بلفور يؤكد ذلك بما لا يدع مجالًا للشك، وإن كانت هناك مخططات أخرى مازالت سرية ولم يتم الكشف عنها، وهذه المخططات تطفو على السطح أحيانًا وتتراجع أحيانًا أخرى، لكن في كل الأحوال مستمرة ولن تنتهي بغض النظر عما يتردد عن نظرية المؤامرة أحيانًا والتي يشير إليها البعض في مراحل تاريخية معينة بدون قصد، أو بقصد لتمرير مخططات حسب الولاءات.
لقد أكدت الأحداث منذ حرب الخليج الأولى (1980ـ 1988م) وحرب الخليج الثانية (1990ـ 1991م) ثم سقوط نظام صدام حسين عام 2003م، أن هذه الأحداث ليست مجرد صدفة، بل كانت بتخطيط دقيق نجح الغرب في تنفيذها عبر أدوات تم توظيفها جيدًا سواء بإنجاح الثورة الإيرانية عام 1979م، أو عبر الغزو العراقي للكويت وما ترتب عليه، إلى أن جاءت أحداث ما يسمى بثورات الربيع العربي التي كانت مؤامرة خارجية على المنطقة ،غذتها سياسات داخلية رعناء، وحكومات فاشلة ساعدت على انسياق الشعوب وراء شعارات مصنوعة في الخارج بدقة متناهية لتبدو وكأنها تعبر عن مطالب الشعوب في تلك المرحلة، وما حدث بعد ذلك يؤكد أن هذه الثورات كانت تهدف إلى تصفية الجيوش العربية وتفريغ دولها من قوتها الداخلية لتنفيذ المخططات الخارجية بسهولة ودون حروب عسكرية مكلفة.
وجاءت أحداث السابع من أكتوبر عام 2023م، في غزة وما ترتب عليها، ثم عودة الرئيس الأمريكي ترامب إلى البيت الأبيض في يناير من العام الحالي لتكشف الوجه الحقيقي للسياسة الأمريكية ونوايا المحافظون الجدد في الولايات المتحدة، وخطط إسرائيل التي تسير على تنفيذها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ، هذه الأحداث كشفت أن إسرائيل لن تتخلى عن طموح ومزاعم إقامة إسرائيل الكبرى والتي بدأت بتفريغ الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة من سكانها الفلسطينيين بالقتل والتشريد، ثم التوسع خارج الحدود الفلسطينية كلما سمحت لها الظروف، ولذلك بعد أن دمرت قطاع غزة اتجهت إلى مسرحية سمجة لتهجير ما تبقى من سكانها بمزاعم همجية وغير عقلانية، وفي المقابل أكدت السياسة الأمريكية بعد وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض أنها لا تعترف بقوانين دولية، ولا مواثيق ومعاهدات، ولا بمنظمات دولية، أو تحالفات هي ابرمتها من قبل، ولا حتى بحقوق الجوار ، بل تعلي من قيمة المصلحة والمنفعة الذاتية وتضعها بطريقة فجة فوق كل اعتبار ؛ وما حدث ومازال يحدث من إدارة ترامب حيال شركاء الولايات المتحدة في أوروبا، وجاراتها كندا والمكسيك وبنما، وامتدت حتى جزر جرينلاند، يؤكد أن السياسة الأمريكية خرجت عن سياقها التاريخي، وفلتت من عقالها، وخرجت عن أصول الممارسة السياسية، وانقلبت على ذاتها بالتخلي عن الحلفاء والسعي إلى صداقة من كانوا أعداءً كما هو الحال تجاه الاتحاد الأوروبي وروسيا.
وما يهمنا هنا هو تأثير ذلك على المنطقة العربية التي يجب أن تأخذ الدروس من العلاقات الأمريكية ـ الأوروبية وشركاء حلف "الناتو" وتوجه أوروبا نحو الاستقلال الدفاعي والاقتصادي والتبادل التجاري بعيدًا عن أمريكا بعد أن تحولت الأخيرة إلى شريك غير موثوق به، وغير مضمون التوجهات، وهنا من الضروري أن تتجه الدول العربية إلى الداخل والخارج معًا .. فإلى الداخل بإقرار حزمة سياسات اقتصادية تضع التكامل هدفًا أسمى لتكون الدول العربية قوة اقتصادية معتبرة بين التكتلات الاقتصادية العالمية، وهذا التكامل يجب أن يقوم على المزايا النسبية وتنوع الموارد والإمكانات، وأن تتجه نحو توطين الصناعة بكل أنواعها ؛ المدنية والعسكرية، وتكثيف الاستثمارات والتجارة البينية العربية، وفيما يتعلق بالخارج يجب على الدول العربية الاستفادة من المنافسة العالمية بطرق أكثر برجماتية لتحقيق مصالحها دون اعتبارات لعلاقات وهمية، أو عاطفية، أو أيدولوجية ، لذلك يجب تقوية صلاتها مع دول الاتحاد الأوروبي التي تتجه نحو التحول بعيدًا عن تبعيتها لواشنطن، وأن تسفيد من العلاقات العربية المتنامية مع الصين وروسيا وغيرهما من الاقتصادات الصاعدة في تجمع البريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون ومن توجه هذه التكتلات في تنويع سلال عملاتها المالية وتنويع مصادر السلاح والتكنولوجيا وتطوير الصناعات المتقدمة التي تعتمد عليها اقتصادات المعرفة والذكاء الاصطناعي بعد أن تأكد أنه لا شراكات دائمة ولا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة في الوقت الحالي، وحتى تجد لها مكانًا لائقًا في النظام العالمي الجديد.