إن العولمة (Globalization) لفظ جديد لمضامين قديمة؛ إذ إنه مصطلح جديد ظهر منذ بداية التسعينات من القرن الماضي؛ حيث عملت الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية على نشره إعلامياً. على الرغم من أن مصطلح العولمة يعد مصطلحاً جديداً إلا أن العولمة ظاهرة قديمة فهي لم تبدأ بصعود الليبرالية الرأسمالية، وانهيار الشيوعية والاتحاد السوفييتي، ولا حتى بتطور تقنيات الاتصالات والمعلوماتية، ولكن حدثت تحولات اقتصادية كبرى في الحقبة التاتشرية (مارغريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا السابقة) في بريطانيا والريغانية (الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان ) في الولايات المتحدة الأمريكية، وتزامنت مع أحداث عالمية كبرى جعلت العولمة مصطلحاً يعبر عن انتصار الليبرالية العالمية الاقتصادية.
يعتبر العالم الكندي مارشال ماك لوهان، أستاذ الإعلاميات السوسيولوجية في جامعة تورنتو، أول من أشار إلى مصطلح (الكونية أو العولمة) عندما صاغ في نهاية عقد التسعينات مفهوم القرية الكونية (Global Village).
وبات مفهوم العولمة هاجساً ملحاً في كافة السياسات الإقليمية والدولية، وأصبح مفهوماً أيديولوجياً أكثر من كونه مجرد نظام اقتصادي أو تجاري، ولئن كانت العولمة قد بدأت كظاهرة اقتصادية إلا أنها سرعان ما تحولت إلى نظام دولي يشمل السياسي والإعلامي والثقافي، ولم يعد بالإمكان الحديث عن العولمة من جانب واحد، وقد اختلفت الآراء حول العولمة، فمنهم من يرى أنها سبب للرخاء والرفاهية، في حين ينظر إليها الآخرون على أنها السبيل للتخريب والضياع.
مفهوم العولمة
من الصعوبة بمكان حصر تعريفات العولمة وتفسيراتها؛ إذ إنها عملياً ظاهرة مستمرة تكشف كل يوم عن وجه جديد من وجوهها المتعددة، لكننا سنقوم بسرد بعض التعريفات التي قيلت بخصوص تعريف العولمة، لكن قبل عرضنا لهذه التعريفات نحاول توضيع كلمة العولمة من الناحية اللغوية.
العولمة لغة
العولمة لغة مصدر على وزن (فوعلة) مشتق من كلمة (العالَم)، كما يقال (قولبة) اشتقاقاً من كلمة (قَالَب)، وقيل: مشتق من العِلم، وهي تعني إزالة الحواجز والمسافات بين الشعوب بعضها بعضاً، وبين الأوطان بعضها بعضاً، وبين الثقافات بعضها بعضاً.
ويقول عبدالصبور شاهين (عضو مجمع اللغة العربية)، (فأماالعولمةمصدراً فقد جاءتتوليداً من كلمة عالم ونفترض لها فعلاً هو عولم يعولم عولمة بطريقة التوليدالقياسي...).
وفي اللغة الإنجليزية فإن مصطلح العولمة يعود في الأصل إلى الكلمة الإنجليزية (Global) والتي تعني دولي أو كروي أو عالمي، أما المصطلح الإنجليزي (Globalization) - الذي يقابله في الفرنسية مصطلح Mondialisation- فيترجم إلى الكونية أو الكوكبة أو العولمة، لكن الغلبة والانتشار كانت لكلمة العولمة، وهي تعني جعل العالم عالماً واحداً، موجهاً توجيهاً واحداً في إطار حضارة واحدة.
إذاً فالعولمة لغة تعني (جعل الشيء عالمياً) أو تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليشمل العالم كله.
العولمة اصطلاحاً
لقد تعددت التعريفات التي قيلت بشأن العولمة، من هذه التعريفات ما يلي:
1- التبادل الثقافي والتجاري وغيرها للتقارب والاستفادة المتبادلة.
2- التداخل الواضح لأمور الاقتصاد والاجتماع والسياسة والسلوك من دون اعتداد يذكر بالحدود السياسية.
3- مرحلة جديدة من مراحل بروز وتطور الحداثة تتكثف فيها العلاقات الاجتماعية على الصعيد العالمي؛ حيث يحدث تلاحم غير قابل للفصل بين الداخل والخارج، ويتم فيها ربط المحلي والعالمي بروابط اقتصادية وثقافية وسياسية وإنسانية.
4- إخضاع العالم لقوانين مشتركة تضع حداً فيه لكل أنواع السيادة.
5- سيادة النمط الغربي فى الثقافة والاقتصاد والحكم والسياسة فى المجتمعات البشرية كلها.
6- توجه ودعوة إلى صياغة حياة الناس لدى كافة الأمم ومختلف الدول وفق أساليب ومناهج موحدة بين البشر وإضعاف الأساليب والمناهج الخاصة.
7- عرفها الصندوق الدولي بأنها (التعاون الاقتصادي المتنامي لمجموع دول العالموالذي يحتّمه ازدياد حجم التعامل بالسلع والخدمات وتنوعها عبر الحدود بالإضافة إلىرؤوس الأموال الدولية والانتشار المتسارع للتقنية في أرجاء العالم كله).
ومن مجموع التعريفات السابقة نرى أن العولمة هي العملية التي من خلالها تصبح شعوب العالم متصلة ببعضها البعض في كل أوجه حياتها من خلال حركة وانتقال الأفراد ورؤوس الأموال والبضائع والسلع ووسائل الإنتاج والمعلومات والثقافات والسلوك عبر حدود الدول وإنشاء الشركات الاستثمارية وتملك العقارات في دول أخرى بحرية تامة من دون قيود أو حواجز.
مجالات العولمة:
تعتبر العولمة ظاهرة متعددة الأوجه، وتتضمن عدة جوانب منها جوانب سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، ولذا تظهر العولمة في مجالات عديدة من مجالات الحياة، وأهم هذه المجالات ما يلي:
* العولمة الاقتصادية: وهي نظام يشير إلى إزالة العوائق الوطنية الاقتصادية ونشر التكنولوجيا والتجارة وأنشطة الإنتاج وزيادة قوة الشركات عابرة الحدود الوطنية والمؤسسات المالية الدولية وتحرير الأسواق، وإلغاء القيود عليها وخصخصة الأصول وزيادة التعاملات في النقد الأجنبي، وتكامل أسواق رأس المال, واستحداث أدوات مالية جديدة, وتنتج عن ذلك زيادة اعتماد الأسواق.
* العولمة الاجتماعية: هي الحركةالاجتماعية التي تتضمن انكماش البعدين الزماني والمكاني، مما يجعل العالميبدو صغيراً إلى حد يُحتّم على البشر التقارب مع بعضهم بعضاً).
* العولمة الثقافية: وتعني صهر كل الثقافات في ثقافة واحدة.
مخاطر العولمة
لقد أجمعت معظم الكتابات عن نظام العولمة على أن الخطر الأكبر الذي تنطوي عليه العولمة، هو محو الهوية الثقافية للشعوب، وطمس الخصوصيات الحضارية للأمم، ومن أهم هذه المخاطر –على سبيل المثال لا الحصر- ما يلي:
1- ينتج عن العولمة الاقتصادية العديد من المخاطر والآثار الضارة منها: دفع الدول النامية إلى تبني سياسات معينة مثل إلغاء أو تخفيض الرسوم الجمركية، وتبني سياسة الخصخصة، وما ينتج عنها من القضاء على دور الدولة الوطنية، وإفساح المجال أمام القطاع الخاص الذي يهدف إلى الربح في المقام الأول من دون الالتفات إلى أي اعتبارات أخرى، وقد تؤدي العولمة الاقتصادية أيضاً إلى الانتقاص من سيادة الدولة بالمفهوم القانوني والسياسيللسيادة، فعلى سبيل المثال حينما يُفرض قانون اقتصادي معينكاتفاقية التجارة الحرة المعروفة بــ (الغات) فإنه يفرض على الدولة الخضوع للقانون وفتحالأبواب لعبور المنتجات والسلع حتى إن كانفي ذلك إغراق للسوق وتهديد للتجارة الداخليةوالسلع المحلية.
2- تؤدي العولمة إلى تفاقم التفاوت في توزيع الثروة بين المواطنين، فينقسم المجتمع إلى طبقتين: طبقة الأغنياء وطبقة الفقراء. وفي هذا الصدد يحذر علماء الإصلاح الاجتماعي من أن أسوأ ما يقع على الأمم هو انقسام مجتمعها إلى طبقات الأغنياء والفقراء؛ إذ إن تكدس الأموال في أيدي قلة من الناس قد يسبب تسلطهم وتحكمهم في مصير الكثرة، وتسخيرها لخدمتهم بغير حق.
3- تعتبر العولمة وسيلة لفرض رؤية القوي على الضعيف، وهو ما يطلق عليها اصطلاحاً باسم (الهيمنة)، والمثال الواضح في هذا الشأن هو أنأمريكا دائماً ما تسعى إلى فرض هيمنتها على العالم باسمالعولمة، فهي تضغطعلى المنظمات الدوليةلتنفيذ قراراتها، وإذا لم تذعن خرجت عنقراراتها وتجاوزتها كما فعلت في حربالعراق حينما ذهبت للحرب من دون تفويض من مجلسالأمن الذي رفض إصدار تفويض يعطي لأمريكاالحق باستخدام القوة ضد العراق.
4- تؤثر العولمة في الجوانب الأخلاقية والاجتماعية، وذلك من خلال الترويج للإباحية، والاختلاط، وإشاعة الجنس وثقافة العنف التي مِن شأنها تنشئة أجيال كاملة تؤمن بالعنف كأسلوب للحياة وظاهرة عادية وطبيعية، الأمر الذي يترتب عليه انتشار الرذيلة والجريمة والعنف في المجتمعات.
فوائد العولمة
على الرغم من المخاطر التي تنجم عن العولمة إلا أننا يمكننا تحويل هذه المخاطر إلى مكاسب، فعلى سبيل المثال في مجال الإعلام يمكننا الاستفادة من الفضائيات في عمل تغطية إعلامية واسعة للأحداث التي تدور في العالم العربي ولا سيما تلك الأحداث التي تدور في فلسطين، ولعلنا لاحظنا في الآونة الأخيرة دور الإعلام الذي استطاع بكفاءة إبراز العدوان الإسرائيلي على أسطول الحرية وإظهار الوجه الحقيقي لإسرائيل أمام العالم.
وفي مجال الاقتصاد يمكننا الاستفادة من العولمة، حيث يمكننا تحسين توزيع الموارد الاقتصادية واستخدامها الأمثل، وزيادة الكفاءة الإنتاجية من خلال زيادة المنافسة من الشركات والاستفادة من التكنولوجيا الحديثة، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة معدل النمو الاقتصادي.
وفي المجال الثقافي والفكري والاجتماعي يمكننا عمل حملات مضادة لتأثيرات الإعلام الغربي والأمريكي، وذلك من خلال الدعوات الدينية والأخلاقية المضادة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نستطيع أن نحدث ما يسمى (عولمة اللغة العربية) لا سيما في أوساط المسلمين من غير العرب، وذلك من خلال ضخ مواد علمية وشرعية وقرآنية مكتوبة أو مسموعة بحيث يعتاد المسلمون من غير العرب قراءة هذه المواد وسماعها مما ينعش حيوية اللغة العربية.
وفي النهاية نشير إلى أن العولمة باتت أمراً واقعاً لا مفر منه، وفي ذلك يقول مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا سابقاً في كتابه (العولمة والعلاقات الجديدة) (إن العولمة، وعالماً بلا حدود قد أصبحا واقعاً سلفاً، فبات لا معنى للحدود في مجال نقل المعلومات والاتصالات والتجارة الإلكترونية، ولكنكون العولمة صارت حقيقة واقعة لا يمكن معارضتها لا يعني ذلك أن نبقى منعزلينمتفرجين لمشهد تدميرنا من النهابين).
إذاً فالحل ليس في مخاصمة العولمة أو أن ندير لها ظهورنا أو أن نشجبها بكل قبيح، لكن الحل يكون من خلال السعي نحو تعظيم الاستفادة من العولمة، وتقليل المخاطر الناجمة عنها، ونرى أن من أهم هذه الحلول ما يلي:
1- إقامة تكتل اقتصادي إقليمي عربي إسلامي قادر على المنافسة، مع تجريده منالجوانب السياسية بقدر الإمكان، لأن العولمة لا تسمح للاقتصاديات المحلية بأن تحيا مستقلة بنفسهابغير ذلك.
2- العمل على تركيز رأس المال العربي والإسلامي في البلاد العربية والإسلامية، وذلك من خلال توفير البيئة الملائمة للاستثمار والمناخ الصحي الذي يجذب رأس المال.
3- عدم الاقتصار على التعامل مع شريك واحد كالولايات المتحدة الأمريكية مثلاً، بل يجب تنويع الشراكة مع الاتحاد الأوروبي ودول آسيا.
4- العمل على تعميق الوعي الديني والخلقي، والتركيز على التربية الدينية والأخلاقية للحماية من تيار الشهوات الجارف الذي تغذيه وتدفع به فكرة العولمة.
5- العمل على تفعيل كل الجهود التي تقرب الأمة، حكومات وشعوباً، من بعضها، وتقرب الحكام من الشعوب والشعوب من الحكام، وتصلح بين السياسة والثقافة، والحكام والعلماء، لتعود هذه الأمة إلى مجدها من جديد.