إن (الاقتصاد الأخضر) ليس مفهوماً جديداً، فهو ينمو جنباً إلى جنب مع الحركة البيئية، ويطرح الآن رؤيةً لحياةٍ اقتصاديةٍ عادلةٍ ومستدامة، حيث إن التحوّل نحو الاقتصاد الأخضر يحقق العديد من الفوائد؛ فهو يساعد على تخفيف أوجه القلق إزاء توفير الأمن في مجال الغذاء والطاقة والمياه، كما أنه يدعم تحقيق التنمية المستدامة وبلوغ الأهداف الإنمائية للألفية، فضلاً عن أنه يوفر فرصةً لإعادة النظر في هياكل الإدارة الوطنية والدولية، ولبحث ما إذا كانت هذه الهياكل تسمح للمجتمع الدولي بالتصدي للتحديات البيئية والإنمائية الحالية والمقبلة وبالاستفادة من الفرص الناشئة.
مفهوم الاقتصاد الأخضر:
أطلقت منظومة الأمم المتحدة في عام 2008 مبادرة الاقتصاد الأخضر ضمن مجموعة من المبادرات التي تسعى إلى مواجهة الأزمات العالمية المتعددة والمترابطة التي أثرت في المجتمع الدولي، وأهمها:
* الأزمة المالية: تعتبر الأزمة المالية التي اجتاحت العالم عام 2007 أسوأ أزمة مالية منذ (الكساد الكبير)، حيث أسفرت عن فقدان العديد من فرص العمل والدخل في مختلف القطاعات الاقتصادية، وقد انعكست الآثار المترتبة على الأزمة المالية على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في مختلف أنحاء العالم؛ إذ نتجت عنها ديونٌ متزايدة على الحكومات، وضغوطٌ على الصناديق السيادية (Sovereign Wealth Funds (SWF) وانخفاض السيولة المتاحة للاستثمار.
* الأزمة الغذائية: ازدادت حدة الأزمة الغذائية خلال عامي 2008-2009 بسبب زيادة أسعار السلع الغذائية الأساسية التي يعزى سببها جزئياً إلى زيادة تكاليف الإنتاج، والتوسع الكبير في قطاع الوقود الحيوي، فضلاً عن ارتفاع معدلات البطالة، ونتيجة لذلك ارتفع عدد الأشخاص المعرضين لخطر الجوع وسوء التغذية في العالم إلى مليار شخص.
* أزمة المناخ: برزت أزمة تغير المناخ كأولوية عالمية تتطلب تضافر الجهود اللازمة لمواجهة التغيرات الحادة في المناخ- والتي ازدادت معدلات حدوثها خلال الأعوام القليلة السابقة- والتكيف معها والتخفيف من آثارها.
وفي الفترة من عام 1982 وحتى عام 1992 صدر منشوران من البحوث الجامعية، قدّما للمرة الأولى عرضاً لمفهوم الاقتصاد الأخضر، الأول هو مخطط تفصيلي للاقتصاد الأخضر (Blueprint for a Green Economy)، الذي سلّط الضوء على الترابط بين الاقتصاد والبيئة باعتباره وسيلة للمضيّ قدماً في فهم التنمية المستدامة وتحقيقها. والثاني هو الاقتصاد الأخضر (The Green Economy)، الذي نظر في العلاقة بين البيئة والاقتصاد في إطار أوسع نطاقاً، وأكّد أهمية العلاقة بين البشر والعالم الطبيعي، ومع أن هذين المنشورين طرحا للمرة الأولى هذا المفهوم، فإن الاقتصاد الأخضر لم يجتذب الانتباه الدولي إلا بعد قرابة 20 عاماً.
ونظراً لأنه لا يوجد تعريف متفق عليه دولياً للمصطلح (الاقتصاد الأخضر)، استحدث برنامج الأمم المتحدة للبيئة تعريفاً عملياً، يفهم بناءً عليه الاقتصاد الأخضر بأنه اقتصادٌ يؤدّي إلى تحسين حالة الرفاه البشري والإنصاف الاجتماعي، مع العناية في الوقت نفسه بالحدّ على نحوٍ ملحوظٍ من المخاطر البيئية وحالات الشحّ الإيكولوجية. أما على مستوى عملياتي أكثر، فيمكن إدراك الاقتصاد الأخضر بأنه اقتصاد يوجه فيه النمو في الدخل والعمالة بوساطة استثمارات في القطاعين العام والخاص من شأنها أن تفضي إلى تعزيز كفاءة استخدام الموارد، وتخفيض انبعاثات الكربون والنفايات والتلوّث ومنع خسارة التنوّع الأحيائي وتدهور النظام الإيكولوجي. وهذه الاستثمارات هي أيضاً تكون موجّهةً بدوافع تنامي الطلب في الأسواق على السلع والخدمات الخضراء، والابتكارات التكنولوجية، وكذلك في حالات كثيرة بوساطة تصحيح السياسات العامة الضريبية والقطاعية، فيما يضمن أن تكون الأسعار انعكاساً ملائماً للتكاليف البيئية.
ومما تجدر الإشارة إليه أن مفهوم الاقتصاد الأخضر تطور مؤخراً ليصبح أكثر شمولاً، حيث تضمن الاستثمارات والإجراءات اللازمة لمواجهة تحديات الإدارة البيئية كافة، أي لم يعد يقتصر على المنظور المتعلق بتغير المناخ وخفض انبعاثات الكربون، إضافةً إلى ذلك وبالتوازي توسع مفهوم مبادرات الاقتصاد الأخضر من تحقيق النمو الاقتصادي الأخضر على المدى القصير، ليشمل استراتيجياً وضع نماذج التنمية الاقتصادية في إطار تعزيز الجهود المبذولة لتحقيق التنمية المستدامة على المدى الطويل.
والجدير بالذكر أيضاً أن مبدأ (الاقتصاد الأخضر) لا يحل محل التنمية المستدامة؛ بل إن هناك فهماً مطرداً بأن الحقيقة أن تحقيق الاستدامة يرتكز بالكامل تقريباً على إصلاح الاقتصاد، فالعقود المتتالية من إيجاد الثروات الجديدة عن طريق نموذج (الاقتصاد البيئي) لم تتعامل مع التهميش الاجتماعي واستنفاد الموارد، ولا تزال بعيدة عن تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية، حيث إن الاستدامة لا تزال هدفاً حيوياً بعيد الأمد ولكننا لابد أن نعمل على تخضير الاقتصاد لنصل إلى هذا الهدف.
ونخلص إلى أن مفهوم الاقتصاد الأخضر يرتكز على إعادة تشكيل وتصويب الأنشطة الاقتصادية لتكون أكثر مساندةً للبيئة والتنمية الاجتماعية بحيث يشكل الاقتصاد الأخضر طريقاً نحو تحقيق التنمية المستدامة.
المشكلات البيئية في العالم ودورها في التأثير على الاقتصاد الأخضر:
مما لا شك فيه أن تغير المناخ يعد مشكلةً عالميةً طويلة الأجل تنطوي على تفاعلات معقدة بين العوامل البيئية، وبين الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتكنولوجية، ولقد بدأت تظهر التأثيرات المرتبطة بتغير المناخ بفعل النشاطات البشرية، في أشكال عدة أبرزها التغيرات في متوسط درجات الحرارة، وما ارتبط بذلك من التغيرات في أوقات الفصول، وتزايد كثافة أحداث الطقس المتطرفة، وهذه التأثيرات تحدث حالياً وستتفاقم في المستقبل، مما يهدد بتعرض ملايين السكان لا سيما في البلدان النامية لنقصٍ في المياه والمواد الغذائية ولمخاطرٍ متزايدة على الصحة وغرق أجزاء من سواحلها.
وفي الحقيقة لقد بات تغير المناخ أمراً لا يمكن تجاهله، حيث إن تدهور البيئة على الصعيد العالمي لم يجد من يوقفه، كما أننا نستغل الموارد الطبيعية بشكلٍ يخلف ضرراً كبيراً، وقد أصبح هذا التغير أشبه بخطر الحروب على البشرية.
وقد عرفت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC)التغير المناخي بأنه (تغير في حالة المناخ والذي يمكن معرفته عبر تغييرات في المعدل / أو المتغيرات في خصائصها والتي تدوم فترة طويلة، عادةً لعقودٍ أو أكثر، ويشير إلى أي تغير في المناخ على مر الزمن، سواء كان ذلك نتيجة للتغيرات الطبيعية أو الناجمة عن النشاط البشري).
كما تعرّف (اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ) (UNFCCC) التغير المناخي بأنه (تغير في المناخ يعزى بصورةٍ مباشرة أو غير مباشرة إلى النشاط البشري والذي يفضي إلى تغير في تكوين الغلاف الجوي للأرض).
ومما سبق يتضح لنا أن الآثار المترتبة على تغير المناخ تشمل ارتفاع درجات الحرارة، وتدني رطوبة التربة، وازدياد التبخر والنتح، والتحولات في أنماط سقوط الأمطار من حيث التوزيع الزمني والجغرافي، والتقلب السنوي والموسمي الشديد للظواهر الجوية، وازدياد موجات الجفاف والفيضانات، وتقلص الغطاء الثلجي على المرتفعات (كالمناطق الجبلية في الجمهورية العربية السورية ولبنان، وبدرجة أقل في العراق)، وارتفاع منسوب سطح البحر وتداخله في الخزانات الجوفية الساحلية للمياه العذبة، كذلك يتوقع أن يؤثر تغير المناخ سلباً في نوعية المياه، من خلال تلوث المياه السطحية والمياه الجوفية وزيادة نسبة ملوحتها.
ومن المنتظر أن يؤثر تغير المناخ في قطاعات عديدة مثل الزراعة، والصحة، والسلامة العامة والتنوع البيولوجي، وتحلية المياه، والسياحة، وإنتاج الطاقة من المصادر المائية، والملاحة النهرية وغيرها.
وما يجب أن نلاحظه في هذا الصدد أن التوجه نحو الصناعة أدى إلى الحاجة إلى أنواع الوقود المختلفة، كما أدى حرق الوقود سواء كان أحفورياً أو فحماً إلى انبعاث أكاسيد الكربون والنيتروجين في الهواء، وهذه الغازات من أهم أسباب الاحتباس الحراري الذي أدى بدوره إلى تغير المناخ، فلقد أدت هذه الغازات إلى رفع درجة حرارة الأرض بمقدار 1.2 درجة مقارنة بمستويات ماقبل الثورة الصناعية، وقد أدت إزالة الغابات بشكل واسع - للاستفادة من أخشابها- إلى تناقص عملية البناء الضوئي الذي يقلل من ثانيأكسيد الكربون ويحوله إلى أوكسجين، ومنالغازات الأخرى التي تلعب دوراً مهماً في عملية الاحتباس الحراري هو غاز الميثانالمنبعث من مزارع الأرز وتربية البقر والنفايات والمناجم وأنابيب الغاز.
والجدير بالذكر أن هناك منافع إضافية يمكن جنيها من الاقتصاد الأخضر ما يمكن أن يتأتّى من الاستفادة على نحو مستدام مما يسمى خدمات النظم الإيكولوجية، وتبين البحوث التي أجريت من أجل تقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة عن الاقتصاد الأخضر كيف يتسنّى إنجاز تقدّم كبير نحو هذا الهدف من خلال القيام بمبادرات ترمي إلى إدارة الطلب على الخدمات المستفادة من النظم الإيكولوجية، على أن تكملها استثمارات من أجل تعزيز عرض تلك الخدمات وتوريدها طوال الفترة من الأجل المتوسط إلى الأجل الطويل. ذلك أن اتباع أسلوبٍ أفضل وأكثر عناية بالاستدامة في إدارة الأحراج في العالم يمكن أن يؤدّي إلى زيادة في أراضي الأحراج، مما يسهم في زيادة خصوبة التربة وتوافر المياه وخدمات تخزين انبعاثات الكربون. وعلاوةً على ذلك، فإن تحسين كفاءة استخدام المياه يمكن أن يخفض بقدرٍ كبيرٍ استهلاك المياه، كما أن تحسين إدارة الإمداد بالمياه وسبل الحصول عليها يمكن أن يساعد على الحفاظ على المياه الجوفية والسطحية.
مستقبل الاقتصاد الأخضر في العالم:
مما لا شك فيه أن عملية التغير المناخي فرضت على العالم بأسره تحدياً كبيراً بما يحتم على كافة الدول أن تتحرك لمواجهته، حيث يسود العالم الآن إجماعٌ حول خطورة تغير المناخ وانعكاساته، وأن ممارسة الأعمال بالطريقة المعتادة لم تعد خياراً كما كان من قبل، وبالتالي فيجب على العالم أن يدرك أن العالم سوف يتغير تغيراً جذرياً خلال ثلاثين عاماً أو أقل من ذلك، وأنه سوف يكون من الضروري التحول إلى الاقتصاد الأخضر لمواجهة التحديات التي سوف يفرضها هذا التغير المناخي، فالاقتصاد الأخضر يعني (الانتقال إلى اقتصادٍ منخفض الكربون يعتمد على استخدام الطاقة الجديدة والمتجددة في إطار ممارسات بيئية مستدامة). وبطبيعة الحال سيؤدي التحول نحو الاقتصاد الأخضر إلى تحسين نوعية الحياة للأفراد بشكلٍ كبير، كما سيضمن تكنولوجيات وصناعات جديدة ستصبح هي صناعات النمو للقرن الحادي والعشرين، وستتمكن الدول والشركات التي سوف تسير في هذا الاتجاه مبكراً من جني ثمار هذا النمط من النمو الاقتصادي.
وفي الحقيقة فإن التوجه نحو الاقتصاد الأخضر أصبح أمراً ملحاً وضرورياً، وذلك لما له من فوائد جمة، وفي هذا الصدد يشير تقرير عام 2011 عن برنامج (الأمم المتحدة للبيئة)، بعنوان (نحو اقتصادٍ أخضر.. مسارات إلى التنمية المستدامة والقضاء على الفقر) إلى أن الفوائد الرئيسية من التحول إلى الاقتصاد الأخضر، تتمثل في إيجاد الثروات وفرص العمل المتنوعة والقضاء على الفقر وتحقيق الرخاء الاقتصادي على المدى الطويل، من دون استنفاد للأصول الطبيعية للدولة وبخاصة في الدول منخفضة الدخل.
ومما يزيد من أهمية التحول نحو الاقتصاد الأخضر في المستقبل هو ارتباطه بمفهوم الأمن القومي، فقد ارتبط مفهوم الأمن القومي للدولة في الماضي بالأمن العسكري، ولذلك كان التركيز على بناء قوة قادرة على التعامل مع الأخطار الخارجية باستخدام الأعمال العسكرية، ولكن التفسير الشامل للأمن القومي في الوقت الراهن هو قدرة الدولة على تأمين استمرار مصادر قوتها في كل المجالات بما فيها المجال الاقتصادي لمواجهة المخاطر التي تهددها وتأمين متطلبات الحياة الأساسية لأبنائها في الحاضر والمستقبل، ويرتبط هذا التأمين بتلوث البيئة أو الاستخدام الجائر للموارد الذي قد يؤدي إلى خلل داخلي وانهيار عناصر قوة الدولة، ولذلك أصبح التحدي الذي يواجه العالم على المستوى الوطني أو الإقليمي أو العالمي يتعلق بالتوفيق بين النمو الاقتصادي والسكاني من ناحية، وبين الحفاظ على العناصر الأساسية للحياة من خلال الحفاظ على البيئة من ناحية أخرى، ومن هنا أصبحت المشكلات البيئية من الممكن أن تهدد الأمن القومي من خلال التأثير في الانتعاش الاقتصادي والعدالة الاجتماعية.