إن العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي ومحيطها العربي علاقات قدرية، تاريخية، ومصيرية لا يمكن اختزالها بمفردات لغوية أو جمل وصفية، ولا تكتمل منظومة العلاقات العربية إلا بها والبناء عليها في العمل العربي المشترك. فالجزيرة العربية بالنسبة للوطن العربي الكبير بمثابة القلب من الجسد، والدول العربية الأخرى للجزيرة العربية بمثابة بقية الجوارح للجسد العربي، فلا يمكن أن يعيش الجسد من دون القلب، كما لا يستطيع الجسد العيش إلا بالجوارح. وغني عن البيان توضيح مخاطر الفرقة بين أعضاء الجسد الواحد وما يمكن أن يتعرض إليه من أخطار مهلكة في حالة تعرضه للأمراض الفتاكة التي تفصل أعضاءه عن بعضها بعضاً.
إذا كان ذلك هو منطق السياق التاريخي للعلاقات الخليجية ــ العربية ، فإن المصير المستقبلي للوطن العربي مرهون بقوة هذه العلاقة وزيادة أواصرها في ظل الاندماجات الكبرى، ومتطلبات العولمة وتوابعها الاقتصادية والسياسية وغير ذلك، وكذلك في ظل التحديات الأمنية والعسكرية ، والخلل في منظومة التوازنات الاستراتيجية على الصعيدين الإقليمي والدولي، وفي ظل ما تتعرض إليه المنطقة العربية من هجمات وأطماع خارجية واستهداف دولي وإقليمي خاصة في هذه المرحلة التي تتعرض فيها الكثير من الدول العربية إلى متغيرات داخلية نتيجة لأحداث (الربيع العربي).
هذه المرحلة تتطلب المزيد من التلاحم العربي من الخليج إلى المحيط لجسر الثغرات التي يتسلل منها أعداء الأمة تحت مسميات مختلفة، أو عبر دسائس متنوعة، أو من خلال سياسات في ظاهرها المودة وفي باطنها العذاب بهدف النيل من الوحدة العربية التي ظلت سداً منيعاً أمام من أرادوا العبث بأمن المنطقة ومقدراتها طيلة عقود زمنية طويلة.
إن العلاقات الاستراتيجية التي تربط المشرق العربي بمغربه أو شماله بجنوبه لها مرتكزات وثوابت ظلت عصيةً على الاختراق لحقب زمنية عدة متوالية، ورغم المحاولات المسعورة لقوى إقليمية تنحاز إلى تمزيق الجسد العربي تحت دعاوى مزيفة لا تنطلي على الشعوب العربية مهما كانت براقة أو ملونة، خاصة أن مزاعم وأكاذيب هذه القوى سقطت عندما كشفت عن انحيازها الفئوي والطائفي غير المبرر أو المنطقي، بل تأكد أنه ليس في صالح من تدعي أنها تساندهم ، فهي تريد أن تجعلهم في حالة عداء مع محيطهم ومجتمعهم وإخوانهم في الدين والوطن.
وهناك مرتكزات محددة لتقوية العلاقات الخليجية ـ العربية تتمثل في الأبعاد الأمنية والاستراتيجية والسياسية والإعلامية والاقتصادية. فمن المعروف أن التعاون الأمني يقطع الطريق على الإرهاب بكافة صنوفه، ويغلق الحدود أمام الجريمة المنظمة وتهريب المخدرات والتسلل، وكافة أشكال الجرائم العابرة للحدود، وأن التعاون الاستراتيجي يضمن مستقبل المنطقة العربية بعيداً عن الاستقطاب الدولي والإقليمي الذي يهدف إلى اختراق المنطقة العربية والهيمنة على مقدراتها بدعاوى مزيفة أو عبر أكاذيب مضللة، وأن التعاون السياسي يوحّد الموقف العربي في المحافل الإقليمية والدولية من أجل الدفاع عن قضايا الأمة العادلة والمشروعة، ويحافظ على حقوق الوطن العربي الكبير الممتد من الخليج إلى المحيط، وأن التنسيق الإعلامي والثقافي يوحّد نبرة الصوت العربي، ويحفظ الهوية العربية من الذوبان تحت هدير أمواج العولمة والاجتياح الإعلامي العابر للحدود والذي لا يعترف بخصوصية الثقافات أو هوية المجتمعات، أما التعاون الاقتصادي فهو صلب وعماد التعاون المستقبلي والنواة الرئيسية لتحقيق التقارب الذي يمهد للسوق العربية المشتركة والتي هي المطلب الأساسي للعرب منذ تأسيس جامعة الدول العربية في منتصف أربعينات القرن العشرين.
لذلك لابد من تفعيل التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري بين دول الخليج والدول العربية كافة ليكون منطلقاً لتحقيق التعاون العربي المتكامل، وهذا ما بدأ يتحقق بالفعل الآن، حيث تؤكد تقارير صندوق النقد العربي ارتفاع قيمة التجارة البينية بين دول الخليج وبقية الدول العربية بنسبة 18.2 في المائة العام الماضي 2011 م، وبلغت نحو 49.6 مليار دولار مقارنة بنحو 33.5 مليار دولار في عام 2010 م. كما أظهرت تقارير صندوق النقد الدولي ارتفاع حجم التدفقات الاستثمارية الخليجية المباشرة إلى الدول العربية، وخاصة إلى مصر والأردن وتونس والمغرب والجزائر بصورة كبيرة خلال الأعوام الماضية منذ عام 2002 م، حيث يقدر حجم تلك التدفقات بنحو 100 مليار دولار.
ومع ذلك يرى البعض أن حجم التبادل التجاري بين دول الخليج والدول العربية الأخرى لا يرقى إلى مستوى الطموح، ولا يتناسب مع حجم التبادل التجاري الخليجي أو العربي مع الأسواق العالمية الأخرى، كما لا يتناسب مع حجم مساحة وعدد سكان الوطن العربي أو الدول الخليجية التي تبلغ مساحتها 2423.3 كيلو متر مربع ، فيما يبلغ عدد سكانها 45 مليون نسمة ، وتجاوز إجمالي الناتج الوطني للدول الست 1.3 تريليون دولار، وتنتج أكثر من 15 مليون برميل نفط يومياً.
وإذا كانت التحديات العالمية والإقليمية تفرض ضرورة الانتقال من التعاون إلى الاتحاد على مستوى منظومة دول مجلس التعاون الخليجي، فإنها تفرض أيضاً ضرورة الانتقال من منظومة التبادل التجاري بين دول الخليج والدول العربية إلى مرحلة التعاون البنّاء والذي يمهّد لقيام السوق العربية المشتركة للاستفادة من المزايا النسبية للدول العربية كافة، تلك المزايا القادرة على التأسيس لقيام صناعات ضخمة كثيفة العمالة لاجتذاب الأجيال الشابة التي تدخل إلى سوق العمل سنوياً، والقضاء على البطالة، وكذلك توفير الحد الأدنى من الأمن الغذائي من خلال الاستثمارات الزراعية في المناطق الغنية بالمياه العذبة والأراضي الصالحة للزراعة عبر ضخ الأموال من الدول الخليجية في هذه الاستثمارات الاستراتيجية، إضافة إلى العديد من الفرص الاستثمارية الأخرى في مجال السياحة والخدمات، والاستفادة من القوى العاملة المدربة والمؤهلة وغيرها، مما يجعل المنطقة العربية كتلةً اقتصاديةً عملاقةً وسوقاً مهمة على مستوى العالم. فالظروف الراهنة وما يشهده العالم من بزوغ نجم العديد من القوى الصاعدة أو الناشئة تتطلب وجود تعاون خليجي ـ عربي لبلورة تعاون فعال على المستويات كافة من أجل تأمين المنطقة العربية ضد مخاطر التمحور الإقليمي، وتحصينها ضد التجاذب الدولي وتجنيبها مخاطر انعكاسات تبدّل مواطن القوة على الصعيد العالمي.